الأحد ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
بقلم ماجد عاطف

وشق النقب

(1)

الطريق ضيق ومتعرج وصحراوي، يصعد تلاَ أثرياً خربا ينمو فيه القليل من الشجر وبعض الصبر. كان تلاً عاريا على مبعدةٍ من القرية التي هدمت للمرة الجديدة، والتي هربت منها ومن عيونها. لكنْ ثمة بئر قديمة هناك كنت أعرف عنها من مرافقتي للرعيان.

بلغ الشظى منى والحرّ والعطش مبلغه الأقصى، فبحثت في فجوات الصخر عن قطرات متجمعة ولم أجد. فتّشت في النبتات عن عصارة وفي ورق الشجر الطفيف، فكان النسغ يعلق في حلقي وما من رطوبة، بل طحين خشن يعلق في سقف الحلق ولا ينزل إلى المريء.

اتجهت صوب التل المنخفض وقد تذكرته: بئر فيه أوكار وأوجار وأعشاش، للأفاعي والهوام والطيور؛ وفي أسفله، ربما، شبر من ماء مختلط. كانت علامته شجرة نبتت في بقعة تراب بين الصخر القديم، فلم أتبينها إلى أن حانت مني التفاتة لقفزة كائن رشيق تجاوزت الثلاثة أمتار في الجو، وخلفه لاحت الشجرة القديمة المتحطمة في معظمها. رأيت أنه ثعلب أو ذئب اصطاد شيئا، أو لعله أفلته وتلهّى به.

الريش متناثر قديم على الجانبين حيث السناسل المنهارة، والآثار متفرقة ما بين بعر وعظم مسودّ متناثر. خوفي المطارِد تلاشى مع عطشي، وتمنيت لو أنهم أمسكوا بي أو سلّمت نفسي مقابل زجاجة ما أو على الأقل: شربة.

اقتربت على حذر داهم، فلا أحد يعرف الذئب أو الكامن. تنبّه الحيوان الداكن فثبت ما في فيهِ على الأرض بيمينه، وصوّب وجهه إليّ. كان أصغر من الكلب وأكبر كثيراً من قطط الحواري. إنّه قط لولا حجمه وذيله المبتور وأذنيه الطويلتين المثلثتين الرفيعيتين المنقلبتين في الأعلى، فعرفته: وشق الخلاء والتلال: لونه لون القط البنية على دكونة سواد وبقع أقل في ظلال تتفرّق على ظهره..

لما رآني –أو تحقق مني- التقط طريدته وفرّ، فعرفت الأمان، وأنه لا يستهدف البشر.

(2)

وجدت الماء والمأوى. جمعت حجارته وطوقت بها ركنا صخريا من ثلاث جهات إلا الرابعة، كانت للحجارة. ما من هوام أو هواش يمكن أن تصلني إلا سباع الليل والمطاردِين. كان بدر الرمضان الذي يتكامل، في المساء، رفيقي تلك الليلة، والصيام على بعد أيام وآذان ضعيف جداً لكنه مسموع قد يطرق الخلاء والتلال في النقب التي هي امتداد لجغرافية سيناء. أقرب قرية أو شارع أو درب على بعد ساعات، ويمكنني رؤية القادم منها نهاراً أو ليلاً، دون أن يراني. إلا أن أشعل ناراً أحاذرها، فعندها سيروني. قضيت الفرائض مكتفيا بصلاة الخوف، وجهزت نفسي للفرائض الآتية.

(3)

الوشق عرفني وهو يتردد على الرطوبة والماء الذي أتركه له. يرتوي من دم الأرانب والطيور لكنه لا يزال يحتاج الماء، فكنت، عندما أفطن له، احمله بنعلي إلى جيب على صخرة مجاورة للبئر. عرفني، ولكنه لم يأمن لي، كما لم أكن آمن لطارقٍ يمرّ على حصانه في الدرب البعيد. كنت أخفي نفسي في كل الأحوال، حتى عن الوشق، ولا أترك مناسبة لصدفة أو مصادفة. والطارق يمرّ في سبيله لا ينزل بقعة مهجورة تسكنها القصص وحكايات الجن والمخاوف.

وسكنني حذر كحذر الوشق الذي ينجح غالبا في اشتمام رائحتي إذا كانت الريح تحالفه: غريب هو. ما من قطيع ولا أنثى ولا عائلة على مقربة، مثلي. ألفني ولم يعد يتحرّج من الاصطياد كل ليلة، على مرأى، فجراً أو مساءً. يعض رأس الأفعى ويقبل بها تتلوى هي حول عنقه. ينتف ريش طائر اصطاده بقفزته الأسطورية من الجو ويطوّح به يميناً أو شمالاً ليتأكد من موته.

وأقلّده، فيما أتمكن، في مطاردة الأرانب أو أنصب الفخاخ البسيطة لها، أو حتى أفاجئه ليتخلّى عن طريدته لي، ولا أفعل ذلك إلا إن لم أجد شيئا آخر. يترك طريدته لي، غالبا أرنبا صغيرا، كأنه يطعمني، ويهرب.

ثم صار رفيقي أو أكثر: له مواء أقصر وأبتر من مواء القطط العادية، و"فخيخه" المهدّد جاف وأقرب لتهديد الضبع. لا أدري لم اقترب مني في أيام الصوم الأولى، ألأن حركتي طوال النهار قلت أم حسبني جثة يؤكل منها؟؟

حجمه حجم الجرو المتوسط، وعلى نيران الشوي المحصورة، قدّرت وزنه بين اثني عشرة كيلو غرامات إلى خمسة عشر. قد تلتمتع عيناه قبل الاختفاء؛ أو قد يقترب ليأكل جزءاً مشويا وفّرته لافطاري. كان كلانا يعيش الخطر والبحث عن الماء والطعام ومكان للمأوى.

(4)

وارتبط مصيرانا معاً كما ارتبطت حياتانا: اللحظة التي طوق الجيش وشرطته التلة الخربة، كانت اللحظة ذاتها التي أصابت عنقه طلقة مصوّبة ايقظتني من نومي، وأخذ -لثوان قليله- يتخابط في نفسه ودمه المندفع كتيار كثيف أحمر، في الفجر الذي تلا ليلة القدر.. مَن الذي أو ما الذي وشى بنا؟ أهي نار الصيوان أم مراقِب لاحظ مكوثنا في المكان؟؟ وما الذي ينتظرني؟؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى