الخميس ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

خمس حبات من البطاطا

من الكيس الشبكي الصغير، لاحظت خمس حبّات من البطاطا متوسطة الحجم، بدأت تقترب من اللون الأخضر. "تلوّنت تلوّنت! هناك من الجائعين مَن لا يجدها!!". التقطتها وغسلتها ثم غمرتها في طنجرة المنيوم صغيرة واشعلت الغاز أسفلها.
كانت تفكّر في أهل غزة المحاصرين الجائعين، وفي الوقت نفسه تذكّرت ما قرأته عن احتمالية أن تصير البطاطا سامّة؛ حين سمعت صوت طرق على الباب المعدني في الخارج.

خرجت لتنظر فإذا به متسوّل كبير العمر. من وقفته عرفت ما يريده.

الله يعطيك يا حاج!
لا اطلب صدقة إنما عمل.
ومن أين لي؟
طلبت من كثيرين ولا أحد قبل.

المدينة صحيح أن وضعها صار أصعب، لكنها تستطيع بالتقشّف وحده دون التعرّض للجوع اعالة محافظتين. لا بد من وجود عمل فيها.

ليتني أستطيع مساعدتك. أنا متقاعدة لا اعرف احداً وراتبي لم ينزل منذ شهرين.

ما رأيك أن اشذّب لكِ الأشجار؟

الله يعطيك يا حاج!

استدار وتركها. شعرت بالذنب وهي تردّ الباب. لو عرضت عليه مالاً لقبل، لكن أنّى لها أن تفعل؟ صار العرب مسرحية من فصول، وكل فصل سيجوع قسمٌ محاصرٌ في بلدٍ يتفرج عليه الآخرون البلدان الأخرى، الذين لا بد أن يلحقهم الدور يوماً ما. استدانت بعض المال وبالكاد تدفع الفواتير وتخزن بعض المؤونة غير الذي تأكله. على كل شخص أن يتدبر حاله. سمعت ثرثرة متقطعة. هل لا يزال يقف خارجاً؟ فتحت ووجدته يقف جانبا.

كان محتاراً ماذا يفعل. لم يكن سيء المظهر فدعته للدخول. عبر مرتبكا البوابة فالباحة. جذبت الكرسي البلاستيكي القريب وتركته يجلس. لم ترغب في أن تسأله ولم يرغب في أن يتكلّم، ثم بدأ يعاني من الاهتزاز على الكرسي ويشكو من شيء ما ويردد: مصطفى، مالِك.

أنت بخير يا حاج؟
أنا بخير، دقيقة..
هل كانا ولديه؟

ذهبت واحضرت الماء البارد وتركته يشرب. كان الأمر سيستغرق وقتا فجلبت كرسيا آخر لنفسها. بعد قليل تكلّم. قال إنّه يريد منها خدمة مزعجة، وهي أن تستفسر من الحارة أولاً وتتأكد بنفسها، ثم أن تتصل بزوجته لتخبرها أنه سأل عن عمل فعلا ولم يجد.

ما بين عتب لتوريطها فيما لا يخصها واستغراب منها، روى لها أن طفليه لا يصدّقانه.

هل هم بخير؟
نعم، إن شاء الله. أمهم موظفة.
اقلق بنفسك إذاً.

أتدبّر نفسي لو كان عليّ. لو فعلت قابلاً حتى بالعيش في الشارع فسيتهمونني بالأنانية. ولا يصدقون أنني لا أجد العمل. ولو صبرت إلى جانبهم، فسيتثقلون منّي غير نظرات التأنيب والتمرد والعقوق.

كانت خلفه حكاية أكبر بكثير من موضوع عدم وجود عمل.

هل تريد قهوة يا حاج؟

نعم.

ذهبت لتعدّ القهوة. مَن الذي يكذّبه ويتّهمه؟ الصغار طوع امّهاتهم ومشكلته مع زوجته هي. كانت تفكّر في مدى ملائمة شربه القهوة عندها.. إنها أرملة ومتقاعدة ووحدها. من ناحية ثانية ثار لديها فضول لتعرف حكايته. عندما عادت اليه وجدته منحنيا على مقعده في حالة اعياء أو منهارا.

اخذت تستنجد بشباب الجيران وتنادي، وبعد كثير ارتباك وضجة ولمّة تمكّنت من نقله إلى المستشفى. يا لها من ورطة وحرج، فماذا لو مات عندها؟

قام الشباب بالمطلوب، ولحسن الحظ لم تتورّط في تكاليف المستشفى ولا بيانات التسجيل ولا الاتصال بزوجته. الأخيرة أتت راكضة وعندما اطمأنت عليه من الممرضة فوق رأسه على سرير الطوارئ وعلمت من شباب الجيران أين أغمي عليه، سألتها:

ما الذي فعلتيه له؟

اكانت حقاً خائفة عليه؟

وأضافت وهي تنظر لها بعينين مليئتين بالوقاحة:

وماذا كان يفعل عندك؟؟

كان تلميحها واضحاً، ولكنها أكبر من أن تردّ عليها. همّت بأن تجيب بصرامة توضّح –أمام الجميع- ما حصل، ولكن المريض في تلك اللحظة بدا صاحياً وأنه وعى ما دار، فقال متدخّلاً:

اشهدوا، طلّقتها ألف مرة ولم أستطع الخلاص منها، حتى لو كان عليّ العيش في السجن. الآن تريد توريط الناس أيضا! تريد الأولاد فلتأخذهم، تريد تركهم فلها ما تريد، هي طالق..

ردّت زوجته بشيء من الغضب والخوف واللوعة وتساؤل، كأنها تبدي أسبابها للسامعين:

احلم أن أتركهم لك، كيف سيعيشون؟!

لنا الله.

ساد الصمت. كارثة صغيرة حصلت أمام الجميع الشبان والممرضة وأمامها ولعل هناك مَن استمع خلف الستائر. مضت ربع ساعة كاملة وهدأ الجميع.

شعرت هي بالذهول، وشعرت زوجته بالندم. اقتربت الأخيرة منها واعتذرت فأخبرتها همساً ما حصل. بغتة تذكّرت البطاطا.
تركت البطاطا على النار. سلامتك يا حاج.

خرجت بسرعة.

وصلت البيت الذي بالكاد أغلقت قفله طقّة واحدة وهي تغادر، وسارعت للمطبخ. اطفأت الشعلة. كان ألمنيوم الطنجرة ملوّنا من الخارج بالأخضر والأزرق، مثلما كانت حبات البطاطا الخمس قبل السلق.

ليس فقط أنها سُلّقت بل إن الماء تبخّر عنها وأخذت تتحمّر كما لو كانت في فرن أو طابون. استعانت بفوطة لنقل الطنجرة واستخراج البطاطا، قبل غمر الفارغ الحار المحترق بالماء. القشرة سميكة جافة صالحة للأكل، يستحيل أن يكون فيها شيء من السموم كالذي قرأت عنه، فاستمتعت بالقضمات الحارة.

لمّا تذكرت ما حصل بين الرجل المريض وزوجته، تمتمت أنه لا ذنب لها. ولكنها في مرّةٍ أخرى لن تسمح لغريب بالدخول ولو للباحة.

لقد تطلقت المرأة! أوف.. لكن لا أحد يدري ما الذي في الغيب، فما حصل ربما يشبه الذي حصل لحبات البطاطا على شعلة وصلت لحريق منذر بكارثة وانتهت للأفضل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى