الأحد ٤ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم هشام عوكل

زاوية حادة

حرب الوعي في زمن الذكاء الصناعي: من يربح رواية فلسطين

في زمنٍ تكتب فيه الخوارزميات الرواية، وتُحذف فيه الحقيقة لأنها لا تليق بالمعايير... هل تنتصر فلسطين في الذاكرة قبل أن تُهزم في ملفات التسوية؟

حرب الوعي في زمن الذكاء الصناعي: من يربح رواية فلسطين؟

في زمنٍ لم تعد فيه الحروب تُخاض فقط على الأرض، بل تُشنّ أيضاً عبر خوارزميات، وسيرفرات، ومكاتب علاقات عامة في تل أبيب ووادي السيليكون، تطل علينا فلسطين من جديد، لا كخبر طارئ في شريط عاجل، بل كهاشتاغ يتصدّر، وفيديو يُحذف، وطفل تحت الركام ينافس ناطقاً باسم جيش "أخلاقي".

نحن اليوم في قلب معركة غير تقليدية: معركة وعي. الجيوش تتراجع، لكن الذكاء الاصطناعي يتقدّم، يفلتر، يحذف، يصنّف، يحدّد من هو الإرهابي ومن هو الضحية، بناءً على معايير لا يفهمها سوى مهندس في Google ومجند في جيش الاحتلال يحمل رتبة "مُبلّغ محترف".

في هذه الحرب، الكلمة أخطر من الرصاصة، والصورة أقسى من القصف. وما بين منشور على إنستغرام وآخر على X، يسقط شهيد رقمي كل لحظة. لا دماء تُسفك، لكن الروايات تُدفن، تُشوّه، أو تُجتزأ.

إسرائيل لم تعد بحاجة إلى تبرير جرائمها، هناك روبوتات تفعل ذلك نيابةً عنها. يكفي أن تُبلغ عن فيديو لرضيع قُتل في غزة حتى يختفي لأنه "ينتهك معايير المجتمع". مجتمع مَن؟ لا أحد يجيب. فالمجتمع هنا هو خوارزمية بلّغ عنها اللوبي، ثم نكّستها لجنة تعمل عن بُعد، غالبًا من تل أبيب نفسها.

في المقابل، الشعب الفلسطيني، بسلاح بدائي يُدعى الهاتف، يخوض معركة لا هوادة فيها. الشاب في جباليا، الذي لا كهرباء لديه، يرفع فيديوً لا تتجاوز مدته ثلاثين ثانية، يهز به ضمير طالب في هارفارد. ومن فيديو إلى فيديو، يتحوّل المشهد: من غبار الركام إلى غبار الأسئلة التي تلاحق الساسة في واشنطن.

جامعات أميركية تنتفض، لا لأن الساسة هناك اكتشفوا فجأة أن لحم الإنسان لا يُشوى، بل لأن الطلبة باتوا يرون. يرون الحقيقة عارية، بلا فلتر، بلا صوت مراسل أنيق ينقلها من فندق بخمس نجوم في القدس الغربية.

الرواية الفلسطينية تفوز، ليس لأن أحداً أنصفها، بل لأن الآلة فشلت في إخفائها. الذكاء الاصطناعي ذكي جداً، لكنه لم يتعلم بعد كيف يقتل دمعة، أو يفلتر صرخة أم.

لكن الخطر قادم: فيديوهات مزيفة، تحليلات مفبركة، أصوات مستنسخة لزعماء، أخبار من عالم موازٍ. من يربح في هذه الفوضى؟ من يملك الحاسوب الأقوى؟ أم من يملك المأساة الأصلية؟

في النهاية، من يربح الوعي لا يحتاج لوزير دفاع، بل لضمير حي. والسؤال الآن: هل ستنتصر فلسطين في الذاكرة الجماعية قبل أن تُهزم في ملفات التسوية؟

وإن استمرت الخوارزميات في حذف الوجع، وتزييف المأساة، وتدوير الدم على شكل رواية مقبولة لذوق السوق، فهل نبلغ زمناً يُمحى فيه اللاجئ من الذاكرة الرقمية كما مُحي من الأرض؟ هل تُلغى المجازر لأنها لم تُرفق بتوثيق تقني مُعتمد؟ وهل يُلام الشهيد لأنه سقط خارج إطار الكاميرا، أم تُدان الأم لأنها صرخت بلغة لا تفهمها الخوارزميات؟ وإذا صار التاريخ يُكتب على يد آلة، فمن يُنصف الحزن حين لا يكون قابلًا للمعالجة أو الأرشفة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى