الأربعاء ١٢ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

تشبّعات

غارق في عوالمي قد تشبّعت.

كنت اتمشّى في المدينة التي لم أعد أعرفها ولا هي تعرفني، أتفرّج على القليل المألوف من الأشياء والناس، حين لمحته.

شقيق صديقي، المحامي على الرصيف، يرافق امرأة مجلببة بجلباب أزرق، نحو التوسّط في الطول وعريضة البدن لا يستطيع الجلباب الواسع إخفاء ذلك. جلبابها أبيض الحجاب في القمّة، ليسا من النوع المخصص للزينة ولا الاناقة. غالباً هي زوجته.

كان وجهها مفروداً مؤطراً بالبياض وترتدي نظارة طبية. لم تقترب من الأربعين ولكنها أكبر من الثلاثين. هو على كل حال تخطى الخمسين، لكنه رشيق نحيف مهندم لا يظهر عليه. سمعت من قبل أنه تزوّج ثانية ولكن لم تكن لي فكرة عن زوجته. ها هي إذاً.

ألقيت السلام وردّ عليّ.

ليس بيننا معرفة مباشرة ولكني عرفت عائلته (بينما كان في سفره)، ولطالما تصادفنا في المسجد. اقتربت منه مرّة واستفسرت عن أخيه الأصغر، صديقي، الذي مرّ في تجربة أكاديمية- نقابية صعبة تنافر فيها مع المحاضر الكندي اليهودي فُعلّقت رسالته الأكاديمية، واعتقل شهراً تحت التحقيق بشبهات إرهابية. لقد اختار ظاهرة الاستشهاد الفلسطيني كأطروحة فلسفية.

ارتبكت أحواله ما بين ملاحقة بيئية وتضييق أكاديمي وهوس، فأعاده أهله على وجه السرعة إلى البلاد، المخيّم. وهنا بدأ سيرة مختلفة منعزلة عن الجميع، لا يخرج من بيته إلا للضرورة الملحّة، ولكنه كان يستقبل بعض الزوار من بينهم أنا.
ردّد أمامي أكثر من مرّة: الملفّ الذي هنا هو نفسه الذي هناك.

فهمت أنّه يعني ملف المخابرات الإسرائيلية-الكندية، ولم أتأكد منه إذا شمل المخابرات الفلسطينية أيضاً..

صديقي المنعزل العائد للمخيم، بعد نشأة ثورية طويلة وإصابة تركت أثرها على حركته واعتقال ذي تحقيق صهيوني، وبعد أن تخصص في الفلسفة، وتحقيق آخر مع اعتقال كنديين، عاد ليعلن أنّه مؤمن بالله ورسوله. لقد تخلّى عن الماركسية اللينينية والفلسفات، بعد أن درسها.

المحامي الاستشاري المتخصص في قضايا العمال، أخوه، له لحية خفيفة، وهو هادئ، ثابت الانفعالات، لا تشي ملامحه بالكثير. توقّف عن التدخين وشرب البيرة واعتقد أن الاستعاضة عنها بمنزوعة الكحول لا بأس به قبل أن يهجر الثانية أيضا. التزم بالفرائض والدين، وإذا كان له نشاط ما، فسيكون عبر مهنته. سألته عن أحوال أخيه إذا كان يخرج من البيت وعن وضعه بشكل عام. أجابني مع نبسة ارتباك في خلجة الشفة ونبرة الصوت الذي أراده أن يبدو عادياً، فحمّلته سلاما بعد أن عرّفته بنفسي.

قبل وقت، سمعت أن زوجة المحامي، الروسية، قد نسّقت مع السفارة في تل أبيب، وهربت بابنيها عائدة إلى بلدها.
حصل الطلاق لكن لا أدري إذا كان من ناحيته هو أم ناحيتها.

لقد تعارفا في روسيا حين حصل على منحة حزبية، فأنهى القانون ماكثا هناك سنوات متزوّجا، ثم عادا للمخيم وأنجبا ولدين. لست مطلعاً على حياته الزوجية فمن الصعب التطفل في شؤون كهذه.

لكن أن تأخذ زوجته الولدين وتستعين بالسفارة في تل أبيب وتهرب بهما في تنسيق للتنقل والمواصلات والوثائق، فهذا يقول الكثير. ما الذي حصل؟ ماذا عن حبهما العابر للدول واللغات والثقافات؟ إلى أي حدّ بلغت الخلافات الزوجية واستحال معها التفاهم؟ هل لجأ إلى الضبط والبيئة وربما الحدّ من الحركة (كما قد يفعل أي رجل)؛ ولجأت هي إلى القانون الإسرائيلي والروسي، بعد استحالة التآلف والانسجام؟ هل هناك بُعد عقائدي بعد ماركسيته وتغيّراته التالية؟
هل وهل وهل.

الطلاق لا يحدث فجأة، إنما مجموعة من التراكمات الدقيقة التي قد لا يمكن حتى للشريك نفسه أحيانا معرفتها، فقط تحتاج حدثاً من نوعية جديدة لتظهر علناً.

وتحين مني خلفي نظرة إليهما. استدير واتفرّج ماكثاً مكاني:

يغذّان الخطى على الرصيف المزدحم بين الناس، متجاورين بشدّة، أمورهما مغطّية بالرتابة والصمت من ناحيته والطاعة من ناحيتها. سأتذكّر لحظتها بالضبط ما سمعته مرّة عن أنها من عائلة مجاهدة معروفة. بطريقة ما، تكشّفت لي الإجابات.. لقد واصل الطريق بعد تصويب الاستناد.

غارق في عوالمي الغريبة، أود لو أفتق بدني المحدود لأنطلق إلى التفاصيل خارجي.

أخذت اتخيل قصة حبّ عشرينية بُنيت على الاندفاع تصوّراً وعمرا، وحين جابها واقعيهما الأصليين، مع وجود أبناء واختلاف في الاتجاه والبيئتين ولوازم مجابهة الحياة، تفرّقا. الأجنبيات لا يترددن عن "شيء" إذا ما فقدن الشغف، بينما الرجال العرب يحسبون الكلفة العامة للقرارات.

كان الجدار إلى يميني -الذي يحد الرصيف- قديما، مكوّنا من حجارة صغيرة، اعتلتها طبقة على طول الجدار من الاسمنت، فثبتتها جيداً. اخذت أتلمس الأحجار واتمتم كالمعتوه.. على الحجر الأول ذي الاستدارة والنتوء، نقرت بإصبع:

الحب غير المشروط يقابله الحب غير المشروط. بدأ توهّم حرّية ولا يمكن تقييده (لهذا لا يعوّل عليه).

الحجر الثاني كان عليه طحلب أخضر:

التصوّر لا بد أن يتطوّر، ولو تغيّراً للعكس.

الثالث، كسرةٌ طوليةٌ من اسمنت أقدم من الجدار ذاته:

ليس لنا من الحرّية، إلا اختيار ما يقيّدنا لنلتزم به.

قهقهت وأصابع يدي تتنطط بين الأحجار: لم يعد المحامي إذاً يهتم للجموح الثوري الرومانسي في خياره الشخصي! ولا الجمال الروسي العاطفي البضّ ذي النكهة الشرقية!! وفي النهاية لا مناص من أن يفكّر في الاستمرارية والنسل والانجاب!!!

دفعت عن نفسي تشعبات متشبّعة درجة الملل، لأشياء كثيرة محتملة في المخيال، من بينها تحسّساته الدفينة العميقة تجاهها كأجنبية، والخيانة الزوجية الشائعة جداً للمتنفسات ولو لم تكن بتفاصيل صريحة، أو حتى الولاء السياسي إذا نظرت لفلسطين من ناحية دولية، ومضى هو على درب الجهاد القانوني!

النساء في كل الدنيا وكل حين، لا يهتممن بالاعتقادات إنما بالامتيازات في الحياة الملموسة.

وعزمت على تنبيه صديقي حين أزور منزله في المخيم المهدد بالإلغاء، لضرورة أن يحافظ أخوه على التواصل مع ابنيه المخطوفين، العربيين المسلمين، لأنهما لا بد أن يحتاجا للإجابات الملحّة ذات أسئلتهما الخاصة، مهما ألّبتهما الأم عليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى