الخميس ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

فطريات

متأخراً فقط، صدّق أن وصفة شعبية من القزحة وبتلات زهرة برّية، بعد غليها في زيت الزيتون، يمكنها أن تعالج البقع التي تغزو الجلد. رأى فعاليتها خلال أيام على عنق زميله في المظاهرات الذي عالجته أمه، واختفت البقع الكثيرة القوية نهائياً.

بالنسبة له، بعد التوقف عن ارتداء كوفيات الآخرين، شقي بدهون طبي يظل يشتريه من الصيدلية. في أول أسبوعين تتضح البقع البيضاء التي لا تؤلم البتة أو تتسبب بأي عارض غير ازعاج الشكل، ثم تتراجع حتى تختفي. ولكنها لا تلبث أن تعود بعد شهور.

بقي كذلك إلى أن لمح في صالون خالته صور ابنها الشاب على شاطئ للبحر البيت وهو يكتّل كتلا طينية من طينة البحر، ثم يضعها في أكياس بلاستيكية. نادى عليه وسأله إن تبقى لديه شيء من طينة البحر الميت. قرأ عنها ومزاياها، وكانت الفطريات قد عاودته.

ابتهج وابن خالته يهزّ له رأسه في الصالون ايجاباً. طلب القليل منها، فغاب لدقيقة ورجع على راحة يده اليمنى كتلة سوداء صغيرة مغلّفة ببلاستيك شفّاف. عندما رجع من الزيارة ووصل غرفته، أضاف القليل من الماء وحولها إلى سائل لزج.
لأيام قليلة دهن عنقه، وانتبه مسرورا إلى اختفاء البقع. خشي أنها قد تعاوده لكن مضت فترة طويلة ولم تفعل، ونسي الأمر.

بعد أكثر من عشرين عاما من غياب البقع التام بفعل طينة البحر الميت تذكّر، حين نبّهه ابنه الشاب وهو ينظر اليه، أن شيئاً أبيض طفيفا كنمش واهٍ بدأ يظهر على عنقه.

لم ينتبه اليه البتّة، ولربما حسبه تأثير الحلاقة. غالباً فطريات. إنها لا تخيف بل لربما كانت ناتجة عن قلة التعرّض للشمس، وهي طفيفة جداً أقل بكثير مما كانت عليه في شبابه، أيام كوفيات الرفاق في المظاهرات.

اصرّ الابن الحريض على اصطحابه من إبطه إلى طبيب الأمراض الجلدية. لم يعد يتذكّر وصفة القزحة ليحصل على مكوّناتها، ولا يمكن له احضار طينة البحر الميّت. لا يزال يتذكّر الدهون الطبي غير الفعّال جيداً، فعرج على الصيدلية محاولاً تجنّب كلفة الكشفية عند الطبيب ليسأله ولم يجده. سأله إن كان يستطيع منحه دهونا آخر يعالج الفطريات الخفيفة وأراه عنقه، لكن الصيدلي المبتدئ الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين رفض، وأصر على ضرورة وصفة الطبيب.

ذاك شجّع ابنه أكثر على موقفه.

الآن كل علاج بوصفة، ولكنهم في الوقت نفسه يبيعون منتجات كثيرة جدا من دون أمراض، على أنها مكملات أو اضافات أو ذات مزايا علاجية لا تحتاج طبيباً، مع أنه يتبين دائما، بعد وقت، وجود تداعيات لها!!

الطبيب ذو الكشفية العالية، 25 دولارا (ثمن كيس طحين يطعم أسرة متوسطة العدد طوال شهر)، نظر إلى عنقه يمينا وشمالا نظرة النطّاسي الحفيص الخبير، ثم كتب على ورق كثيف وغال علاجا ما، مكوناً من دوائين.

لقد انتظره في الرواق حيث المراهقات المهتمات ببشرتهن طوال ساعة، ولم يستغرق التشخيص مع الكلام دقيقة!!
الصيدليان الأول والثاني لم يجد إلا المضاد الحيوي باهض الثمن -نحو 40 دولاراً- عند أحدهما. الدهون كان مفقوداً عند الاثنين.

أما الصيدلي الثالث فقد غافل عن وجوده عنده ابنه المنشغل في محادثة صديقه خارج الصيدلية. رفض صرف الوصفة، لأن الثمن قارب 25 دولاراً.

عاد لابنه المنتظر وكذب أنّه غير موجود أيضاً.

الصيدلي الرابع لم يترك له مهربا حين طلب رقم الطبيب ليتكلّم معه.

تبيّن أن لكل علاج ماركات تجارية وبدائل. اتفق معه على علاج بديل هو عبارة عن سائل يدهن بقطعة قطن. كان ثمنه لا يزيد على 4 دولارات، فاحتقر بشدّة الطبيب الذي كان بامكانه الاختيار مباشرة، واحتقر الصناعة الطبية كلّها!

أخذ المضادات ودهن عنقه يوميا مرتين طوال شهر ولم يتغيّر شيء. ثم قرر التخلي عن الدوائين كلّيا.

لحسن الحظ انشغل ابنه عنه مرتاح الضمير قد أدّى واجبه (دافعا ما يزيد على 100 دولار من التكلفة والنفقات، خلال اربع ساعات)، وتجاهل هو من ناحيته الموضوع..

لكن فكرة خطرت له، أن لكل بيئة طبيعية تكاملاً في مصادر الغذاء والنباتات والكائنات والطقس والأمراض والعلاجات...،
وأن شيئا مسعوراً أصاب عالمهم الذي خلط البيئات ببعضها في كل جانب. لقد عزّت طينة البحر الميت الآن، الفعّالة حتما المفيدة، لأن الحصول عليها عملية انتحارية..

تناسى الأمر باطلالات أسبوعية في المرآة على النمشات التي لم تزل، كلّما حلق ذقنه. وأخذته مواضيع في حياته طارئة فطالت ذقنه اربعة شهور. وعندما حلقها في الشهر الخامس، بشفرة التمساح العملية، وجد أن البقع الصغيرة قد اختفت تماماً، من تلقاء نفسها!

صدّق ما سمعه مرّة على التلفاز من مختص أن 60% من الأمراض، الجسم يشفيها وحده.

سعيداً حانقاً قي آن، قال لنفسه، يدهن العطر على ذقنه وعنقه أمام المرآة، قد وصل لاقتناع حاسم: إن منظومة الطب العصرية، اطباءهم وأدويتهم وصيادلتهم ونزعتهم التجارية كلّها، هي الفطريات الحقيقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى