

على مقعد في الحديقة
جلست في صمت وخشوع طويلين، كأنها تؤدي صلاة، لا تتكلم ولا تحدث ضجيجا. كانت تأتي كل يوم الى هذه الحديقة، وتجلس على نفس المقعد وتنام بين أحضان الأشجار وأصوات العصافير. تظل في رحلة خشوع طويلة. وبعدما تنتهي من صلاتها، تقوم بشكل آلي وتتجه صوب أصوات العصافير وتخترق الطريق المؤدي الى الجهة الأخرى وتختفي. كأنها أتت من العدم وعادت اليه. في يوم، لم تكن لوحدها، كانت ترافقها سيدة، تظهر على ملامحها خليط من القسوة والطيبوبة، لا تتكلم ولا تبتسم. جلست الى جانبها وهي تنتظر. غريب أمرها، كانت كتمثال نصب للتو في المكان. لا تبالي بالمارة ولا يلفت انتباهها نباح كلب أو صراخ طفل. جالسة تنتظر. انتهت الفتاة من طقوسها التي تسافر بها الى أبعد مدى، وفتحت عينيها ونظرت الى السيدة التي ترافقها، بدون كلام، قامتا واتجهتا صوب ذات الطريق بنفس الخطى. توالت الأيام، والفتاة تأتي كل صباح الى نفس المكان وتجلس على نفس المقعد. في يوم، حضرت الفتاة لوحدها بدون تلك السيدة التي كانت ترافقها كظلها. دفعني فضولي أن اقترب منها وأن أسلم عليها. اقتحمت خلوتها. فقامت بسرعة شديدة ولم تلتفت الي، وجرت لا تلوي على شيء. لم أفهم. هل أزعجتها؟ كان فضولي أقوى مني، قررت أن أقتفي أثرها وأكتشف سرها اذ كان هناك سرا.
كانت تجري وتجري، اقتربت من بيت كبير يتواجد على مقربة من الطريق. بيت نوافذه مغلقة، لا أثر للحياة به. كأنه مهجور. قبل أن تدخل، خرج منه رجل، طويل القامة، عريض الكتفين. خطواته كزلزال تحدث شقوقا في الأرض. صرخ في وجهها وجرت الفتاة ودلفت داخل البيت بسرعة شديدة. واختفت من جديد.
لم أعد أراها تأتي الى الحديقة. سألت نفسي "هل تسببت لها في مشكل؟" "هل رآني ذلك الرجل المخيف؟" عدت أراقب ذلك البيت الكبير الذي يصيبك بالهلع، نوافذه دائما مغلقة، أضواءه خافتة. لم أر أنسانا آخر سوى ذلك الرجل الضخم، يخرج ويقفل الباب بالمفتاح. بدأت هواجس تسكنني، من يكون هذا الرجل؟ هل هي محتاجة الى مساعدة؟
مرت الأيام تتسارع، والفتاة لم تعد الى الحديقة. حاولت أن أقنع نفسي بنسيان كل شيء. لكن في يوم، كانت شمسه سعيدة بلمعانها وأشعتها، تستوطن المكان وتتسلل الى كل البيوت المظلمة وتحدث بلبلة بداخلها حتى يستيقظ النائمون وتدب فيهم الحركة. كانت هي هناك، في مكانها، تؤدي صلاتها بخشوع كالعادة. ارتحت لما شفتها، "انها بخير". همست الى نفسي. لكن لم أفهم لماذا كل هذا الصمت. ماذا يحدث؟ حاولت الاقتراب منها من جديد، ربما تحتاج الى مساعدة؟ ربما هي في ورطة؟ ما هي الا لحظات، حتى سمعت خطوات سريعة وقوية تخترق الحديقة، كانت تلك السيدة الغريبة، قد عادت وكلها نظرات حادة. اقتربت منها وتبعتها الفتاة وكادت أن تسقط من فرط السرعة. قررت أن أتبعهما من جديد وأقترب من البيت، لأنني شعرت بأنها تعيش محنة غير طبيعية. صمت رهيب يلف البيت، ترتفع نبضات قلبك وتكاد تنط من صدرك الى الخارج من شدة الخوف. سألت نفسي "هل يوجد أحد غير ذلك الرجل المخيف بهذا البيت؟" ثم أعدت السؤال كأنني أخاطب أحدا:" ماذا أفعل هنا؟ ". صرت أبحث عن منفذ ولو صغير أستطيع أن أرى منه ما يقع داخل البيت.
باءت محاولتي بالفشل، وأثناء عودتي سمعت صرخة مدوية تهد جبالا، ثم صمت، ثم صرخة أخرى وثانية وثالثة...أصبت بالهلع. همست الى نفسي من جديد: "ماذا أفعل هنا؟ " ثم استوطن البيت صمت كئيب يهبط كالصخرة في أعماق نفسك ويكبل كل تحركاتك. عدت أدراجي وأنا أصارع هواجسي التي كادت تفقدني توازني. تأكدت ساعتها بأن الفتاة تحتاج الى مساعدة. لست أدري كيف سأساعدها. احترت وتهت بين أسئلة منطقية وغير منطقية.
مر من الوقت ما يجعلني أنسى أو أحاول أن أنسى أمر تلك الفتاة، لكن فضولي الذي يسكنني واحساسي بأنها تحتاج الى يد تنتشلها من ذلك المستنقع، جعلاني أتردد على الحديقة بين الفينة والأخرى، ربما أهتدي الى حل. فلمحتها في يوم، هناك وهي تحاول الابتعاد عن تلك المرأة التي ترافقها كظلها. أول مرة أسمعها تنادي عليها بكل قوتها:" صابرين، قفي مكانك." عرفت اسمها وشعرت بأن تلك المرأة حارسة لها. أو مكلفة من أحد بمراقبتها. كانت صابرين في حالة غير عادية، لم تجلس كالعادة تؤدي طقوسها وتنام بين أحضان الطبيعة. كانت ثائرة وتصرخ. وعادت الى ذهني صرخة تلك الليلة التي شقت صمت الليل. رجعت المرأة أدراجها متوعدة صابرين بالأسوأ. عادت وجلست في مكانها. لمحتني أنظر اليها، ابتسمت لي، وقالت لي بكل عفوية:" انني أعرفك. ماذا تريدين معرفته؟ شعرت بأنك تراقبينني منذ البداية.
ثم تابعت بدون تردد أو تنتظر مني جوابا:
– اسمي صابرين. تزوجت صغيرة السن من رجل ثري وبخيل وغيور. جئت الى بيته وصرت سجينته. مارس علي كل أنواع التعذيب باسم الحقوق الزوجية. كل ليلة، لي موعد مع العذاب. متعته الكبيرة أن يراني أتألم. رفض أن أخرج. ولما لاحظ هواني وهزالي، اقترحت عليه تلك السيدة التي لا اعرف من تكون، أن يسمح لي بالخروج الى هده الحديقة القريبة من البيت حتى لا أموت بين يديه."
وقفت وأخذت نفسا عميقا وتابعت" اكتشفت أن هذه الحديقة تساعدني على الصبر والتحمل."
مازلت تحت تأثير الصدمة من هول ما سمعت. لم أكن أظن أنها متزوجة بتاتا. التفتت الي وقالت:
– ربما تسألين لماذا أقبل بهذا الوضع المهين؟
قالت وابتسامة جميلة ومشعة ومليئة بالسخرية ارتسمت على ملامحها:
– أهلي باعوني. قبضوا الثمن. ليس لي حق العودة. الهروب الى هذه الحديقة يخلصني من كل الآلام التي أعيشها. تلك السيدة الغريبة تراقبني حتى لا يقترب مني أحدا أو أكلم أحدا. لكنها لا تستطيع أن تسجن خيالي. سأطير يوما بعيدا مع هذه العصافير التي تسكنني. سأطير ولن أعود اليه.
عدت أدراجي، شعرت بالعجز لأنني لا أستطيع مساعدتها. سمعت فيما بعد، أنهم وجدوا جثة فتاة نائمة
على مقعد بالحديقة. تذكرت ساعتها جملتها الأخيرة: "سأطير بعيدا مع العصافير..."