لست عربيا ...!
أما بعد أن دب الملل في نفسي أحسست وكأنني كالمعتقل أنتظر محاكمتي. كنت أعد الطيور التي ترفرف على مقربة بتلك النافذة. أحب النظر من هذا المكان الأبدي الذي توجد فوق حواشيه صورة أبي حيث أشم فيها رائحة الأمل. بعد ذلك، انتصرت على خوفي ثم خرجت وحيدا. مشيت في سكينة قاتلة و هدوء يعم أرجاء العمارة التي يقطنها الكثير من العجزة و محبي الحيوانات. كان الصمت يوحي بالفزع. فتحت الباب الأول ثم الثاني و الثالث الموجود أسفل البناية. وأخيرا استطعت أن أستنشق هواء برلين القاتل. أجواء هذه المدينة مسكونة بعدة حماقات جميلة. لم أكن أعرف إلى أين أتجه. وقفت دقائق معدودة، أحدق في بعض الكتب القديمة التي كانت معروضة للبيع على الرصيف. حملت كتابا لما كسيم غورغي و بدأت أقلب في صفحاته إلى حين بدأت أسمع صراخا غريبا آتيا من بعيد. لم أتعود على سماع مثل هذه الأصوات الصاخبة ببرلين. فقدت حاسة الانتباه وعجزت عن تحديد طبيعة ومكان هذا الصوت. لحظات قليلة وبدأت أحس برياح قوية تحمل حروفا عربية متقطعة...لم يكن إلا صوتا يردد عبارة متقطعة : أنا لست عربيا... أسرعت فسقط كتاب غورغي من بين أصابعي على ركام من مجموعة الكتب المصففة. اتجهت يمينا و شمالا أبحث عن صاحب الصوت المفقود. قلت لنفسي وأنا أكثر من خطواتي: شيء رائع أن أسمع هذه الفصاحة في بلاد العجائب...أريد أن أرى بأم عيني صاحب هذا الصراخ. سأحاول معرفة حكاية هذا الصوت المبحوح، ربما أنه مصاب بعاهة الاغتراب المزمنة. لم أدر عند تلك اللحظة كيف سأتعامل مع هذا الموقف. عندما وصلت إلى هناك ، وقفت أمامه. شاب في الأربعين من عمره، غزا الشيب شاربه و لحيته. يحمل ركاما من الأوراق البالية التي لم أستطع قراءة عناوينها الكبرى. كان يصرخ و يرفع يده اليسرى إلى السماء قائلا:
– أنا لست عربيا...أنا لم أقتل أحداً...أحبهم جميعا...!
غمرني إحساس بالدهشة. تزاحمت في رأسي الكثير من الأسئلة. لماذا و متى وكيف قرر هذا الرجل الخروج في هذه الحلة الجنائزية ؟
زاد ت حدة صراخه و تعالت عبارته الخالدة. لم يكن يرغب في التوقف عن الصراخ. لا يبالي أحد من المارة بحاله وكأنه غير موجود. استغربت لماذا لم يفعل هؤلاء الألمان كما يحدث هناك...حيث العيون لا تنام و الآذان لا تترك لا صغيرة و لا كبيرة, بدأت أضحك من مقارناتي و اعتبرتها عبثية. آه لو كان صاحبنا يصرخ هناك كما يفعل الآن...بعدها صمتّ و تراجعت بعدما اكتشفت أنني لا أقول سوى الترهات، ربما بدأت أتأثر بالفضاء البرليني ... تركت حماقاتي و عدلت عن طرح أسئلتي المقلقة ثم قلت لنفسي مرة ثانية:
– لوكان صاحبنا هناك لما وصل إلى هذا الحال. هناك لن تكون له حتى فرصة التفكير في الصراخ. هناك الصمت هو سيد المكان...الصمت حتى الموت !
لم أسقط في فخ لغة العواطف الجميلة والود بل تجاوبت مع الحدث...ناديته بتلقائية صادمة:
– يا صاحبنا، ماذا حدث حتى تفقد السيطرة على نفسك ؟ سلط علي نظرات عدوانية و كأني ارتكبت جرما في حقه. صمت لثوان قليلة ثم أجابني وعلامات التعب تظهر على محياه:
– أصرخ لأنه لدي سلطان على نفسي. أنا هنا و ليست هناك. الصراخ وسيلة أستعملها كي أتحرر...
– لماذا تريد التحرر و من ماذا ؟
– أنا اصرخ كل عشية في مثل هذا الوقت. لقد ضربت موعدا مع نفسي كي أحرر ذاتي من أغلالها ولا أترك شيئا دفينا. أعاني منذ عدة أعوام...
– كنت أظن أنك في محنة أو تعاني من مرض خبيث...
– آه من الجسد الذي لا يصاب بعلة. أنا اصرخ لأنادي الكل...لم أصل إلى التحرر نهائيا من أغلال الأمس التي تخنقني.
– أنت تعيش الآن ببلد الحرية !
– أنا أنادي الجميع...طريق الحرية شاق و طويل وسيزيف مازال يتدحرج.
لم أفهم جيدا مقاصد هذا الرجل و لم أتجرأ حتى على طلب معرفة اسمه.كانت ملامحه ألمانية و لا تشير إلى تلك التجاعيد العربية التي ترتسم على جبين اليائسين و المقهورين. اكتفيت بسؤال يتيم ولطيف طرحته عليه:
– يا سيدي لماذا تريد الانسحاب من الانتماء العربي ؟
رفع يديه فسقطت أوراقه متناثرة. كانت الأرض نقية و لم تتبلل خطوطها المكتوبة بمداد قاتم. انحنى و حمل أوراقه المشتتة. علامات اليأس تتفتق من حركات جسده. قال لي:
– كان عليك أن تفهم معنى غربة الانتماء و ضريبة الضياع قبل أن تطرح أسئلتك التي تحوم خارج المدار...
ـ يا سيدي من خلال قراءاتي للتاريخ و الجغرافيا و فلسفة الإنسان، أقدر على التميز بين لحظات الماضي و الحاضر...
– لا اقصد ذلك. الانتماء له روح و أنا أعيش بدون روح منذ اليوم الذي اغتربت فيه. عندما يعرف الناس أن إسمي العربي ،يقولون إني عربي غريب...!أما عندما أتكلم لغة الضاد يتأكد الكل أنني أتيت من بلاد حضرموت أو من بغداد.
– وما العيب في أن تكون من بلاد فيها أرواح لا تعدّ و لا تحصى و حضارات غابرة. إن كلامك فيه حمق شديد. قل لي يا رجل: هل كنت تتوقع في يوم من الأيام أن تصرخ هكذا طواعية؟
– جسدي أمسى كالمطمورة توجد فيه كل بصمات القبور المنسية، العار و التخلف و هلم جرا. لا أدري...أنا متعب و لا أريد أن أدخل غمار هذا النقاش...
قاطعته. كنت أريد أن أولد شيئا من لا شيء. خاطبته مرة أخرى:
– قل ما تشاء لكنك عربي...!
– أنا لا شيء. أنا ضائع بين صفحات ليست لي. شهادة الحاضر مزورة أما الماضي فهو يائس.
لم أتمالك نفسي. قبضت على كتفيه بعنف و قلت له:
– من أي بلد أتيت يا رجل ؟
– أنا أتيت من بلاد تدعى خلود.
– وهل هناك بلاد تسمى خلود ؟
– خلود لا يعرفها أولئك القوادون و اللصوص و بائعو الأجساد. خلود لا تعترف بالجهل و تتنكر للحاضر. خلود بلدة ضائعة لا تطأها الأقدام إلا بعد مجاهدة و مشاهدة و مقاومة.
– وما علاقة القوادة و بائعي الأجساد بحديثنا ؟ ماذا تريد أن تقول ؟
– يبدو لي أن من يبيع الجسد و الفكر قادر على بيع الوطن...ألست من هواة قراءة التاريخ ؟
– ومن باع الوطن ؟
– أمرك مضحك جدا.ربما ذوبتك رياح برلين...وهل لست من أهل الأرض حتى لا تعرف أن أبا جهل قد باع الوطن...لا تثق في الرموز والكلمات الطائرة. سأؤكد لك شيئا مهما. لقد باع أبو جهل الوطن و الأرض أيضا بأهلها و أصبح الجميع يعملون بأجر زهيد عند أهل الطغيان و مصاصي الدماء.
أجبته بلهجة غاضبة:
– سمعت حكاياتك منذ البداية، لكن لا أدري ما علاقة بيع الأجساد و الأوطان بورطتك ؟ فأنت تعيش ببلاد الجرمان...
– انك تجهل الجزئيات و لا تعرف الا الكليات...
– أنا أنصت إليك...وقف هذا الصوت الحزين و أطلق العنان للسانك الطويل. احك لي لماذا أعلنت حالة العصيان؟
آه من قساوة هذا العربي و فصاحته لغته المدمرة. أجابني حتى ظننت أنني لم أسمع قط لغة الضاد من قبل في حياتي. سألته بوضوح حتى أوفر عني عناء المراوغات.
– هل لك زوجة و أطفال و عمل هنا بهذه البلاد ؟
– زوجتي رحلت منذ زمن بعيد هي و أطفالي. لم تعد تتحمل نظراتي الهادئة و صمتي الأبدي...
– لماذا الصمت يا أخي ؟
– لقد اغتالت في نفسي لذة الحياة. باختصار شديد، لقد وجدتها مع شابين ألمانيين يمارسان الجنس جميعا فوق سريري !
– أمر غريب...وهل وصلت درجة الحيوانية إلى هذا الحد ؟
ـ هذا ليس بغريب. إنه عطش الإنسان !
ـ إذن أنت تعيش وحيدا ؟
ـ أعيش مع قطتي التي رفضت أن ترافق زوجتي و أطفالي الثلاثة. هذه القطة تلطف فضائي عندما أعود منهوك القوى من التسكع ...
– إذن أنت بدون عمل...!
– هل أنت أصم ؟ قلت لك مازال أبو جهل يطاردني...لقد أصبح كظلي ، يترصدني في كل مكان .
– لقد خذلك الزمان يا رجل ؟
– لقد خذلوني جميعا، زوجتي التي غررت بها الحرية وأبو جهل الذي قضى على كل الزهور بالوطن وجاء لاغتيال ما تبقى من الأشياء الجميلة في هذا العالم .
– وماذا بعد ذلك ؟
– أبو جهل يهاجمني كل ساعة. أجده في كل شوارع و أزقة برلين العظيمة. مازال متمسك بخبثه و برهاناته.
– أية رهانات ؟
– اغتيال الجمال و الصدق و كل الأنوار في هذه الحياة.
– ولماذا هنا ببرلين ؟ لا أفهم ؟
– لقد حمل أبو جهل معه ركاما من الأفكار الشائعة و المبتذلة،و يعتقد أنها سلعة مقبولة.
صافحته بحنان و عطف وقلت له:
– قل لي يا أخي: ما علاقة الشابين الألمانيين و زوجتك وأبو جهل بصراخك اليومي ؟
– أنا لا أحب أن يطوقني أحد. عندما يختزلني شخص معين في عبارة أو رقم أو انتماء ضيق أحس بالغبن. أنا لست كائنا للاختزال بل للامتداد. أحمل الكثير من المعاني...
– لقد صدق حدسي، فوراءك دموع لا تجف وحكايات آتية من هناك، من بلاد أجهل مكانها...
– لم ينفعك علم الجغرافيا...فخلود بلاد كلها معاني ،حتى الأسوار تنطق كل يوم وتعبر عن هواجسها!
– بدأت أتعرف عليك أيها العربي...
قدم لي صاحبنا سيجارة مبللة. رفضت و قلت له بصراحتي المعهودة:
– جسدي لا يقوى على تحمل دخان السجائر. أكتفي الآن بالمشي على الأقدام و التقرب من كل الناس.
– وما هو عملك الآن ؟
– أكتب حتى أعطي لحياتي معنى. صحيح أنني لا أجد من ينتبه لكني أعرف أن الإنسان في كل مكان في حاجة إلى الحرية. فالحرية و المسدس نقيضان لا يلتقيان.
بدأ العربي يهدأ وصوته تغير وأحس بأنه قريب من ذاته. استغلت الفرصة و طرحت له سؤال ضاحكا:
– قل لي الآن هل أنت عربي ؟
– أنا أهوى إنساناً ليس له عنوان...
ضحكت مرة ثانية وأردت تغيير مسار نقاشنا الكئيب. سألته مبتسما:
– و هل لقطتك عنوان قار ؟
ـ آه قطتي سميتها حرة و علقت على عنقها قطعة نحاسية مكتوب عليها: إسمي حرة و أسكن ببلدة خلود.
أمسكت أنفاسي أمام العربي. بدأت أتامل في وجهه كيف يغير سحناته. كانت لغة اليأس بادية على جبينه ثم قلت له:
ـ لقد نسيت أن أشتري كتاب غورغي . صوتك جذبني و حول انتباهي...
ـ لا بأس ،غورغي حي لا يموت. إنه ليس كأبي جهل المعروف عند عامة الناس و مشهور عند الأغبياء بحركاته البهلوانية .
ـ أكيد سنلتقي يوما ما...
ـ لا أعتقد لأن من يلتقي معي مرة واحدة يفقد صورتي في ذهنه وينسى اسمي، لذلك أظل ضائعا، مجهولا و مغتربا بين أركان هذه الدوامة.
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حين بدأ النعاس يهاجمني. لم أفصح عن حقيقة حالي و اكتفيت بالإنصات إلى كلام العربي الليلي.
ـ يا صاحبي إذا سقطت في النسيان فانتظر إعادة الشريط. ليس من السهل أن تتذكرني، فأنا لا أنتمي إلى ظلامية الراهن، فرفاقي و أهلي مازالوا في طريقهم إلى هذا المكان. إنهم يجهلون العديد من الأشياء الحاصلة هنا. فهم يعتقدون في الصفاء و النقاء والبقاء. أنتظرهم كل يوم.
ـ وهل تنتظر زوجتك ؟
ـ أنتظرهم. أنا قتلت نفسي وما قتلت أحداً. أحبهم جميعا...
غادرني العربي من دون أن يودعني...تركني وحيدا أنظر باستغراب قاتل.
وفي اليوم التالي عدت إلى ذلك المكان لأراه و نتبادل معا لغة الشوق و الحنين. لم يكن هناك. وجدت فقط بائعة الورد جاكلين، واقفة بجانب باب محلها. كنت منتصبا، أنتظر صاحبنا. رأيت جاكلين آتية تستعد للكلام معي. وقفت أمامي. وبعد التحية و السلام طلبت مني:
ـ هل ترغب في شراء وردة أو باقة من الورود...
ـ أحب الورد و لكن...
ـ ولكن ماذا ؟ تفضل !
سلمتني جاكلين وردة حمراء اللون. كانت مغمورة. نور يملأ وجهها و ضحكاتها المصطنعة فيها شيء من الرقة و الحنان. خاطبتها:
ـ جميل يا سيدتي.
فكرت في العربي ثم قلت لها:
ـ سأشتري هذه الوردة.
لم يأت العربي إلى ذلك المكان المهجور. أردت أن أقدم له تلك الوردة عسى أن تقدم له معنى لجمال الطبيعة. تحطمت قواي من كثرة الانتظار. ضاع العربي مرة أخرى وفقدت الوردة عبيرها.