علي الضاحك
عندما عاد علي إلى بيته كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا. صمت مريب و جسد كلاوديا بدأ يتململ في رقدته. لا أعتقد أن كلاوديا تحلم الآن،بل تعيش في عالم غيبي مبهم. علي جائع ويرغب في الأكل لكنه يشتهي الطاجين بالبرقوق الذي كانت تعده أمه قبل رحيلها. يداه ترتعش. جلس قبالة صورة كلاوديا المعلقة قرب ساعة الحائط النحاسية في بهو الشقة. غلبته الرغبة في الضحك.بدأت علامات الابتسامة تنبعث من عينيه.اللحظة التي يعود فيها علي إلى البيت تكون ممزوجة بالألم والفرحة. تنهد قائلا:
ـ يا عالم الوهم، كيف تنتهي لحظات النشوة بسهولة وأصبح أمام ذاتي عاريا؟
رغبات دفينة و آهات متعددة تدفع علي إلى الضحك حتى يسقط على الأرض. عندما يجتاح الانتشاء روحه تظهر حماسة علي الجميلة. يضحك دون أن يزعج زوجته. يجهش بكاء دون أن تسمع كلاوديا شهقة من شهقاته. يتأمل ناظرا إلى السماء.يقطِّب وجهه فيعطي الانطباع انه مصاب بداء غير معروف. مرض علي غير المعدي هو أن يرقص وحيدا من شدة خروجه عن واقعه الكئيب. وبالرغم من أن آفة الجوع تطارده كل يوم في مثل هذا الوقت، قرر علي أن يرقص على نغمات الصمت الرهيب وهو يحاول أن يحافظ على توازنه حتى لا يسقط على الطاولة التي وضع عليها آخر كأس من كؤوس شرابه، فتستيقظ كلاوديا وتبدأ رحلة جديدة نحو عوالم لا تنتهي. لقد علَّمته التجربة مع كلوديا أن لا يلمس جسده أو يداعب أي جزء فيه. فالرقص الضاحك و اللعب قبالة غرفة النوم أمسى رياضة روحية يمارسها علي كلما عاد إلى بيته ساعات بعد منتصف الليل. إنه يعوِّض رغباته المطمورة وشهواته الغائبة.
يعرف علي جيدا أن كلاوديا لا تقدم له الطاجين بالبرقوق ولكنها هناك، نائمة، بعيدة وقريبة منه، على الأقل كلاوديا قادرة على أن تمسح له دموعه بذلك المنديل الذي يحبه كثيرا ويذكِّره في أمه التي توفيت في نفس اليوم الملعون الذي طُرد فيه من الشركة الألمانية. يا له من قدر تتحقق فيه كل النهايات دفعة واحدة. علي لا يريد العودة إلى أيامه ويومياته. يعشق الموسيقى التي لا تُسمَع و الرقص الذي لا يرمي بصاحبه على الأرض، والحب الذي لا يشبه المعنى المعشَّش في أذهان الناس.
لحد الساعة مازال علي يحافظ على توازنه داخل فضاء البيت. في صمت يضحك ويبكي بالتناوب. يبدو أن هذه الليلة كانت رائعة وشرب فيها علي الكثير من الكؤوس. عندما تعب من حركاته، وضع رأسه بين ركبته ليتحدث مع نفسه. ينطق دون أن يفكر أو يزن كلامه في ميزان أناه العليا:
ـ يا كلاوديا لا تتوقفي. إنني ذاهب إلى حيث لا أدري...
علي عاشق للكلمة. لقد كان يكتب الشعر عندما كان طالبا. عشقته إحدى زميلاته وأرادت أن تقضي معه ليلة كاملة يقول خلالها شعرا. انتهت الليلة دون أن يقول علي شعرا بل حتى أن يعبر عن رغباته التي دفنها خوفا من ورطة قد تجلب له المصائب. علي لا يبالي بكلام الناس و لا بتفاهتهم المنسية، لكنه مُصِّر على مواصلة خطواته على درب عشق فريد من نوعه، عشق ليس له نظير. كثيرا ما حكى علي لأصدقائه في القرية كيف يخاف من لعنات النساء وألاعيبهن التي لا تعد و لا تحصى...
ليل علي مقدس وبعيد عن الترهات التي تروجها أخبار الإذاعة والتلفزيون التي تخفي كل شيء. مناخ الليلة حزين. برد قارص ينذر بأمطار عاصفية. وضع يديه في جيبه المملوء ببقايا زيتون حامض قدمه له الساقي الذي يعمل بالخمارة. كم يكره علي هذا النوع من الزيتون لكنه يأكله على مضض. اتجه ليبحث عن أحد المناديل التي ورثها عن أمه. عثر على واحد منها في جيب قميصه المطلي بلون الخمر. مسح وجهه وجفَّف خدَّيه. الكثير من الدموع تفتقت من عينيه وتدحرجت لتنزل كحجر ثقيل على صدره. عادة لا يمكن لعلي أن ينسى أو ينام بجوار كلاوديا، لكن في هذه الليلة المجنونة قرر المغامرة. نهض ليبحث عن بعض الصور القديمة. أصبح النظر إلى صور الماضي كطقس يومي يؤنسه ويجلب له متعة محظورة. وعندما اقتربت عقارب الساعة من الخامسة و النصف صباحا، دخل علي لحظة الهذيان. حاول أن يمسك قدميه ويدخل غرفة نومه. قبل أن يقترب من كلاوديا قليلا، وقف أكثر من عشر دقائق أمام كل الصور التي زينت بها كلاوديا المكان. سحرته صورة مريم العذراء وكأنه يراها لأول مرة. حدَّق في وجه مريم قائلا لنفسه:
ـ إنها تشبه أمي قبل أن تتزوج أبي لتذبل كوردة يشمها الكثيرون...
تزحزح علي من مكانه. صور أخرى تلاحقه. رفع رأسه إلى أفق أبعد فوجد صورته بالأبيض والأسود وهو يتوسط أهل قريته. أمسك بها محاولا التأكد من تاريخها: خريف عام 1973. وبالقرب منها علقت كلاوديا يد خشبية أهدتها لها أم علي قبل رحيلها. مازال علي يسمع صوت أمه وهي تقول لكلاوديا:
ـ هذه يد فاطمة ستحميكِ أنتِ وابني من العين الخبيثة...
وبين يد فاطمة و صورة مريم تاهت نظرات علي. أحست كلاوديا بخطوات علي. استيقظت فجأة دون أن تقول ولو كلمة واحدة، فهي تعرف زوجها كيف يحب أن يحاورها في هذه اللحظات المبكِّرة. ريح شتوية تهب على الغرفة فيستفيق علي وكأنه كان في سبات عميق. تنظر إليه كلاوديا، تمسك يديه وتساعده على القعود بجانبها. يتوسط علي السرير. ألوان البطَّانية مزركشة وجميلة غطت بها كلاوديا الثوب المليء ببقع حمراء تشهد على مأزق علي. كثيرا ما يتقيأ حتى صارت الغرفة كواد من الدماء. علي لا يحرك ساكنا. كلاوديا تريد أن تساعده كي يستلقي على السرير. رفض مشيرا بإصبعه إلى رغبته في التقيؤ. وبسرعة أخذت كلاوديا سطلا صغيرا كانت قد وضعته خصيصا بجانب السرير حتى يتخلص علي من الحرقة والآلام التي تسكن بطنه كل يوم. انتهى هذا المشهد الذي أصبح سلوكا روتينيا تعيش كلاوديا و علي على نغماته.
وأخيرا تحدث علي ضاحكا. يريد أن يسأل كلاوديا بشغف عنيف:
ـ هل ما زلت تتذكرين اليوم الذي التقينا فيه لأول مرة؟
ـ لن أنسى أنك كنت بجانب تلك العجوز عندما أخذت الكلمة من داخل جموع الحاضرين،وسألت ذلك الأستاذ الألماني عن سر العلاقة الموجودة بين الغرب و الشرق.
ضحك علي مرة ثانية ثم قال متلعثما:
ـ لقد كانت أيام جميلة...
ـ مازالت الأيام جميلة لحد الساعة...
ـ لا نستحم في النهرين مرتين!
ـ عباراتك لها أكثر من معنى!
ـ ما أقبح الوطن الذي لا يسع للأحلام!
ـ هل جاءت رغبتك في النوم؟
ـ رغباتي التي انتظرها منذ سنوات كي تهاجمني وتنقض عليَّ ولم لا تضربني على الخدود حتى أطير من مكاني، مازالت في عالم غير مفهوم...
مد علي يديه إلى كلاوديا. ارتمت عليه. داعبت شعيرات صدره كعادتها. بدأت تتحرك فوقه وكأنها تبحث عن شيء مخفي تحت جسده الذي لا يقوى على الحركة. كلاوديا مُصرِّة على التحدي. في هذه اللحظات الحميمية جدا يهيم علي ويخترق قاراته المظلمة. يتذكر كل شيء حتى ممارساته مع الحيوانات عندما كان هناك. لم ينس علي كلام الراعي موحى وهو يقدم له النصائح بخصوص ممارسة الجنس مع الحمير لأنه دواء لكل داء. علي يسبح في مغامراته المتخيلة دقائق معدودات قبل أن تناديه كلاوديا وهي تطبطب على رأسه ثم على ذراعه الأيمن. كانت تبتسم وهي توجه خطابها إليه:
ـ يا علي، لدينا حكمة ألمانية تقول أن السقوط مستحيل، لكن إن حدث ذلك بالفعل فلابد لنا أن ننهض مرة ثانية.
رد علي على كلاوديا. لسانه لم يعد قادرا على مقاومة الكلمات الألمانية المركبة:
ـ وعندما نسقط ألف مرة وتهتز أحبالنا الصوتية نتوقف عن الكلام.
ـ لا مجال للتفكير في النهاية و يكفيك أن تحاول حتى تصل!
لم يبق إلا ساعة واحدة قبل أن تخرج كلاوديا إلى العمل. علي لم يكتشف سبب عجزه لحد الساعة. كل الفحوصات الطبية تؤكد سلامته. آه،من غربة الأوراق وعنف المجهول. على يمين السرير، كانت هناك بعض المجلات الألمانية و رواية عربية وبعض الأوراق كان قد كتب عليها علي بعض الأرقام الهاتفية. انسلت كلاوديا في هدوء. اعتذرت قبل أن تضع البطَّانية على جسد علي وتنسحب من غرفة النوم تاركة زوجها في سكره اللانهائي.