الحاجة مبروكة
تلك العشية قررت أن أزور الحاجة مبروكة. كرهت الجلوس مع أشباح تتقن اللعب خلف الأسوار. وجدت نفسي قبالة بيت الحاجة. هذه المرأة التي يلعنها الأغبياء و أعداء السعادة، يتحدث الكل عن أمجادها. تنير طريق أولئك الذين رفضوا لعق الأحذية وطأطأة الرأس. كنت آنذاك خارج غرفتي الواقعة خلف بيت الجار قاسم. هذا الرجل يعشق البكاء الليلي عندما يتناول أقراص القرقوبي. دائما أنسحب من هذا المحيط طيلة الليل و لا أعود إلا وقت القيلولة حتى لا أسمع هذا الجار وهو يلعن أمه أو يطلبها لمضاجعته. تلك العشية كان لي موعد أبدي. اقتربت من بويب بيت الحاجة.بويب جميل، زرقته تضفي شيئا آخر على تلك الخطوط المتداخلة التي يتركها أطفال الحومة كل يوم كزخرف تؤثث حروفه عبارات كبتها هؤلاء الصغار كي يعبروا عن ما يلوج بخواطرهم. لا يتوقفون عن الكتابة على هذا البويب حتى تعزف الحاجة عن مسح رسوما تهم و عباراتهم الموحية بالغضب و العنفوان. عندما ركزت نظري في ما يكتبون اعتقدت أن حياة كل الجيران عبارة عن جحيم يعبر عنه الصغار عوض أولئك الذين قتلتهم المعاناة اليومية.
كان اليوم لحظة ضرورية أدخل فيها عند الحاجة مبروكة لأستأنس بكلامها الحكيم و ضحكاتها الطفولية البريئة. دخلت بدون أن أدق على بويب الدار. كانوا هناك. كلهم يعرفونني جيدا. أعشق الحرية وكل ما طاب في هذا الزمان المغبون.نادتني ضاحكة، ترتدي فستانا مزركشا بألوان متناسقة. لا أرى مثل هذه الفساتين الآن عند العديد ممن عشقت مرافقتهن. لم أكن على وعي بأن عقدا كثيرة تشكلت في نفسي. أحس وكأن أشياء تنقصني...لم أعد أشم روائح عديدة في ملابس الكثير من بنات اليوم. الحاجة مبروكة تعوضني عن روائح و آهات و هوس أنثوي مفقود . طعم مأكولاتها فيه نبرة فنية و إتقان محكم. تؤنسني و عندما تقدم لي العصير الأحمر تقول لي:
– خذ هذا شاي العظماء.
– ذلك اليوم وكعادتها كانت منشرحة و معنوياتها مرتفعة. كان لها موعد مع صديق عزيز تعرفه منذ أن كانت طفلة. اسمه موحى. رجل جبلي قيل عنه أنه كان محاربا وقاوم المعمر الفرنسي في الجبال. موحى لن يأتي قبل منتصف الليل. سينتظر حتى تهدأ الحركة و يخدع المقدمين و الشيوخ وعيون الجواسيس.كنت آنذاك قبالة غرفتها الكبيرة ، نظرت إلي ثم قالت:
– مرحبا بالشباب...
– آه أنا شاب إذن...! غريب...كيف حدث ذلك و مؤخرتي اشتعلت شيبا ؟
مررت الحاجة مبروكة يديها الناعمتين على عنقي. تحب أن تلمسني في هذه المنطقة من جسدي. قالت لي وعيونها تلمع من شدة الانفعال:
– أنت شاب عظيم و لولا وجودك بهذه الحومة المنسية لهجرت هذا المكان المنحوس منذ عقد من الزمن.
– ولماذا أنا بالضبط ؟
– أنت لا تدري...ضخامة الجبل لا تظهر الا عندما نبتعد عنه!
لم أكن استسيغ كلام الحاجة بسهولة. كنت في العشرين من عمري. ساذج و لا أفهم أمورا عديدة. لكن كنت متأ كدا من شيء واحد: عندما ألمس يدي الحاجة أحس بالانتشاء و لا أدري السبب!
وعلى الفور بدأت تسألني. تعرف أنني لا أكذب عندما أكون برفقتها. أجيبها بمنتهى الصراحة وكأنني كتاب مفتوح. هي الوحيدة القادرة على تفهم أموري. أغمي علي من شدة القهقهات التي أطلقتها يمينا و شمالا عندما سمعت أسالتها المتكررة عن أحوالي. يبدو أن الفضول يفجر في نفسها أشياء معينة. أجبتها بعد صمت دام دقائق:
– والله يا الحاجة عندما أنصت إليك ينتابني إحساس غريب و كأنني صغير ، حافي القدمين ، لا أحمل على جسدي سوى بعض الرسومات الطفولية التي أشكلها بالحبر الجاف . أتدري كيف كنت مولعا برسم الوجوه القبيحة.
قامت كي تأخد كأسا من شاي العظماء ثم قالت لي:
ـ والله أنت لا يفهمك أحد... أية وجوه كنت ترسمها على جسدك ؟
ـ كنت أحب رسم وجوه كل من عبد القادر وجاره موسى...
ـ ولماذا هؤلاء بالضبط؟
ـ لم أكن على علم بعدة أشياء، لكن مع مرور الزمن تعرت الحقائق و أصبح الكل يتحدث عن عبد القادر و موسى اللذان يضربان زوجاتهما كل ليلة و لا أحد يدري سر هذا العنف. كبرت وكبر معي الهم و الغم ثم تعرفت على الحقيقة الموجعة.
ـ أية حقيقة يا الشيطان !
ـ عبدالقادر و موسى تجمعهما صداقة حميمية و لا يفترقان...
ـ وما علاقة الحميمية و الصداقة بحكاية ضرب الزوجات و ...لا أفهم...انطق بدون ما تخاوا علي !
– الحميمية قد تتحول إلى شيء آخر ...!
– مثلا يا ملعون...!
– عبد القادر و موسى سقطا في الفخ و أصبحا...
– أمرك عجيب...
– الإثنين معا زوامل ...و لا داعي للتعليق...يمارسان الجنس من وراء الستار. هل تريدين سماع هذا الكلام ؟
– من أين تأتيك هذه الأخبار...أعرف عبدالقادر متزوج وله خمسة أطفال و موسى له أربعة أطفال. أين و لماذا يمارسان هذا العجب ! في السماء ؟ هذا باطل و غير معقول و ألسنة ولاد الحومة طويلة...
– هذا الهوى لا علاقة له بالزواج، فالكثير يمارسه. كل ممنوع مرغوب فيه ... أقول لك بكل بساطة . عبدالقادر بائع الدجاج المعروف عند كل الناس يمارس الجنس مع موسى في محل البيع المجاور لبيته. عندما يدخل الأطفال إلى بيوتهم، يغلق باب محله و تبدأ العملية !
– تعرفني يا ملعون، لا أهتم بشؤون أولاد الحومة. آه،لا تنس أنك علمتني أن العقول الصغيرة لا تصل إلى السعادة الا عندما تتخلص من تفاهات العوام .
– صحيح...لكن حكايات الناس تقدم لنا صورة عن واقع الحال...
– أنت تقهرني بفلسفتك و لغتك المسمومة. مرة هنا ومرة هناك. خد الكأس و سترى كيف يتحول عبدالقادر و موسى في ذهنك إلى قردين !
ابتسمت. كانت تبدو مستعدة كي تنصت إلى كلامي. اغتنمت الفرصة ثم قلت لها بصوت مرتفع:
– يا الحاجة ، هما قردان قبل عملية التحول . أتعرفين أن غريزة القرد قوية...
– إذن تريد أن تقول بأن عبدالقادر و موسى يشتركان مع القردة في أشياء معينة.
– لقد اقتربت من المعنى مادام أصل الإنسان مجهول...!
عندما بدأت أنظر إلى أسنانها اللامعة و المساحيق التي زينت خديها، بدأت أعتقد أن سحر هذه المرأة لا مثيل لها في هذا العالم المستلب. سألتها بلطف:
ـ حدثيني عن علاقتك بشاي العظماء ؟ أنا لا أفهم عشقك الجنوني لهذا السائل ؟
ـ شاي العظماء بعيد عن أهواء الناس و غرائزهم. أحبه كما أحب نفسي، لأنه يقدم لي جرعات حرمت منها أيام المستهترين و القوادين و طيور الظلام. لذة شاي العظماء لا تعترف بالوصاية، تحب العاشقين وتدخل السعادة إلى قلوبهم...
ـ وأية سعادة ونحن نحس بأنهم يراقبوننا كل ثانية ؟
ـ أعرف جيدا هذا الأمر، لذلك اخترت أن يكون لي زوج من ورق حتى أغلق الأفواه النتنة.
ـ أفواه أولاد الكلاب الذين ...
قاطعتني الحاجة و قالت لي في انفعال شديد:
ـ أنت تتحدث دائما عن الكلاب حتى أصبح الكلب عندك لازمة...الإنسان يا ولدي أقل درجة من الكلب...
ـ لماذا ؟
ـ الكلاب لها نظام خاص أما الإنسان فقد ضيع كل شيء وأمسى كائنا فوضويا.
غريب هذا الأمر. عندما أكون رفقة الحاجة أتحول إلى مسافر يحط الرحال في كل الدنيا. كانت ترحل بعيدا و تطرق كل الأبواب، لذلك تشاجرت مع كل الأغبياء ورفضت مجالسة الكائنات الرخيصة. الحاجة تراقبني و تتحدث معي بهدوء تام و تعلمني معنى الحياة.
نطقت من جديد لكن هذه المرة كانت ملحة وكأنها تريد أن تطرق بابا آخر من أبواب مغامراتي العاطفية.
ـ وأين وصلت مع المحبوبة جميلة ؟
ـ أمامي طريق واحد فقط كي أصل مادامت حريتي معلقة.
ـ وكيف يمكن أن تتعرف على المزاج الجميل و الطبع الأصيل حتى تنعم بهذه الحرية ؟
ـ عندما دخلت في تجربة جديدة مع جميلة بدأ الوهم يطاردني وأصبحت مرهونا و معتقلا حتى صرت أصرح كل يوم بممتلكاتي...
ـ كيف ؟ أنت لا تكسب شيئا. أنت ما زلت في بداية الطريق. أية ممتلكات ؟ لا أفهم كلامك؟
ـ أملك نظراتي، عشقي للأرض ، آهاتي ، حبي الكبير لامرأة لم تولد بعد...
ـ أنت غريب...!
ـ الغرابة جزء مني و لا أدري متى أوقف عجلة إصراري. أنا ولدت حرا و أردت أن أكون حرا. لفظتني جميلة و عويشة و الضاوية و مليكة و اللائحة طويلة. كنت غبيا أرى الحياة بعيون دامعة لا ترى الحقيقة. كنت داخل كهف أنظر إلى الأشباح المرسومة على الحائط.
ـ يا لها من كلمات سخيفة...و إلى متى ستظل تلعب بذيلك كالخروف ؟
ـ أنا حرمت من اللعب منذ طفولتي. لم يبق لي إلا التعويض. جميلة لا تمثل بالنسبة لي سوى وسيلة للذة. أحيانا اكره نفسي !
ـ اللذة لها عواقب و خيمة. انتبه يا ولدي إلى مزالق الهوى حتى تحقق توازنك وتبتعد عن أهل الرذائل.
الحاجة مبروكة تسحرني حتى بدأت أسقط في فخ غرامها. أحس بجاذبية خاصة و عشق أعمى لهذه المرأة . وعندما كانت بجانبي و نحن نتكلم عن عالم الهوى ،دخل علينا الصديق موحى. ملامحه توحي بأنه قادم من ساحة الحرب. فرحت بزيارته. الساعة تشير إلى الواحدة صباحا. شاي العظماء فعل فعلته في الحاجة. تتأثر بحلاوة هذا الشاي وعندما تصل إلى ذروتها تعشق الغناء وتحب ترديد كلمات الخلود.
لحظات وبدأت تشدو أعذب الألحان. لم أكن أتصور أن صوتها يصل إلى هذا البعد اللازمني الذي ذكرني بأشياء عديدة. عندما كنت طفلا صغيرا أهوى مجالسة المسنين. أزور دائما الإسكافي حمو ، أنصت إليه و لا أتكلم الا قليلا لأنني عندما أريد أن أتكلم يقول لي دائما :اسكت ،أنت لا تعرف شيئا . كم كان صوته يزحزح أجواء دكانه عندما يردد عبارته المفضلة:
ـ ما عند الأطباء ما يفهموا في أمور كثيرة !
آه من عجز الأطباء عندما يتضخم شبح الموت. صوت الحاجة وصل إلى ذروته. وصلت إلى مقاطع موحية أشعرتني بالنشوة:
ـ آه ، آه نشرب الشراب في الصباح ...و كلام الأحباب و شاي العظماء غير مباح !
كلام موزون يحسسني بالاغتراب، لا نني لا أسمعه من جميلة ولا حتى من عويشة. كانت أيامهم تنقضي بانقضاء ساعة الفرح. لا مجال للخلود، فالزمن موشوم باللعنات.
في تلك الليلة طرحت عليها كل الأسئلة التي تخطر ببالي. سألتها وأنا في غمرة الشغف العنيف:
ـ ما سر ذيل الخروف وهوس القنفذ ؟
أجابتني وهي تضع يديها فوق رأسي:
ـ من الحكم الكبيرة التي تركها لنا الأجداد قولهم: إن الصداقة لذيذة و هي وسيلة للسعادة العظمى...
لبرهة فهمت معنى هذه الكلمات الموزونة وقلت لنفسي: حالتي خطيرة للغاية. إنني أبحث عن زمن انتهى. أنا مازلت غافلا عن أمور شتى. كنت مستعطفا، وكأنني أطلب من الحاجة وصفة لعلاج أمراضي المزمنة:
ـ أنا لا أريد أن يقع لي ما وقع للحكيم الذي تزوج خوفا من السقوط في المهالك. أنا حر حتى عندما أقع مكرها تحت تأثير غرائزي و حواسي.
انقض علي شبح النوم. كنت منهوك القوى، لكن صوت الحاجة مبروكة لم يتركني هادئا. كلماتها وحروف أغانيها بدأت تخترق أنفاسي وتنتشر في ضلوعي كما تنتشر النار في الهشيم. قالت لي بعدما انتهت من أحد مقاطع أغنيتها:
ـ يا ولدي، لماذا تأتي إلى هذه الدار المهدومة كل أسبوع و تلتزم بموعدنا الليلي...هل تشك في أنني دخلت العقد الرابع من عمري ؟
ـ العشق و الهوى لا يرتبط بعمر أو بأضراس أو حتى باليد التي لا تكذب الناظر. ولعي هو حضور هذه الجلسة التي أغذي فيها روحي و أحيي ما تبقى لي من همسات.
ـ وماذا تفعل إذا غاب النهار و دخلت مرحلة جديدة من مراحل الليل الحالك ؟
ـ آه هذا مستبعد. لقد علمتني الحياة أن التشاؤم يصلب العود ويحول الإنسان إلى كائن متفائل بامتياز. لا أعتقد أنني سأتوقف في يوم من الأيام عن لعبة ذيل الخروف وهوس القنفذ.
ـ لقد راح زمن اللذات و حلت أيام الامتعاض. لابد من الرحيل. وقفة المحارب تصلح لأمثالك!
الرحيل يجر الألم و يبعدنا عن السعادة. أعرف أن علاقتي بالحاجة أبدية أما جميلة و عويشة لا تجمعني بهما الا بعض اللحظات اليتيمة التي تندثر في أي لحظة من اللحظات.
فجأة، وقفت الحاجة كل شيء حتى شريط فريد الأطرش الذي كان يغني أغنيته المعروفة: يوم بلا غد.الأمر فيه شيء ما. الحاجة لا تريد العوينة أن ينصت لألحاننا. هذا الرجل هو لسان الحومة و الجاسوس الذي ينقل كل صغيرة و كبيرة إلى أصحاب الحال. كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا. مر العوينة بالقرب من بيت الحاجة. كان يسعل سعالا خفيفا. الحاجة لم تستطع إكمال كلامها عن الحب القادر على مجابهة الاحتضار. استرسلت بعدما تأكدت من خطوات العوينة وقد ابتعدت عن مجلسنا و صرنا في مأمن من شره. همست في أدني:
ـ هل تأخد سيجارة ؟
الحاجة تفهم حركة شفتاي عندما تتحول زرقتهما إلى حمرة، آنذاك أحتاج إلى سيجارة من نوع رفيع.
أخدت السيجارة قبل أن تضع الحاجة واحدة أخرى بين شفتيها. بدأ الدخان يتصاعد في السماء. طلع نور النهار. موحى غلبه النعاس ولم يقدر على شرب ما تبقى من شاي العظماء في كأسه الثاني. سقط على مخدة الحاجة. كان مرهقا من شدة التعب. كنت أنظر إلى فمه المفتوح و شخيره الذي تنبعث منه رائحة كفاحه المرير ضد المعمر الفرنسي في أعالي الجبال.
ومرة أخرى، وقع ما لم يكن في الحسبان. عناصر من الشرطة تدق على دار الحاجة. الكل كان مفزوعا. دب الخوف في نفسي. موحى يجمع الكؤوس وينعل اليوم الذي حمل فيه البندقية ضد الفرنسيس . لم أكن أتصور أن العوينة قادر على معرفة كل شيء بالحومة. صدقت قول أحد رفاقي الذي وصفه بصياد النمل.إنه يصطاد كل الكائنات حتى عشاق الليل. كان أحد عناصر الشرطة يصرخ:
ـ افتحوا الباب يا ولاد القحاب !
كل الجيران ينظرون من وراء النوافذ و من خلف الأبواب الموصدة. كنا جميعا نستحق الرحمة. فتحت الحاجة بويبها الأزرق الذي كادت عناصر الشرطة أن تكسره. أصحاب الحال يقولون بصوت واحد:
ـ شكون معاك في الدار ؟
الحاجة مبروكة ليست ككل النساء. روح و شهامة عالية . كلامها كالحجر،لا يؤلم و لكن يترك أثره في النفوس النائمة. وفي الوقت الذي كنت فيه رفقة موحى وزوج مبروكة نجمع ما تبقى من الموز و اللوز وفتات الخبر ونحمله إلى داخل غرفة تنام فيها قطة الحاجة، سمعتها تقول بصوتها العالي:
ـ كيف تتهجمون علي في هذا المنظر العجيب وأنا متزوجة.
نطق أحد عناصر الشرطة متهكما:
ـ أنت تمارسين الفساد يا الحاجة...!
صمتت قليلا قبل أن ترد:
ـ أنا بنت هذه البلاد، شربت من مائها و أكلت قمحها و تربيت بين أحضانها. أنا جزء من تربة هذا الوطن.
الشرطي فهم المعنى و أراد أن يلعب دور الأبله:
ـ أنت مع مجموعة من الرجال، أتفهمين ؟
ـ نعم ، لكن زوجي معي و هذه نسخة من عقد النكاح الذي أمضاه بالأمس قاضي القضاة في هذه البلاد.
بدأ الشرطي يقرأ الوثيقة. لم يكن يفهم كل ما كتب عليها، سلمها لرئيسه. أحسست أن الاستياء عم الأرجاء و ربما عناصر الشرطة كانوا يعتقدون شيئا آخر. أجابها الشرطي وكأن أشياء معينة ضاعت منه:
ـ أنت يا بنت الحرام، تعرفين من أين تأكل الكتف...!
ـ لا والله، هذا ما تعلمته في هذه الحومة منذ أن رحل أبي قبل أن يرى النعمة التي قاوم من أجلها ضد المعمر.
ـ ماذا تقولين ؟؟؟ احنا بوليس و ماشي محكمة !
ـ ذهب الذين كافحوا و قاوموا واغتصبوا من أجل حرقة الوطن. أغلقت الباب في وجه البوليس وهي تعرف أنهم خسروا المعركة. دخلت كالبطل إلى البيت.بدت لي كالهرم...نطق موحى ساخطا:
ـ والله أنت أحسن من ألف رجل...
كادت دموعها أن تنفجر ثم قالت:
ـ لو كان في هذا الوطن كائنات رجولية لما وصلنا إلى هذا المأزق...!
فكرت في كلامها وقلت لها في تلقائية تامة:
ـ الحاجة مبروكة،ستكونين في يوم ما بطلة لإحدى الروايات...
ـ أنا فقدت دور البطولة منذ أن تحول الرجل إلى ذكر و المرأة إلى أنثى والحب إلى خدعة تاريخية.
لم أعد أتحمل ضربات الحاجة الكلامية. عدت إلى مكاني ووضعت رأسي بين فخديها ثم نطقت وأنا أمسك بيديها:
ـ أنا لست عبدا لوطن ليس لي. أتجرع مرارة قصوى . وأنا أرتمي بين أحضان جميلة أو عويشة أو أخريات. أحس وكأن شيطانا ماكرا يدفعني إلى الهروب. رومانسيتي تقتلني وواقعيتي تدمر أحلامي . أنا ضحية عشقي للحياة.
لم أتمكن من توقيف دموعي. لم أكن في حاجة إلى يد الحاجة كي أجففها. طلع النهار و أشرقت الشمس. رحل زوج الحاجة بعدما نطق متحسرا:
ـ لقد انتهت مهمتي هذه الليلة...!
ضحكت الحاجة. كانت فرحة بنشوة نصر قاتل:
ـ هذا وطن الأغبياء وقطاع الطرق. لو لم أفعل ذلك لعشنا الحرمان طيلة الحياة. أنا أعيش لنفسي و ليس لأحد. أنا حرة حتى النخاع.
انتهت الليلة التي لا تنسى وغادرنا الكل. أنا بقيت مع الحاجة. رفضت مغادرتها.أرادت أن تخلد إلى الراحة قليلا. طلبت مني والابتسامة ترتسم على وجهها:
ـ غادر المكان، أمك تنتظرك ...ربما ستسأل عنك...
تزاحمت في رأسي حكايات و فلسفات أزلية ثم أجبتها بانفعال:
ـ يا الحاجة... ليس لي أم...أنا هو حي بن يقظان هذا العصر !
ـ أنا لا أفهم معانيك...انصرف وإلى الملتقى!
شدت الحاجة على يدي ورافقتني إلى خارج البيت. قبلاتها على جبيني أسقطت رأسي على صدرها الساخن. قلت لها متحسرا:
ـ الأغرب في هذا العالم هو أن يصير الرجل من دون امرأة !