الأحد ١٨ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم رندا السيد محمد عامر

قبل الفجر بساعة

في منزل صغير أنيق لزوجين جديدين لم يمر على زفافهما إلا بضعة أيام، يغلق عمي الحقائب بإحكام، وينادي على زوجته أن تسرع لأن عليهم الذهاب الآن، لا أدري لماذا أنا هنا! ولماذا أشعر أنهم لا يرونني! يقول عمي لزوجته أن عليهم التحرك الآن ليتمكنوا من الوصول قبل حلول المغرب، هنا تذكرت كل شيء للأسف، رباه! عمي أرجوك لا تذهب لا تسافر، ألاحقه في كل مكان بالشقة وهو يتحرك هنا وهناك ليتأكد من غلق جميع النوافذ فلا يراني أو يسمعني!

فجأة أجد نفسي على مقربة من نقطة التفتيش، العربات تسير ببطئها المعهود وقوات الاحتلال تفتش السيارات والركاب بعنف وإذلال، تقترب سيارة عمي، أصرخ بأعلى صوت "عماه لا تقترب أرجوك"، صوتي واهن ضعيف لا أكاد أسمعه، أصرخ: "عماه".

أصحو من نومي فجأة، ألهث، يغمرني العرق، الشمس تضيء الغرفة، لقد نمت بضع ساعات بعد صلاة الفجر إذن، أجد على السرير بجانبي ألبوم الصور مفتوح على صورة عمي رحمه الله، عرفت الآن لماذا هذا الحلم المؤلم، الساعة الآن العاشرة، لابد أن أعطي لأمي جرعة الدواء، تأخرت عليها ساعة كاملة.

مرضت أمي منذ عام تقريبًا، ومنذ تلك اللحظة وأنا أشعر بالقلق عليها، والخوف من الوحدة، فنحن نعيش وحدنا بالشقة منذ استشهاد خالتي وجدتي. حالتها تسوء بمرور الوقت، وأزداد أنا رعبًا وحزنًا وتحملا للمسئولية. لم أجد شيئا يخفف من حزني وقلقي إلا خلوتي كل ليلة قبل الفجر بساعة لأصلي قيام الليل، وأتلو القرآن الكريم، وأدعو الله أن يشفي أمي وأن يفك أسر أبي إن كان لا زال على قيد الحياة، ثم أتصفح صور العائلة قليلًا، وأصلي الفجر وأنام لأصحو في موعد دواء أمي.
منزلنا هادئ وواسع، تمتلئ جدرانه بلوحات رسمها أبي، فقد كان يحب الرسم ويتقنه. هذه رسمة لي وأنا أبتسم حين كان عمري خمس سنوات. وهذه رسمة أخري للمسجد الأقصى، آخر مرة رأيت أبي فيها في عمر السابعة في مشهد لن أنساه ما حييت، صوت طرقات على الباب بقوة وعنف، تقتحم قوات الاحتلال المنزل لتلقي القبض على أبي، وتجره من بيننا وسط صرخات أمي وبكائها، تعلقت برجل أبي وتمسكت بها، فانتزعني أحد الجنود بعنف لأرتطم بالأرض؛ فتحتضنني أمي وهي تستغيث، آه على ذلك المشهد، أحد عشر عامًا مروا ومازلت أتذكر كل شيء.

أطهو طعام الغداء في المطبخ، أتذكر قول جدتي دائمًا "خير الطعام المسلوق والمشوي" فأبتسم، فقد كانت تهتم بصحتها كثيرا، وتأمرنا بالمثل، أفكر في الحلم الذي رأيته في الصباح، وتأخذني الذكريات.

عمي الشاب دمث الخلق لطيف المعشر، يحبه الجميع ويحبهم، كان دائمًا ما يشتري لي القصص المصورة واللعب، ويحكي لي بطولات المقاومة الباسلة، ويقص علىّ قصص الصحابة الكرام، كان يحلم بيوم زفافه، ودائمًا ما كان يذكر أنه يريد عشرة من الأبناء، خمسة ذكور وخمس إناث؛ فنضحك جميعا على دقته في اختيار العدد والنوع، جاء موعد زفافه وفرحنا كثيرًا، منذ سنوات لم نفرح هكذا. يقرر السفر مع زوجته ليقضيا أسبوعًا في مزرعة جدها بعد دعوته لهما، يمران على نقطة من نقاط التفتيش المنتشرة بطول الطريق، ويأتي الدور على سيارة عمي، فيأمرهما الضابط بالنزول من السيارة ليفتشها بدقة، ثم يبدأ بالتفتيش الذاتي، ويحاول عمي كظم غيظه بصعوبة، وبعد الانتهاء من تفتيشه يحين دور زوجته، فيثور بشدة، ويرفض أن يمس أحد زوجته، وتزداد حدة الشجار بينه وبين الضباط، فينتهي كل شيء بطلقة في صدر عمي، ويسقط شهيدًا وسط صرخات زوجته وانهيارها.

تقطع حبل ذكرياتي رائحة احتراق الأرز، فأنتبه، وأنقذ ما يمكن إنقاذه، يمضي اليوم رتيبًا مكررًا حتى أدخل غرفتي للنوم بعد أن اطمأننت على أمي، أحرص على النوم مبكرًا؛ لأصحو قبل الفجر بساعة، وأختلي بربي وأصلي ما شاء الله لي أن أصلي، وأقرأ ما تيسر من القرآن، أدعو بكل ما أريده من الله تعالى، ثم أتصفح الصور، لأجد صورة لي مع أمي وجدتي وخالتي، مبتسمات وخلفنا شاطئ البحر.

"لا تكثري من الحلوى يا ريما إن السكر يضعف المناعة ويزيد الوزن".

فترد خالتي: "دعيها يا أمي تأكل ما تشاء فهي لم تزل صغيرة".

كانت جدتي في الخمسينيات من العمر، تحلم بأن تعيش شيخوختها بصحة ونشاط وقوة، وتهتم بكل ما هو صحي، شديدة التفاؤل والمرح، لا يعكر صفوها سوى الحزن في عين أمي، وشوقها لأبي، ومثله في عين خالتي، بعد أن اختفى خطيبها فجأة منذ ثلاث سنوات، ولا تعلم إن كان حيًا أم في الأسر، ولكنها قررت انتظاره حتى يعود إليها، مهما كلفها ذلك من سنوات، وتحلم باللحظة التي يعود فيها ليجدها على العهد لم تيأس.

كانتا تعيشان معنا بعد أسر أبي، ويأنس البيت بجدالهما الدائم المرح، وحبهما وعطفهما.

مرضت صديقة جدتي ودخلت المستشفى، فقررت جدتي أن تزورها لتطمئن عليها، واصطحبت خالتي، ليقصف العدو المستشفى بدعوى اختباء عناصر من المقاومة فيها، فتستشهد جدتي وخالتي، ويأبى الحزن أن يفارق دارنا.

أسمع صوت أذان الفجر؛ فيتوقف شريط الذكريات، ودموعي تنزل على خدي، فأقوم لأصلي الفجر، وأغسل أحزاني بركوعي وسجودي، وأنام بعدها ليبدأ يوم جديد.

أرجع من السوق، معي بعض الخضروات، لأجد أمي تنظف الشقة وتمسح الأرض!

"ماذا تفعلين يا أمي؟ ألم يمنعك الطبيب من بذل أي مجهود! لماذا لم تنتظري عودتي"؟

 "أشعر أن عضلاتي تيبست من كثرة الرقود على الفراش، أنسيتِ كلام جدتك عن أهمية الحركة وأضرار الخمول! رحمك الله يا أمي".

أصر على أمي بترك كل شيء، وأعدها بتكملته كما تريد بالضبط، فتصر هي على إعداد الطعام كنوع من النشاط البدني، وليشغلها قليلا عن الذكريات التي لا تفارقها طوال رقودها على السرير.

نجلس لتناول الغداء، وأنا مستمتعة بمذاقه، فمنذ فترة طويلة لم أذق طعام أمي الشهي، وأمي تتابع باهتمام الأخبار وصفقة تبادل الأسرى المرتقبة كعادتها.

تدخل أمي لتنام بعد الغداء، وأدخل غرفتي لأرتاح من مجهود التنظيف، غفوت قليلا، ثم سمعت جلبة شديدة عند شقة جارتنا، أجري لأنظر ماذا يحدث، وأفتح الباب، فأجد أمامي قوات الاحتلال تأخذ جارتنا، وهي تأبى التحرك، وتتشبث قدماها بالأرض، وتردد "لا أعلم عنه شيئًا منذ يومين صدقوني".

وأنا أراقب المشهد في ذهول، المشهد مألوف جدًا، أشعر بالعجز الشديد عن فعل أي شيء، يمرون أمامي، وهم يسحبون جارتنا، وهي تنظر إليّ دامعة، كأنها تقول لي: هذا ما كنت أتوقعه وأخشاه.

جارتنا الطيبة الوفية تعيش مع أخيها الأصغر، تبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، وتأبى الزواج، كانت دائمًا ما تقول لأمي"لا أريد أن أتزوج وأرى زوجي يقتل أمام عيني، أو يؤخذ ابني أسيرًا ولا أراه مرة أخرى"!

اشتكت لأمي في الفترة الأخيرة أن القلق بدأ يساورها؛ فأخوها يطيل البقاء خارج المنزل، ودائما ما يحدثها عن النصر، والأخذ بثأر المظلومين، وشرف الشهادة!

قبل هذا الحادث بيومين لم يرجع أخوها إلى البيت، وأخبرتني بذلك، ولم نخبر أمي خوفًا عليها.

ظللت أبكي حتى المساء، وأتظاهر بالثبات من حين لآخر، حتى لا تلحظ أمي أي شيء.

يأتي موعد خلوتي قبل الفجر، ولا تتوقف دموعي، وأظل أدعو لأبي وأمي وجدتي وخالتي وعمي وجارتي، وأظل أتلو "متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" "ألا إن نصر الله قريب".

أتصفح الصور بعينين مجهدتين من كثرة البكاء، وأنا أبحث عن صورة بعينها، لتقع عيني عليها أخيرًا، صورة أمي وجارتنا تحتسيان القهوة بالشرفة، وتضحكان ضحكة عفوية جميلة.

أنام قليلًا بعد الصلاة ثم أصحو على صوت أمي، وهي تهزني بشدة وتهلل فرحًا:

"استيقظي يا ريما، أبوك حي يرزق، وسيخرج خلال أيام".

لا أصدق ما أسمعه، هل أحلم، أم هذا حقيقي؟! أبي! يا ألله! هذا أجمل من أن يكون حقيقيًا! الله أكبر.

أجلس على الفراش، وأسألها كيف عرفت، فتتغير ملامح وجهها، وتهدأ فرحتها قليلا، ثم تحكي:

"صحوت من النوم على رنين الهاتف، ناديت عليك كي تردي، لكنك كنت في نوم عميق، أجبت، فإذا به خطيب خالتك رحمها الله"!

أكملت وهي تبكي "تحرر مع دفعة الأسرى الأولى، وبشرني أن أباك سيخرج بإذن الله مع الدفعة الثانية"
كنت أسمعها، وأردد في سري "اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد".

واصلت قائلة: "سألني عن خالتك، وأخبارها، هل مازالت تنتظره؟ هل نسيته؟ هل تزوجت؟ ودَّ لو أتى من محبسه مباشرة على بيتنا ليراها، لكنه فضّل تحسس الأخبار أولًا، لكيلا يسبب حرجًا لأحد".

كنت أسمعها وأبكي، سبحانك ربي، كيف تختلط مشاعر الفرح والحزن في آن واحد هكذا!

"زف إليّ أجمل بشرى في حياتي، وزففت إليه خبر استشهادها!" ولم تحتمل، وظلت تبكي، وتتذكر خروج أبي فتبتسم، وتمتزج المشاعر، فقلت لها أن كفاها انفعالًا، ولتذهب لتستريح على سريرها، فقالت "ليس قبل أن أبشر جارتنا بالإفراج عن أبيك" وقامت لترتدي إسدال الصلاة لتذهب إليها، فاستوقفتها وقد بداعليَّ الارتباك وقلت لها:

"لا يمكنك الذهاب! إن جارتنا... " وسكتُّ.

"ماذا بها"؟

"إن جارتنا قد سافرت".

"سافرت! متى؟ ولماذا لم تخبرني"؟!

"حضرت هنا البارحة لتخبرك بسفرها، ولما علمت بنومك العميق بعد مجهود التنظيف وإعداد الطعام أبت أن أوقظك، وطمأنتني أن أخاها يقيم عند أقربائهما، وأنها ستذهب إليهم بضعة أيام".

تنظر لي أمي بريبة غير مقتنعة.

"قالت لي أنها ستهاتفك في أقرب فرصة" وأتمتم "سامحني يا ألله".

تستسلم أمي لما قلته، ويسيطر عليها أمر واحد فقط، كيف سنعد البيت، ونستعد لاستقبال أبي.

بعد بضعة أيام يرن جرس الباب، أجري لأفتحه، وقلبي ينتفض فرحًا، تسبقني أمي جريًا إلى الباب، فنجد أبي أمامنا، لتختلط المشاعر بالأحضان والقبلات والبكاء في مشهد تعجز عن وصفه الكلمات.

لاحظت أنه يحمل في يده دفترًا مهترئًا لا يفارقه، سألته عنه، فأجاب أنه كان يرسم فيه رفقاءه طوال فترة الأسر.
يتفرس أبي في ملامحنا بعمق، أحد عشر عامًا ليسوا بالأمر الهيِّن.

تقول أمي: "انظر كيف كبرت ريما ابنتنا وأصبحت عروسًا"

يبتسم ويحتضنني بشدة ويبكي.

نجلس معه مستمعًا أكثر منه متكلمًا، تحكي له أمي كل شيء، ودموعه لا تفارق عينيه،

يستأذن لينام بعد يوم طويل من الانفعال والإجهاد، فندخل كلنا لننام في آن واحد.

أصحو من نومي للمرة الأولى منذ أكثر من سنة مع الأذان وليس قبله،

فأجد أبي يجلس على سجادة الصلاة، يتفحص وجوه رفقائه التي رسمها في الدفتر ويشرد.

آه يا أبي! أعرف جيدًا ما تفكر فيه، وما تشعر به الآن، لعلك صحوت قبل الفجر بساعة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى