القناع
يا إلهي أصبح العالم عبثيا وانعدمت فيه المعاني. الغبن يطاردني منذ أن بدأت أفكر بوعي. أنا امرأة بسيطة رمتها الأقدار خارج بيتها الدافىء. عملت في أم المؤسسات، و في أعرق الصحف، بل و في تلفزيون مشهور، لكن في كل مرة أطرد من العمل. يقال لي بأنني لا أجيد قواعد الركوع. رغباتي مكسورة. كنت لا أعلم أن الدفاع عن الحرية جريمة. كلامي كان مثار اهتمام كل زملائي. كلهم يجاملونني. لا أحب من يقول لي: أنت جميلة. إنهم لا يرون في ذاتي إلا كومة لحم. آخر مرة طردت فيها كان سببها تلك الصور التي قال عنها رئيس التحرير، إنها تخدش الحياء و تثير الفتنة. الصور كانت عادية جدا، وتعبر عن الفزع الذي تعيشه المرأة بعد اغتصابها. ما زلت أتذكر، في ذلك اليوم الذي سأغادر فيه عملي، قال لي رئيس التحرير:
– أنت عنيدة وأفكارك أكبر منك، لا نريد هنا معارضين.
أجبته بقليل من السخرية:
– يوما ما ستحيط بك غيوم الغباء و ستفقد لسانك حتى لو أردت أن تصرخ:" أنا إنسان ملعون".
الآن أحمد الله وأشكره، لا أحد ينتبه إلي. أعمل في غرفة يسمونها "غرفة الأخبار". من سينتبه إلى امرأة تنظف المكاتب و الكراسي و المرحاض. نعم، المرحاض هو مكان الأسرار. أنا المرأة الوحيدة وسط هؤلاء الرجال. هم يكتبون و أنا أمسح غبار يومهم، وغباء مخطوطاتهم الراقدة، و أزيل من أركان غرفتهم الكثير من الزوائد. في هذا المكان المغلق رفعت الستار و دخلت الأوكار. حين أدخل على هؤلاء الكتبة أسمعهم يتحدثون عن تفاهات الحياة، كغلاء المعيشة، وفي بعض الأحيان، يقهقهون عندما يحكي زميل لزميله عن آلام البطن و تراكم الغازات في الأمعاء، و مشاكل عملية الهضم، والأكلات السريعة، و التقاعد الهزيل، و مصير الانسان في "غرفة الأخبار" حين يكون خارج الأسوار، أو حين يصير يائسا و لا يقدر على الحركة أو الكلام.
عالم هذه الغرفة عجيب. ذلك المساء، كان أحمد يتحرك بطريقة مدهشة و كأنه يعاني من إسهال حاد. تتمزق أنفاسه وهو يتحدث إلى زملائه. يرقص كديك مذبوح. يلسع في كل مرة تشير فيه أصابعه إلى هذا الزميل أو ذاك. يداه تنطق لغة بلهاء، و عيون زملائه جاحظة تنظر اليه في جو مكفهر.
خمس سنوات وأنا أشتغل في هذا المكان. مرت الأعوام كمرور السحاب وأحمد ما زال ينهش نفسه. يتنكر لوصية أبيه: " يا ولدي، لا تلعب وحدك، لأنك ستلعب ضد نفسك". أول سحابة تمر فوق البناية، تجده يقول لنفسه:
– هذه غرفة الأشرار و ليس الأخبار. يحاربونني حتى أموت جوعا. لن أترك لهم الساحة فارغة. ضاع كل شيء و لم أحصل على الشهادة، و حتى نفسي بدأت لا أطيقها. عيادة الطبيب أضحت تعرفني، و الكلاب تنبح كلما لمحتني أتسكع وسط المدينة ليلا، باحثا عن خبر أو فضيحة زميل أقدمها هدية صباحية للمدير الجديد. أعرف أن المدير يحب فقط لاعقي الأحذية و المنبطحين وبياعي الحروف.
الهزيمة تنطق في دواخل أحمد. انفصامه يتفتق كل يوم. يسترسل في كلامه ويخاطب صوتا جاثما فيه:
– لماذا ابتعدت عن نفسي؟ لم أعد أظهر لنفسي كما كنت رغم خدعة الماكياج ولمسة الأضواء الحارقة.. أصبحت أدور في غيوم الظلام كطائر حزين.
معظم الأطباء و الوصفات فشلت في إخراج أحمد من نفق الويلات النفسية. سكنه الوسواس و حطم نصفه العلوي. زملاؤه ينظرون اليه كبطل مقرب من أصحاب القرار. مرة خاطبهم المدير وبصوت مرتفع:
– اسمعوا، أحمد هو زعيمنا في هذه الغرفة..
كانت الساعة تشير الى العاشرة و النصف ليلا، موعد خروج عمال الغرفة. أنظر في صمت وأفرغ آلامي. أحمد هو الوحيد من ظل في مكتبه. يدور حول نفسه تارة، و تارة أخرى حول المدير. اقترب من رئيسه. همس في أذنه اليمنى، فالأذن اليسرى لا يسمع فيها الكلام منذ أن نزلت قذيفة على بيته إبان الحرب الأهلية. قال للمدير بصوت خافت:
– عندي خبر جديد عن زميل معنا. الأمر خطير للغاية..
– هذه الليلة أقيم سهرة خاصة في بيتي، فلا تعكر صفوها..بسرعة، قل لي ماذا حدث..؟
– زميلنا الجديد يتدخل في كل شيء له علاقة بأخبارنا..بل وحتى في القواعد اللغوية. صحيح نحن نرتكب كل أنواع الأخطاء لكن هو يستدل بمثال يكرره على مسامعنا ألف مرة في اليوم. يقول: لكي تفهموا قاعدة الحال عليكم بفهم الجملة التالية: " أقبل الغريب مكسورا ". أتصدق هذا الكلام؟ أخونا اللغوي يريد أن يخلق الفرقة و البلبلة في صفوفنا، و نحن كما تعلم إخوة في العروبة و الدين، هو يريد أن يحرمنا من كسرة الخبر.
– وما العمل؟ أعرفك، و كعادتك تفك الرموز و تجد الحلول لكل المطبات..
– نعم هي عملية واحدة وسأفضحه.. لقد عثرت على كل أسراره..سأتدبر الأمر لو سمح لي سيدي طبعا. لا أريد أن أقوم بما لا ترضاه..
– لا تنسى أن كل أثر تتركه خلف عملياتك يكلفني هذا الكرسي..
خرج أحمد منشرحا مثل جواد خشبي يلعب دور البطولة. فجأة، أحس بوجع شديد في بطنه. دخل المرحاض. أحس بالغثيان. تقيأ كسرة الخبز التي أكلها صباحا. حالة أحمد أضحت معروفة عند زملائه. كل مرة يدخل فيها الى المرحاض يلقي ما في بطنه ثم يبدأ في الكلام مع نفسه. لا يستطيع أن يبلع لسانه أو يوقفه عن النطق. هناك قوة أكبر منه تدفعه الى البوح. هلوسته يمتزج فيها الحرف بالبكاء. صوت حزين يتحدث:
– أعرفك..يا ابن القحبة. أتمنى لك الموت اليوم قبل غد.
في كل شهر ينفذ أحمد عملية ضد زميل. أنفاسه ملأها كبت رهيب. يرى في منامه أشباحا و أجساما غريبة و كوابيس. يعاني من فرط السهر و الأرق. رُهابه لم يجد له الطبيب مخرجا. أمس، وفي مثل كل الأوقات التي تنتهي فيها لعبة الشاشة الماكرة، خرج المدير من مكتبه. كان مشغولا بقراءة رسالة فتاة تطلب عملا في الغرفة. كان فرحا جدا و كأن ذئبا عثر على فريسته. كانت الغرفة في شبه فوضى مرعبة. استدار المدير كي يعرف ما يحدث. تردد ثم قال:
– هل تعرفون أننا أصبحنا نتشابه في أمور شتى، و هذا سر نجاحنا. الشبه مفخرة لنا جميعا.
كان أخونا اللغوي ينظر اليه باندهاش و يحرك شفتيه في صمت:
– آه منك يا حقير. قتلت طفلك و شردت أمه و هربت من الحرب. لم تتعلم إلا أبجديات المراوغة و النصب. متى تقرأ كتابك بصوت عال يا كلب؟
المدير يضحك ثم يسترسل في الكلام:
– ستلتحق بنا زميلة جديدة لها كفاءة عالية في كل شيء، و ربما هي من سيقدم أخبارنا.
تقدم زميل يبحث منذ شهور عن فرصة تقربه من المدير. خاطب رئيسه وهو يطأطئ الرأس:
– سيدي، هناك خبر عاجل التقطته على جهازي وسيكون سبقا صحفيا بالنسبة لنا، و لم لا يكون عنوانا رئيسيا لنشرتنا الاخبارية: " ضراط البقر أضحى دواء يعالج الإنسان ".
رد عليه المدير بسخرية مقيتة:
– اشتغل على الضراط..ان شاء الله هذا خبر نشرتنا..
يمر المدير فوق رؤوس الجميع، يعبر ممرات المكاتب المفتوحة، وفي كل مرة يفتش في جهاز كل واحد منهم..ينظر اليهم بامتعاض..و كأنه مدرس يراقب تلاميذه قبل أن يعلن نقطة اختبار تحدد مصير كل واحد منهم. و إذا لمح زميلا يتحدث إلى زميله، يركض مسرعا لمعرفة فحوى الحديث. تخونه أنفاسه و حركاته و عقله، فيظن أن الجميع يتحدث عن أسراره. عندما يريد أن يهاتف زميلته / معشوقته الجديدة يدخل لمكتبه. يتحدث بصوت رخيم و بعبارات كلها ألغاز حتى لا يفهم كلامه أحد. متيم يحكي مع مقهورة. هي تعبد المال و هو يعبد الفرج. كثيرا ما ينام على كرسي المكتب، يحلم بأنه وضع رأسه على ركبتيها، وفجأة يأتي جاره عباس و يخبره بموت أمه. يستولي عليه الذعر فيستيقظ. يسأل زميلا:
– كم الساعة الآن؟
يجيب الزميل بصوت مضطرب:
– لقد مرت نشرة الأخبار يا سيدي..
الزميل اللغوي يرد على السؤال متحدثا الى أنفاسه:
– إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
أحمد يسأل نفسه مرة أخرى:
– لماذا أسكت؟ وهم، لماذا يسكتون؟ لماذا أحتقر نفسي و أمقت زمني؟ أنا رجل مخصي و ملعون. أصبحت مثل قرد يقفز فوق مكاتب هذه الغرفة. انتصار الجبناء يشبه الحبل القصير. أحس بنفسي تحاصرني.
أما أخونا اللغوي فتملكته الرعشة وكأنه في سجن كبير، تغمره الرطوبة القاتلة و صدأ الذاكرة. قال لنفسه متلعثما:
– لقد تزوجت و أنجبت و لم أعد أستحمل نظرات أبنائي إلي عندما أعود الى البيت. بنتي التي دخلت عقدها الثالث تسألني:
– لماذا كنت تقول لي بأن التكرار يعلم الحمار؟ أتردد ثم أجيبها:
– التكرار يقتل الانسان و الحمار يا بنتي.
أولادي يسخرون من أخبارنا و يضحكون على حركاتنا الجامدة. ولدي الأصغر يسألني:
– ما الفرق بين الاذاعة و التلفزيون؟
أجبته دون أن أفكر في الجواب:
– لا فرق بينهما يا ولدي سوى النكسة. التقنية لعبة زئبقية و غالبا ما تكون ماكرة.
طلع النهار. يبدو أن اليوم جميل. الساعة تشير الى الساعة التاسعة و النصف صباحا. المدير ينتظر أحمد في المكتب. ما أن دخل حتى ناداه إلى مكتبه ثم قال له:
– منذ مدة لم تقم بأية عملية، هل تاب الله عليك؟
– لا و الله. كنت مشغولا بمرض أمي. أبي هجرها و إخوتي ينامون عند عمي الذي يكره أمي.
– و هل أمك تعمل معنا في هذه الغرفة؟
– لا يا سيدي..
– اسمع جيدا. اليوم إجازتي الأسبوعية، لكن فضلت أن ألتقي بك. أنت عنصر مهم في هذه المجموعة. كلهم أغبياء وأنت أفضلهم. لدي مهمة جديدة لك. الزميلة الجديدة إسمها رانيا، و ستلتحق بنا الاسبوع المقبل، هي أرملة قتيل في الحرب. تفهم في كل الأمور، و تعرفكم جميعا.لقد حكيت لها عن كل واحد منكم.أريدك أن تكون عيني التي لا تنام. أنا لا أثق في النساء. راقب تحركاتها، و قل لي مع من تتحدث و ماذا تقول..أريد أن تنقل لي كل التفاصيل.
يبتسم المدير ثم يخاطب أحمد مرة أخرى:
– هذه مهمة تحرير أخبار جديدة، ستخرجك من روتين عملنا..هذا سر بيننا، سأسلمك برنامجا جديدا تقدمه أنت بنفسك. اخترت له اسم: " أفكار طائشة ". سنتحدث فيه عن سيارات فخمة تنقل سمك السلمون الى المناطق الفقيرة في العالم..
بلع أحمد لسانه. حرك رأسه مشيرا إلى قبول المهمة الجديدة ثم انصرف مسرعا. دخل المرحاض. أخرج ما في بطنه ثم بدأ يحكي:
– ماذا يمكن للجثة أن تفعل قبل مراسيم الدفن. ضاع مني مفتاح الحياة. أنا إنسان حقير.
سأتابع حكاية رانيا إلى آخر فصل فيها و ليقع ما يقع. كل يوم يقتلون روحا جديدة. كل يوم يقتلون الكلمة و يجردون الصوت و الصورة من عمودهما الفقري. متى تنتهي لعبة هذه الدمى الليلية؟ آه، لو كنت مسدسا لقتلت المدير دون أن يراني أحد. وجوه ممسوخة تحيط بي، وتعيد عقارب ساعتي الى الوراء. لحظات سقوط مقيتة. أصبح هذا المكان يعرف رائحتي و غثياني. كيف أدعو إلى صدق الأقوال و أنا مدنس بمآسي الأفعال؟
سقط أحمد على الأرض غارقا في دموعه. صوت مجهول المصدروغريب يناديه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
أخونا اللغوي جالس في زاويته الكئيبة، يتحدث لنفسه مخاطبا المدير:
– أنت لا تفهم في حيوات الأطفال و روح النساء المعلقة في سموات الخير و الجمال. حرمت من بصيرتك. أنت لا تعرف إلا لغة العفاريت. لن تسهر أيها الصياد، بل ستتحدث عن سجنك الأبدي ثم ترفع الحجاب على دموعك المطمورة.
المدير يكره السؤال و يتجنب علامات الاستفهام، و يخطب دوما أمام عمال الغرفة: "استعملوا الاسلوب التقريري فهو الأفضل ". المدير مهووس باليقين.. أخونا اللغوي تحرك من مكتبه. انزوى في مكان لا يسمعه أحد ثم بدأ يحاور شيئا في داخله:
– السجان لا ينتفض و السجين قابع في سكونه و صمته. يلعب بالكلمات الطائشة و يركب الجمل التي لا تقول شيئا. يتحرك في عالم العدم و ينطق لغة الببغاوات. سيصير زمان السجان و السجين في هذه الغرفة خالدا، تتحدث عنه الأساطير و تقدمه كتمثال النكسة. كم كانت لوعتي شديدة. أريد أن أصرخ، لكنني أفكر في مستقبل أولادي و زوجتي التي أصيبت بعد الإنجاب بشلل نصفي. أريد أن أصرخ: يا سيدي المدير، أنظر الى سحنة وجهك و حركاتك البهلوانية. لن تخرج من هذه الغرفة الكئيبة حتى تموت من شدة التكرار. أليس كذلك يا سيدي؟
هذه الغرفة تشبه لعبة شطرنج و في كل يوم يموت ملك جديد. أحمد يحس بخوف مفرط عندما يمر بجانب سيده. لكن سرعان ما يتحول إحساسه إلى ذهول حين يسمع صوت زميل يشبه صوت امرأة يسكنها الأنين. المدير يتحيز لهذا الزميل الهجين. أحمد و زملائه لا يعرفون سر هذه العلاقة. الأهم في الأمر هو أن الحس الانساني لا أثر له في نفس السيد، فهو يفعل ما لا يفعله الشيطان، و يعيش ازدواجية لا نهاية لها. لا يمكن التنبؤ بردات أفعاله. إنسان غير مستقر، غادر وطنه و لم يلمس حضن أمه منذ أكثر من عشرين عاما. لا تهمه الأسماء بقدر ما تهمه الألقاب.
في تلك الصبيحة، طلب المدير شايا بالنعناع. أحمد هو من يقوم بهذه المهمة. إنه رجل كل مهمات رئيسه. لم ينتبه أحمد حين عودته من المقهى. كأس الشاي غير نظيفة وفيها أثر الأوساخ. سلم المدير كأسه دون أن ينظر في وجهه، فوقع ما لم يكن في بال أحمد. ضربه المدير بالشاي الساخن جدا حتى احترق نصف وجهه. تهشم الكأس. غضب المدير ثم غادر الغرفة. أما أحمد فعاد الى بيته. يكاد رأسه ينفجر من كثرة الأسئلة: هل سأعود الى عملي؟ ومن سيتولى مهمة مراقبة رانيا عندما تبدأ عملها في غرفتنا؟
أما أنا، فقد قررت أن أكتب روايتي الجديدة: يوميات منظفة.