الرفيقان.
لم يكن الرفيقان على عجلة من أمرهما، قطعا مسافة أكثر من 2000 كيلوا متر، وكانت الشاحنتان ممتلئتين بالبضائع، خط السير رجوع من النيجر، طريق طويلة، طويلة، مرت بهم أشجار بلوط عالية، ومر بهم زرع يابس، ورعاة غنم، ثم مرت بهم وحوش برية، ومرت بهم أفاعٍ سامة، وقطيع أبل، وحين مرت بهم غزلان تتقافز في البرية، ألقوا عليها السلام ومروا، رغم حملهم لبنادقِ صيد، وحلمهم أن تلامس أيديهم جلود غزلان برية.
في الطريق التي صادفتهما فيها الأفاعي لم يكونا ليستشعرا بوجودها البتة، أعطى ذو اللحية وكان أكبر سناً من رفيقه، أعطى الإشارة إلى رفيق السفر أن ينزلا للراحة، ملأ الرفيق الإبريق بالماء وترجل مبتعداً قليلاً، حين هم بالجلوس تناهى إلى سمعه الفحيح فالتفت، كانت الحية ترقبه بعينين عسليتين ولسانٍ ذي شفرتين، بهت الرجل ونظر في عينيها، تسمر في مكانه، لقد شلت نظراتها ركبتيه فتيبس، حينها تذكر نصائح والديه، آهٍ يا اله، لا أدري إن كنت أحلم حين سردت والدتي قصة أبيها الذي تاه ذات مرة في البراري وفقدوه لأسبوع أو يزيد، ثم لقوه مرمياً بلا حراك بجانب بئر قديمة، مات ملسوعاً وبقي سر الأفعى في دماغه الذي شُل تماماً، ثم مات ومعه السر، مر شريط من الذكرى بسرعة برق في اللاوعي وبسرعة سلحفاة في عقله الذي يستقبل الأفكار بشكل واقعي، إنها حقيقة، همس ثم لامس رأسه، تسمر أكثر حين اقتربت وحاذته، أحس برعدة في مفاصله، وأحس ببوله الساخن يغسل ركبتيه، وينزل حتى يلامس كعبيه....... وما هي إلا ثوانٍ خالها أعواماً طويلة، حتى أكملت الأفعى تفريغ صوتها في الفحيح ومرت بسلام.
همس الرفيق الأصغر سناً إلى رفيقه عبر هاتفه الخلوي، بعد أن استقل كل واحدٍ منهما شاحنته:
ــ حمداً لله على السلامة مرة أخرى يا رفيق، هل رأيت إنك ستبيت خارج حفرة القدر معافى هذه الليلة؟ ثم أردف: الواقع إنني لا أدري سر تسمية الأفعى بالحية أيضاً، ألإنها حية دائماً، أم لأنها كل حين هي في شأن؟ أم لأنها تسلب الحياة أيضاً؟. إن الحيّات في هده الحياة، يكتنفها الغموض والسر الأبدي، لابأس همس الرفيق الذي غار صوته في بلعومه من أثر الصدمة، الحمد لله قالها ثم صمت.
حين ترجلاِّ مرة أخرى للراحة، قال الرفيق الأكبر:
ـ ومن قال إننا سنهرب من حفرة القدر، الواقع أننا سنكون هناك مذ أن كنّا علقة، وأردف: مُذ أن وجدنا داخل هذا التيه، نحن أبناء القدر، لنا ما لنا، وعلينا ما علينا، الحمد لله يذكّرنا في كل مرة أننا أحياء وأننا بفضل هذه الحياة سنشق كبد الزمن ونغوص فيه، آه من هذا الزمن، إن طال قصر، وإن قطنا قصراً، ولبسنا الحرير وشربنا ما لذ ونمنا دافئين، الأفعى هي الأفعى، تكره من يهزأ بحضورها فيتحرك، الأفعى تحب السكينة والسلام، لا تثر حفيظتها بالحركة، لأن كل حركة من أي كان تغضبها، مدركة سلفاً أن الذي يتحرك يهاجمها، فتهجم عليه بلسعة بكر فترديه قتيلاً، الحمد الله مرت على خير، قال الرفيق فيما كان يجهز بعض الحطب للشاي، والرفيق الآخر يدلق بعض الماء في البراد.
مع صوت صفير ريح، أطلق الرفيق الأصغر عقيرته بالغناء، تردد الصوت بين الشاحنتين المتقابلتين كنشاز فحيح الأفعى، تذكرها رفيقه فارتعدت فرائصه، يكفي بالله عليك لا تغني بعد، لا تغني، ليس شرطاً أن تغني، قال الرفيق الأكبر سناً، وأنت كذلك تغني ولا أحتج على غنائك، قال الرفيق الأصغر، حين أغني تدخل أنت في النعاس، ذلك يعني أن انسجاماً ما قد حصل بالفعل، أجاب الرفيق الأكبر، حسناً يا صديق، غنِ أنت، سيكون من الأجمل أن تغني أنت، همس الأصغر سناً، ثم ساد الصمت.
لاشى، شاحنتان تخترقان الخواء، طريق من الجنوب إلى الشمال، كلا الرفيقين يقود شاحنته، ويملأ العدم بالمواويل ولم تنتهِ، لم تنتهِ، أفرغوا كل أشرطة الحكايا وأعادوا حشوها من جديد، ثم أفرغوها في كل مكان يحلاّن فيه للراحة ولم تنتهِ، قطعوا صحراء النيجر، ودخلوا الى صحراء الوطن ولم تنتهِ الطريق، غير أن شيئاً من الغبطة العفوية اعترتهما حين دخلا حدود الوطن، مرت بهم بعض القرى، والواحات، وحين بدأ المكان المعتاد، حيث يسترياحان من جديد في كل رحلة، أطلق الرفيق الأكبر تنهيدة عميقة، وأعقبها بحمد الله، ثم عاد إلى الغناء، لم يعد إلى أغنيته المفضلة المعتادة، "فتنا النخل والديس واتعدينا"، كان يغنيها في الذهاب تحبباً فقط، هاتف رفيقه من جديد، اقتربنا من المكان، نعم رأيته أجاب الرفيق، وحين وصلا، أوقفا شاحنتيهما واحدة موازية للأخرى كما جرت العادة، ونزلا، كان الوقت ظهيرة، أنزلا حصيرهما وباقي حاجياتهما وبدآ في إعداد الغداء، اتكأ الأصغر بعد أن جهز النار ووضع إناء الطبخ عليها، وبدأ في سرد حكاية غريبة من خياله، قال: حكت جدتي عن أقوام يأكلون لحم البشر، يلقبون بـ "يميم"، وكنت أنسجم في كل حكاية، لكنني لا أذكر منها أية حكاية، هل تذكر أنت يا صديق حكايات "يميم"، قال لرفيقه متسائلاً، لا، قال الرفيق الأكبر الذي كان يتلهى برؤية جبلين بعيدين في الأفق، حيث لا شي يظهر من انبساط الأرض عدا تلك الجبلين، وأردف: الواقع أن جدتي لم تكن لتحسن أية حكاية عدا حكاية "ولد الزنتوتي الذي قتله أخوته"، حين قطنا المدينة القديمة وكنت صغيراً، أو بعض النوادر التي لا تحصل حتى بنسبة واحد في المليار، كأحد ما مثلاً يسقط من ظهر حصان واقف فينكسر ظهره، أو امرأة تكسر رجلها بمجرد الجلوس المعتاد، أو ,,,,، كفى قال الرفيق الأصغر ، كفى، اسرد لي شيئاً ذا معنى أو أصمت، أو غنِّ لنا من جديد، يا رفيق صوتك خلاّب، وفيما هما يغنيان ويضحكان بأعلى صوتهما، إذا بشاحنة بدأت من بعيد تشق الجبلين البعيدين وتتجه نحوهما ظهرت في بادئي الأمر بحجم ذبابة ثم بدأت تتشكل، استأنس الأصغر ثم قال: هيه، جميل، شكل الشاحنة وهي تأكل الطريق بين الجبلين منظر جميل، يا للروعة، الواقع أن أحداث الصحراء وجمالياتها، يفوق وصف الأفلام للمكان، إنها سينما الطبيعة، روعة الطبيعة، لا يوجد أروع من الصحراء، صحرائنا بالخصوص يا رفيق، وحين بدأت الشاحنة في الاقتراب سارع الأصغر إلى النار حيث استوى الطعام، وقام بصبه في آنية واسعة، وقال: سيكون من نصيب هذا التائه أن يشاركنا طعامنا، وسيكون من الأروع أن نصبح ثلاثة، ينام أحدنا ويبقى اثنان في كل مرة، وفي كل مرة أيضاً يزداد إحساسنا بالأنس، وبالحكايا الجديدة، من يدري؟.
وبدأت الشاحنة تقترب أكثر، وتقترب ثم تقترب، إلى أن أوشكت أن تدخل في حلقة الجلسة، هنا قفز الرفيق الأكبر من مكانه، وبدأ يومئ للسائق أن يوقفها، لكنه كمن كان ينادي ميتاً، وحين همت الشاحنة بالدخول كان الأصغر يغالب وقوفه، وقف ولم يفلح في المشي أو الهروب، تعثر في جلبابه، وما هي إلا أقل من ومضة برق حتى ضربت مقدمة الشاحنة رأسه، ومرت عجلتها الأمامية على خاصرته، صرخ الرفيق الأكبر بأعلى صوته، توقف توقف قتلت الرجل توقف...! هنا فقط استفاق سائق الشاحنة الغريب وداس على الفرامل، ولكن بعد فوات الأوان، حملوا الرفيق الأصغر سناً دون أن ينبس أحدهما بكلمة للآخر ووضعوه في الشاحنة من الأمام، هيا يا سيد قال الرفيق الأكبر لاهثاً مرعوباً، علك تعرف المكان، أقود هنا بالذات بالسليقة قال الرجل الغريب فيما كان يغالب اليأس، وقلبه يرتجف، أنا أعرف هذا المكان أكثر من نفسي، وطارا إلى أقرب نقطة يمكن أن يكون فيها مستشفى أو عيادة، لكنهما لم يفلحا، كان الرفيق الأصغر قد فارق الحياة، <<ماذا دهاك>>؟، صرخ الرفيق الأكبر للغريب، الرجل مات، رفيقي مات بكل عبث، وبدأ في العويل، قال الضيف الغريب، وما أدراني، لو كنت أدري ما تركت لك فرصة للسؤال، كنت نائماً، أقسم أنني كنت نائماً، قالها وأنتحب، بكى الرفيق الأكبر، وأردف: نائم، يحصل أن نقود ونحن نيام أحياناً، أذكر أنني دهست قرودًا في حلمي، حين مررت بأوغندا ذات صيف قائظ، ولكن أن ندهس حتى قرداً أو حماراً وحشياً، أو حتى غزالاً ونحن لانحلم فهذا لا يحصل، فما بالك أن ندهس بشراً، صرخ الرفيق الأكبر وأستمر بالصراخ إلى أن وجد نفسه محاطاً بالممرضين في عيادة صغيرة، ورفيقه الأصغر نائماً حقاً إلى ساعة الحشر، فيما سائق الشاحنة الضيف يردد في حضرة الممرضين منتحباً: <<يا للقدر، كنتُ نائماً، ولم يكن ثمة ما يرى عدا الصحراء، غلبني النعاس قبل أن يتشكلا أمام ناظري، كنتُ نائمًا، أقسم لكم إنني كنت نائماً>>.