من هي الأديبة، ومن هو الأديب؟
في أمسية ثقافية عراقية في مدينة مالمو السويدية وقفت سيدة وقورة تبدو عليها ملامح الجدية المخلوطة بالصرامة وحسم الأمور لصالحها إن دخلت في معركة فكرية تعرف نفسها بأنها لن تخوضها خاسرة، كشخص متعنت برأيه مثل أوسايرس* يكره الملموس ويعشق المجرد وهي تسألني بعد أن حركت شفتاها وكأنها تفكر فيما ستقوله بصوت ثاقب واضح لا يقبل إلا الرد عليه بذات النضج، فأرجعتنا إلى أرض الواقع وأجواء القاعة بعد أن أصاب البعض الفتور:
– كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ألقاب تم منحها دون تفكير، أو إعادة نظر وقتما يطلقونها على أشخاص لم نعرفهم، ولا نعد نثق بهم ومن تلك الألقاب، أديبة، وأديب. ترى، من الذي يستحق تلك التسمية وما هي شروطها؟! ثم ألتفتت ورائها للحظة لا يمكن حساب زمنها لقصرها وكأنها تريد التأكد بأن ما من أحد يضطرب من خلفها أو بجانبها لسؤلها. هذا ما شعرت به وقتها، لكن يمكن أن يكون السبب شيء آخر أجهله، والعلم عند سبحانه تعالى، بعدها جلست تنتظر مني جواباً يشفي غليلها..
شكرتها بابتسامة وادعة متعود على رسمها في أوقات كهذه! ثم لبسني شيطان الأدب بسرعة خارقة، استعمرني، أحسست وكأنه يخنقني، يهمس في أذني التي لا أسمع بها جيداً، رد، ما الذي تنتظره؟ سؤالها رائع، وجوابك يجب أن يكون أروع، ثم سمعت أصوات وكأنها قادمة من جهنم، ورأيت أشباح مطوية في أحقاب الدهور ترفرف أمامي تحاول أن تلهيني عما كنت متورط فيه، وأكاد أجزم بإدراك خفي بأن للجمهور في تلك اللحظة نظرات تعكس معاني الشوق والقلق لمعرفة الإجابة..
كنت قد تعلمت شيئاً درسته على يد أستاذي الذي أجلّه العلامة الدكتور علي حسين الوردي رحمه الله عندما قال: عندما تكون مواجهاً للجمهور وجهاً لوجه لا تنظر لهم، بل ركز على ما تريد بثه وقوله. وهكذا فعلت كمن يوقظه صداع الرأس؛ قرّبت الميكرفون من فمي بعد أن حسمت أمري بدمج مستوى الإقناع العقلي بالعملي من أجل أن أجعل الجمهور في صفي، فشرحت بصوت رصين ما يجول بخاطري عن لقب الأديبة والأديب، وما اعتقده بأنه الصواب، بنبرة لا تخلو من تحدٍ أو تباهي!
نعلم بأن ما يميز المبدع عن غيره هي تلك الصفة الرقيقة التي لا يكون قطرها أكبر من قطر الشعرة لرهافتها ودقتها ولولاها لما اعتز المبدع بنفسه، ولا كان له يفكر بأن يبدع، تلك التي تسمى التشوف الرقيق غير المحسوس؛ هذا الأخير هو في الغالب ما يحبه الفنان ليشعر بنشوة التميز عن أقرانه! ما علينا، قلت، قرّبت الميكرفون من فمي وشرحت وجهة نظري نابراً كشخص يعرف بأن للقلب أسبابٌ يجهلها العقل وكأني في أرض واسعة كبحر من الرمال كيلا أشعر بالرعب، أو الخجل، أو التوتر كما أخبرني العلامة الوردي تماماً:
– نحن نعرف بأن في الحياة أربعة أنماط هي التي تقدر سلوك الإنسان مع بيئته وتعامله مع الآخرين: الهيمنة، التأثير، الخضوع، والقدرة التحليلية.. من هنا يمكن أن نصل إلى التعريف والتحديد المطلوب لنعلم من هي الأديبة ومن هو الأديب، وكما يقال، لو أبعدنا المظهر الخارجي للإنسان من المعادلة لما تعرفنا على دينه!
فالأدب لا يعني غير الخلق، وجمعهما، آداب وأخلاق.
لكن ليس كل من يتمتع بالخلق أديباً، فلابد من توفر شروط ومقومات أخرى يتمتع بها الفرد ليستكمل نضوجه الحسي وبالتالي الفني ونقصد بها الموهبة الربانية التي إما أن تولد مع الإنسان أو لا تلد، والسؤال هنا، هل تكفي هذه الشروط للحصول على لقب الأديبة، أو الأديب؟ الجواب كلا! فلابد من تنوع في المواهب، مع السيرة الحسنة، مع العمل الدءوب من أجل وصالح الإنسان والمجتمع بلا اعوجاج أو ميل. وقتها فقط، نستطيع الحكم ومنح اللقب.
نأتي هنا لنشرح معنى التنوع بعد أن عرفنا بأن السيرة الحسنة هي المحرك الأول الذي يسبق الإبداع. فالتنوع لا نقصد به أن يكون الشخص رساماً، ونحاتاً، وموسيقياً، وشاعراً، وكاتباً ولا أعرف بعد ماذا.. لكن يتوجب عليه أن يكون متمرساً، محترفاً، أكاديمياً، مهنياً في نوع له عدة أوجه وأركان ويجيدها جميعاً كما يجيد تذوق أنواع الشراب والطعام على اختلافها.
فالكاتب مثلاً، عليه أن يجيد صنعة المقالة، ويكتب القصة القصيرة، ويبدع في الرواية، ثم يتذوق الشعر، يفسره، وبوسعه تحليل النصوص الأدبية وإعطاء فكرة وافيه عنها عندما يطلب منه ذلك، ناهيك عن تذوقه اللحن الموسيقي، وتسحره فنون الألوان الأخرى تماماً كالكتابة، وعلى هذا النسق تساق بقية الأنواع والفروع الفنية الأخرى، بعدها نقول لمن يتمتع بهذا الحسن ومن تستوفي فيه تلك الشروط بأن نقول على المبدعة أديبة، وعلى المبدع أديب. هذا بحياد خالص كحياد ديانا*.
* أوسايرس/ إله مصري قديم يمثل العالم السفلي الذي يصدر الأحكام على الموتى.
* ديانا/ إلهة العيد عند الإغريق القدماء.