وصية في زمن كورونا
الإنسان يريد شيئاً والله يحقق ما يراه بحكمته فيكون. الحياة دائرة مغلقة، مهما حاولنا الخروج من نطاقها لن نقدر إلا بحكمة إلهية.. هذه هي المعادلة التي لا يمكن لنا كسرها!
أنا مهند؛ وصيتي شاهداً على ذنب حياتي حتى بعد مماتي عندما قررت الانتحار؛ هيأت في غرفتي العتيقة التي يكاد يدقها الشهيق والزفير كل ما يستلزم لإنهاء حياتي. أرسلها لكم، أصدقائي المغتربين الأربعة الذين تمثلون لي كل عالمي بريدياً لعل روحي ترحل بسلام..
"بقيت ومنذ أيام متربصاً لبيت العجوز، تلك التي أرهقتها السنون؛ مات زوجها ولم تنجب منه، فعاشت محرومة من عاطفة الأمومة التي كانت تتوق لها ولم يسعفها القدر في تحقيقها. ظللت شاخصاً كالرمح المغروس بالرمل في الحديقة المواجهة لبيتها أتحين الفرصة لدخول بيتها بحثاً عن شيء ما يسعفني في تكملة دورة حياتي التي وهبها الله لي..
أعرف العجوز جيداً؛ امرأة طيبة، رحيمة، وغنية كذلك؛ تمارس الوحدة بحكم الدهر وأنا أراقبها، الجوع ينهش داخلي كالآفة الفتاكة، ووالدي المسن في الغرفة القديمة ينتظر ما تجود الحياة به عليّ؛ مريض هو يعاني الفقر والجوع، وابنه واقف ينتظر، يرتجف مثل سعف النخيل في يوم عاصف، شاحب الوجه كوجه ميت، يردد على نفسه كالمحموم:
لابد من الحصول على المال الذي يجعلنا نحيا حتى ولو لأيام قليلة، ثم أؤكد على قولي، نعم، لابد من ذلك منعاً لهلاكنا.. وفي هذه الأثناء فجأة لاحظت العجوز تخرج من بيتها دافعة عجلتها المتحركة أمامها برفق وروية وكأنها تدفع عربة طفلها الذي تمنته. وما أن ابتعدت حتى داهمت منزلها مندفعاً والرعب يستعمرني، الخوف يبتلعني، أنها المرة الأولى التي أمارس السطو فيها بغية الحياة! عالجت قفل الباب الخارجي، دخلت موارباً لا أفقهه للحياة من حقيقة، أعلم بأن الحقائق غامضة كحقيقة نشوء الكون، أتلفت شبه منهار يميناً ويسارا، أتقدم وأتراجع، أدخل غرفة الجلوس ونفسي يكاد ينقطع، كان زفيري يخرج متحشرجاً من بين ضلوعي كالشخير، ودقات قلبي تزعجني لقوتها، فتحت الخزانة الخشبية التي تتوسط الغرفة، وجدت صندوقاً قديماً، عالجته بأصابع مرتعشة، عثرت على ضالتي، قيمة الحياة التي سنها البشر، التقطت النقود الورقية التي كانت ميتة بداخل الصندوق، همَّمت بالفرار متلفتاً بذعر، ليس هناك من يشاهدني، تارة أنظر نحو اليمين وأخرى نحو الشمال دون أن أتجرأ وأرفع رأسي إلى الأعلى حيث الأفق الغامض الكائن وراء الحكمة.. خرجت سابحاً بعرقي المنساب فصوصاً من على وجهي وأنا أشعر بأن ظهري متصلباً، بارداً كقطعة من الثلج، قدماي لا تستطيع حمل جثتي، عظامي تطقطق محدثه لي هلع لا يقاوم.. وصلت غرفتي المتهالكة، رأيت والدي مستلقياً على سريره لا يقوى على الحركة، يئن من صدره، شاحباً ما بين الموت والحياة، صرخت به كالمعتوه وأنا أرمي في حضنه تلك الرزمة الورقية دفعة واحدة وكأنني أنوي التخلص من ذنبها:
– خذها.. ستجعلنا هذه النقود نأكل..
لم ينبس الرجل المستلقي ببنت شفة، لاذ بالصمت، لم يقو على الكلام، تحجرت في فمه الكلمات، أبت أن تخرج، لامس النقود بحركة من يده النحيلة، فركها وكأنه يعدها، ثم حاول بعد جهد وهو ينظر لي نظرة إشفاق مؤلمة كنظرة الطريد المواجه لحتفه أن يغمغم بصوت خفيض كأنه نابع من قبر:
– نحتاج إلى الطعام يا ولدي.. ثم غفى وكأنه في سبات أبدي.
خرجت وأنا أرص النقود رصاً، وضعتها في جيب بنطالي، وصلت السوق متهالكاً، متأرجحاً بين نارين، قسوة الحياة، وظلم الواقع رافضاً الموت جوعاً..
ما هي إلا أيام قليلة يموت فيها والدي بعد أصابته بمرض الكورونا وقتما لامس النقود الورقية التي سرقتها من بيت العجوز، تلك التي تعافت من المرض بعد حجر صحي في بيتها لمدة ثلاث أسابيع ولم يكن خروجها من منزلها ساعة سرقتها بعد أن تعافت نهائياً إلا لتستنشق نسيم الحياة خارج بيتها! هذا ما عرفته فيما، وتعرضت للإصابة بالمرض دون أن يحدث لي آثاراً خطيرة"
أثناء رجوعي من مكتب البريد لتحقيق رغبتي بالانتحار تم القبض علي واعتقالي.. اعتقالي كان بسبب عدم امتثالي لقرار حظر التجوال، الذي حال دون تحقيق رغبتي في الانتحار!!