التسامح والمساواة عند العرب
مازال هناك- وهم كثر- من يعتقدون بأن التسامح شيمة عربية راقية كمفهوم المساواة وفي هذا خلط واضح، وجهل صارخ لأن التسامح يختلف عن المساواة، والأخيرة هي من يتوجب أن تتبع في حياة الشعوب والأمم وللأسف هذا ما لم يحدث ولم يتوفر لغاية اللحظة قط وهنا تكمن مصيبة العرب الشاملة. كيف، سأقول لكم:
كنت في يوم أسير في منطقتنا التي أسكن وأعمل فيها وكانت فترة أعياد مسيحية يركن إليها الناس هنا بفرح غامر وهم يشعرون بالطمأنينة والراحة لأنهم صادقون مع أنفسهم، يحملون شخصية واحدة، لا يقربون النفاق إلا ما ندر وشذ طبعاً، وهذا ليس موضوعنا، فلنرجع إلى ما أردت سرده؛ وأثناء سيري شاهدت خيمة تحوي على تماثيل تعود إلى العصور المسيحية الأولى وظهور يسوع وأمه مريم واقفة بجانبه وهناك كان من ثمة ماعز وبعض الرجال وإلى ما ذلك تعبر عن ولادة جديدة تبعث النور حسب ما فهمت، وبجانب هذه الخيمة الجميلة التي رأيت فيها البساطة والجمال كانت تجاورها خيمة نصبها العرب ووقف ثلاثة من صناديدهم وأمامهم طاولة نشرت عليها كتب دينية كثيرة ولوحة معلقة خلفهم كانت تقول: التسامح بين الأديان!
جذبني العنوان، اقتربت منهم بحذر منكمشاً على نفسي، في حين كان هناك رجل وزوجته ينقشان العرب أصحاب الخيمة عن أمور تتعلق بدينهم وهجرة العرب إلى أوروبا وسمعت الرجل الأوروبي يقول لهم بالحرف دون تردد مواجهاً متحدياً وكأنه سيدخل في عراك معهم بعد لحظة:
– أنتم تسيرون في بلادنا كالماء تحت التبن، ثم أكمل جملته، لا تدعون أحداً يراكم أثناء سيركم كاللصوص..
الحقيقة استغربت من تلك الصراحة التي تجاوزت حدود الجرأة، وقلت في نفسي، بأن الرجال العرب الثلاثة الصناديد سيهجمون على هذا الرجل ويشبعونه ضرباً، لكن لم يحدث ما خفت منه، بل ظل هؤلاء صامتين كالحجر لا ينطقون فاقتربت منهم أكثر لتلطيف الأجواء التي شعرت بأنها توترت فجأة، وباللغة الألمانية كي يفهما الرجل وزوجته، قائلاً:
– لماذا أنتم هنا؟ ثم أردفت: سكتنا عليكم دخلتم بحماركم!..
الحقيقة كانت بدايتي غير موفقة، أقصد، أضفت على الطين ماءً وكأنني أسقيه! لم أكن خبيثاً، بل شعرت بأني أردت أن أخفف من وطأة الحدة التي رأيتها والصدام الذي توقعت حدوثه في أي لحظة بين الألماني والفحول العربية التي ظلت ساكتة كالتماثيل الموجودة في الخيمة المجاورة! فشرع أحدهم يرد على سؤالي:
– ماذا تقصد لماذا نحن هنا؟ ثم رطن بكلمات أعرف بأنه يحفظها ظهر عن قلب لأنه يجهل غيرها: أردنا أن نقول للعالم بأن ديننا متسامح مع الأديان الآخرين!
جوابه وترني، شعرت بأنه جاهلاً ، لم يكن يعرف ما يقول، متأكد من ذلك، فحفزني للدخول معه وأمام الزوج الأوربي الذي بقي يسترع الانتباه لمداخلتي وهو يهز رأسه علامة الإعجاب، قلت:
– أنت تعرف بأن هناك عيد مسيحي في هذه الأيام، فنصبت خيمتك هذه العارية من التراث بجانب خيمتهم، تنشر كتبكم وتروجون لها، ثم تروج لأفكار غير مقتنع بها، لن يصدقها أحد لمعرفة العالم المتحضر بأن التسامح ليس شيمة جميلة، بل، أمر استعلائي، غرور لا حدود له، كبرياء لا يعترف بالجروح، هذا الذي تقوله، لا يعني أكثر من أن الآخرين ارتكبوا حماقة ما، أو اقترفوا ذنباً عظيم ثم جئتم أنتم بتسامحكم هذا الخادع لتقولوا لنا بأنكم أفضل منا، أسيادنا، رحمتنا التي أنزلها الله علينا، وبالنتيجة تسامحوننا على أفعالنا التي أرتكبناها والتي لم نرتكبها بعد! قلت ذلك وأنا أنظر إلى الرجل الأوروبي بنظره جانبية، فرأيته يبتسم، ثم اقترب مني خطوة وهمس:
– آه.. لقد عبرت عما أردت قوله ولم أنجح! هذا ما يحدث بالضبط لنا، أضاف نابراً: صرحت بالحقيقة التي لم يجرؤ الآخر من إعلانها.. والصناديد العرب الثلاثة يلتفتون يميناً ويسارا وكأنهم يرغبون بالهروب أو الاختفاء والانزواء ولكن أين المفر وخيمتهم مغلقة عليهم إلا من جانبنا ونحن أمامهم واقفون! فغلب حمارهم..
وجدت بأن وقفتي معهم قد طالت، تذكرت بأني ذاهب باتجاه عملي، فحاولت أن أضع نهاية لمأساة العرب بقولي الذي أردت أن يكون الأخير معهم:
– اسمعوا، العيب لا يقع عليكم، بل على بلدية مدينتنا التي سمحت لكم بنصب خيمتكم بجوار خيمة التراث تلك الجميلة التي لا تنطق إلا بالبساطة والتواضع وكأنكم جئتم لتنافسونهم حتى في أعيادهم رغم أحقيتهم بالاحتفال في أوطانهم، لتبقون تتطفلون في كل بقاع الأرض سعياً بالانتشار وكأن العدد في مفهومكم خير من جوهر إيمانكم لأنكم لا تراعون الوعي بقدر الانضمام وتوسيع رقعة العرب العددية دون النظر إلى الجودة وقيمة الإيمان.. هذه هي مشكلتكم الأساسية، تؤمنون بالتسامح لأنه يرتفع عن المساواة، التسامح لا يمثل التشابه، ولا يرمز له، وما يحتاجه العالم اليوم، خاصة بعد أن توقفت سمات الإبداع عندكم منذ سقوط الدولة العباسية بعدها لم تعرفوا الحياة، بقيتم في ظلام دامس وترغبون بأن يشملنا هذا أيضاً، ثم تسامحوننا على غفلتنا وطيبتنا وإنسانيتنا وجمالنا ومروءتنا ونخوتنا وترفضون المساواة معنا لأنكم وحسبما تعتقدون، بأنكم شعب الله المختار الذي جاء ليكون رحمة للعالمين جمعاء وهذا ما موجود في نصوصكم التراثية الدينية التي تدعي بأن دين الله هو دينكم.. ثم وقبل أن أغادرهم بعد أن أطبق السكون عليهم نوهت:
– ماذا لو حدث العكس في بلدكم، بأن ينصبون هؤلاء الخطاة في رأيكم وجئتم لتسامحونهم خيمتهم في وسط مدينتكم يوزعون فيها كتبهم مجاناً على كل عابر سبيل، فهل تقبلون؟! ثم لم أدعهم أن يجيبوا لمعرفتي الإجابة التي لا تحتاج إلى ذكاء كبير، رطنت مغنياً ببيت لأبي الطيب المتنبي الذي يقول:
"أغاية الدين أن تحفوا شواربكم، يا أمة ضحكت من جهلها الأمم"
غادرتهم وأنا أشعر بالحزن لِما آل إليه الوضع العربي غير المقروء الذي يهرب منه الضوء أميال!..