من «آخر المرايا»
من منَّا هو ذلك القوي الأمين، القادر على التصرف وكبح الجماح كما فعل سيدنا [يوسف] - نبي الله، ذلك الشاب الأعزب الوسيم – أمام تلك الأنثى الناهدة- شبه العارية - والزوجة لأحد الملوك الأثرياء؟!! والتي لا نشك في أنها كانت من أجمل الجميلات، وهي تخلي ردهات قصرها الفاره من خدمها وخادماتها وتغلق جميع الأبواب وتنادي هذا النبي الصالح- الذي لم تكن تعرف عن نبوته شيئاً سوى أنها رأت نورها يشع من قلبه على وجهه لينبع ذلك الجمال الجاذب الأخاذ، والأنثى تحديداً هي وحدها القادرة على مثل هذه الرؤية ولا أقول النظرة - تناديه بكل دلال وغنج وميوعة وليونة "الصوت" ، قائلةً في إغراء لا يجيده سواها:
(.. هَيْتَ لَكَ .. )!!؟؟
يقيننا أن سيدنا "يوسف" ما تصرف تصرفه ذاك وكبح جماحه ذاك- كما قال الله - إلا من بعد أن رأى برهان ربه، وما نرى برهان الرب في هذه الحالة- حالة البدء الأولى - وفي كل الحالات المشابهة الأخرى - سوى "العلم"!!
العلم بحقيقة هذه "الأنثى"، حقيقة هذه المرأة "المثال" الآحادي التي انتصبت أمامه بهذه الصورة المغرية الفاضحة، لا لشيء إلا [لتغويه] ، وتحتنكه لتستأصل سر هذا النور الذي لاح لها تمييزاً له عنها، نور النبوة، وتغلبه بـ (ضعفها) إظهاراً على أنها هي الأقوى وليس هو!! لتهد- بكل عنف - هذا الكيان النبوي القوي المتماسك السامق، وتحط من تلك [الدرجة] المتميزة الفارقة وتذهب بها أدراج الرياح وهي لا تدري أن فطرة الغريزة هي التي تسوقها وتقودها، كيف؟! وهذه هي أعلى النماذج "الرجولية" وصفوتها التي تتوق إلى سحقها حتى تتمكن من "حجب" هذا النور فيه عنه، وعن غيره، في غفلة منه!! (مثلما حدث مع أبيه في بداية الخلق مع تلك الأنثى الأولى من بعد ما تم دفعه إغراءً للأكل من تلك "الشجرة" – فكانت عواقب "الأكل" هبوطاً إلى دركٍ أسفل) - غيرةً وحسداً منذ فجر التاريخ – هذه الغفلة التي لا يحدثها سوى هذا الموقف الجنسي البحت!! لتسهل بذلك سلاسة القيادة والتبعية الرائدة إلى دائرة الظلام و"الجهل" ، (.. وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) "يوسف33" .. ليتم تسجيله كأبرز وأهم عضو في دفاتر(الحزب) – حزب الشيطان - !! ولكل من سـار ولبى واقتفى أثرهذا الكائن المستكن اللامرئي!! فإن أصابت غرضها، فهذا هو معنى الانتصارالحقيقي الداعي فعلاً للزهو والغرور، وإن لم تصبه، فهي لا تعدم الوسائل، فهذه هي الرسالة التي فُطِّرت على القيام بها وعلى تأديتها كما يُراد على كر العصور ومر الدهور، بمثلما استهلت بها صفحة تاريخنا الأولى، وستختمها بها، إلا من رحم ربي، فالأمر (مثالاً) غير مخصصٍ لحالة بعينها!!
فالأنثى– كما يقول العقاد في كتابه "المرأة في القرآن": (.. تتعرض ، والتعرض هو الخطوة الأولى في طريق الإغراء فإن لم يكف فوراءه الإغواء بالتنبيه والحيلة والتوسل بالزينة والإيماء، وكل أولئك معناه تحريك إرادة الآخرين..
فالإغواء كان للأنثى ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة بل من العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة، وعلى هذا فالإغواء هو محور المحاسن في النساء، والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال، ولذا زودت الطبيعة المرأة بعدة الإغواء وعوضتها عن عدة الغلبـة والعزيمة، بل جعلها حين تُغلب هي الغالبة في تحقيق مشيئة الجنسين على السواء) ..
- وكما ذكرنا – فإن هذا الموقف الذي وجد سيدنا يوسف نفسه فيه يرينا بأنه فعلاً قد هَمَّ بها، لأنه رجل حيٌ، كامل الرجولة، يختزن في قلبه الطاهر، وفي مسامه وفي تفكيره وفي عروقه، هذا المعنى الحيوي الخالد لهذه "الأنثى" الخالدة كقدرٍ إنساني وحياتي وفيزيقي، لا سبيل إلى التحرر منه، حتى وإن أراد التحرر!! والذي لا يخلو منه كائنٌ حي!! فهو أول (المعاني) وجوداً في قلب "الذكر" ، وأشدَّها تشبثاً به وتمكناً والتصاقاً، بل إنه ليخلق فيه، لأنه الإشارة إلى معنى أهم صنفٍ من صنوف لذات [الجنان] – إذ يقول – سبحانه وتعالى -: (..علِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ..) "البقرة/235" ..
فكيف الفرار!!؟؟ وصوت الأنوثة يستفز المسام والعروق، وكل مهاد "الرجولة" حيث لا خيار أمامها سوى الكتم أو الإنفجار!! وما جاء العلم اليقيني بالحقيقة الكبرى لهذا النبي الكريم إلا من بعد تتابع أحداث هذه الصورة المثيرة حساً ومعنىً!!
ونحن نعلم أن الله لا يؤاخذ بالـ "هَـمْ" ، إنما يؤاخذ بالقول والفعل
ولذلك جاء في تفسير القرطبي ما يلي: (قيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته) ..
في ذات هذه اللحظة التي فيها كاد أدركنا أن هذا النبي أدرك وعلم وفهم سرهذا "المعنى" ، فعامل المفاجأة ووقوع الغفلة الشيطانية المباغتة اللامتوقعة فعلياً كانا هما الاستدرار الآني لفيوض هذا النوع من العلم والحكمة في تلك البرهة المفاجئة الخبيثة!!
ولعل في قوله- سبحانه وتعالى - :- (.. امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاها.. ) "يوسف/30" .. بهذه الصيغة المستقبلية، أي (الفعل المضارع) الدال على الاستمرار والوقوع، حالاً واستقبالاً، ولم يقلن: "راودت فتاها" - ما يدلنا على أن هذا الشأن شأن خاصٌ بهذه الأنثى وحدها- إلا من رحم ربي - وأنه باقٍ ما بقيت هذه [الذكورة] في مواجهتها!!
ولأنه موقف باقٍ ما بقيت الحياة، وموقف عنده يستجاب دعاء الصالحين العالمين، يتبين لنا أن مثل هذا الأمر غير متوقف على الأنبياء وحدهم، لأن الخالق– سبحانه وتعالى يقول في آخر الآية: (.. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يوسف22.. ففي هذه الكلمات إشارة لا لبس فيها ولا غموض إلى أن هذا الأمر سيتعرض له الكثير من المؤمنين.. لأنه سلاح الشيطان الوحيد الذي سيقاتلهم به هم دون غيرهم من الذكور!! لأنه في غنى عن تلك العلاقات المشبوهة التي أقامها بين الذكر والأنثى في الخفاء وفي "الظلمة" ، فهذا أمر قد استحوذ فيه على الكثير والكثير من خلق الله، فهو أمرٌ لم يعد يسره أويجلب إليه السعادة بل إن أشد ما يؤرقه ولا يكمل له فرحة هم هؤلاء "المحسنين" الذين وجدوا في جناب الله الملاذ والأمن والطمأنينة والسلام، بل والتشوف إلى جنانه التي وصفها لهم وإلى وجهه الكريم، وإلى حور جنانه العين، هؤلاء الذين تمت علاقتهم بهذه الأنثى في "النور" المبين، إعلاناً مشهوداً، في رابعة النهار، تلبية لنداء الله ورسوله إليهم، دفعاً لخبث هذا الشيطان وأحابيله وشراكه اللامرئية، بل ولزجره وطرده، ما تمكن الإنسان من ذلك،
الكيــدان
ولتبيان ضراوة هذه العداوة الخفية المغلفة بالمودة والرحمة، ما بين هذه الأنثى وهذا الذكر وهذا الشيطان المستكن في قلبيهما- بنسبٍ متفاوتة – والتي حملها قوله– تعالى-: (..اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ "عَدُوٌّ" وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلَى حِينٍ) "البقرة/36".. يجدر بنا أن نقول بأن من أول المهام التي يوليها هذا "العدو" المستكن اللعين جُلَّ اهتمامه- والتي لتنفيذها يجند أعتى جنده من أصل "ذريته" ، وأفتكها بالقلوب والعقول، مرتدياً لذلك ثوب حاله (الحمقاء) التي عوقب بها من بعد قوة - هذا الكساء "الأنثوي" - في أغلب تهاديه وتمخطره بين الناس - هي التفريق ما أمكن بين المرء وزوجه، ظاهراً وباطناً، حتى لا تتغلب هذه "المودة والرحمة" المهداة من رب العالمين- كقطرة ماءٍ قادرة على إطفاء نار هذه العداوة - على "كيده" اللطيف الخفي المدمر، حتى لا يحدث ذلك "التوحيد" الذي يريده الله، لذلك قال- سبحانه وتعالى :- (.. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) " لنساء/76 ".. وهي إشارة– كما نرى - إلى كيد الباطن، وكيد الباطن لا تعلق له إلا بالوسوسة فقط!!!!
ثم قال عن هذه "الأداة" :- (.. إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ 28) "يوسف" ..
وهي الإشارة إلى كيد الظاهر، وكيد الظاهر لا تعلق له إلا بالمواجهة والمقابلة المباشرة المحسوسة وجهاً لوجه، عياناً بياناً!!
وفي الحالتين ذكر الله كلمة [الكيد] ، مما يعني أن الوسوسة الباطنة يمكن- بعد العلم والمعرفة - قهرها وإبطال مفعولها تماماً وذلك بعدم الانقياد إلى تطبيقها فعلياً، فتصبح ضعيفة الأثر إلا من محاولات (اللمم) التي تحدث بين الفينة والأخرى من جهة هذا اللعين لتعطيل أو قل لتأخير النهوض بهذا الإدراك الإيماني المتجه صوب: (.. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى "الحجرات/3 " .. إلى الاتجاه الآخر المعاكس!!
ولا يمكن لهذا الإدراك الرفيع أن يتأطر ما لم تُسد جميع المجاري التي يتموج من خلالها هذا "اللعين" داخل هذه الأجساد المتحركة، وقد أجملها لنا رسولنا الكريم في جملة من أحاديثه الشريفة..
أمّا ثاني "الكيدين" فهو- بلا شك - كيد الظاهر الخطير، القاهر لضعاف النفوس إن لم تكن أصلاً من جذورها قوية، أولئك الذين غرَّتهم هذه الحياة الدنيا، التي تتمثل "ذروة" ظواهر زينتها، وجمال "ظاهرها" ، في صورة هذه "الأنثى" الرائعة، ذات الوجه "الجميل" و"الجسد" الغض، الفاتن المثمر إغراءً وجاذبية!! فلا وجود لأي كائنٍ آخر أمام هذا الذكر- في هذا الكون – سوى هذه الأنثى , بل وعلى مدار كل الحقب السابقة لا وجود لذكر دون أنثى في عالم الكائنات بأسرها حتى في الجماد!! وهذا هو الأمر المحسوس بعينه!! إذن دعونا نتأمل بعقل مرن وقلبٍ منفتح مضمونه من خلال هذا "المَثلْ" الأعظم، هذه الواقعة التي جرت أحداثها لأحد أنبياء الله الصالحين!!
وصدق من قال:-
(.. وَتِلْكَ "الأمْثَالُ" نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ "يَتَفَكَّرُونَ" ) "الحشر/21"..
(وَيَضْرِبُ اللّهُ "الأَمْثَالَ" لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ "يَتَذَكَّرُون"َ ) "إبراهيم/25"..
( وَتِلْكَ "الأمْثَالُ" نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا "الْعَالِمُونَ" ) "العنكبوت/43" ..
والله من وراء القصد..