من «آخر المرايا».. أوان التأويل
مدخل:
تلك لحظة سكت التوقيت عنها وتحاشتها صفحات القدر، كانت هي ذرة الرتق واللبنة المفقودة، الصفر الذي يسبق الواحد وبداية التاريخ، تلك كانت هي سدرة المنتهى، ونهاية التطواف المرهق لأجنحة الفكر وهو يتصعد علواً لاكتناه سر هذا الخلق الفريد، فالإيمان هو مناط قصد النية الراغبة، التي متى ما توفرت لها وجب الرفق والحيطة والحذر والإيغال بتأنٍ شديد، لأن بعض العلوم لا تنال بالاكتساب ولا بالتحصيل، ولا بالمنهجية القاصرة، إنما بالتفضل الإلهي والأخذ باليد في هذا الخضم المتلاطم، فالمحيط هنا بلا ساحل، والقاع عميق عميق عميق، بل ومخيف إلى أقصى درجات الخوف.. ومع ذلك فإننا ما زلنا برفقة هذه النية الصالحة الطامحة نتنفس من داخل هذا القاع لنجهر بالقول
نعم، إنس + إنس = إنسان، وهذا ما يؤكده اللسان العربي الذي يقول بأن هذا الاسم (الإنسان) قد جاء على وزن "فعلان"، ووزن فعلان يفهم في اللسان العربي على أنه وزن ثنائية المتناقضين والزوجين والضدين، باعتبار أن النون ليست من أصل الكلمة، وكل هذا هو ما يمكن أن نطلق عليه اجتماع مجموع "صفات" التناقض والتباين الداخلة في فكر وقول وفعل الإنسان، من حق وباطل، وصدق وكذب، وخير وشر!! وكل ذلك نتاج ذلك "الدافع الباطني" المنقسم استبطاناً في أعماقه إلى جهتي "اليمين" و "الشمال"!!
بداية الخيط:
للحصول على كل الإجابات والحلول لجميع أسئلتنا وقضايانا الاجتماعية- على كر الدهور والعصور وتوالي الأجيال- لابد من العودة إلى تلك البدايات التي فيها ومنها بدأت هذه الحقبة البشرية/ الإنسانية، لنتعرف أولاً على مدى هذه الفروق الواضحة ما بين "البشرية" و"الأنسنة" ، ولن نجد كل هذا إلا مسطوراً بين دفتي القرآن "الحكيم" ولتكن بداية الخيط لكل ذلك هي قوله - سبحانه وتعالى -:-
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي "جَاعِلٌ" فِي الأَرْضِ "خَلِيفَةً".. ) " البقرة/30 "
عسانا نأخذ بيد بعضنا البعض ونغوص أكثر في مجاهل تلك الأعماق التي أول ما يواجهنا منها وفيها قوله تعالى لذلك "الجان" : (.. " فَاهْبِطْ" مِنْهَا .. ) "الأعراف/13" .. فاننا نلاحظ أن الهبوط هنا قد جاء بصيغة الكيان المفرد!! .. - أي "الصورة الكلية للاسم" دون"الجزئية" منه - والتي هي "الجن" ، وذلك بعد ملاحظة الألف والنون في هذا الاسم (الجان) !! أي المسلم والكافر!!
لأننا في مرحلة تالية نجد أن خطابه– سبحانه وتعالى – قد جاء بصيغة:-
(.."اهْبِطَا" مِنْهَا..) "طه /123" لنلاحظ هنا أن الهبوط قد جاء بصيغة الكيان المثنى- أي المنقسم -! ..
وفي المرحلة الأخيرة نجده قد جاء بصيغة:-
(.."اهْبِطُواْ" مِنْهَا "جَمِيعاً"..) "البقرة/38" 00 وهي الملاحظة التي تعني بأن الهبوط قد جاء هنا بصيغة الكيان الجمع!! ..
وهذا الجمع في واقع الأمر هو لتلك الجزئية المحصاة- جزئية الاسم الكلي التي جاءت دون "ألف" الاثنين!! – أي "نحن" أكرر: "نحن" ، عموم "الجن"!!
مع ملاحظة أن كلمة "جميعاً" هذه قد وردت في الآية رقم "123" السابقة- المذكورة – بعد:
(..اهْبِطَا مِنْهَا "جَمِيعاً"..) !! ونحن نعلم بأنه لو هبط الاثنان فقط فإن كلمة "جميعاً" تصبح بلا معنى!! وحاشا لله.. لأن قوله هو الحق..
التشابه والمثاني:
ولما لاحتواء القرآن على صفة الثبات، وذلك قوله تعالى: ( َبلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ21 فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ 22 ) "البروج" .. نجد أن هذه الصفة هي صفة الشمول لكل قوانين هذا الوجود المنسقة له، ابتداءاً من لحظة الانفجار الكوني الأول، وإلى حين دخول الناس إلى الجنة، وإلى النار!! بل تضمنت كل قوانين التطور والحقائق الموضوعية الموجودة خارج الوعي، والتي لها- بالضرورة - وجوداً مسبقاً عن الإنزال والتنزيل..
كما أننا نجد فيه- أي القرآن - صفتي "التشابه" و"المثاني" ، وذلك في قوله تعالى:-
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً "مُّتَشَابِهاً" "مَّثَانِيَ") ، وهما الصفتان الداعيتان والجاذبتان- على ضوء شمس النية الصالحة ولا أقول نورها إلى التأويل:- (بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمهِ وَلَما يَأْتِهِمْ "تَأْوِيلُهُ" كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) "يونس/39"
أي أن في هذا القرآن– كما أجمع المفكرون – معلومات لا حصر لها لم يحط الناس علماً بها بعد، لأن أوان تأويلها لم يأت بعد، علماً بأن التأويل لا يكون إلا لهذا "المتشابه"، وهذا المتشابه لا يوجد إلا في هذا القرآن، ولا يعمد إلى التأويل إلا إذا منع مانع منه، والقرآن- في الاعتقاد الراسخ – كما قيل - : (هو مجموعة القوانين المخزنة في "اللوح المحفوظ" قوانين النظم المتحكمة في هذا الخلق من البداية إلى النهاية ثم قوانين الجزئيات المتصرفة في ظواهر الطبيعة وأحداث الإنسـان
بعد وقوعها "الإمام المبين" وهذه الأخيرة هي التي لها وجود مسبق قبل إنزالها وتنزيلها، وهي التي جُعِلَتْ عربية، و"التشابه" فيها حركة المحتوى- أي هذا (الواقع المعاش) - مع ثبات النص ، وهو الذي يُفهم فهماً نسبياً حسب الأرضية المعرفية للعصر، وكذلك فيه "النبوة" وفيه "الحكمة" ، وهي القرآن نفسه) .. هذا لو تدبرنا ما وراء ألفاظه!!
لذلك نجد أن القرآن– كما يقول العلماء - إنما يخاطب العقلاء بما عندهم من عقل، ولا يلجأ إلى العقل إلا فيما خالف الناس فيه مقاصد القرآن، فإذا كانت عبارة القرآن تخالف مقطوعاً به عقلاً وجب "التأويل" ..
فما هو علم "التأويل":
باختصار شديد- تاركين للفكر فضاءات واسعة ومتسعة للتحليق والتجوال– نورد قول الإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري (544- 606 هـ) في كتابه: "جامع الأصول في أحاديث الرسول" ج/2 والذي يقول فيه ما يلي:-
(.. من قال في كتاب الله برأيه: "النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إنما أن يكون المراد به: الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به: أمرٌ آخر!! وباطلٌ أن يكون المراد به: أن لا يتكلم أحدٌ في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة- رضيَّ الله عنهم - قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي- صلى الله عليه وسلم - وأن النبي دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل"، فإذا كان التأويل مسموعاً
كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟!)
عليه تقرر عندنا أن العقل– كما يقول شيخنا الحفيان-: (لا يصلح معياراً إلا للمحسوسات، كجزء ضئيل من كتاب الدين الشامل، وهو بذلك يكون قد حصر انطلاقته بين أفقين لا يتعداهما، الأشياء، ووضع نصوصها الظاهرة)!!
الأمر الذي يؤدي إلى الجهل التام بما يكمن وراء الألفاظ من معانٍ روحية0 فالألفاظ خدم المعاني كما هو معلوم!!
فهل نحن اليوم على مشارف بزوغ شمس علم التأويل بعد هذا الظلام العالمي الدامس؟؟!!