ظننتها منطقةَ لا تهمّني
هتفت عفاف بارتياع:
ـ يا إلاهي ....ما هذا الذي أراه؟
ثمّ أغلقت أبواب النافذة الكبيرة في عنف ،وانصرفت في عجلة إلى المطبخ.
كانت قد حلّت في الشقّة مع زوجها في صبيحة هذا اليوم فقط بعد انقضاء شهر العسل. وهذه الشقّة تقع في العاصمة حيث يعمل زوجها وقد اكتراها قبل أيّام معدودة من زواجهما، ونقل إليها بعض الأثاث ممّا كان يستعمله في أيّام العزوبة عندما كان يقيم مع رفيقين له في شقّة أخرى لا تبعد كثيرا عن هذه.
وعندما دخلت إلى الشقّة في صباح هذا اليوم، كانت فرحة ومبتهجة. فقد أعجبها موقع العمارة وسرّها أن ترى المكان نظيفا وأنيقا، كما أنّ الشقّة لم تخيّب أملها رغم صغر مساحتها وبساطة محتوياتها. وأخذت تفكّر منذ اللحظة الأولى في الكيفيّة التي ستهيئها بها والشكل الذي ستبدو عليه بعد ذلك.
وكان من أسباب ابتهاجها كذلك أنّها قد انتقلت للعيش بالعاصمة. كانت قد ملّت حياتها الروتينيّة في قريتها الصغيرة. وقد اعتبرت زواجها بمراد الذي يعمل بالعاصمة فرصة ذهبيّة لتغيّر نمط عيشها و تحيا الحياة المتوهّجة المتجدّدة التي حلُمت بها.
كانت مولعة بالحياة وتحبّ أن تعيش أيّامها عيشة فنّان يبدع عملا
فنّيا .كانت تريد أن تقتنص كلّ ما يمكن أن يجمّل عيشها ويمنحها سعادة من نوع ما، غير أنّها كانت حريصة على أن يكون ذلك في إطار ما هو مشروع ومحترم.
وكانت تحسّ أنّها محظوظة لأنّ الأيّام أنعمت عليها بما حلمت به. لذلك أحسّت بالسعادة وأحبّت تفاصيل حياتها وازداد تعلّقها ببهجات الحياة ومتعها المحبوبة.
لكنّها الآن جالسة في مطبخها وهي تشعر بالانزعاج بل بالاستياء
الشديد. فهل يُعقل أنّ ما سيقع عليه بصرها في كلّ يوم هو صفوف من القبور الموحشة المتراصفة في المقبرة التي تفتح عليها نافذة صالونها.
لقد كان هذا ما جعلها تصفق مصراعي النافذة الكبيرة في الصالون وتغادر المكان في عجلة. لقد اكتشفت أنّ صالون بيتها يطلّ على
مقبرة، وقد صدمها مشهد المقبرة وجعل شعورا فظيعا من التشاؤم والكآبة يغمر قلبها. وأحسّت بغتة أنّ هناك ما يعكّر صفو فرحها وابتهاجها بحياتها. فهي ستكون مضطرّة إلى مشاهدة مثاوي الأموات في كلّ يوم وأيضا الجنازات بشكل متواصل. فيوما بعد يوم سيكون هناك أموات يشيّعون إلى قبورهم في هذه المقبرة وسيكون هناك بكاء ونحيب.
كلّ مخطّطاتها وقعت في الماء. فأيّ سرور ستحسّ به إذا شربت قهوتها صباحا وهي تتأمّل هذا المشهد الكئيب؟ وأيّ متعة ستكون في الضيافات التي ستقيمها لأهلها وصديقاتها إذا كان هذا المشهد هم ما ستفتح عليه نافذة صالونها؟
أخذت تغسل الأواني التي تناولا فيها فطور الصباح منتظرة عودة زوجها من السوق. لقد خرج إليه لكي يشتري خضرا ولحما من أجل
الغداء. وكانت قد نوت أن تقضي الوقت الذي ستنتظره فيه في تنظيف الشقّة لكنّها الآن لم تعد ترغب في ذلك.
عندما عاد وجدها متّكئة على الأريكة تتصفّح مجلّة. وقال لها بمرح:
ـ أنا سعيد لأنّك لم تبدئي بتنظيف الشقّة. فالأفضل أن ترتاحي قليلا
بعد تعب السفر.
وقبل أن تردّ عليه واصل يقول:
ـ لكن إن شئت فلننل قسطا من الراحة ثمّ أساعدك على تنظيفها بعد صلاة العصر.
فقالت باستياء:
ـ الحقيقة أنّي لا أرغب البتّة في تنظيف الشقّة لا الآن ولا بعد قليل.
فسألها باستغراب:
ـ لماذا ؟هل أنت بخير؟
ـ الحقّ أنّي مستاءة كثيرا. وما أريده منك الآن هو أن ننتقل من الشقّة.
ـ ننتقل من الشقّة ؟ (بدا مستغربا ومذهولا بشكل كبير) لماذا؟
ـ إنّي لن أكون سعيدة أبدا إذا كان ما سيقع عليه بصري كلّ يوم هو مجموعة من القبور الموحشة. ما هذا المكان الذي اخترته لنعيش فيه؟
ـ وما المشكلة إن كان بيتنا يطلّ على المقبرة؟
ـ المشكلة أنّ ذلك يصيبني بالاكتئاب. إنّي أحسّ كأنّي أعيش داخل مقبرة لا في بيت. أشعر بالوحشة منذ وقع بصري على المنظر الكئيب الذي تطلّ عليه الشقّة.
صمت قليلا وقد بدا عليه الوجوم، ثمّ قال:
ـ اسمعي يا عزيزتي ،هناك أمر يجب أن تفهميه. إنّ اكتراء شقّة في وسط العاصمة وفي مكان يتوافق مع ما تريدين أنت سيكلّفني أكثر من نصف مرتّبي .فماذا سيبقى لنا لكي نعيش ؟هل تظنّين أنّي كنت غافلا عن أمر المقبرة؟ لكن ذلك هو ما جعل كراء الشقّة أقلّ بكثير من أيّ شقّة أخرى. فأيّهما أفضل بأن نضع كلّ أموالنا في كراء الشقّة أو أن نتحمّل منظر المقبرة؟
فأجابت بسرعة وحدّة:
ـ في الحقيقة إنّ هذه ليست مشكلتي بل مشكلتك أنت. ولو أنّك بحثت بشكل أفضل لعثرت على مسكن أحسن من هذا.
اغتاظ كثيرا من إجابتها ،لكنّه كظم غيظه. كان طبعه هادئا ويفضّل تحمّل الأذى على المساهمة في إشعال نار الخصومة. كما كان على علم بدلالها منذ فترة الخطوبة. ولم يكن مستعدّا لأن يخوض أيّ معارك في أوّل يوم لهما في بيتهما الجديد، لذلك لجأ إلى الصمت.
وظلّت هي واجمة لحظات ثمّ نهضت إلى المطبخ لترى ماذا أحضر وتعدّ الغداء.
مرّت الأيّام بعد ذلك بدون أن تعيد طرح الموضوع بشكل مباشر، لكن من حين لآخر كانت تبدي تذمّرها واستياءها في كلمات طائشة. فتفتح نافذة الصالون متأفّفة وهي تقول في ضيق "يا للكآبة ويا للوحشة"
أو تردّد وهما يسهران في الليل يشاهدان التلفاز "ماذا لو خرجت لنا الآن روح من بين القبور وجاءت للسهر معنا؟
وكان يصمت ولا يعلّق بشيء.
زارت أمّها بعد ذلك بأسبوع. وكانت قد اتّفقت مع زوجها منذ البداية على أن يعودا في كلّ عطلة أسبوع إلى بلدتهما حتّى تزور أسرتها .وكانت متعلّقة بأمّها إلى حدّ بعيد ولا تتحمّل البعد عنها.
وقالت لها متذمّرة وهي تتأمّل من شرفة قاعة الجلوس حديقة الحيّ ومنازل الجيران:
ـ يا لحظّي. بعد مجاورة أصحاب الفيلات والشقق الفخمة يصبح جيراني أمواتا رحلوا عن الدنيا ولم يعودوا يعرفون عنها شيئا.
واستفسرتها أمّها عن الأمر فأخبرتها بأمر المقبرة وأبدت ضيقها وانزعاجها الشديد منها.
فقالت لها أمّها بلطف:
ـ إنّي لا أرى داعيا لانزعاجك بهذا الشكل. فما ضرّ إن كان بيتك يطلّ على مقبرة. إنّ الأموات أشخاص مثلنا، ولا فرق بيننا بينه سوى أنّهم فارقوا الدنيا قبلنا، ونحن سنلحق بهم إذا حانت ساعتنا .فهم السابقون ونحن اللاحقون.
ـ أنا أعرف ذلك، لكنّي لا أطيق الأمر. إنّي أشعر بالوحشة كلّما رأيت القبور، وأحسّ أنّ شبحا سيخرج لي منها وينقضّ عليّ.
فقالت لها أمّها بحنان:
ـ إنّك قد أصبحت امرأة الآن ولا تليق ك هذه التصرّفات الصبيانيّة. ليس هناك أشباح تخرج من القبور. فكفاك تذمّرا.
فقالت في ضيق:
ـ للأسف لا أستطيع أن أغيّر شيئا من شعوري. إنّي أشعر بالانقباض في ذلك البيت ولا أحسّ بالراحة فيه.
مرّ مساء السبت ويوم الأحد في سعادة وهي في بيت أبويها. ثمّ عادت مع زوجها إلى بيتها يوم الأحد مساء دون أن يتغيّر رأيها في مسألة المقبرة التي يطلّ عليها بيتها رغم ما قالته لها أمّها لتقنعها بخطأ موقفها. وقال لنفسها في انزعاج وهي تدخل إلى بيتها:
ـ إنّ أمّي لا تدرك حقيقة ما أشعر به. ولو كانت في مكاني لأقرّت أنّه من المزعج جدّا أن يقيم الواحد على شفا مقبرة.
ثمّ مرّت أشهر على نفس الوتيرة وهي لا تكاد تفّ عن التذمّر والتأفّف.
حتّى وقع ذلك الحدث الذي غيّر مجرى حياتها ،بل طريقة تفكيرها كلّها.
فقد توفّيت أمّها.
حدث هذا فجأة وبدون مقدّمات.
كانت في مطبخها ترتّب المائدة بعد أن تناولت الغداء مع زوجها عندما اتّصل أخوها نجيب يخبرها أنّ أمّها بالمستشفى .فطار صوابها هلعا وأخذت تسأله عن حالتها وما حصل لها، لكنّه لم يُجبها إلّا بكلمات مبهمة لم تهدّى لها روعا .
وهرعت إلى الصالون حيث كان زوجها يشاهد التلفزة وأخبرته بالأمر. وخلال بعض الدقائق كانا في السيّارة عائدين إلى مدينتها.
وفي المستشفى الذي أخبرها أخوها أنّ أمّها قد حلّت بها علمت الخبر الرهيب. لقد توفّيت أمّها ،بل إنّها كانت ميّتة منذ اللحظة التي هاتفها فيها أخوها .لكنه أخفى عنها الأمر لكي يخفّف من حدّة خوفها وقلقها.
وانهارت وفقدت صوابها وأخذت تلطم وجهها وتقطّع شعرها وتصيح بتفجّع شديد.
وأحسّت أنّ الدنيا أصبحت غائمة أمام عينيها، وأنّها لم تعد قادرة على فهم ما يحصل لها. إنّها تشعر أنّها ليست في الواقع بل في كابوس رهيب
بشع. وهي لا تصدّق أنّ أمّها ماتت ويبدو لها الأمر غريبا فكأنّها تشاهد
فيلما ليست لها علاقة بأحداثه.
في السابق لم تخطر لها أبدا فكرة موت أمّها ولا تخيّلتها ،فكلّ تصوّراتها للمستقبل وما سيأتي به من أحداث كانت مرتبطة بوجود أمّها ....أمّا الآن.
مرّت الأيّام الموالية رهيبة، وعرفت نفسها أكثر المشاعر قسوة وإيلاما وشعرت أنّ دمارا كاملا حلّ بروحها وغرقت في دوّامات الحزن.
ولم تفارقها أحزانها حتّى بعد مرور أكثر من شهر على الحادث الأليم ،وكانت قد قضت كلّ تلك الفترة في بيت أبويها رغم أنّ زوجها رغب بعد أسبوعين من الوفاة في أن تصحبه إلى مسكنهما بالعاصمة إذ يتوجّب عليه أن يلتحق بعمله. لكنّه لم يلحّ عليها عندما رفضت بشدّة وتركها على راحتها.
لكن عندما مرّ أربعون يوما وأقام أهل المرحومة عيد الميّتة وانصرف الجميع إلى حياتهم والاهتمام بمشاغلهم فقد طلب من زوجته أن تعود معه إلى بيتهما ليستأنفا حياتهما معا. وتدخّل أبوها لإقناعها بالاستجابة لطلب زوجها لأنّ هذا الحزن لن يعيد المرحومة إلى الحياة كما أنّ لشريك حياتها حقّ عليها.فوافقت على مضض وعادت إلى بيتها.
أمضت الأيّام الأولى هائمة ذاهلة. كانت كثيرة الصمت لا تتفوّه إلّا بكلمات قليلة وتسير في البيت شاردة كئيبة.
غير أنّ ما لاحظه زوجها عليها أنّها كانت تمضي أغلب وقتها في الصالون، فتفتح النافذة الكبيرة التي تفتح على الشرفة وتجلس محدّقة في المقبرة.
وتظلّ على هذه الحالة ساعات ،وعيونها زائغة ونظراتها ذاهلة.
قالت لزوجها يوما عندما جلس إلى جوارها في مجلسها ذاك:
ـ لا بدّ مستغرب من هذا التحوّل الذي أصابني ،فبعد أن كنت أبغض منظر المقبرة ولا أطيق الجلوس في الصالون أصبح هو مكاني المفضّل، وغدا مشهد المقبرة هو المشهد الذي أحبّ رؤيته وأجد راحة في النظر إليه.
فردّ زوجها بجدّية:
ـ إنّي لست مستغربا ،بل أفهم نوعا ما سبب هذا التحوّل الذي طرأ عليك.
فقالت بهدوء:
ـ في الماضي كنت أعيش في عالم واحد هو عالم الدنيا، لم أكن أفكّر في العالم الآخر الذي سننتقل إليه جميعا بل لم يكن يخطر على بالي إطلاقا. ولم أكن أفكّر في الموت إلّا كحدث بعيد جدّا وما يزال وقت طويل قبل أن أبدأ الانشغال به. كانت حياتي في الدنيا تشغل كلّ اهتمامي وكان لديّ آمال وطموحات كثيرة، لكنّ توقّعاتي للمستقبل كانت في ذهني خالية من توقّع أيّ أمر يعكّر صفو حياتي. وفجأة ماتت أمّي ......
وانقطعت عن الكلام وبقيت ساهمة لحظات،وبقي زوجها صامتا لا يفوه بكلمة. ثمّ واصلت الحديث:
ـ إنّ موت أمّي قد كشف لي أنّ عالم الموت ليس بعيدا عن عالم الحياة أو حتّى مختلفا عنه. لقد كنت أكره النظر إلى المقبرة لأنّي ظننتها منطقة لا تهمّني، منطقة لا تؤوي إلّا أناسا غرباء عنّي لا أعرفهم ولا يعرفونني. فلمّا أصبحت أمّي فيها عرفت أنّها ليست في الحقيقة مكانا غريبا
أو مختلفا عن بقيّة الأماكن بل هي جزء عاديّ من حياتنا. إنّي أنظر إلى المقبرة الآن كما أنظر إلى أيّ مكان ألفته وتعوّدت عليه، مثل غرفة نومي أو بيت أبي أو الشارع الذي اعتدت السير فيه. لذلك لم يعد يزعجني أن تكون قريبة منّي أوأن أجاور سكّانها الراحلين.