بشّره بالجنّة
هذه حكاية انتشرت بين الكثيرين، فقد تناقلها أغلب النّاس في دبلدتي . لكن لغرابتها لم أعرف هل أصدّقها أم أكذّبها. و لعلّكم تفهمون سبب حيرتي إذا عرفتم القصّة، فإليكم أحداثها.
زعموا أنّ رجلا تونسيّا عزم على الحجّ . فأعدّ ما يلزمه، و قصد تلك الدّيار المباركة المنوّرة وكلّه شوق لزيارة بيت الله. كان هذا الرّجل من الصّالحين، فقد نشأ في عبادة الله و يشهد له كلّ من يعرفه بالطّيبة و حسن الخلق. و كان منذ زمن متشوّقا للحجّ.
و في مكّة المكرّمة ألقى بنفسه في غمار الحجيج يطوف مع الطّائفين و يصلّي مع المصلّين.
و مرّت الأيّام سريعة عذبة على نفسه التقيّة الخاشعة، حتّى أشرفت أيّام حجّه على النّهاية وقرب وقت العودة.
و في ليلة خلد إلى النّوم بعد أن قضى ما يلزمه من مناسك . فسمع في منامه صوتا جهيرا يخاطبه قائلا:
– اذهب إلى فلان بن فلان بمدينة بنزرت و بشّره بالجنّة.
كان الصّوت واضحا حتّى خيّل إليه أنّه في يقظة، لكنّه عندما فتح عينيه عرف أنّه كان يحلم. فعاود النّوم و قد ظنّ أنّ ما سمعه ما هو إلاّ أضغاث أحلام.
لكنّه ما إن عاود النّوم حتّى عاد يسمع نفس الصّوت ثانية يلقي إليه نفس الأمر.
و تكرّر الأمر معه ثلاث مرّات فامتلأت نفسه حيرة و نازعته أفكار شتّى.
ما سرّ هذا الهاتف؟ أحقيقة هو أم وهم؟ أهو الشّيطان تسلّل إلى أحلامه ليتلاعب بنفسه و فكره؟ أم هي رؤيا صادقة من العوالم السّماويّة؟ أو ترى حلّت به جنّة فتراه يتخيّل أنّه سمع هاتفا لا وجود له في الحقيقة ؟ و إذا كانت الرّؤيا صادقة فلم اختير هو بالذّات ليبلّغ الرّسالة؟ ألأنّه من نفس بلد هذا الرّجل السّعيد الذي بُشّر بالجنّة؟ لكنّه لا يقيم في نفس مدينته.
ظلّت هذه الأفكار تشغله، حتّى أتمّ مناسك الحجّ. فعاد إلى بلده سعيدا هانئا ، مفكّرا في أمر الهاتف الخفيّ.
و وجد الأحباب و الأقارب في منزله قدموا لتهنئته. و مضت أيّام رضيّة صافية لا تشوبها شائبة. لكنّه لم ينقطع عن التّفكير في أمر ذلك الهاتف. كان يفكّر فيه ليلا نهارا و يسائل نفسه: ماذا عليّ أن أفعل؟
كان هناك إحساس قويّ يشعره أنّ الهاتف حقيقة، وأنّ تبليغ الرّسالة واجب. ومهما تكن غرابة ما حصل له، فإنّ عليه أن يستجيب لذلك النّداء و يفعل ما كلّف به.
ثمّ قرّر أن يقطع الشكّ باليقين و يبحث عن الرّجل الذي عرف اسمه في حلمه، فإن كان موجودا فإنّ الهاتف حقيقة.
لكنّ بنزرت بعيدة، و هو لم يزرها سابقا و لا يعرف أحد فيها. فكيف سيصل إلى مبتغاه لكنّه قال في نفسه:
– إذا كان الهاتف حقيقة فسأصل إليه.
و سرعان ما حزم حقائبه و توجّه إلى بنزرت. و كان أوّل ما فعل أن حجز لنفسه غرفة في أحد الفنادق، ثمّ هبط إلى شوارع المدينة يبحث عن بغيته.
سأل عنه أصحاب المتاجر و الدّكاكين و عمّال المقاهي و بعض روّادها ممّن جلسوا يراقبون الغادي و الرّائح و يدخّنون بشراهة السّجائر أو الشّيشة. و سأل عنه في حوانيت الصّناعات بعض النّجارين و الحدّادين و النسّاجين. بل سأل عنه بعض المارّة من النّساء و الرّجال، دون أن يظفر بطائل.
واستمرّ بحثه يومين دون جدوى حتّى كاد ييأس. و في اليوم الثّاني وقف في أحد شوارع المدينة حائرا. لقد قضّى الصّباح كلّه يجوب الشّوارع دون جدوى.
و مرّت به امرأة عجوز تتوكّأ على عصا، بدت له كأنّها عاشت الدّهر كلّه لفرط انحناء ظهرها وتجعّد وجهها. و بدا له أن يسألها عن مطلبه فلا شكّ أنّها تعرف عن هذه المدينة الكثير.
و قالت عندما سألها عن الرّجل الذي جاء من أجله:
– اِتبعني.
– أتعرفين منزله؟
– إنّه ابني.
اجتاز شوارع المدينة العتيقة حتّى وصلا إلى آخر زقاق ضيّق. و أمام بيت بابه من خشب قديم وقفت العجوز قائلة:
– هذا بيتي. سأرى إن كان ابني موجودا.
و عادت بعد لحظات لتقول له:
– لقد خرج، هل تريد أن أبلغه أمرا.
تردّد لحظات ثمّ أجاب:
– لا بأس. سأعود مرّة أخرى.
عاد إليه في اليوم الموالي فلم يجده. فلم يشكّ أنّه رجل عمول يقضي يومه في الكدّ فلا يأوي إلى منزله إلاّ في آخر النّهار. فقرّر أن يزوره ليلا.
كانت السّاعة قد قاربت التّاسعة عندما وقف أمام باب الدّار، و خرجت إليه العجوز تبلغه أنّه غير موجود.
استغرب أن لا يكون في منزله لا ليلا و لا نهارا. ولمّا لاحظت العجوز حيرته، سألته قائلة:
– أتريده لأمر هامّ؟
– نعم ، هامّ جدّا.
– إذن سأدلّك أين تجده.
و عندما عرّفته أين يمكن أن يلقاه، وقف لحظات مذهولا من هول ما سمع. بل إنّه فكّر أن يسرع بمغادرة المدينة عادلا عمّا جاء من أجله. فكيف يمكنه وهو حاجّ بيت الله أن يقصد ذاك المكان أيّا كانت الغاية: خمّارة في الحيّ العتيق.
لكنّ خطواته قادته رغما عنه إلى ذلك المكان. وسأل عنه فدلّوه عليه فوقف عليه وهو جالس إلى كأسه ينظر حوله بدون مبالاة.
– مساء الخير
حدّق فيه الآخر لحظات، ثمّ ردّ التّحيّة. و لم يجد الحاجّ ما يقوله فلبث واجما. ولمّا طال الصّمت بينهما قال الرّجل:
– أتريد منّي شيئا؟
– نعم.
هكذا أجاب الحاجّ بسرعة و لمّا سأله الآخر عن طلبه، قال له بحزم:
– ليس هنا؟ هل نلتقي غدا في مكان آخر غير هذا؟
فصمت الرّجل متعجّبا، ثمّ قال:
– لماذا؟ ... هات ما عندك.
– لا ... ليس هنا.
وساد الصّمت برهة أخرى. ثم قال الرّجل أخيرا:
– أمرك غريب ... لكن لا بأس ، سنلتقي غدا.
وعيّن مكانا في السّوق يعرفه الحاجّ كذلك. وتواعدا على اللّقاء هنالك.
وجاء في اليوم الموالي يمشي بخطوات متثاقلة. ورمقه الحاجّ قادما من بعيد، فعاوده السؤال الذي ظلّ يتردّد في ذهنه ليلة أمس:
– ألا يمكن أن أكون واهما في ما رأيته، أو أن يكون حلمي مجرّد أضغاث أحلام. واقترب منه الرّجل ، فحيّاه بهدوء ثمّ قال:
– ها قد جئت حسب الموعد.
– نعم.
– هل يمكن أن تخبرني الآن فيم تريدني؟
– نعم ... الأمر ببساطة ... الأمر هو ......
ثمّ صمت. كان متردّدا. هل سيصدّق هذا الرّجل ما سيقوله له أم سيسخر منه ويعبث به؟ كان يتوقّع أن يجد رجلا تقيّا ملتزما بحدود الله. لا شخصا يقضي لياليه في ... خمّارة.
و قال الآخر و قد لاحظ تردّده:
– لم أنت متردّد؟ هل الأمر خطير؟
– نعم خطير جدّا.
ثمّ واصل بسرعة كأنّه خاف أن يعاوده تردّده فلا يفصح بما جاء من أجله:
– الحقيقة أنّي رأيت حلما يخصّك.
– حلم يخصّني؟
قال هذا وقد ابتسم ابتسامة باهتة. وبدا كئيبا كأنّه لا يصدّق أنّ أحدا يمكن أن يوليه أهميّة ليراه في أحلامه.
ـ نعم رأيت في حلمي من يذكر اسمك . ألست فلانا بن فلان؟
ـ نعم ، أنا هو.
ـ رأيت في حلمي أنّك مبشّر بالجنّة.
قال هذا بسرعة كأنّه يريد أن يتخلّص من عبء يزعجه. أمّا الآخر فبدا مذهولا و فتح عينيه على اتّساعهما للحظات دون أن يفوه بكلمة ثم سأل متردّدا:
ـ ماذا تعني ... أتعني أنّك ... رأيتني في حلمك ... رأيت أنّي ... فقال الحاجّ موضّحا الأمر:
ـ كنت في مكّة، وأيّام الحجّ قد شارفت على نهايتها . وكنت نائما عندما سمعت ذلك الهاتف الخفيّ يهتف بي:
ـ أخبر فلانا بن فلان أنّه مبشّر بالجنّة.
حوّل الآخر وجهه فجأة كمن أصيب بلطمة . وبدا كأنّه يريد أن يخفي دموعا ملأت عينيه وواصل الحاجّ يقول:
ـ أأكون واهما؟ أأصبت في بحثي عنك وإخبارك بحلمي أم أخطأت؟ لا أعلم. كلّ ما أعلمه أنّني أحسست أنّه يجب عليّ أن أخبرك بما رأيت. والآن أنا مرتاح لأنّني فعلت ذلك.
لم يردّ الآخر بشيء. بدا أنّ الكلمات قد غرقت وسط حلقه الذي سدّته غصّة مؤلمة. وقال له الحاجّ:
ـ أيمكنني أن أسألك سؤالا؟
ـ تفضّل.
قالها بنبرة متعبة وقد أحنى رأسه أرضا . فسأله الحاجّ:
ـ أتظنّ أنّ حلمي وهما؟ أقصد ... أفعلت خيرا تستحقّ من أجله أن تبشّر بالجنّة؟
صمت الآخر، وظلّ يحدّق أمامه بسهوم. وانتظر الحاجّ جوابه برهة ثمّ أضاف:
– أنا آسف . يبدو أنّي أخطأت في السّؤال.
– أنت لم تخطئ. أنا فقط المخطئ.
قال هذا و قد كسف وجهه كسوفا شديدا، وبدا متعبا وحزينا. ثمّ قال و قد طأطأ رأسه ناظرا إلى الأرض:
– يجب أن أذهب . أنا آسف لما كبّدتك من تعب. و بعد أن انصرف ظلّ الحاجّ يفكّر في أمره. ثمّ انصرف نحو الفندق.
عاد الحاجّ إلى بلاده، واستقرّ به المقام بين أهله و ذويه. و مرّت الأيّام سريعة حتّى كاد العام ينصرم. و انشغل بأمور حياته و أعماله لكنّه ما يفتأ يذكر ذلك الرّجل و أمره المحيّر.
كان كثيرا ما يفكّر فيه، و يتذكّر ما انطبع على وجهه من وجوم وحزن يوم أخبره بما رأى في حلمه.وظلّ سؤال واحد يتردّد في ذهنه: أذلك الرّجل مبشّر بالجنّة فعلا؟
و رغم مرور الأيّام فإنّ هذه الأفكار لم تفارق ذهنه.و ظلّ يفكّر و يفكّر... حتّى كان يوم قرّر فيه أمرا. سيعاود السّفر إلى بنزرت. ما غايته من ذلك؟ و فيم يكبّد نفسه هذه المشقّة و لماذا يشغله أمر الرّجل إلى هذا الحدّ؟ إنّه لا يعلم ذلك.
لكنّه لم يملك نفسه من إعداد حقيبته و الاستعداد للسّفر.
و ها هو في بنزرت و قد حجز غرفة في نفس الفندق الذي أقام فيه المرّة السّابقة.و لم يضيّع وقتا فأسرع يقصد منزل صاحبه .و فتحت له العجوز الباب كالمعتاد و لم يبد على وجهها أنّها تذكّرته، لكنّها قالت مرحّبة:
– أهلا و سهلا. تفضّل يا سيّدي.
– شكرا يا حاجّة. هل ابنك هنا؟
– كلاّ . أتريده في حاجة؟
– أريد فقط أن أقابله.
وسكت كأنّه كره أن يسألها عن مكانه فتخبره أنّه في ذلك المكان البغيض. لكنّها لم تترك له حاجة ليسأل، فقد قالت تخبره أين يلقاه:
– إنّه في المسجد ... مسجد الرّحمة. إنّه يقع في آخر حيّنا. اسأل عنه هناك فلن تجده في مكان آخر. لقد خرج إليه لصلاة الظّهر و لن يغادره قبل صلاة العصر.
توجّه الحاجّ إلى هناك و اللّهفة تدفع خطواته دفعا. لم يكن مندهشا لما سمع من العجوز، كأنّ قلبه كان يحدّثه أنّ هذا بالضّبط ما سيجده.
توضّأ ثمّ توجّه إلى المصلّى . خلع حذاءه و مشى على الحصير الطّاهر.
لمحه إلى جانب جالسا إلى إحدى سواري المسجد، كان يقرأ القرآن في صوت منخفض وقد ذهل عمّا حوله حتّى لم يتفطّن إلى اقتراب الحاجّ منه و جلوسه إلى جواره. و كلّمه الحاجّ برفق ملقيا عليه السّلام فرفع بصره إليه رادّا السّلام. و عرفه على التوّ فانفرجت أساريره بابتسامة عريضة و أسرع يأخذه بين أحضانه وهو يقول مبتهجا:
– أهلا بك أهلا يا أخي العزيز، لكم تسرّني رؤيتك.
و قال الحاجّ بعد أن ابتعد عنه:
– ألم تفاجئك رؤيتي؟
– ليس أكثر ممّا سرّتني.
– الحقيقة أنّي وجدت نفسي مدفوعا لرؤيتك مرّة أخرى. و بصراحة مازال أمرك يحيّرني. وإلى حدّ اليوم ما أزال أتساءل عن سرّ ذلك الهاتف الذي سمعته.
كان الآخر يستمع إليه مبتسما و كأنّه لم يجد ما يقوله، فظلّ صامتا. فواصل الحاجّ يقول:
– بالله عليك أيمكنك أن تخبرني في العمل الذي من أجله استحققت أن تكون مبشّرا بالجنّة.
فردّ الآخر متلعثما و كأنّما أحرجه السّؤال:
– الحقيقة أنّي... ماذا أقول لك.. لم أكن ... و صمت لحظات ثمّ قال فجأة و بسرعة:
– لم تكن أعمالي الصّالحة كثيرة . بل أقول لك أنّها كانت منعدمة، إلاّ عملا واحدا.
فقال يستحثّه على الكلام:
– و ما هو؟ أخبرني به بالله عليك. فلعلّي أفعل مثلك فأنال رحمة الله.
– كنت رجلا فقيرا، ولم يكن لديّ أسرة أو أطفال، ليس غير أمّي المسنّة. و كنت أعمل في دكّان نجّار يسلّمني في كلّ شهر مائتي دينار. فكنت أنفق منها مائة على نفسي و أمّي و المائة الأخرى ...
و صمت لحظات، فسأل الحاجّ متلهّفا:
– ماذا تفعل بالمائة الأخرى؟
– كانت جارتي أرملة تعول أربعة أطفال. كان زوجها رحمه الله صديقي الوحيد بل قل أخي. وكنت أسلّمها مطلع كلّ شهر تلك المائة دون أن يعرف ذلك أحد... حتّى أمّي.
صمت الرّجل و صمت الحاجّ كذلك فلم يعد هناك من حاجة إلى الكلام. بعد صلاة العصر افترق الرّجلان. و سار الحاجّ نحو الفندق هامسا لنفسه:
– ما أرحم الله و ما أكثر فضله على عباده.