السبت ١٥ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم آمنة بريري

سأعيش في الجنّة

تقلّبت هيفاء في فراشها، ثمّ مدّت يدها إلى هاتفها على المنضدة الصغيرة إلى جوارها. و ألقته في استياء على طرف الفراش بعد أن رأت أنّ الساعة تقارب العاشرة صباحا.

وهاجمتها مشاعر رهيبة من الضيق والقرف، ولم تكن تشعر بأيّ رغبة في القيام من فراشها لكنّها في النفس الوقت كرهت رقدتها. فنهضت متثاقلة.

ووقفت قرب النافذة وأزاحت الستائر. وبدت لها السماء من وراء البلّور معتمة ملبّدة بالسحب. فزاد ذلك شعورها بالكآبة والسأم.

غادرت غرفتها ودخلت المطبخ. وكان في حالة مريعة من الفوضى حيث تناثرت المواعين المتّسخة في كلّ مكان وظلّت بقايا طعام عشاء البارحة على الطاولة.

وشعرت بالتوتّر الشديد بسبب هذه الحالية المزرية للمطبخ، لكنّها لم تشعر بأيّ رغبة في أن تشرع في تنظيفه وترتيبه.

إنّها في حالة نفسيّة مريعة منذ أشهر .وقد بدأ شعورها بالاكتئاب بدون سبب يُذكر، لكنّها أحسّت فجأة أنّها سئمة من كلّ شيء.. من بيتها... من زوجها.. من أولادها.... من حياتها كلّها .

ما سبب ذلك؟ربّما هو الروتين اليوميّ للحياة الذي يتكرّر بشكل مألوف لا جديد فيه... أو ربّما إحساسها بأنّها غير ذات قيمة وأنّه لا دور هامّ لها في الحياة ،فرغم أنّها زوجة وأمّ وربّة بيت إلّا أنّ شعورا مريرا بأنّها كائن سلبيّ لا موقع هامّ له في دائرة محيطها كان يدمّر نفسها. وقد بدأ ذلك الشعور بالتسلّل إلى نفسها منذ بضع سنوات، لكنّه في الأشهر الأخيرة زاد ضراوة وقسوة واستولى على روحها بشكل فظيع.

كانت تحسّ أنّ أيّام عمرها تمرّ بشكل روتينيّ مقيت ،فكلّ يوم يمضي كاليوم الذي سبقه ،ولا جديد يضفي ألقا على حياتها.

ومع بداية كلّ يوم، كانت تنهض سئمة. فتنظر بعين خيالها إلى الأحداث التي تنتظرها، فتجد أنّها لا تختلف عن الأحداث التي عاشتها في اليوم الماضي وفي الأيّام التي سبقته. فيملأ الخمول نفسها وتفقد الرغبة في كلّ شيء.

و لم يكن بيدها ما تفعله لتخرج نفسها من بؤرة العذاب التي وقعت فيها. فظلّت حالتها تسوء يوما بعد يوم ويزداد ألمها واختناقها.

لقد فقدت حتّى الرغبة في مقاومة أوجاعها واستسلمت تماما ليأس اجتاح روحها بشكل كلّي. وأصبحت فاقدة للأمل في أيّ فرحة أو حتّى استمتاع ببعض أمور الحياة.

وفي كلّ يوم عندما تستيقظ في الصباح لا يكون لديها رغبة في فعل شيء، ثمّ تنهض على مضض وتنجز مهامّها المنزليّة متثاقلة مقتصرة على إنجاز الأعمال الضروريّة فقط، وبعد ذلك تستلقي على الأريكة في الصالون أو على فراشها وتبقى تتقلّب من جانب إلى آخر.

لم يكن لديها رغبة حتّى في الخروج من البيت أو الالتقاء بأحد فقد كانت سئمة من كلّ شيء حتّى من أهلها وصديقاتها.

وفي ذلك اليوم وضعت إناء القهوة على النار لتعدّ قهوة. فقد كانت تشعر بصداع فظيع وفكّرت أنّ المشروب الأسود قد يخفّف أوجاع رأسها. لكن رنّ جرس الباب في تلك اللحظة. فشعرت بالانزعاج إذ لم تكن راغبة في الالتقاء بأحد.

وقد تفاجأت كثيرا عندما رأت أنّ من يطرق الباب كان صديقتها خديجة التي لم ترها منذ أكثر من سنتين. فقد سافرت بعد زواجها إلى فرنسا وأصبحت لا تعود إلى الوطن إلّا في أوقات قليلة ومتباعدة.

وارتمت عليها خديجة تقبّلها وتحتضنها بشوق وفرح باللقاء، فبادلتها قبلاتها متظاهرة بالحماسة ثمّ دعتها إلى الدخول مبدية الحفاوة

والانشراح.

دخلت خديجة البيت بخطوات خفيفة وثّابة، وكان وجهها يشعّ بعلامات الانشراح والبهجة، وفي عينيها تتلألأ أنوار الحماسة والفرح.

قادتها هيفاء إلى الصالون، وجلست الضيفة بارتياح على الأريكة الجلديّة الفخمة، وقالت في انبساط:

ـ لقد اشتقت لك كثيرا يا هيفاء ،وأنا الآن في قمّة السعادة لأنّي هنا معك.

فردّت هيفاء مفتعلة الحماسة:

ـ وأنا سعيدة أيضا بلقائك، بل أكثر منك سعادة.

ـ هيّا حدّثيني عن أخبارك، وما هو الجديد في حياتك؟

ـ لا شيء جديد، حياتي هي ما تعرفينها. أعمال البيت والعناية بالأطفال، ولاشيء غير ذلك.

ـ الحمد لله، تلك نعمة وأيّ نعمة. فشكرا للخالق على تجدّد نعمه.

سخرت في نفسها من وصف صديقتها لحياتها بالنعمة. فأيّ نعمة في حياتها الروتينيّة المملّة التي لا جديد فيه؟

وقالت في نفسها متضايقة:

ـ بالله أيّ نعمة هذه يا خديجة؟ الروتين يكاد يقتلني وأنت تقولين لي أنّي أعيش في نعمة.

لكنّ خديجة لم تتفطّن إلى تبرّمها، وواصلت الحديث في انشراح وبهجة:

ـ إنّ نعم الله لا تحصى لذلك علينا أن نجتهد في شكره.

ولم تعقّب هيفاء بكلمة، وواصلت خديجة الحديث في حماس:

ـ لا بدّ أنّ أطفالك قد كبروا وأصبحوا رائعين. أنا لم أرهم منذ سنتين. أين هم الآن؟

ـ في المدرسة، يعودون عند منتصف النهار.

ـ حفظهم الله ووفّقهم.

وسألت هيفاء من باب المجاملة:

ـ وكيف أحوال طفليك ماهر وصفاء؟

ـ الحمد والشكر لله، هما بخير.ماهر الآن في السنة السادسة وصفاء في السنة الرابعة.ونتائجهما والحمد لله جيّدة جدّا. ولا تتصوّري شعوري بالسعادة عندما ألتقي بمعلّميهما فيثنون عليهما ويمدحون سلوكهما. ولا شكّ أنّ أبناءك محبوبون من معلّميهم أيضا فإنّهم لطفاء جدّا.

فقالت هيفاء في خمول:

ـ إنّي لا أذهب إلى مدرستهم ولا أسأل المعلّمين عنهم.

نظرت إليها خديجة في استغراب وسألتها مستطلعة:

ـ ولم لا تفعلين ذلك؟

ـ ليس هناك سبب، فقط لا أرغب في ذلك.

ـ عجيب أمرك .أنا عكسك تماما، أتلهّف للقاء معلّميهم لأعرف كلّ شيء عنهم في مدرستهم وإن كنت لا أكثر من ذلك لكي لا أزعج المدرّسين.

فغمغمت هيفاء قائلة من باب المجاملة:

ـ حسنا، هذا جيّد.

وواصلت خديجة تقول بحماس:

ـ إنّ الأطفال نعمة من الله. لقد تغيّرت حياتي تماما منذ مجيء ابنيّ إلى الدنيا، واليوم ومع دخولهما إلى المدرسة أصبح الوقت لا يكفيني لكي أقوم بكلّ المهامّ. فشؤون البيت في ازدياد وإضافة إلى ذلك عليّ الاهتمام بمساعدتهما على المراجعة وتفقّدهما في المدرسة كما ذكرت لك.

ـ ولكن هل أنت مضطرّة لتحمّل كلّ هذه الأعباء؟

نظرت إليها خديجة مندهشة، ثمّ قالت في تأكيد:

ـ بالطبع يجب عليّ أن أتحمّل كلّ هذه المهامّ. وأنا لا أعتبرها أعباء، لأنّي أقوم بها بكلّ استمتاع وبكلّ سعادة. وهل هناك أروع من الاهتمام بشؤون أسرتي وأطفالي من أجل أن تكون كلّ أمورهم على أحسن حال؟

في أثناء هذا الحوار كانت هيفاء تنظر في دهشة إلى صديقتها

خديجة. كان حماسها أمرا محيّرا بالنسبة لها، هي التي أرهقها الملل المسيطر عليها بسبب روتين حياتها حتّى باتت تظنّ كلّ ربّات البيوت يشاركنها في هذا الأمر.

كانت تريد أن تغوص في أعماق صديقتها لتعرف سرّ هذه البهجة الطافحة على محيّاها وتستكشف السبب الذي جعلها ما زالت مقبلة على الحياة رغم أنّها مثلها تعيش حياة روتينيّة مملّة. فسألتها:

ـ قولي لي يا خديجة، ألا تشعرين أحيانا بالملل من حياتك؟

نظرت إليها خديجة في ابتسامة ثقة ،وقالت بصوت هادئ:

ـ كلّا، إنّي لا أشعر بالملل على الإطلاق؟

وبعصبيّة قالت هيفاء:

ــ ومع ذلك فإنّ كلّ شيء يدعو للملل . الدنيا نفسها تدعو للملل، فلاشيء جديد فيها وكلّ الأمور تتكرّر بشكل روتينيّ مقيت.

بدت نظرة شفقة في عيني خديجة بعد سماعها هذه العبارات من صديقتها. وأيقنت أنّ رفيقة صباها تعيش حالة نفسيّة صعبة. وقالت:

ـ إنّ الأمر كلّه يتوقّف على نظرتك للأمور لا الأمور نفسها. فإذا حكمت عليها بأنّها مملّة فهي مملّة فعلا، وإذا رأيتها سارّة وممتعة فستغدو كذلك.

فازدادت عصبيّة هيفاء وقالت متوتّرة:

ـ إنّ نظرتك للواقع حالمة وخياليّة جدّا، ومن يسمعك يظنّك فتاة مراهقة في أوّل مراحل حياتها مازالت تنظر للدنيا نظرة ورديّة.

لم تغضب خديجة من النبرة العصبيّة في كلام صديقتها فقد أدركت أنّها تعاني من مشكلة نفسيّة كبيرة، ورغبت في مساعدتها

فواصلت كلامها دون أن يفارق الهدوء نبرتها:

ـ فعلا يا صديقتي، أنا مازلت أنظر للحياة نظرة ورديّة رغم أنّي لم أعد فتاة مراهقة ساذجة. أنا أعلم أنّ في الدنيا من الهموم والمشاكل ما تشيب له الرؤوس وتنفطر القلوب، وقد كابدت كغيري كثيرا من هذه المشاكل. ومع ذلك فمازلت كما ترين: متفائلة وسعيدة .

ـ وهل يمكنك أن تخبريني عن سرّ هذه السعادة وهذا التفاؤل؟

ـ كما قلت لك سابقا فإنّ إحساس الواحد منّا يتوقّف على نوع نظرته للأمور. فأنت مثلا ترين ذلك التكرار المتواصل لنمط الحياة في كلّ يوم جديد روتينا مملّا يثير السأم بينما أراه شكلا من نعم الله التي لا تفتأ

تتجدّد.

فقالت هيفاء في عبوس:

ـ لكن أين النعمة في هذا التكرار المملّ لنمط الحياة في كلّ يوم؟

ـ عجيب أمرك، لا تكفّين عن تكرار كلمة الملل مرّات ومرّات، لكن بالنسبة لي فهذه الكلمة غير موجودة في قاموسي على الإطلاق. ولست لأكذب عليك فأقول لك أنّ حياتي نعيم لا ينقطع وسعادة لا يقطعها مكدّر، فذاك عيش لم يوهب لأهل الدنيا، لكنّ في حياتي أوقاتا سعيدة كثيرة أكون فيها مبتهجة ومستمتعة متغافلة عن كلّ مشاكل الدنيا.

فقالت هيفاء مستهزئة:

ـ أتقصدين تلك الأوقات التي تمضينها وأنت تشربين قهوة أو تشاهدين التلفاز؟

فقالت خديجة بجدّية:

ـ ولم لا؟ وإيّاك أن تحتقري أيّ نعمة من نعم الله عليك مهما كانت صغيرة فإنّ ذلك يعرّضك إلى غضبه والحرمان من عطاياه.

لم تعقّب هيفاء بشيء، فواصلت خديجة تقول:

ـ لو تأمّلت حياتك لوجدت أنّ نعم الله لا تنقطع عنك لحظة واحدة. وأنا في الحقيقة أجد نفسي عاجزة عن شكر الله على ما أنعم به عليّ. ففي كلّ وقت أتبيّن فضله عليّ وكرمه معي.

فتساءلت هيفاء في تعجّب:

ـ إذن فأنت تعيشين في الجنّة؟

فابتسمت خديجة ابتسامة هادئة، وقالت في نبرة واثقة:

ـ ليست جنّة بالمعنى الذي في أذهاننا، ولكنّها جنّة تناسب الحياة الدنيا. إذ تعتريها الهموم والمتاعب ولكن فيها من أسباب الفرح والبهجة الكثير. وهذه الجنّة متاحة للجميع ،فالله عادل وقد أتاح فرصة الوصول إليها لكلّ الناس وعرّف الجميع بمفاتيحها.

ـ وما هي هذه المفاتيح؟

ـ إنّها معروفة: الإيمان والالتزام .فإذا أهمل الواحد منّا شيئا منها ضاعت جنّته وعاش الجحيم وهو في الدنيا.

فقالت هيفاء في نفسها:

ـ كهذا الجحيم الذي أعيشه أنا.

وواصلت خديجة تقول لها في ثقة وتأكيد:

ـ صدّقيني يا هيفاء إذا قلت لك أنّ أبواب هذه الجنّة الأرضيّة التي حدّثتك عنها مفتوحة أمام كلّ من يريد دخولها، لكن عليه فقط أن يحمل بيديه مفاتيحها. فأنت يا عزيزتي لا ينقصك شيء لكي تعيشي في هذه الجنّة، لكن عليك فقط أن تعقدي العزم على ذلك. اُنظري إلى الدنيا من حولك، فهي متالّقة وجميلة. فلماذا تنظرين إليها بمنظار أسود يحوّل ألوانها النضرة إلى ظلال قاتمة وكئيبة.

فقالت هيفاء بنبرة حزينة:

ـ أتقصدين أنّ العيب فيّ، وأنّ ما يجعلني تعيسة هو نظرتي أنا للحياة لا الحياة نفسها.

ابتسمت خديجة في وجه صديقتها ابتسامة مشجّعة، وقالت:

ـ إحساسك بالتعاسة ليس عيبا يا صديقتي. فربّما أنت فقط أخطأت في فهم اختيار الطريق المناسب الذي ظننت أنّه سيقودك إلى عالم السعادة.

فقالت هيفاء في نبرة يأس:

ـ المشكلة أنّه لم يعد لي أمل في وجود السعادة أصلا، إنّ الدنيا تبدو أمامي قاتمة لا زينة فيها ولا ضياء .والحقيقة أنّي مستغربة عن حديثك عن سعادتك، فكأنّي أشاهد فيلما خياليّا أحداثه من المستحيل أن تتحقّق على أرض الواقع.

ـ كلّا يا عزيزتي، إنّ هذه وسوسات شيطانيّة ليبعدك عن السبيل المستقيم الذي فيه سعادتك. اسمعي نصيحتي واعقدي العزم على النجاة بنفسك من شراك اليأس والقنوط. ولا تظنّي أنّ ذلك الأمر مستحيل بالنسبة إليك، فلاشيء مستحيل بوجود الأمل والعزيمة.

نهضت هيفاء بعد ذلك لتحضر لصديقتها القهوة وبعض الكعك. وفيما هي تسكب القهوة في الفنجان أخذت تفكّر في كلام صديقتها خديجة. وأدركت فجأة بأنّ أسلوب حياتها خاطئ وبعيد كلّ البعد عن الجادّة والصواب. شعرت بنفحة من التفاؤل تنعش روحها. وأحسّت من دون سابق إنذار بارتياح وأمل يغمران قلبها.

وأتمّت تحضير الطبق فحملته واتّجهت نحو الصالون.

وتضاعف شعورها بالارتياح عندما وقع بصرها على وجه صديقتها خديجة الباسم. وقالت في نفسها وقد انشرح صدرها:

ـ لم لا؟ إنّها جنّة متاحة للجميع.أ ظنّ خديجة صادقة في كلامها، وأنا أيضا سأعيش في الجنّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى