الجمعة ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم
سبع قصائد
أنين حرفي وتوسّل نقطتيإلهيأحببتكَ أكثر مما أحبّكَ الأنبياءُ والأولياء.فهم أحبّوكلأنّكَ أرسلتهم بمعجزاتِ النارِ والنور.أما أنا فأحببتكلأنّكَ أوّلي وآخريوظاهري وباطني،لأنّكَ سقفي الوحيد الذي يقينيمن المطرِ والجوعِ والصواعق،من الوحشةِ وانزلاقِ الأرضِ والذاكرة.ولأنّكَ الوحيد الذي يستمعإلى دموعي كلّ ليلةدون أن يتعبمن أنين حرفيوتوسّلِ نقطتي!حاء باءحينما متّلم يشأ أحدٌ أن يخبر الحروفبالنبأ الأليم.عدا الحاء الذي أعلمه قلبُه بالنبأوالباء الذي خَطَرَ له خاطرٌ في المنامفأصرّا أن يرافقاني إلى مثواي الأبديفي أقصى قارّاتِ الماءِ والمساءباكيينمذهولينكمركبِ لاجئينيغرقُ في بحرِ الظلمات.نعم،فالحاءُ رفيقُ طفولتي المُحنّطةبالبردِ والحرمانوشبابي الذي يشبهُ جَمَلاً تائهاًفي الصحراء.والباءُ رفيقُ شيخوختي التي بددتُهاعلى الشاطئ البعيدأتأمّل زرقةَ البحروأكاذيبهأعني قصائده العارية التي لا تكفّعن الموتِ والهذيان.لا فائدة!حين ولِدَ الحرف (هل لولادته فائدة؟)نزلَ ليسبح في بحرِ اللغةحتّى كاد يغرق في بحرها المتلاطم العجيب.قيلَ له: ابحثْ عن نقطتكَ يا هذا!قال: هل من فائدة؟قيلَ له: لا معنى لك دونما نقطةٍ فانتبهْ!وإذ بدأَ رحلةَ البحثِ هذهواجهته كوارثُ البحرِ كلّهافأُصيبَ بسوء الحظّوسوء التوقيتوسوء التقديروسوء الاختياروسوء التدبير.لم يستسلم الحرفكان قلبه مثل شمسٍ استوائيةٍ مبهجة.قيل له: إياكَ أن تستسلمفاللغةُ بحر عنيدوليست هي العيد أو مركب العيد.هكذا كافح الحرفُ سبعين عاماًهي العمر كلّهحتّى أُصيبَ، أخيراً، بسوء العاقبة!واأسفاهلا فائدة!قصيدة بلا عنوان(1)حين نثرتُ حروفي على الورقةرأيتُها في مشهدٍ عجيب:رأيتُ حرفاً يشعلُ الحرائقفي كلّ مكان.ورأيتُ الآخرَ يخنقُ الماضيويذرُّ رمادَ المستقبل.ورأيتُ الثالثَ يجلدُ نفسهوالرابعَ يحلمُ بغيمةِ حبّتأخذه بعيداً بعيداًحيث الأجساد بنعومةِ الزبدةوبلذّةِ قُبْلةِ الوصال.ورأيتُ الخامسَ يمارسُ الغشّمستمتعاً بالأكاذيب والترّهات.ورأيتُ السادسَ باكياً على طفولتهوالسابعَ مصعوقاً من نقطتهوالثامنَ غاطساً في الياء والسينوالتاسعَ ضائعاً في كأسه وخمرته.(2)كان المشهدُ رماديّاً.والقصيدة،أعني الجملة،أعني الكلمة،بحروفها التسعةعصيّة على الولادةمادامت عصيّة على الوصول إلى نفسهافي آخر المطاف!أنتِ أنتِ وأنا أناقالَ الحرف:أيّتها النقطة،كنتِ أنتِ أناوأنا أنتِحين كنّا في منتصفِ القُبْلة،في منتصفِ السريرِ الضيّق،في منتصفِ ربيعِ الحُبّ،في منتصفِ حلمِ الطائرِ فوق البحر.فماذا حدث للقُبْلة،للسريرِ الضيّق،لربيعِ الحُبّ،لحلمِ الطائرِ فوق البحر،لتصبحي أنتِ أنتِوأنا أنا؟صديقي تولستويليس من حقّك،يا صديقي العظيم تولستوي،أن تلقي بآنا كارينينا- بطلة روايتك-تحت عجلات القطار!كيف سمحتَ لعجلاتِ القطارأن تقطّع أصابع آنا المترفةووجهها المضيء بالعذوبةِ والرقّةِ والجمالوشعرها الفاتنوجسدها الذي عشقه كلُّ مَن رآه؟ليس من حقّكَ، يا صديقي العزيز،أن تقتل آناأمام عينيّ المثقلتين بالدموعوقلبي الغاطس في الأسىوجسدي الذي يفنى بهدوءفي أقاصي الدنيالتجعلني شاهداً أخرسلا يستطيع أن يفعل أيَّ شيءسوى الاعتذار لآنا كارينيناكلّ ليلةبكلماتٍ لا معنى لهاولا هيئة لهاعن جريمةٍلم يقترفها على الإطلاق!بكاء(1)جلسَ الصبيّ وسط حشدٍ كبيرٍ من الشعراء:كانوا يرثون والدَ الصبيّ الذي ماتدون مقدمةٍ أو بَسْملةوتركَ الصبيّ في غربةٍ مثخنةٍ بالأسى.أفرطَ الشعراءُ في مدحهم لأبيهقالوا عنه كلاماً بليغاًًلم يفهم الصبيّ منه كلمةً واحدة.قالوا: لقد كان شاعراًبزّ في شعره القدماءَ والمحدثين،شاعراً لا يشقّ له غبار.قالَ الصبيّ في سرّه:(ما معنى بزّ في شعره؟وما معنى لا يشقّ له غبار؟)ثم أكملَ الشعراءُ أمسيتهمبتناولِ عشاء فخمٍ أعدّه رجلٌ محسنٌ وغريب.وبدأوا يتناقشون في الكاسِ والطاسبل إنّ بعضهم صار يضحكُ بفمٍ أدردلآخر يلقي طرفةً داعرةبصوتٍ خفيض.( 2)حين غادرَ الشعراءُ في آخر الأمسية،بكى الصبيّ بكاءً مرّاً.بكى على أبيهوعلى فراقِ أبيهوبكى من كلامٍ لم يفقه منه شيئاًوبكى، كذلك،على عشاء لم يذقْ منهلقمةً واحدة!