الأحد ١٨ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم محمد خميس سرور

الركض نحو الموت

لم يدرِ «سعد» بماذا يجيب ابنه «عمر» – الذي كان يحمله على كتفه ويركض به بين أزقَّة المخيم، متفاديًا الرصاص والقذائف – حين سأله:

 إلى أين سنذهب يا أبي؟

توقف «سعد» فجأة مفكرًا، وكأنه لم يخطر بباله هذا السؤال من قبل، قبل أن يكمل ركضًا وهو يجيب:

 أرض الله واسعة يا بني. أرض الله واسعة.

كان «سعد»، وهو صغير، يحب الركض كثيرًا، كانت الأمور هادئة قليلًا حينها، الشمس لم تَتُه عن مكان بيتهم في مخيم جباليا في أيٍّ من الصباحات، وبينما تُعِدُّ الأم الفطور، كان «سعد» يتسلَّل في خفة، وينادي على صاحبه «حسين»، في البيت المجاور، فيتسلل «حسين» بدوره، ويسمعهما «يونس»، صديقهما الثالث، فينسل بدوره، ويقف الثلاثة على خط مستقيم، ثم يبدؤون بالركض، يطاردون بائع الحلوى بين الأزقَّة، ومَن يصل إليه أولًا هو الفائز. لم يتمكن «يونس» من الوصول مبكرًا إلى بائع الحلوى قط؛ وذلك لأنه يمتلك جسدًا ممتلئًا، فكان يركض ببطء، وجهد أكبر، بعكس «سعد» و«حسين»، اللذين كانا خفيفَين كالريشة، ما إن يبدآ في الركض، فتنحصر المنافسة بينهما، لكنه على الرغم من ذلك، كان «سعد» يفوز دائمًا، كان الولد يركض كعدَّاء أوليمبي، ولم ينجح «حسين» أبدًا في الفوز على «سعد»، إلا في مرات قليلة، استخدم فيها حيلته، التي كانت كلما اقترب «سعد» من الوصول إلى بائع الحلوى، صرخ «حسين» عاليًا، وسقط أرضًا، وكأنه تعثَّر في حجر، فيتوقف «سعد» مفزوعًا، ويعود إلى صديقه، فيجده مغشيًّا عليه، فيحاول أن يُفيقه وهو يرتجف، لكن «حسين» لا يتحرك، فينهض «سعد» ويبحث حوله عن مياه، أو أحدٍ يستغيث به، وبمجرد أن يلتفت، يقفز «حسين» من إغمائه المصطنع وينطلق يعدو كالسهم، حتى يصل إلى بائع الحلوى.

كان المخيم تحت القصف، والرصاص ينزل كالمطر، والناس لم يعُد أحد يمشي منهم، كلهم يركضون الآن. الخوف يسوق أرجلهم، ويجعلهم في خفة عُصفور، ركام البيوت المتهدمة يحتل كل الشوارع، التي كاد «سعد» يتعثر فيها، لولا أنه وزن نفسه قبل أن يسقط، لكنه تعب وأُنهِك، فاختبأ في مدخل بيت قديم ليرتاح هو وابنه «عمر»، جلس على سلالم البيت، احتضن الصغير، وجلس ليلتقط أنفاسه. سأله «عمر»:

 لماذا نركض يا أبي؟

تنهَّد «سعد» وصمت، لم يعرف بماذا يجيب الصغير، لكنه رأى وهو يجلس مختبئًا، من الجزء المفتوح من الباب، دكان العم «أبي حمدان»، الدكان كان شبه متهدم، واللافتة يكسوها التراب والصدأ، لكن الحروف ما زالت تحتفظ ببريق خافتٍ منها، ولدكان عم «أبي حمدان» ذكرى مع الأصدقاء الثلاثة، كان «سعد» و«يونس» و«حسين»، يحبون ثلاث أخوات صغيرات في البيت المجاور للدكان، وكانوا يذهبون لمغازلة الفتيات طول اليوم من الشرفة. كبر الصغار، وكبر الحب معهم، وتقدم الثلاثة لخطبة الفتيات.

كان «حسين» قد تخرَّج في كلية الهندسة بجامعة الأزهر، وموعد زفافه بعد شهرين، حين بدأت الحرب في 2008.. ذات صباح، جاء «حسين» إلى «سعد» ووجهه شاحب كالموتى، وأمسك معصم «سعد» بقوة وقال في حسم:

 اسمع يا «سعد»، أنت صديقي، لا أثق بأحد غيرك، أريدك أن تسدي إليَّ خدمة.

أفزعته ملامح صديقه وجديته، ولكنه قال له:

 نحن أخَوان يا «حسين»، لك ما تطلب يا أخي.

فتابع «حسين»:

 أريد أن تنتظرني الساعة السادسة اليوم بسيارتك بالقرب من معبر إيرز. مسافة 500 متر. حاول أن تختبئ ولا تدع أحدًا يراك.

لم يكُن «سعد» يعرف أن صديقه من رجال المقاومة، لكنه اكتشف ذلك يومها. عندما قفز رجلان ملثمان مسلحان من نفق بالقرب من معبر إيرز وأمطرا قوات الاحتلال بالرصاص، سمع «سعد» أصوات الرصاص وهو في سيارته، التي أخفاها جيدًا وراء الأشجار، نزل من السيارة وصعد إلى الطريق ليرى ما يحدث، فرأى من بعيد هرجًا وجنودًا يركضون يَمنة ويَسرة، وأناسًا في سيارات الانتظار تركوا سيارتهم وانطلقوا يركضون، ورأى شبحًا يركض تجاهه، ولمَّا اقترب وجده صديقه «حسين»، فهم «سعد» أن صديقه من رجال المقاومة وشعر بقشعريرة تسري في جسده، وفخرٍ بصديقه، حضنه «سعد» بقوة، وربت على كتفه قائلًا:

 هيا، لنركض.

وانطلقا يركضان تجاه منطقة الأشجار، وما إن وصلا إليها حتى سمعا أصوات رصاص ينهال عليهما، فأسرعا يركضان بين الأشجار، لكن «سعد» فجأة لم يجد صديقه بجانبه، التفت خلفه فوجده مُلقًى على الأرض، فتوجَّه نحوه مذعورًا، وتمنَّى أن يكون «حسين» يمزح معه ويمارس معه حيلته، لكنه كان يعرف أن هذا بالتأكيد ليس الوقت المناسب لمثل تلك الأفاعيل. اقترب «سعد» منه، فوجده مُلقًى والدماء تنزُّ من جسده، بكى «سعد» وأمسك بيد صديقه وهو يردد:

 انهض يا «حسين»، كفاك من تلك الحيلة، هيا سابقني إلى البيت وفُز أنت.

خرجت الدماء من فم «حسين»، قبل أن ينظر إلى «سعد» بنصف عين وهو يقول:

 اركض يا «سعد».. اركض حتى تنجو.

وبالفعل ركض «سعد»، لكنه لم يركض وحده، حمل صديقه على كتفه، وأخذ يركض حتى وصل إلى السيارة، وانطلقا إلى المشفى، لكن الرصاص كان أقوى، ولم يتحمَّل جسد «حسين» الخفيف كل تلك الثقوب.

كان «سعد» لا يزال مختبئًا مع ابنه «عمر» في مدخل ذلك البيت، حينما دوَّى قصفٌ عالٍ جدًّا بالقرب منهما. أصاب القصفُ البيتَ المجاور لهما، فارتجَّ البيت الذي يختبئان فيه بقوة، وانطلقت الأتربة والركام والحصى الصغير تغطي المدخل، فغطَّى «سعد» أنفه بوشاح، وغطى أنف الصغير، وانطلقا يركضان، انطلقا من شارع إلى آخر، حتى وجدا مدرسة مهجورة، بابها مكسور، فانطلقا يختبئان داخلها، فوجدا بها بعض الأُسر الأخرى التي سبقتهما لتحتمي بها، فأخذا ركنًا بعيدًا وجلس «سعد» محتضنًا صغيره على سلالم مبنى المدرسة.

لم ينتبه «سعد» في البداية إلى أن تلك المدرسة هي مدرسة صديقه «يونس»، «ذكور جباليا الابتدائية ب»، إلا عندما لمح تلك الشجرة التي تقف شامخة أمامهما، والتي مرة تسلل هو و«حسين» وانتظرا أسفلها خارج السور، حتى يساعدا صديقهما «يونس» في القفز والهروب من المدرسة.

ابتسم «سعد» وهو يتذكَّر تلك الذكرى، وسرعان ما انزلقت الدموع على خديه وهو يردد:

 رحمك الله يا «يونس»، كنت طيبًا ومسكينًا.

تزوَّج «يونس» بـ«ريم» مع بدء حصار غزة، كان يحبها كثيرًا، وكل همه أن يسعدها، وأنجب منها «يوسف» الصغير. بعد الحصار ضاقت بهم المعيشة، وأصبحت الحياة في المدينة تشكل خطرًا عليهم، خاف على أسرته الصغيرة، وقرر أن يهرب بها. حاول «سعد» أن يثنيه عن تلك الرحلة؛ نظرًا لما تحمله من خطر أكبر، لكن «يونس» كان يرى أن جحيم الماء أهون، وصمَّم أن يهرب. قال لـ«سعد» وهو يبكي:

 هذه المدينة تضيق بنا، لقد أُرهقت يا «سعد». تعال معي يا صديقي.

فقال «سعد» بحزن:

 يجب أن نبقى يا «يونس»، أنا لن أخرج من غزة.

واتفق «يونس» مع مهرِّب سيُهرِّبهم إلى تركيا عن طريق البحر. حشر المهرِّب أسرة «يونس» الصغيرة مع عدة أسر أخرى في قارب صغير متهالك. خمسة عشر فردًا مع أمتعتهم التي تحمل كل ما تبقَّى لهم، وانطلق القارب المتهالك يحمل أحلام خمسة عشر فردًا، أحلامًا تفر من جحيم الحصار والنيران والمدافع، تاركةً وراءها آلامًا كثيرة ووجعًا. جلست «ريم» تحتضن طفلها الصغير في أرضية القارب، وبجانبها «يونس» يمسك يدها ويُطمئِنُها. وبعد عشرات الأميال من الترنُّح بالقارب الصغير داخل البحر، بدأت المياه تخرج إليهم وتنهمر داخل القارب، حاول كل مَن في القارب إخراج المياه منه، لكن الوزن الزائد كان السبب، وكان لا بُدَّ من تخفيف الحمل، بدؤوا جميعًا يتخلَّون عن حقائبهم، التي تحمل كل ما يملكونه، لم يخفف ذلك أيضًا من حمولة القارب واستمرت المياه بالانهمار داخله. كان استمرار انهمار المياه يعني غرق القارب في النهاية، كانوا كلهم يعلمون ذلك ويرونه، جلست النساء ينتحبن ويبكين، عندما فطنَّ من دون القول إلى النهاية المتوقَّعة، شد «يونس» على يد «ريم» ونظر في عينيها وقبَّل رأسها وهو يقول:

 ألم تفهمي بعدُ؟ ألا يقولون إن لكل إنسان نصيبًا من اسمه؟ أنا أفعل هذا من أجلكما.

ثم انطلق كالسهم يقفز من القارب. انطلقت صرخة «ريم» قوية، انخلعت معها قلوبهم جميعًا، وقفوا جميعًا على حافة القارب ينتظرون أن يخرج رأس أو يظهر جسد، كانت الرؤية في ذلك الليل صعبة، السواد يحيط بكل شيء، لكن على الرغم من ذلك، قفز رجلان من القارب يبحثان عنه، لكن «يونس» لم يصعد مرة أخرى.

الحرب تغيِّر كل شيء، غزة لم تعُد كما كانت من قبل. جلس «سعد» يحتضن صغيره يتذكَّر كيف كانت المدينة، وكيف أصبحت، القصف والرصاص لا يفرِّقان بين كبير وصغير، الموت يطول كل حي. نظر «سعد» حوله، الناس منهكون، الغبار يحتل النفوس قبل الأجساد. والأجساد مستلقية في استسلام على الأرض. ورأى من الباب المفتوح للمدرسة أناسًا آخرين يركضون، ما زال في أرواحهم الأمل، الأمل لينجوا وليحيوا. تذكَّر «سعد» أنه طول عمره يحب الركض، ما باله يكرهه الآن؟!

انتزع «سعد» من شروده صوتُ قصف قوي، قريبًا جدًّا من المدرسة، فنهض من مكانه مسرعًا، وفي يده «عمر» الصغير، خرج من باب المدرسة، وانطلقا يركضان مرة أخرى.

هذه المرة، اخترقت الرصاصات جسد «سعد» وهو يركض، وسقط على الأرض، وقف «عمر» الصغير بجانبه يبكي، لا يعرف ماذا يفعل. شعر «سعد» بالآلام تُقطِّع جسده كله، والدماء تُغرق كل شبر منه. قال لـ«عمر» بلهجة آمرة:

 اركض يا «عمر».. اركض حتى تنجو.

لكن «عمر» لم يتحرك، وظل بجانب والده يبكي، نظر حوله يبحث عمَّن يساعده، لم يرَ أحدًا، لكنه رأى طفلة صغيرة، في مثل سنه، تُخرج من بين الحطام عروسًا صغيرة، تحتضنها بقوة، وتبدأ في الركض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى