رواية لاجئة ـ حلقة 6 من 18
و برز في حياتهما موعد متجدد بين سعيد و ريم ، موعد لم يتفقا عليه أبدا و لم يحددا وقته أبدا ، إلا أنه أصبح عادة هامة في حياة كل منهما ، لابد أن يحدث عندما يأتي المساء ، لابد أن يجلس سعيد في شرفته يرشف شايه و يتطلع إلى النافذة الأثيرة و بعد قليل ، دائما بعد قليل تفتح ريم نافذتها و تتطلع اليه و تبتسم و يبتسم ثم تغلق نافذتها ، كان هذا الأمر يتكرر كل ليلة منذ الليلة التي انقلب فيها حال ريم من الغضب إلى السلام عندما حدث لأول مرة أن ابتسمت له ، أصبحت هذه الابتسامات القليلة النادرة رسالة شفهية يرسلها كلا منهما إلى الآخر في المساء دون أن يحددا ما بعدها و دون أن يرسما طريقا قد تقود اليه ، و كم تعجب سعيد في نفسه من نفسه ، تعجب من أنه أبدا لم يفكر في خطوة مقبلة ، في طريقة تجعل من الابتسامة كلمة و موعدا و لقاءً ، لم يفكر في هذا الامر أبدا و لم يخطر بباله أن ابتسامات المساء المتبادلة ، بداية لشيء أكبر ، كان كل اهتمامه منصب على أن تدوم هذه العادة و آلا تنقطع ، و كان دائما لديه يقين بمجرد جلوسه في الشرفة أن القليل سيمضي سريعا لتخرج ريم •• كان يترجم ابتسامتها حلما طويلا يقتات منه حتى آخر الليل عندما ينهض لينام ، كانت الابتسامة الصغيـــرة تعني كــلاما كثــيرا يتبادلــه و إياها في مخيلته فيرضيه و لكنه لا يشبع منه ، لذا أصبـــح شـــديد التعلـــق بالشــرفة و أصبح قليل الخروج و السهر ليلا خارج المنزل و حتى عندما زاره أحد الاصدقاء ذات ليلة ليسأله عن حاله و سبب ابتعاده ، تعمد ألا يفتح الشرفة في وجوده حتى لا يخدش عالما له وحده و حاول جاهدا أن يقنعه أنه لا يريد العودة لسالف عهده فهذا أمر تزهده نفسه و تحتقره جوارحه و لا يدري حتى كيف أنه كان يمارسه ••
– آه •• يا إلهي إلى هذا الحد ؟
– و أكثر •• إلى هذا الحد و أكثر ياصديقي ، إنني أتساءل كيف كانت تلك حياتي ، كيف كنت أراهن على إضاعة عمري في لهو ماجن لا يليق ، أشعر بالصغار الشديد كلما فكرت أنني كنت بهذا الحال ، إنها أتفه الأمور التي تحكمت في لفترة من عمري و قبعت كشيء بالغ الاهمية لتسمني إلى الابد بالتفاهة و الوضاعة ••
– و لكن هذا لم يكن رأيك فما الذي غيرك ؟
– عندما يعود المرء إلى فطرته النظيفة لا يسمى هذا تغيرا بل إن ما كنت فيه هو التغيير الذي لحق بي لفترة ثم عادت الأمور لصحيح وضعها ••
عندما رحل الصديق يائسا ، سارع سعيد بالوقوف في الشرفة ، كان يدعو الله من داخله ألا تكون ريم قد فتحت نافذتها و أغلقتها أثناء غيابه ، و سأل نفسه إن كان حقا مقتنعا بما قاله لصديقه ، و فوجيء بأن صوتا قويا داخله يزجره عن مجرد سؤال نفسه كهذا السؤال فهو الآن في مكان لا يليق أن يفكر و هو فيه بكل أدران الماضي و ينبغي فقط أن يكون تفكيره في مستقبل ينتظره بعد دقيقة واحدة مستقبل ينحصر في ابتسامة تأتي عبر الليل بينهما ، تحملها شعاعات خافته ترسلها أضواء البيوت و الشوارع النائمة ، و ظل يتطلع عبر الشرفة فترة لابد أنها طالت كثيرا لأن اغفاءة أخذته و حملته الى أجواء الحلم الوردي حيث مكان لا أرض فيه و لا جدران و لا نوافذ ، لا شيء إلا هو و هي فقط معا ، يده في يدها •• و الدنيا تتحول حولهما إلى عالم أسطوري من الجمال وفجأة سطع نور قوي من بين كفوفهما المتماسكة ، نور قوي جدا ، قوي إلى درجة الحريق ، انتبه عليه فإذا الشمس تفترش رأسه و إذا هو صباح جديد يدعوه أن يفيق ••
***
و حملت الأيام القادمة البشرى إلى ريم ، ريح طيبة عبقت أركان بيتهم و ملأت جوانحها طربا ، ففقدت كل إحساس لها بكل الوجوه من حولها ، بوجه سعيد الباسم يحمل البشرى و وجه أمها الباكي تقبلها فتختلط الدموع بالدعوات بالتبريك ، ووجه قاسم تغلفه الفرحة و يقسم أن يمضيها ليلة راقصة لأجل عيون أخته و وجه سمر التي راحت تتراقص و تردد بصوت عالي:
– أختي ريم ستدخل الجامعة ، أختي ريم ستدخل الجامعة
فقدت ريم الأحساس بكل هذه الوجوه من حولها ، إلا وجها واحدا كان يرسم نفسه و بقوة فوق الحدث ، تراه مهيمنا على كل المشاعر و على كل الموقف ، وجه فرض نفسه بقوة الحب و قوة الصبر و قوة التضحية ، إنه وجه أبيها ، كانت تراه في هذه اللحظة قويا حتى أن انفاسه غطت على الهدير الصاخب حولها ، شعرت أن جسدها فقط هو الذي يعيش الحدث ، تشعر بنفسها تلف لتبتسم و ترد التبريكات بأحسن منها و تأمن على الدعوات و تدعو بالعقبى لأخيها و هي في كل هذا مسيرة لا تعيش اللحظة معهم ، إحساس طغى عليها كثيرا و لأول مرة تشعر به بهذه القوة كانت تريد أباها ، تريده الآن ، تريد أن تخبره أن يده هي التي كتبت هذه اللحظات و صبره هو الذي أوصلها إليها و تضحيته هي التي قدمتها لها ، كانت تريد أن تجثو أمامه تقبل يمينه و تغسلهما بدموع الفرحة و تؤكد له بل تقسم بأنها ستحافظ على الهدية الغالية الثمينة ستحافظ عليها كما أراد و ستصبح كما تمنى ••
ووجه واحد من الوجوه حولها شعر بها و بقوة ، وجه واحد لمس غيابها عنهم رغم تجاوبها السطحي معهم ، قلب واحد كانت نبضاته معلقة بنبضات القلب الذي تخبئه جوانحها ، يدق نفس الدقة و ينبض ذات النبضات ، كان سعيد ، ذلك الذي ارتبطت أقداره بها منذ اللحظة الأولى و تقمصته أحاسيسها منذ رفعت إليه عينا بالرجاء ذات يوم ، كان يعرف تماما ما تفكر به و ما تشعر به ، كان يفهم اختلاط اللهفة بالفرحة في قلبها و كان يشفق عليها من احاسيس اللحظة و للمرة الألف شعر أنه يريد أن يضمها إليه ، شعر أن أقصى ما تحتاجه هذه المخلوقة شفافة القلب أن تتوسد كتف شخص محب ، كان يعرف أن احتياجها لهذه الكتف الذي يحمل ، أكثر من احتياجها لكل هذا الصخب ، لكل هذه الكلمات •• كان يشعر بها ، يحترق بها ، يتنفسها ، يترسمها ، يترجم أنفاسها حريقا في قلبه ، كان يتمنى لو أن حلمه الوردي ذلك المساء أصبح أمرا واقعا ، كان يتمنى لو تختفي الجدران و النوافذ و الأرض و البشر و تصبح هي معه ، وحدهما و بين كفيهما المتلاصقين يسطع النور ••
كف الصخب فجأة و هدأت الأصوات و قالت الأم من بين دموعها :
– لن أنسى لك أبدا موقفك يا أستاذ سعيد ، يا حامل البشرى ••
تمتم :
– هي تستحق ••
استدرك فقال :
– لكنني لم أفعل شيئا هي كتبت و هم وافقوا و ريم الآن طالبة مسجلة بالسنة الآولى في كلية الفنون الجميلة ، هذا كل شيء ••
هزت ريم رأسها و نظرت إليه ممتنة و قالت :
– لو لم تفعل شيئا إلا أن أتيت بهذا الخبر لكفى يا أستاذ سعيد ، لقد أسعدت قلوب كثيرة به ••
و أشارت لكل من حولها ، فقال مبتسما :
– و قلبك أيضا ؟
ابتسمت و قالت :
– القلب الذي حقا يحتاج للفرح الآن هو قلب أبي ••
بحماس قال :
– و ماذا تنتظرين ، هيا اكتبي الخطاب و سأرسله بنفسي اليوم و في البريد المستعجل أو إن شئت في برقية ••
كان يريد أن يكمل "أو إن شئت أطير به بنفسي ، المهم أن تسعدي و تظل ابتسامتك ملء العين و الفؤاد "
لكنه لم يقل •• و هي رغم غرابة الكلمات غير المنطوقة سمعتها ، سمعتها في ارتعاشة أهدابه و ابتعاد نظرته إلى عمق سحيق في عيونه السوداء ، سمعتها في إحساسه بها الذي ترجمه بهذا الطلب ••سمعتها فأرخت عيونها أرضا ، و انتظرت أن تعرف من الطارق عندما ذهب أخوها ليفتح الباب ، كان الباب يــدق دقـــة فرح عالية ، دقــة سعيدة و دخلت سوسن ، لم تنتبه إلى احد ركضت فورا باتجاه ريم احتضنتها و صاحت :
– نحن في الجامعة الآن ، نحن في الجامعة الآن ••
كان سيد واقفا ما زال على الباب ، صــحب أخــته إلى مكتب التنســـيق ، عرف النتــيجة و عرف أن قسما كبيرا من الخطة التي سُير إليها انتهى بنجاح ، و عندما طلبت إليه سوسن المرور على ريم لتهنئتها ، وافق فورا فهذا ما يريد ، و عندما فتح قـــاسم البـــاب و اندفعت سوسن الى ريم ، اقتحمت عيونه هيئة سعيد ، تسمر في مكانه ، و تبادل معه نظرات عداء مستتر و عندما دعته الأم للدخول اعتذر بحزم و قال :
– كنا نريد أن نكون أول المهنئين و لكن يبدو أن الأستاذ سعيد سبقنا ••
ابتسم سعيد و شعر أنه يريد أن يجرحه فقال :
– أنا دائما الأول يا عزيزي ••
صاح سيد فافزع سمر :
– هيا يا سوسن ••
نظرت سوسن إلى ريم نظرة رجاء فهمتها على الفور فقالت لسيد بصوت منخفض :
– أستاذ سيد ، آمل أن تترك لي سوسن لبعض الوقت ، لنفرح سويا بقبولنا في الجامعة ، إذا لم يكن يضايقك الامر ••
نظر إليها غاضبا ، لكن نظرتها الهادئة و صوتها الذي يوجــه إليــه الكــلام للمـــرة الأولى و أشياء أخرى كثيرة كانت وراء اختفاء الغضب و عودة الوداعة و الإجابة المطلوبة :
– حسنا ، إذا كانت هذه رغبتك ••
نظر إلى سعيد ، فقال الأخير على الفور :
– أستئذن أنا ، مبروك مرة أخرى يا آنسة ريم ، مبروك آنسة سوسن •• إلى اللقاء
خرج من الباب بعد أن أفسح له سيد مجالا و قال قبل أن يلحق به :
– متى تعودين يا سوسن ؟
نظرت إليه سوسن نظرة ذات معنى و كأنها تذكره بأمر و قالت :
– فور انتهاء مهمتي مع ريم ••
أومأ برأسه راضيا و قال :
– مبروك آنسة ريم ، سعدت كثيرا لتزاملك مع سوسن في الجامعة ، كما تزاملتما دوما في المدرسة ••
ردت ريم عليه بصوت هاديء و انصرف ، نظرت فورا إلى سوسن و قالت مغتاظة :
– أية مهمة يا سوسن التي ستنهيها معي ؟
ضحكت سوسن ، ضحكت كثيرا و بشدة حتى دمعت عيناها و قالت :
– دعينا من المهمة و أخبريني كيف سنحتفل بفرحتنا هذه ؟
–
***
كان اليوم الأول لدخول ريم الجامعة يوما أسطوريا بالنسبة لهــا ، لم تنــــم تـــلك اللــيلة ، و احتفظت مثل الأطفال بثوبها و مستلزماته التي ستمضي بها إلى هناك على حافة السرير ، كانت غرفتها لها وحدها منذ فترة طويلة ، اعتادت على مخاطبة كل الأشياء و لم تكن تجد غضاضة في محادثة ركنها الأثير فيها ، كانت تحادث لوحاتها و كأنها تحادث أفرادا يتكلمون و يسمعون ، و في تلك الليلة كتبت على إحدى اللوحات البيضاء كلمة الجامعة •• و ظلت طوال الليل تطالعها و تحادثها ، و تضيف إليها رتوشا ترى أنها مناسبة لمجرى الحديث ، و عند الفجر كانت اللوحة قد أصبحت شيئا سرياليا لا يفــهم خطـــوطهــا و ألوانها إلا ريم ، التي كانت تعرف تماما العبارة التي قالها لها كل خط و كل لون ، كل انحناءة و كل مساحة بيضاء ، كان أملها كبيرا جدا ، و أحلامها كبيرة ، أكبر من أن ترصده مساحة ، ظلت ابتسامتها منطبعة على وجهها ، تتسع إذا غرد الأمل فيها و تنكمش إذا علا صراخ الضمير و الغربة التي اختارها الأب ثمنا لتحقيق هذا الحلم ••
عندما فتحت نافذتها كان الوقت قد تأخر كثـــيرا ، أكثر ممـــا اعتــادت و اعتـــاد سعــيد ، و توقعت حين نظرت للساعة ألا تراه ، كانت شرفته مغلقة ، لكن النور خلفها كان مضاءً ، ابتسمت للضياء القادم من خصاص باب الشرفة و كأنها تراه ، و عادت تنظر إلى السماء حين اقتحمها ضوء القمر عضت على شفتها السفلى و همست :
– كيف لم أنتبه ؟
كان القمر بدرا ، و هي دعوة للخوف تعيش تفاصيلها ريم كل شهر ، شعرت بانقباضة صغيرة ••
– أخشاك و أحبك •• أية معادلة ؟
ظلت ترنو إليه فترة •• وتذكرت أنها قرأت ذات يوم أن الذئاب تجتمع في ضوء القمر المكتمل لتنوح حتى الفجر ، كأن حنينا غامضا يدفعها لأن تبكي كلما كان القمر بدرا ، حنين أو ذكرى شيء ما حدث في اكتماله لها •• أشاحت بوجهها و همست :
– و ما علاقتي أنا •• لماذا أرى الخوف وجها مرسوما على القــمر ، لمــــاذا يـــدق قلبي بشدة و أتوقع حدوث شيء رهيب حين رؤيته ، هل هي العلاقة القديمة بين القمر و الناس ، العلاقة التي تجعلهم حين يغدو بدرا أناسا آخرين •• ؟
أفاقها من شرودها صوت باب يفتح ، انخلع قلبها ، فقد تضاعف الصوت ألف مرة في هذا السكون ، خرج سعيد إلى الشرفة ، نظر باتجاهها فورا ، كان مشعث الشعر كمن أمضى يوما عصيبا ، بدت ملامحه عبر أضواء الشارع كأنها لتمثال من غضب ، لاحظت ذلك من طريقته في الإمساك بسور الشرفة ، كان كمن يهم بالقفز من فوقه ، لم يبتسم وجهها رغم العادة ، فقد كانت مناجاتها للقمر قد أحدثت في قلبها الأثر الذي تخال أن القمر يريده ، كانت واجمة و قلبها ينبض بشدة لم يتخلص بعد من اضطرابها حين فتحت الشرفة ، ظل ينظر إليها و تنظر إليه ، كان الحديث السري الذي تنطقه نيابة عنهم كل الأشياء يدور الآن ، كانت النسمات تخاطب الأشعة الساقطة من أعمدة الشوارع ، و كانت الجدران تخاطب التراب الذي تنغرس فيه جذورها ، و كانت النافذة تخاطب الشرفة ، و الجميع كان يتساءل عن سر الصمت الغاضب بين اثنين لا تربطهما سوى ابتسامة ••
ظل الفضاء بينهما مترقبا في انتظار أن يحمل البشرى للآخرين ، أن يقول للجميع اصمتوا فقد بدأ حديث الابتسام ، لكن الفضاء بينهما مل من الانتظار فانسحب تاركا هواءً ثقيلا قبع على كل الاشياء فاخرسها ••
كان سعيد ينظر إلى ريم بغضب منبعه هو و سببه هو و ليس هي ، لقد ظل طوال اليوم يفكر في هذه الأنثى التي قلبت موازين حياته رأسا على عقب بدون وجه حق ، و بدون مقابل ، كان يمر بشيء مما مر به كثيرون عندما أفاقوا من دوامــــة وضعوا فيـــها أنفسهم و رفعوا وجوههم للحظة و تساءلوا ماذا هناك ؟
لماذا أظل أسيرا لهذه الفتاة ، ما الذي جرى لي فقيدني بقيد في آخره حرف من اسمها •• لماذا أسير و كأنني مسير نحو قدر لا يحمل ملامحي ، لا يشكل طبيعتي ، لا يتجاوب مع كينونتي ؟
كان قد أمضى ليله يفكر في هذا الأمر ، يستجمع فلوله المنهزمة دوما أمامها ليعلن لها تمردا مع خيوط الصباح الأولى ، و عندما خرج أول الليل ليبدأ مناورات العصيان معها خذلته ، و لم تخرج فأورت نار الغيظ داخــله ، كان يلمــــح الضوء من خصــــاص نافـــذتها و يعرف أنها مستيقظة وحدها في غرفتها لكنها لا تبالي بهذا المخلوق الذي عاد يطلب حليب الرضاع بعد الفطام بسنين ••
– أبله أنت ••
و كانت هي لا تعرف السر في ثورته ، لا تعرف سببا لغضبته ، احتارت في تفسير ملامحه الشعثاء الغاضبة ، بحثت في نفسها عن سبب لهذا الغليان الذي ينطق به الصمت و الهواء الثقيل بينهما فلم تجد و في غمرة بحثها تذكرت أنها ابتسمت قبل قليل لضوء ينبعث من خصاص شرفته ، و لم تبتسم له ، و شيء داخلها أكد لها أن هذا هو السبب ، ابتسمت للخاطر ، و طالعته بعيون عاتبة مبتسمة ، تفرس ملامحها و كان قد كاد يهجر تلك الملامح مختارا و بملء إرادته ، كان يراود نفــــسه الانســحاب إلى الداخـــل و صفع الباب في وجهها ، لكنه لمح تلك الابتسامة العاتبة ، ابتسامة لملمت ما على شفاه الأشياء حولهم و قدمته حديثا طويلا لقلبه المتعب ،ابتسامة أعطت أمرا صارما لفلوله المتحفزة للتمرد بأن تمضي بلا عودة ، أن تركض للخلف ألف ألف خطوة ، تفـــرس مليـــا و كأنما خيط سحري يربط بين الشفتين ، و كأنما قدر أبدي يضع ما على هذه على تلك ، وجد نفسه رغما عنه يبتسم •• هكذا ببساطة يبتسم ، و كأن الليل الطويل كان ليل غيره ، و كأن التمرد كان نداءً تائها استقر في أذنه لساعات و غادرها في ثوان ••
هكذا ببساطة ابتسمت ريم فابتسم سعيد ••
***
عندما دخلت الأم لإيقاظ ريم ، وجدتها مرتدية حلتها الجديدة ، ثوب برتقالي اللون بحزام أبيض و حذاء أبيض و عقدة شعر برتقالية و أخيرا حقيبة يد بيضاء ، كانت تبدو في كامل استعدادها ، مشرقة الوجه كأنها نامت الليل بطوله ، مبتسمة كأن ابتسامتها علقت منذ البارحة فلم تستطع أن تسحبها و أخيرا و كأنها تكمل حديثا ، ركـــضت نحــــو أمها و قبلتها و صاحت :
– بالطبع أنا مستعدة جدا ••
تأملتها الام بفخر و إعزاز و قالت :
– كم أنت جميلة يا ابنتي ، يرعاك الله
– هل الثوب مناسب ؟
– يكاد يكون قد صنع خصيصا لهذا القالب أيتها الغالية ••
– أمي هل أبدو حقا جامعية ؟
– إن لم تكن الجامعة قد قامت من أجل ريم ، فلمن إذن قامت ••؟ !!
ضحكت ريم و عادت تقبل أمها و خرجتا معا نحو الصالة ، كانت الأم قد صنعت الشطائر المحشوة لابنتها مثل أيام المدرسة تماما ، أو على الأقل كان هذا ما علقت به ريم عندما رأتها ••و قالت :
– لقد كبرت يا أمي على أخذ الفطور معي ، أنا فتاة جامعية ••
أصرت الأم و وضعت الشطائر في حقيبتها و هي تقول :
– لا ترفضي طعام أمك ففيه البركة كلها ، ها هل تعرفين طريقك ؟
أجابت ريم بامتعاض مفتعل :
– سيد وعد سوسن باصطحابنا في اليوم الأول ليدلنا على الطريقة ووسائل المواصلات المطلوبة و أنا بانتظارهما ••
لم تكد تنهي عبارتها حتى دق الباب دقات مرحة فأكملت ريم :
– و ها هي سوسن قد جاءت ••
ركضت ففتحت الباب و عندما طالعتها سوسن صاحت :
– آه يا إلهي ما كل هذه الأناقة ، إنك حقا تبدين جامعية ••
قالت الأم و هي تكبر و تحوقل في سرها :
– أنت أيضا يا سوسن تبدين في غاية الأناقة يا ابنتي ••
همست سوسن :
– لقد أجبرني سيد على ارتداء هذا الثوب ، و هو ليس ما أعددته لليوم الأول ، لكن لا بأس غدا عندما نذهب بمفردنا سنرى من ستكون الأكثر أناقة ••
ضحكت ريم و قالت هامسة أيضا :
– سأخبر سيد ••!!
سارت الفتاتان خلف سيد و عيون الأم ترافقهما حتى اختفتا عن الشارع و دعاء طويل لم ينقطع كان في الأثر ••
تعمد سيد أن يسير ببطـء حتى تحاذيه الفتاتان ، و تعمدت ريم أن تبطيء حذر هذه المحاذاة ، إلا أن سوسن شدتها هامسة :
– أسرعي •• لا تعاندي يا ريم ، لا نحتاج غضبه الآن ••
استسلمت ريم لصديقتها فلم يكن أمامها إلا الرضى بهذا الدليل على الأقل في اليوم الأول ، و كان سيد قد بدأ في ارتداء حلة الأستاذ فكانت كل خطوة بكلمة ، و انصب كلامه على شرح الطريقة ووسائل المواصلات و أهمية الانتباه إلى أنفسهن أثناء عبور الشارع و في المواصلات و خاصة من مضايقات الذين لا هم لهم إلا مضايقة بنات الناس ، و كان يوجه حديثه لأخته و يميل نحو ريم و يقول :
– و الكلام لك أيضا يا آنسة ريم ••
فكانت ريم توميء برأسها و لا تتكلم و هي تدعو الله أن ينتهي هذا الطريق •• و على باب الجامعة نظر سيد في ساعة يده و قال :
– يجب أن أترككما الآن ، سأعود عند الثانية و النصف ، انتظراني حتى لو لم يكن لديكما ما تفعلانه ، فطريق العودة يختلف و المضايقات تكون فيه أشد ••
قالت سوسن بسرعة و هي تحاول مداراة صديقتها حتى لا يلمح سيد ضيقها :
– نعم •• نعم يا أخي بالطبع سننتظرك هنا تحديدا ••
ابتسم سيد و مضى في طريقه ، التفتت سوسن إلى ريم و صاحت :
– إنه الخلاص ••
كانت ريم تطالع ساعة الجامعة الكبيرة ، و تحتوي بعيونها موقع الحلم الكبير ، كان هناك آلاف من الطلاب و الطالبات مختلفي الصور و الهيئات و الأعمار ، يشتركون فقط فيما يحتضنونه بين أيديهم من حقائب دراسة مختلفة الأشكال••
تطلعت سوسن حيث تتطلع و قالت و هي تضع يدها على عيونها :
– ياه ه •• من أين نبدأ ؟
–
قالت ريم :
– نسأل عن موقع كليتنا ثم نذهب إليها و هناك نعرف ماالذي اعدوه لنا •• المنطق يقول هذا ••
و شدتها من يدها لتدخلا من البوابة الكبيرة ، بوابة الحلم كما أسمتها ريم ••
***
– و تطلع إلي مدير شؤون الطلاب بنصف عين و قال بصوت أجش :" فلسطينية •• هاه •• عليك أولا دفع رسوم التسجيل قبل أن يتم اختبارك في القسم الذي تختارين ••"
– و هل سألت عن مقدار هذه المصاريف ؟
جلست ريم على الأريكة حانقة و هي تحكي لأمها أحداث يومها الأول بالجامعة و قالت و هي تزفر :
– جميع الطلاب المصريين رسومهم ستة جنيهات و نصف ، أما أنا فرسوم تسجيلي ستمائة جنية استرليني ••
شهقت الأم و بعدها ران الصمت •• كان قاسم يستمع للحديث صامتا ، كانت حالة ريم يرثى لها ، و حتى سمر احترمت صمت الجميع فصمتت و هي لا تدري •• نظرت الأم إلى يدها و قالت :
– كم يساوي هذا المبلع بالجنية المصري يا ريم ؟
تطلعت ريم إليها و قالت لأمها و هي تعرف فيما تفكر :
– لن ينفع يا أمي ، لن ينفع ، بيع ذهبك و ذهبي و حتى قرط سمر لن يفي بالغرض ، مبلغ التسجيل ستمائة و المبلغ السنوي ستمائة ، أي ألف و مائتي جنيه استرليني علينا دفعها هذا العام ، هل تتصورين مجرد تصور أننا سنتمكن من هذا ؟
ظل السؤال معلقا بلا إجابة ، و من منهم يستطيع الإجابة عن سؤال يختصر كفاح عمرهم بعبارة واحدة :
– لا نملك •• و من أين لنا هذا ؟
حتى المنزل عندما أدارت الأم وجهها في اثاثه بدا في هذه اللحظة متواضعا شديد التواضع ، لا يملك أن يخرج قطعة واحدة فيه تستحق ثمنا قد يساعد ••
تنهدت ••تنهد الجميع ، كانت التنهدات حريقا في أعماقهم حمل هواء الغرفة ما لا يطيق فاستسلم راكدا و كأنه يتضافر مع الخبر المزعج ليعلن عجزا ، و ليعلن احتضار الحلم ••
نهضت ريم متثاقلة و قد بدا أن ملابسها تهدلت عليها و كأنها لم تكن في الصباح قد صنعت خصيصا لهذا القالب •• توجهت إلى غرفتها بخطوات مهزومة كان لها وقع الخناجر في قلب سميحة ، و قبل أن تصل ريم إلى غرفتها صاحت الأم :
– قد يكون هناك حل ••
التفتت إليها ريم و قالت بلهفة :
– كيف ؟
قالت بتصميم :
– انتظري هنا
توجهت فورا إلى غرفتها ، إلى الحقيبة القديمة ، إلى الكلمات الأخيرة في الليلة الأخيرة ، استخرجت الملف القديم ، سحبت منه الوريقات الأولى و عادت لأولادها قالت بحماس :
– في هذه الأوراق عناوين أهاليكم و أقربائكم ، قال لي جهاد قبل سفره إننا سنفاجيء بأن في العائلة أثرياء بل شديدي الثراء ، فلماذا لا نراسلهم ؟
نظرت ريم إلى قاسم و نظر قاسم إليها ، كانت أفكارهم منصبة على أمر آخر ، أمر غير ما حرك الأم ، ترجمته ريم حين بادرت بالكلام :
– أقرباء و أهل لنا نحن ؟
هزت الأم رأسها إيجابا فقال قاسم :
– ولهم عناوين يمكننا مراسلتهم عليها ؟
و عادت الأم تهز رأسها إيجابا
أسرعت ريم فأخذت الأوراق من أمها •• أمسكتها بلهفة خاصة ، لهفة علا لها وجيب قلبها •• في هذه الوريقات يكمن أصل وجودها ، في هذه الوريقات أناس تنتمي إليهم بالعصب ، بالدم ، أقرباء ، أهل •• لطالما تمنت أن يكون لها من عصبها أهل ، من لحمها و دمـــها أعمام و أبناء عمومة ، كانت تشعر و هي محدودة في إطار الأم و الأب و البيت الصغير ، أنها كائن غريب جاء من كوكب آخر و استوطن هذه الأرض ، لا أحد يشبهه و لا يشبه هو أحد ، أخيرا ها هم الأهل ، في هذه الأوراق يختبيء السر الكبير ، خلفها العالم الذي تريد أن تعيش فيه و بين سطورها الدنيا التي لم تحياها •• بأصابع مرتجفة فتحت الغلاف القديم ، كانت الأوراق صفراء و بدا خط أبيها واضحا قويا مرتبا يكاد ينطق على الورق ••أسماء كثيرة تنتهي أسماؤهم باسم عائلتها تنتهي بالقاسم •• رفعت عيــون مغــرورقة إلى أمها و قالت بابتسامة تفيض شوقا :
– جميعهم ينتهون بالقاسم يا أمي
أومأت الأم برأسها إيجابا و تفاعلت عيونها مع نظرات ابنتها فنطقت بالحنان ، و نطقت أيضا بالشفقة •• أسرع قاسم و اتخذ لنفسه مكانا بجوار ريم و تراقصت الأسماء المتتابعة أمام عيونه كلها تحمل لقب عائلته ، اللقب الذي حمله منذ مولده و شاركته أخواته و لم يشاركه أحدا فيه ، أشار بأصابعه النحيلة على الأسماء و قال بصوت فرح :
– لابد أن هذا عمي عمر ، و هؤلاء أسماء أبناء عمي عامر يرحمه الله ، أما هذا فهو اسم عمي محمد ••
و أكملت ريم و قالت :
– و هذا عمي بدر وبقية الأسماء لابد أنها لأقرباء لنا من أبينا ، فمثلا هذا الاسم هو لابن عم أبي فيما اعتقد ••
رد قاسم قائلا :
– لا بل هو لابن خال أبي ••
قالت ريم :
– دعنا نرتبها منذ البداية ••
و انطلقت و أخوها في عالم خيالي كانت تراقبه الأم و هو يسيطر عليهما ، كانت ترى لهفتهما ، إقبالهما على الأسماء كأنما تجسدت فجأة لحم و دم أمامهما ، حتى سمر كانت تعتقد لفرط لهفة أخويها أنهم يطالعون صورا ملونة ، أو هدايا أسطورية ، فصارت تقفز عليهم و تعتلي ظهورهـــم في محـــاولة لاستكــــناه الســـر الذي جــعــــل رؤسهما تتقارب و أصواتهما تعلو و حماسهما يزيد ••
ظل الأخوان على هذه الحال قرابة الساعة يرتبون درجات القرابة و يحاولون قدر الإمكان الاستعانة بذاكرة الأم عن أهل زوجها و كانت إذا عرفت قالت و إذا لم تعرف تردد :
– الله أعلم
و لقد رددت الأم هذه الكلمة عشر مرات على الأقل فقد كانت صلتها بأهل زوجها شبه مقطوعة إلا من رسائل و أشخاص قليلون زاروهـــــم خلال سني عشـــرتهم و قالوا شيئا أو بعض شيء عن أحوال أهليهم
تطلعت ريم إلى أمها و هي تبعد سمر عن كتفها قائلة :
– أتصدقين يا أمي بعض هذه العناوين تشير إلى الـــبرازيل ، و بعضـــها إلى استراليــا و بعضها في الأردن و في ليبيا و بعضها في الكويت و الإمارات ••
تنهدت الأم و قالت :
– و الآن أصبح لديكم عنوانا جديدا في السعودية يا أبناء فلسطين ••
أغلقت ريم الأوراق و تنهدت و قالت باسمة :
– سوف أراسلهم جميعا و أرسل صورنا إليهم و عنواننا و أطلب إليهم إرســـال صـــورهم و كل شيء عن حياتهم لنا لنعرف عنهم المزيد ••
و قال قاسم :
– لماذا تأخرتم حتى أعطيتمونا هذه العناوين يا أمي ؟
هزت الأم رأسها و قالت :
– الحياة تلاهي يا أولاد جهـــاد ، ألا تعـــتقدون أنهم بـــدورهم كان لابد أن يبـــحثوا عنـــكم و يعرفوكم ؟
قالت ريم بتسامح :
– لابد لأحدنا أن يبادر على أية حال يا أم قاسم ••
قالت الأم :
– نعم ، و لا تنسوا في خطاباتكم أن تذكروا الوضع الاخير ، مبلغ صغير من المال يرسله أحدهم إلى أهله ليساعد ابنتهم على التعليم لن يؤثر عليهم و سيساعدنا كثيرا ••
قال قاسم بغضب :
– أتريدين منا أن نشحذ يا أمي ؟
قالت الأم بسرعة :
– لا يا بني •• لا سمح الله •• لا تطلبوا المبلغ إلا على سبيل السلفة طويلة الأجل ، اطلبوه بنفس عزيزة ، و قولوا أنه هام للتعليم •• أما شحاذة فلا ••
نهض قاسم غاضبا و لم يقتنع و قال :
– أنا لن أكتب شيئا ••
فقالت الأم لريم :
– و أنت يا ريم •• ما رأيك ؟
ربتت ريم على الأوراق و حالة من السعادة الغامضة لم تفارقها رغم غضب أخيها و قالت :
– أنا سأكتب إليهم يا أمي سأكتب لهم كل شيء عنا ، كل شيء حتى ما حدث اليوم ، ليس لكي أطلب نقودا و لكن لكي يعرفونا أكثر و نعرفهم أكثر ، و ربما بادر أحدهم دون التصريح بالطلب بالتطوع و بذل المعونة •• السلفة التي نريد ••
ربتت الأم على كتف ريم و قالت لها باسمة :
– وفقك الله يا ابنتي ••
***
عندما اختلت ريم بنفسها في غرفتها ، و معها الأوراق الأثيرة •• عادت تتصفحها و تعد الأسماء المكتوبة فوجدتهم ثلاثة و ثلاثين اسما و عناوينهم واضحة تماما في كل بقاع الأرض ، حدثتهم قائلة :
– تراكم أيضا تحملون وثائق سفر للاجئين ؟ و هل سوى اللجوء يمكن أن تكونوه ؟ أنتم مثلنا مهما علت الفروق بيننا ، لن يحمل لكم المال الوطن الذي تركتم و لن يقدم لكم الأرض التي إليها تنتمون •• ترى هل تشعرون بما أشعر به ، هل تعرفون معنى عدم الانتماء لأرض ، الانتماء الأبتر إلى خريطة قديمة تتوسطها عين دامعة ، الانتماء الأعزل إلى أخبار لا تستغرق سوى دقائق في نشرات الأخبار عن أرض يموت أبناؤها و تولول عليهم النساء •• هل أنتم مثلي تشعرون رغم الأسرة بالتمزق و الشتات •• و لما لا و أنتم تحتفلون بأعياد رسمية لشعوب أخرى ، و يغني أبناؤكم نشيد العلم في الصباح لراية اخرى ، و تخفون جنسياتكم عندما ترون في عيون من حولكم بوادر نفور ، و ربما مثلنا تتكلمون لهجة أخرى ••ماذا بقي من فلسطين فيكم ، و ماذا بقي من فلسطين فينا •• شتات و لجوء •• هل هو قدر أبدي ؟
تنهدت و شرعت في الكتابة لعمها عمر ، هو الأكبر و لابـــد أنه مشتـــاق لأخيه و لأسرته و يريد أن يعرف عنهم كل شيء و ربما استطاع هو أن يقدم إليها المعرفة التي تنشدها حول الباقيين ، لما لا و هو كبير الاسرة بعد وفاة أبيه و الأخ الاكبر ، كما أنه يعيش في الأردن و ما زالت ذكرياته طازجة عن الوطن الذي تريد أن تعرفه عن قرب ••كتبت تقول :
عمي الحبيب ، سوف تفاجأ كثيرا حين تقرأ هذا الخطاب ، فلن يكون أبدا مثل أي خطاب قرأته في حياتك ، إنه خطاب من لحم و دم تكون و نما و شب دون أن تعرف عنه شيئا ، خطاب من كائن ينتمي إليك انتماءً كبيرا ، لكنك لا تعرفه ، أنا ريم ، أبنة اخيك جهاد ، هل تذكره ، ذلك الشاب الذي افترق عنكم منذ أكثر من عشرين عاما ، حمل في قلبه الكبير الوطن غصة و الأهل شوق لا ينتهي و سافر ، هل ما زلت تتذكر هذا الأخ البعيد ، هو مازال يذكرك ، طحنته الحياة و عصرته و لم تعطه من كل شيء إلا القليل ، و مازال يحمل روح المقاتل ، و مازال يناضل و يصارع غربة لم تتركه يوما و إن تضاعفت عليه •• غربة مازلنا نلمسها في ارتجافة شفتيه عندما يتذكركم ، في ارتعاشة أهدابه تخفي دموعا لاتسقط حين يقتله الحنين اليكم •• إنني ابنته يا عمي ••
عمي •• وما أجمل هذا النداء و ما أقساه حين أوجهه إلى طيف ، اسم و عنوان ، ثم لا شيء •• لذا أرسل إليك هذا الخطاب ، من أنت يا عمي ، ما شكلك ، من هم أولادك و كم عددهم ، هل ترى جدتي ، كيف حالها ، ما شكلها ، كم بلغ الآن عمرها ؟
و أما عنا فإننا ••
و مضت ريم تقص موجز أحوالهم ، كل شيء عنهم و كل شيء عن حلمها الذي سيضيع ••
و عندما انتهى الخطاب ، و أغلقته •• نظرت إليه •• و تركته على السرير و نهضت ، كان في قلبها شرخ تعاظم مع كل سطر كانت تكتبه ، غلبها الإحساس المريع بالخوف فتعالت دقات قلبها ، اعتصرت الأوجاع روحها فترجمت الدموع نص العذاب ، و خرجت متوالية سريعة غاضبة محتجة ، كانت ريم تجوب الغرفة ، كالسجين الذي لا يعرف متى يخرج ، حكم معلق عليها باللجوء منذ سنين و لا تعرف متى ينتهي ، كانت تــريد توجـــيه الـــلوم و صب الغضبة على أي شيء ، أي شيء يكون السبب فيما تشعر به ، أي شيء يمكنها أن تمزقه إربا لتنتقم ، لتريح روحها المعذبة ، أي شيء ••
جرس الباب الذي كان يدق متواصلا نبهها من حالتها ، و قبل أن تتمكن من مسح دموعها و تهدئة نفسها وصلتها أصوات تبينت فيها صوت أمها و صوت قاسم و صوت سعيد ••
حاولت ما وسعها أن تكفكف الدموع و تزيل آثار الحزن و تعيد إلى وجهها الابتسامة التي كانت قبل أن تدخل غرفتها و تكتب خطابها ، خرجت من غرفتها و توجهت فورا إلى المطبخ ، شربت ماءا باردا ، و توجهت إلى الصالون حيث جلس سعيد مع أمها و أخيها ، كانت تبدو على ملامحهم جميعا أن الخبر قد انتهى لدى سعيد ، نظر إليها بمجرد دخولها الحجرة ، و كان أول من لمح بعين خياله أنهار الدموع التي انسكبت قبل قليل ، قرأها من عينيها ، عرف وجع قلبها و تمنى لو يحتضنها مواسيا ، قال :
– أقترح أن تذهبي غدا إلى الجامعة لتألفي الجو ريثما نتدبر الامر ••
هزت رأسها رفضا و لم تسعفها الكلمات و ظلت صامتة ••
عاد يقول برفق :
– لكن لابد أن تذهبي ، لا تفوتي الفرصة ، و المشكلة سنجد لها الحل ••
نظرت إليه و بدون أن تهز رأسها نقلت إليه الرسالة ، نقلت إليه السؤال ، نقلت إليه الوجيعة ••
أطرق ببصره أرضا و قال :
– كنت أعرف أن هناك مصاريفا ، لكنني لم أسأل عن مقدارها ، أنا المذنب ••
قالت الأم :
– لا ذنب لك يا أستاذ سعيد ، إنها إرادة الله
و قال قاسم حانقا :
– و لماذا نفقد الحلم في كل مرة نشعر أننا أمسكنا به ، لماذا نعيش الخوف كلما أحسسنا أننا في طريقنا للأمان ، لماذا يسرقون الفرحة كلما ارتسمت ابتسامة على وجوهنا ، لماذا نحن بالذات ••
رفعت إليه ريم عيونها و قد عادت رغما عنها تمتليء بالدموع و قالت بصوت خرج مهزوما محشرجا :
– لاننا لاجئين يا أخي ••
ران صمت على الجالسين قطعته ريم و قد بدأت دموعها تزحف سراعا مجددا قائلة :
– لأننا لاجئين يا قاسم فليس من حقنا أن نتعلم ، ليس من حقنا أن نحلم ، ليس من حقنا أن ننتمي ، ليس من حقنا أن نعيش ••
هزت رأسها ألما و قامت فأمسكت بكتف أخيها و صاحت :
– لا تضعف هكذا ، لا تجعل اليأس يجز أملك و ثقتك بالله ، لابد لهذا الحال أن يتغير ، أنا واثقة إنه سيتغير ••
و بهدوء قالت :
– سيتغير يا أخي سيتغير ••
جلس قاسم مهزوما على الأريكة بجوار سعيد و قال :
– طيلة الوقت كنت أفكر إن كان حقا سيتغير ، إن كانت المعجزة يمكن أن تتحقق ، و عدت فسألت نفسي ، لماذا أذاكر ، لماذا أنجح في كل عام ، لماذا يحرص أبي على رؤية الدرجات النهائية في شهادتي ، بماذا سيفيد كل هذا إذا كنا في النهاية نسير نحو قدر محتوم ، نحو ظلم مفروض ، نحو واقع لا يقبل التغيير ••
نظر إلى سعيد و كانت عيونه مليئة بالدموع و قال :
– نحن فلسطنيون يا أستاذ سعيد ، و هذا واقع لن يتغير ، و لن يكون يوما في مصلحتنا ، سيظل طوال الوقت العقبة الكؤد في طريقنا ، لن يغيره أن اقسم لهم أننا لم نر بلادنا ، لم نتكلم لغتها يوما ، لم نمش على أرضها أو نستحم في بحرها ••
و قالت ريم و كأنها تكمل حديث أخيها و لكن بهدوء :
– و لن يغيره أننا نعيش الشوق دوما ، و يغلبنا الحنين قهرا ، و تعصرنا الغربة عصرا ، لن يغير هذا الواقع أن يرى الآخرون جرحا بطول العمر فينا انطبع في ملامحنا و وسم قلوبنا ••
و قال سعيد منبها :
– و لن يغير هذا الواقع احتجاج ، أو صراخ ، لن تغيره دموع أو صياح ، تغييره فيكم ، بكم ، منكم و إليكم ، كفى يأسا يا ريم ، وأنت يا قاسم ، لم كل هذا القنوط ، لم تنهدم عمارة الكون ، و لابد من مخرج ، و كما عرفت ما كنتم تجهلونه عن تعليم الفلسطنيين سأعرف مالا تعرفونه عن الحلول التي اتبعها غيركم فلابد أنكم لستم الوحيدين في مصر الذين تواجهون هذا الأمر ، و ربما نجد حلا ••
–
كانت لهذه الكلمات وقع السحر في نفوس الجالسين •• ابتسمت الأم و قالت :
– ربنا يخليك يا أستاذ سعيد يا رب
و نظرت ريم إلى قاسم ، و نظر هو إليها ، مسحت دموعها ، فمسح دموعه و ابتسم كلاهما و نظرت ريم إلى سعيد ، نظرة الامتنان التي يعشقها ، نظرة الامتنان التي لا تملك أن تهديه سواها فقام نشيطا ، سعيدا و قال بحماس :
– من الغد سأسأل و أعرف وأوافيكم بالأخبار كلها ••
أومأت ريم برأسها موافقة ، و نهضت الأم قائلة :
– لا يمكن أن تخرج قبل أن تشرب شايا ، انتظر سأصنعه لك ••
و نهضت ريم و قالت :
– انتظري يا أمي أنا سأصنعه ••
و قال سعيد :
– لا •• شكرا ، لا أريد شايا ، أريد لوسمحت •• ابتسامة ••
و ابتسمت ريم ••