رواية لاجئة حلقة 17 من 18
عندما وصلوا إلى الحدود ، كانت خيام اللاجئين تبدو على البعد كشريط أسود كبير ، خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة بإتجاه ذلك الشريط ، لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء الحافلة قد أنهوها ، كانت عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر ملامحه كلما اقتربت الحافلة منه أكثر ، فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و كانوا يركضون بإتجاههم ، وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من المخيم ، اضطر السائق إلى كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من الرمال ، أختفت الرؤية تقريبا خلالها ، و لما انقشعت الرمال الطائرة ، كان عدد من الرجال يحاولون فتح الباب ، فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين من النوافذ :
– هل أحضرتم الدواء ، هل معكم أطباء ؟
لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم مع صخبهم ، على أن قلبها استشعر خطرا ، نهضت بسرعة و اتجهت إلى الباب ، كان المشرف على الرحلة مضطربا ، حذرها من التقدم نحو الباب و قال بارتباك شديد :
– يبدو أننـا أغفلــنا الجانب الأمني •• هؤلاء الرجال بهم مس من الجنون و قد يعتدون علينا ••
نظرت ريم من النافذة مجددا فلاحظـــت أن أعدادهم تضاعفت ، لم يكن يبدو عليهم جنونا و لكنه كان الغضب ، لاحظت إعياءً واضحا على الملامح فرق قلبها ، قالت للمشرف أنها تريد النزول الآن فقال لها بعصبية شديدة أنه لا يستطيع ، لأنه لن يتحمل مسئولية هلاكها على أيدي هؤلاء المجانين ••
نظرت من النافذة و راعها أن بعض الرجال صاروا يخمشون الباب بأظافرهم ، و سقط أحدهم أمام الباب و هو يصيح بصوت واهن :
– افتحوا •• افتحوا ••
صرخت ريم في المشرف و قالت له :
– افتح الباب الآن ••
كان المصـــورون قد بدأوا في إلتقاط الصور من نافذة الباص ، و اندفع سعيد إلى ريم قائلا :
– ريم إهدئي •• لابد من تبين الوضع أولا قبل المخاطرة بفتح الباب ••
لكن ريم التي كانت ترى في اندفاع الرجال حول الباص مأزقا و استجداء ، لم تستطع التحمل ، انقضت على السائق و صارت تدق ظهره و هي تصيح :
– افتح الباب ، افتح الباب ••
تحملها السائق و هو ينظر للمشرف في انتظار أوامره فتركته ريم و نظرت للمشرف برجاء و قالت و عيونها مغرورقة بالدموع :
– أتوسل إليك أن تفتح الباب ، سأنزل وحدي ، أنزلوني ثم أغلقوه فورا ، إن شئت كتبت لك إقرارا ، هؤلاء يشهدون علي ••
صاحت و هي تواجه الجميع :
– ألا فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ، و أن المشرف براء مما قد يحدث لي إذا نزلت ••
عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء :
– أرجوك ، افتح الباب ••
أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ، امتثلت ريم بسرعة ، فتخطى سعيد الأجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول :
– سأنزل معك ••
كان يضع يده على كتفها ، فأمسكت بها ريم امتنانا ، و تأهبت للقفز من الباص بمجرد فتح الباب ، و كان لها ما أرادت ••
في لحظــة كانت هي و سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر :
– هل معكم طبيب ؟ هل أنتما طبيبين ؟ هل أحضرتم الدواء ؟
وقفت ريم واجمة و هي ترى تكالبهم عليهما ، تراجعت خطوة حتى لامس ظهرها جسم الحافلة ، ووقف سعيد أمامها يحميها ، صاح بصوت جهوري :
– اهدأوا من فضلكم ، أرجوكم اهدأوا •• نريد فقط أن نعرف ماذا هناك ؟
صاح أحد الرجال و كان مثل الجميع يحمل وجها مغبرا ، مرهقا ، لا تخطيء العين الإعياء فيه ، قائلا :
– مازلتم تريدون أن تعرفوا ؟! إذن لا فائدة ••
أسقط ذراعيه و قال للرجال معه :
– لا فائدة يا جماعة •• يبدو أنهم صحافة ••
تعالت صيحات الإستنكار ، و سمعت ريم بكل وضوح عبارات سخط و لعن و بدأ الرجال ينصرفون و هم يشيحون بأيديهم :
– هيا انصرفوا لا نريد صحافة ••
من إحدى الخيام جاءت إمرأة متشحة بالسواد تركض و هي تصيح و تلطم وجهها :
– أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ، مات الولد ••
ركض أحد الرجال بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ، نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ، هرولت ريم و لم تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء الفريق يتبعوهم ، كانت ريم و سعيد أول الواصلين ، و في إحدى الخيام ، كان هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة ، و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ، كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة فراشه الأرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة :
– لا يا محمد ، لا تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي ••
أخذت دموع ريم تسقط بلا هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ، و كان أعضاء الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها تأكل الحروف :
– مات •• مات ••
أحاطها سعيد بذراعه ، فالتفت الأب إليهم و صاح :
– ماذا تريدون •• هيا صوروا ابني ، و بثوا صورته عبر شاشات التلفاز •• قولوا لهم عن الشهامة العربية ، و الرجولة العربية ، و الموقف العربي النبيل •• هيا صوروه ، أليس هذا ما جئتم من أجله ، هيا صوروا و اركضوا إلى سيارتكم و عودوا بالغنيمة ••
و لم يقو الرجل على إكمال الكلام فبدأ يضرب الأرض بيده و يقبض على التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي ••
تقدم مشرف الفريق خطوات و هو يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل المكلوم و قال بصوت حازم :
– هل هذا المرض منتشر هنا ؟
تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون أن العدوى تنتــشر بين الجميع بسرعة كبيرة ، و أن هذا الشهيد هو الخامس في غضون أسبوع ••
صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من الواقفين :
– جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ، نريد أطباء و أدوية ، وعدونا خيرا و لم يعودوا ••
و قال الأب المكلوم :
– توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات ••
بسرعة جمع المشرف أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و إحضار عدة أطباء بعد شرح الأعراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الأدوية التي يمكن أن تفيد ، شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الأطباء من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ، قال لريم و هو يدفعها برفق :
– اذهبي معهم ، سأبقى هنا في انتظاركم ••
قالت ريم بحزم و عناد :
– لن أذهب ، فليذهب من يريد لكنني سأبقى ••
نظر المشرف إلى سعيد يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق :
– ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ، قد تستطيعين مالا يستطيعونه ••
رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق :
– لن أذهب ••
حسم المشرف الموقف فدعا بقية أعضاء الفريق للذهاب على أن يبقى معه مصوران و ريم و سعيد، تحرك الأعضاء الباقون بسرعة و اتجهــــوا للباص فيما ركض أحد الرجال خلفهم و هو يصيح :
– لا تنسوا بعض المطهرات •• العدوى ستقتلنا جميعا •
في دقائق كانت الحافلة تغادر تاركة خلفها زوبعة رملية و أربعة من رفاق الرحلة ، تدق قلوبهم بعنف و تملأ حلوقهم المرارة ••
التفتت ريم إلى المشرف ممتنة فربت كتفها و قال :
– علينا بالحذر ، لا تقتربوا من أي مصاب ، و اكتفوا بالإنتشار بين المبعدين لمعرفة التفاصيل ••
جاء أحد الرجال و قال وهو يبصق ترابا :
– هل سيعودون ؟
فقال المشرف و هو يبتسم :
– بأسرع مما تتوقع ••
فقال الرجل :
– ما أسمك ؟
فقال المشرف بهدوء و هو يطالع الخيمة المنكوبة للتو :
– أبو محمد ••
***
راقبت ريم بعض الرجال و هم يحفرون قبرا للشهيد الشاب ، اعتصر قلبها مشهد الأب الحزين ، كان سكان المخيم قد اختاروا بقعة تبعد عنهم بحوالي مائة متر لدفن الأموات فيها •• لاحظت ريم شواهد قبور بدائية متناثرة هـــنا و هنــاك ، كـــان عــددهم بين سبعة و عشرة قبور •• وقفت تطالع المنظر و الرياح الحارة تصفع وجهها و تجفف دموعها بمجرد أن تلامس بشرتها •• جاء سعيد إليها ، وقف بجوارها و عقد يديه خلف ظهره ، ركل بقدمه حجرا صغيرا فسمعت ريم صوته و هو يحتك بالرمال الجافة •• تطلعت إلى سعيد ، فتطلع إليها وقال غاضبا و هو يعيد النظر في الأرض :
– عار علينا و أي عار ••
لم تتكلم •• كزت على شفتيها كأنها تمضغهما •• تركته و سارت عائدة للمخيم •• كان أربعة من الرجال يحملون الجثة ملفوفة في ملاءة ملونة و يسيرون بها نحو المقبرة •• تنـــهدت و هي ترى الأم تخرج مولولة خلف الرجال فيما انتظم على بعد خطوات سكان المخيم في جنازة صامتة بدأت بطيئة ثم أسرعوا الخطو •• وضعوا الجثة أرضا و قام أحد الرجال الملتحين بتأدية صلاة الميت عليه ، ثم عادوا فحملوه و ساروا به إلى مقره الاخير •• لم تستطع ريم مرافقتهم ، فبادرت إلى الأم و أخذتها في حضنها و هي تواسيها و تحاول العودة بها و المرأة تقاوم رغبة ريم ، و تصر على حضور دفن الوحيد ••
تركتها ريم ، و سقطت على الأرض تقبض الرمال الحارة و هي تقول بغيظ و غضب :
– لماذا ؟ لماذا ؟
جاءها أحد المصورين و قال و هو يحاول رفعها :
– إنهضي يا ريم •• أمامنا عمل كثير •• إنهم يحتاجون قوتنا ليعوضوا بها ضعفهم •• لا يجدر بك الضعف في ظرف كهذا ••
تطلعت إليه ريم ، ثم نظرت أرضا و انخرطت في بكاء مرير ••
***
في المساء ••كان سكان المخيم و معهم الضيوف الرجال يصطفون جلوسا على الأرض ، و كان القمر بدرا ، توسطهم أحد الرجال و شرع في قراءة متأنية للقرآن •• كان مأتما في العراء ، لم يشاهدوا مثله من قبل •• بدا والد المتوفى أكثر هدوءا ، أحاط به الرجال يربتون يده و يسمعونه عبارات العزاء ••
و كانت ريم مع النسوة في إحدى الخيام ، و انتشر الأطفال يتصايحون خلف الخيام ••
جلست ريم بجوار الأم التي جفت دموعها و احتضنت بعض ملابس الفقيد و أخذت تتمايل مع صوت القرآن القادم من الخارج ••
كان الجو صحوا •• و نسمة باردة تلفح الوجوه ، حاولت ريم أن تحرك لسانها بكلام فلم تستطع ، تطلعت حولها تستنجد بالنسوة فقالت إحداهن :
– الموت أصبح عادة يومية هنا ••
و قالت أخرى :
– منذ يومين مات هيثم و أمه في لحظة واحدة •• كان قد أصيب بالمرض اللعين و أصرت أمه على احتضانه طيلة الوقت ، هي أرملة منذ سنين و جميع أولادها في الخارج ، كان هيثم آخر العنقود عمره ثلاثة عشر عاما •• أكاد أجزم أنهما ماتا معا •• وجدناهما جثة واحدة صباح أول أمس ••
قالت ريم و هي تبتلع رهبة غصت بها :
– كيف تعيشون هنا ؟
فقالت إمرأة :
– الله لا ينسى عباده •• تأتينا من وقت لآخر إمدادات غذائية من مصر أو من ليبيا ، كما أن بعض منظمات دولية تزورنا أيضا ••
و قالت أخرى :
– حتى أن بعض الأشخاص يأتون بسيارات محملة ببضائع تجارية و يبيعونا إياها ، يعرف الملاعين أن معنا نقودا لا فائدة منها ، يبيعون بأثمان مرتفعة جدا ••
فقالت سيدة و هي تضغط صدرها :
– لا أسمـــح لنفسي بتبديد ما أملك ، أعرف أن هذا الأمر سينتهي يوما •• قد أحتاج للنقود ••
فقالت سيدة و هي تشيح بيدها :
– قد تموتين قبل أن ينتهي الأمر •• و يأكلك الدود و يأكل نقودك ••
لم تكترث للخوف الذي تراقص في عين المرأة ، و قالت و هي تنظر للقنديل المعلق على سارية الخيمة :
– في فلسطين عندما خرجنا من قريتنا بعد مذبحة دير ياسين المشئومة ، عشنا في مخيم على الحدود مع الأردن ، قالوا لنا لن يستغرق الأمر أياما ، فلما تطاولت الأيام شهورا قالوا الفرج قبل سنة •• و سنة جرت سنة •• و لم نغادر المخيم حتى كبرت و تزوجت و جاء بي زوجي إلى ليبيا •• أول منزل حقيقي عشت فيه كان في ليبيا ••كانت له جدران لا تخترقها العيون ، و حماما منفصلا لا يجرح عورتي فيه متلصص في الظلمات ••
تنهدت و قالت :
– لكن بقاء الحال من المحال ••
كانت هناك شابة تضع نظارات طبية على عيونها و تجلس في آخر الخيمة صامتة ، لفتت نظر ريم فنهضت باتجاهها ، راقبتها الفتاة و هي تتجه نحوها ، و عندما اتخذت ريم لنفسها مكانا بجوارها ، ضمت ساقيها أكثر لتفسح لريم مكانا و خلعت نظارتها و طفقت تمسحها بطرف ثوبها ، عادت فلبستها و قالت لريم :
– ما اسم جريدتكم ؟
فقالت ريم و هي تبتسم بود :
– إنها مجلة •• مجلة صباح الخير ••
فابتسمت الفتاة و قالت :
– أعرفها ، كنت أقرأ بعض أعدادها التي تصل إلى ليبيا •• ما اسمك أنت ؟
فقالت ريم و هي تسند ظهرها برفق على قماش الخيمة :
– ريم •• ريم جهاد القاسم ••
قالت الفتاة بدهشة :
– اسمك ليس مصريا
فقالت ريم على الفور :
– أنا فلسطينية •• من غزة •• أقصد أبي من غزة ، أنا لم أر فلسطين أبدا ••
تنهدت الفتاة و قالت :
– لاجئة إذن ؟
أومأت ريم برأسها إيجابا ، فتنهدت الفتاة و ألقت برأسها للخلف و قالت :
– كلنا في الهم سواء ••
و سألتها ريم عن اسمها فقالت :
– أنا وردة صبحي •• طالبة في السنة الثالثة بكلية الآداب ••
تنهدت و أردفت
– كنت طالبة ••