رواية لاجئة حلقة 16 من 18
في المساء عندما جاء سعيد لتفقد أحوال الأســرة كعادته تعمدت الأم الخروج لإعداد الشاي و هي موقنة أن حديثا هاما لابد أن تنتهي منه ريم مع سعيد ، بادرته ريم :
– كنت سمعت أن عرضا مغريا لشراء لوحة لاجئة قد جاءك فهل بعت ؟
أطرق سعيد ، داخله غضب من هذا السؤال شعر أنه يريد أن يصرخ ، أن ينهض ليهز فيها الاعماق ، ليحرك بحرها الراكد ، ليقتلع بردوها ، تجاهلها ، هدوءها قال و هو يكز على شفته السفلى :
– ستة أعوام يا ريم ، ستة أعوام و مازلت تسألين ببرود قاتل ، ألم تعرفي بعد ، هل فشلت إلى هذا الحد في إيصال مشاعري إليك ؟
فركت ريم يدها و تنهدت و هي تقول :
– لم تصدقني يا سعيد عندما أخبرتك أنني تغيرت •• أعتبرتها من قبيل الحجج الواهية ، لكنني فعلا تغيرت ••
تجربتي مع سهيل لم تكن سهلة ، كانت خليطا مريعا من الأحاسيس •• منذ طلاقي لم أتحدث مع مخلــــوق بهذا الشأن ، لكنني أجد نفسي مــدفوعة للحديث إليك •• لأنك أنت ، و أنت تحديدا من أنقذني منه ••
أجابت على سؤال عينيه بابتسامة حزينة و قالت كأنها تحدث نفسها :
– في ذلك اليوم حلمت بك ، كنت تصيح بي أهــــربي يا ريم ، هيا أهربي •• لم يكــن حلما يا سعيد كان رسالة خلاص ، كان عملية إنقاذ أنت قائدها •• رغم دموع سهيل النادمة يومها كان صوتك أقوى ، كنت أسمعه يطغى على كل واقعي ، يبـــسط نفسه على إرادتي ، و في ذلك اليوم تحديدا ، وصلت مع سهيل إلى مرحلة انكسار لن تتخيلها مهما حاولت ، قدمت له بيدي السكين ليقتلني •• كنت جادة جدا فيما أفعل ، في لحظة هانت الدنيا ، هانت الحياة ، فرغت تماما ، صارت عدم ، في لحظة رفض كل سنتيمتر في جسدي البقاء في الدنيا •• كانت كرامتي مذبوحة ، كنت ضعيفة ، كنت منكسرة ، كنت وحيدة •• شعرت أنني مت فعلا و لم يبق سوى خروج الــــروح ، فجأة شعـــرت أنني ضئيلة ، ضـئيلة جدا ، و لا أستحق الحياة ، القيت إليه بالسكين و رجوته أن يقتلني ••
لحظة إنكسار مــــريعة ، يصعب وصفـــــها ، لـــكنها وسمتني إلى الأبد •• أحرقت بيادري ، و حجمت مشاعري ، جعلت قلبي مجــــرد مضخة دم يؤدي وظيـــــفة ثانوية تمنحني حياة لا أريدها ••
منذ ذلك اليــوم و أنا أسخر حتى الـــــذوبان من أي عبارة حب ، من أية أغنية حب ، من أي قصة حب •• يقين داخلي جعل من هذه الكلمة شيئا مقرفا يشبه مضغة من لحمي يلوكها سهيل ثم يقذفها أرضا و يدوسها بقدمه ••
الحياة كلها كانت تؤكد هذا اليقين يوما بعد يوم ، كل موقف مررنا به ، كل يوم عشنا فيه المرارة و الذل ••كل التفاصيل ، و كل العذابات ، كانوا يمنحونني مباركتهم على يقيني •• أنت الشيء الوحيد الغريب في منظومة الكون حولي ، أنت الوحيد الذي مازال يؤمن بأن مضخة الدم في جوفه قادرة على ضخ الحب ، و لسوء حظك فإنني أنا بالذات المعنية بهذا الحب ••
صدقني يا سعيد أنا لا أستحقه •• لا أفهمه ، لا أشعر به •• لا أريده ••
كانت عينا سعيد قد امتلئت حتى فاضت بدموع صامتة ، قال و هو يضرب كفا مكورا في كف :
– المجرم ••
فقالت و هي تجلس بجواره :
– ستــــندهش إذا عرفت أنني رغم كــــل شيء سامحــــته ، لم أعــد أشعر بكراهية تجاهه ، لا كراهية ، و لا حب •• ربما لأن قلبي لم يعـــد يحمل مشاعر •• لم يعــــد قـــادرا على حب ، أو على كراهية ••
أمسك سعيد يدها ، كانت يده باردة ، مبتلة عرقا ، قال و هو يضغط عليها :
– أنت خائفة يا حبيبتي •• مذعورة •• قلبك صنع غلافا من قسوة ليحمي به نفسه ، لكنني متأكد أن خلف هذا الغلاف القاسي قلبا حساسا مازال قادرا على الحب و العطاء ، قادرا على مهادنة الدنيا ، على الغفران ، أنت عظيمة يا ريم •• لم يكن ما حدث معك في تلك الليلة انكسارا كما تقولين ، كان انتصار ، انتصرت بنفسك على منطق الغاب الذي فرض نفسه علىكما آنذاك •• رفض الإنسان داخلك لغة الحيوانات و قررت الأنسحاب •• أنسحابك كان انتصارا لإنسانيتك يا حبيبتي •• لابد أن تفهمي هذا •• لابد أن تؤمني بأنك كنت الأقوى ، رغم ضعفك ، و هول الموقف لكنك كنت الأقوى •• لا تجعلي من هذه الحادثة وهما تعيشين فيه •• لا تجلدي ذاتك ، فقد كنت الأقوى •• الأقوى يا حبيبتي ••
كانت دموع ريم تسقط حثيثا •• كانت تشعر بعظمة هذا القلب المحب أمامها ، كانت تتمنى لو تستطيع مجاراته ، كانت تتمني لو يستــــطيع قلبها المتعب أن يتخــــلص من رفـضه و عناده فيمنح هذا الإنسان المحب حقا عليه ، و يكتب معه معاهدة وفاق •• كاد لسانها أن يتمرد عليها فيعلن الموافقة صريحة قوية ، لكن قبلة ساخنة طبعها سعيد على جبينها أودع فيها كل تعاطفه و حبه في لحظة لم تنتبه لها ريم أفاقتها •• نزعت يدها بسرعة ، مسحت دموعها ، كان جبينها ملتهب ، شعرت أن قبلته أحرقتها ، و أدركت أنها أبدا لن تستطيع منحه ما يريد ••
هزت رأسها و قالت بسرعة و هي تغادر الغرفة :
– لا فائدة يا سعيد •• لا فائدة ••لن أستطيع •• لن أستطيع
أطرق سعيد ، لمح دمعته و هي تسقط أرضا مس شفتيه بأصابعه و قال بصوت أودع فيه كل أحاسيسه :
– أحبك يا ريم •• أحبك أيتها المعذبة الصغيرة ••
***
سافر قاسم •• ذهبت معه كل العائلة تودعه ، كان يقبض طيلة الطريق على أوراقه ، يحتضن حقيبته الصغيرة ، يلوذ ببرودتهم من مشاعر قوية كانت تراوده عن التراجع ، كان يتشبث بهما كأنه يتشبث بالحياة ، كان يجلس بجوار أمه ، كانت تحتضنه ، قلبها كان يقول كل شيء لكن شفتيها كانت صامتة ، دقات قلبها التي كانت قوية في أذنيه كانت تقرأ عليه تفاصيل الرسالة ، كان يسمعها تردد آيات القرآن لتحفظه ، و تتلو عليه أدعية كثيرة ، و تخلط حديثها الصامت برجاء لا حروف له ليبقى معها ، كانت سطور رسالتها تتلاحق فتختلط حروفها و تتشتت افكارها ، كان يشعر بيدها تمسد رأسه تارة ، و تحتوي كتفيه تارة أخرى ، كان يشعر بأنفاسها الملتهبة تهب عليه فتحرق بشرته ، لم يجرؤ على رفع نظره إليها ، كان يدرك كم هو ضعيف إزاء عيونها الدامعة ، قالت ريم لتقطع الصمت :
– أين ستقيم يا قاسم ؟
قال و هو يحاول اكساب صوته قوة ليبث الأمن في قلب أمه :
– زودتني السفارة بأسماء و عناوين بعض الفنادق الصغيرة ذات الأسعار المعتدلة ، كما أنهم زودوني بجهات مختلفة يمكن أن أطلب فيها عملا ، أعتقد أن الأمر سيكون بسيطا ••
قالت ريم بصوت حاولت بدورها إكسابه القوة اللازمة :
– أعرف أنك لا تحب كتابة الرسائل ، لكن يجب أن تراسلنا ، تعرف كم سنتلهف على أخبارك ••
قال و هو يتحدث بقلب واجف :
– سأكتب إليكم كل يوم ، لن تشعروا أبدا بغربتي عنكم ، صدقيني ••
نظر لأمه و قد أوشكت السيارة على وصول المطار ، قال بحنان و رجاء :
– صدقيني يا أمي ، صدقيني سأكتب لك كل يوم ، صدقيني سأكون بخير ••
أحكمت الأم لف ذراعها حوله ، ربتت عليه و لم تتكلم ، كانت تدرك أن أية كلمة تقولها لن يكون لها إلا معنى واحد ا، أن تنفجر في بكاء لن يحتمله قلب الحبيب المسافر ••
وصلوا المطار •• كانت الصالة باردة ، استشعروا برودتها في أعماقهم ، أجلسهم قاسم في أحد الأركان و ذهب لإنهاء إجراءاته ••احتضنت ريم أمها و قالت :
– سيعود يا أمي ، سيعود يا صابرة ••
فجأة بكت الأم ، لم تقو على تحمل المزيد ، كانت ستنفجر ، داخلها كان يهدر ، كانت تريد أن تعبر عن حزنها ، قالت و هي تدفع ريم برفق :
– أنظري هل يرانا ؟
تطلعت ريم إليه ، كان بعيدا منشغلا ، قالت :
– لا يا أم قاسم ، لا يرانا ••
قالت الأم و هي تلتقط دموعها في منديلها ، و تحاول إيقافها بلا جدوى :
– ينبغي ألا يراني أبكي ، سيعذبه هذا كثيرا •• يجب أن أسكت ، يجب أن أسكت ••
كانت تردد الكلمة الأخيرة و هي تبكي ، تكتم شهقاتها ، تجبر نفسها على السكوت فلا تطاوعها عيونها ، و عندما بدا قاسم قادما باتجاههم ، مسحت دموعها بسرعة ، ابتلعت غصتها ، و حاولت رسم ابتسامة ، كان قاسم بدوره يبتسم قال و هو يطالع عيونها الحمراء :
– انتهت الإجراءات ، علي الدخول لصالة التفتيش ، جئت لوداعكم ••
رفعت الأم رأسها نحوه ، لم تجد في نفسها القوة على القيام ، مدت يدها تجاهه فمال عليها احتضنته ، ثم تشبثت به ، فاضطر إلى الركوع أمامها ، كان يحس قوة ذراعيها حوله ، كانت تريد زرعه في قلبها ، كانت تتمنى لو أن حضنها يرغمه على الدخول مجددا إلى أحشائها التي حملته يوما ، كانت تربت ربتات قوية على ظهره ، كانت تقول :
– سأفتقدك يا حبيبي ، سأفتقدك يا قاسم ، سأفتقدك يا غالي ••
بكى قاسم ، لم يستطع مقاومة دموعه ، قال و هو يحكم ذراعيه حولها و يحاول التلطف بها حتى لا يؤذيها :
– لن أجعلك تشعرين بغربتي ، ساراسلك دوما ، سوف تنزعجين من رسائلي المتواصلة إليك ، لقد قدمت على هاتف ، لعله يأتي خلال فترة قصيرة فأكلمك كل يوم ••
أخذ يقبل يديها قبلات كثيرة و يقول :
– لا تنسيني بدعائك يا أمي ، لا تغضبي علي يا أمي ، أنا أحبك يا أمي ، أحبك ، أقسم بالله أنك أغلى عندي من نفسي ••
و أمه في كل هذا ترد مؤكدة أنها لن تنساه ، ستدعو له دوما ، راضية عنه حتى تموت ،
صوت ميعاد الرحلة قطع حديث العاطفة بينهما ، فنهض ، سلم على ريم قال لها و هو يقبلها :
– ستدركين يا ريم أنني كنت محقا عندما تصلك أخباري ، لا تحملي علي في قلبك الشفاف غضبا ، فأنا لست أنانيا ، أو عاقا ، و إنما أبحث عن غدي ، فلا تلوميني يا أختي ••
ربتت ريم على يده و قالت و هي تبتسم و تشرق بدموعها :
– لست غاضبة ، و أسأل الله أن يوفقك فيما أنت ذاهب إليه في غير معصية أو ذنب ••
قبل سمر و احتضنها ، وعدها بالكثير من الهدايا فقالت الأم :
– ضع الله نصب عينيك ياقاسم ، إياك و ترك الصلاة ، إياك و الإستجابة لشياطين الإنس حولك ، بلد غريب و طباع غريبة لا تجعل قلبي يأكلني عليك ••
عاد يقبلها و هو يطمئنها على ما أوصت ، نداء آخر جعله ينزع نفسه منهن نزعا ، تركهن و سار بظهره و هو يشير إليهن ، كن يسرن أمامه ، يلوحن له ، يمسحن دموعهن ، فجأة ظهر سعيد ، كان يركض ، اتجه بسرعة نحوه ، قبله و احتضنه قال :
- كيف تصورت أنك ستسافر دون أن أودعك يا قاسم ••؟
قال قاسم و هو يضرب كتفه :
– كنت أعلم أنك الأكبر و الأعظم يا سعيد ، دوما كنت الأكبر و الأعظم ، إنهم يحتاجونك ، لا تجعل موقف ريم يمنعك عنهم ، إنها أكثر الناس حاجة إليك رغم عنادها ••
تطلع إليهم سعيد و قال مبتسما :
– و هل تعتقد أني سأتركهم ؟
النداء الأخير ، و اختفى قاسم •• قال سعيد و هو ينضم إليهن :
– هيا بنا •• لا فائدة من الإنتظار ••
و استجاب الجميع ، دوما كان له عليهم كلمة مسموعة ، منحوها له منذ أوصاه الأب بهم عندما سافر قبل سنوات كثيرة •• تطلعت ريم إليه و استجابت باسمة للسير خلفه باتجاه سيارته خارج المطار ••
***
بدورها بعد أيام قليلة سافرت ريم ••كانت متحمسة جدا لهذه الرحلة ، جهزت أدواتها بعناية ، و قالت و هي تجهز حقيبتها الصغيرة :
– لا أعرف كم يوما سنبقى هناك ، ربما يومين أو ثلاثة ، لا أعرف ، يفضل أن آخذ معي بعض الأغراض البسيطة ••
قالت لها الأم و هي تبتسم بهدوء :
– تشتعلين حماسا يا ريم
فقالت و هي تهز رأسها :
– بالطبع يا أمي ، إنني أخيرا سألمس عن قرب معاناة شعبي الحقيقية ، هذا سيمنح رؤيتي بعدا أكبر ، و يعطي أدواتي الفنية زخما أكبر ، ليتهم ينظمون رحلة إلى فلسطين نفسها لأراها و أعرفها أكثر ••
ثم انسحبت ابتسامتها الهادئة عن وجوم قائلة :
– رغم أن لاشيء لي هناك ••
فقالت الأم و هي تبتسم :
– لماذا ؟ لك بيت هناك ، بيت أبيك في غزة
فقالت ريم و هي تبتسم بمرارة :
– أخبرني تامر أن اليهود استولوا عليه ، و بعد وفاة جدتي يرحمها الله ، غادر عمي بدر إلى القطاع حيث تعيش زوجته الأخيرة •• قال إنه عجز عن اثبات حقه في البيت رغم أنه عاش فيه عمره كله •• أية مهزلة ؟
قالت الأم و هي تدق جبينها بيدها :
– تذكرت •• لقد تذكرت يا ريم ••
فقالت ريم بدهشة :
– ماذا تذكرت يا أمي ؟
قالت الأم و هي تتجه إلى غرفتها بسرعة :
– اتبعيني ••
تبعتها ريم و راقبتها و هي تفتح خزانتها ، و تخرج حقيبة قديمة كانت قد فتحتها يوما لتخرج منها قائمة بأسماء و عناوين الأقرباء ، اشتعل فضول ريم لما يمكن أن يخرج هذه المرة من الحقيبة القديمة ، جلست الأم على السرير ، فتحت الحقيبة ، فتخيلت ريم لفرط فضولها أن نورا سيسطع بعد قليل من الأوراق القديمة أمامها •• قصاصات جرائد تحمل أخبارا و صورا عن فلسطين و المقاومة الداخلية ، و هزيمة 76 و غير ذلك من أحداث ، أمسكت ريم الحقيبة ، وضعتها على حجرها فتحت الصحف برفق و تصفحتها بحرص ، وجدت في إحداها صورة على ركن منها دائرة بالقلم الأحمر ، تحت الصورة كتبت عبــارة " قطاع غزه يلتهب " قالت الأم بحماس و هي تخرج الملف الأصفر القديم :
– انظري ، هذه حجة البيت •• هذه حجة البيت
قالت ريم و هي تلقف منها الملف :
– أي بيت ؟
قالت الأم :
– أخبرني أبوك يرحمه الله ، أنه اصطحب معه حين غادر غزة هذه الحجة سهوا بعد أن أعطاها له والده ليلة سفره و أوصاه بالمحافظة عليها ، قال إنه كان عليه تركها للباقين منهم هناك ، لكنه نسي ، هذه الدائرة فوق الصورة هي للبيت ، كان مصورا صحفيا قد التقطها لقطاع غزة عام 76 ، قال لي والدك و هو يحتفظ بالقصاصة ، إن هذا هو بيتهم ••
أخرجت ريم حجة البيت بأصابع مرتجفة و قرأت فيها عبارات قديمة لكنها واضحة عن ملكية البيت لأسرة القاسم ، الحجة تعين تماما موقع البيت و مساحته ، شعرت ريم أنها تمسك كنزا ، دق قلبها بشدة و هي تعيد الوثيقة إلى مكانها و تعاود النظر في الصورة غير الواضحة للبيت القديم ، كانت النخلة الطويلة التي تحدث عنها أبوها تبدو في الصورة كمئذنة عملاقة نبت في أعلاها سعف •• قالت ريم و هي تحتضن الأوراق :
– رحمة الله عليك يا أبي ••
التفتت إلى أمها و قالت بحماس باك :
– إن هذه الوثيقة كنز يا أمي ، كنز ••
فقالت الأم و هي تتنهد :
– أوصاني أبوكم أن أعطيها لكم حين يموت ، كان هذا قبيل سفره ، لم أتذكر إلا اليوم •• لكن ماالجدوى منها ؟
قالت ريم و هي تحتضن الأوراق :
– يكفي أنها من رائحة أبي ، يكفي أنها قطعة من روحه •• هل يمكن أن أحتفظ بها ؟
فقالت الأم و هي تنهض متثاقلة :
– خذيها إن كان فيها بعض العزاء لك ••
وضعت ريم الأوراق بحرص في الحقيبة و أغلقتها برفق ثم اتجهت بها إلى غرفتها وضعتها في خزانتها الخاصة و أغلقت عليها ثم عادت تلملم أغراضها بذهن شارد ••
***
طيلة الرحلة إلى الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ، حاول بعض الزملاء الحديث معها فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ، تفهموا سبب الشرود ، فلم يلحوا عليها ، كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ، تذكرت يوم وقفت على الحدود في رفح أمام الأسلاك الشائكة ، تنهدت ، لقد كان يوما عصيبا •• انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ، نظرت من الشباك ، كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ، أشارت له فعاود تحيتها بالنفير ، سألوها عنه فأجابت باسمة :
– ولي أمري ••
أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول للحدود بهذه السيارة الصغيرة ، اتفقوا معــه على أن يضــــع سيــــارته في أقـــرب استراحة و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت مرافقته حتي يركب معهم ••
نظر إليها راجيا أن توافق ، هزت رأسها ، و غادرت الحافلة ، تركت أغراضها فيها و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا بها في الطريق فقال نفرا في الحافلة :" هذا رجل محب "
تنهدت ريم و هي تستقر بجوار سعيد و قالت :
– مجنون !!
قال و هو يطلق ضحكة حبور صافية :
– أحبك ••!!
تحدثا كثيرا ، طرقا كل المواضيع ، إلا موضوع القلب ، حذرته ريم منذ البداية ألا يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على الأقل !! ــ و بسرعة طوت الأرض نفسها عن الاستراحة ، ركن سيارته و ركبا الحافلة معا ، انعكس مرحه على جميع من فيها ، ربطتهم بسرعة مودة الطريق ، مودة قادرة على كسر كل الحواجز حتي بين الأغراب ، كان يترك كرسيه بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم يجلس بينهم ، يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم ، يستمتع بما يقول ، لا يضع لنفسه حدودا ، كان حديثه حلوا ، كانوا يستمعون إليه ، يطرقون هدوءا حتى يسمعون صوته المنخفض ، ريم كانت تنظر إليه أحيانا ، و تبتسم عندما ترى انسجامه مع المجموعة ، تهز رأسها و تعود لكتاب في يدها تقطع به المسافة ، يعود إليها يجلس بجوارها يهمس :
– " وحشتيني "
تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ، فيضع يده بسرعة على شفتيه و يقول :
– آسف !!
***
عندما وصلوا إلى الحدود ، كانت خيام اللاجئين تبدو على البعد كشريط أسود كبير ، خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة بإتجاه ذلك الشريط ، لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء الحافلة قد أنهوها ، كانت عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر ملامحه كلما اقتربت الحافلة منه أكثر ، فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و كانوا يركضون بإتجاههم ، وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من المخيم ، اضطر السائق إلى كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من الرمال ، أختفت الرؤية تقريبا خلالها ، و لما انقشعت الرمال الطائرة ، كان عدد من الرجال يحاولون فتح الباب ، فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين من النوافذ :
– هل أحضرتم الدواء ، هل معكم أطباء ؟
لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم مع صخبهم ، على أن قلبها استشعر خطرا ، نهضت بسرعة و اتجهت إلى الباب ، كان المشرف على الرحلة مضطربا ، حذرها من التقدم نحو الباب و قال بارتباك شديد :
– يبدو أننـا أغفلــنا الجانب الأمني •• هؤلاء الرجال بهم مس من الجنون و قد يعتدون علينا ••
نظرت ريم من النافذة مجددا فلاحظـــت أن أعدادهم تضاعفت ، لم يكن يبدو عليهم جنونا و لكنه كان الغضب ، لاحظت إعياءً واضحا على الملامح فرق قلبها ، قالت للمشرف أنها تريد النزول الآن فقال لها بعصبية شديدة أنه لا يستطيع ، لأنه لن يتحمل مسئولية هلاكها على أيدي هؤلاء المجانين ••
نظرت من النافذة و راعها أن بعض الرجال صاروا يخمشون الباب بأظافرهم ، و سقط أحدهم أمام الباب و هو يصيح بصوت واهن :
– افتحوا •• افتحوا ••
صرخت ريم في المشرف و قالت له :
– افتح الباب الآن ••
كان المصـــورون قد بدأوا في إلتقاط الصور من نافذة الباص ، و اندفع سعيد إلى ريم قائلا :
– ريم إهدئي •• لابد من تبين الوضع أولا قبل المخاطرة بفتح الباب ••
لكن ريم التي كانت ترى في اندفاع الرجال حول الباص مأزقا و استجداء ، لم تستطع التحمل ، انقضت على السائق و صارت تدق ظهره و هي تصيح :
– افتح الباب ، افتح الباب ••
تحملها السائق و هو ينظر للمشرف في انتظار أوامره فتركته ريم و نظرت للمشرف برجاء و قالت و عيونها مغرورقة بالدموع :
– أتوسل إليك أن تفتح الباب ، سأنزل وحدي ، أنزلوني ثم أغلقوه فورا ، إن شئت كتبت لك إقرارا ، هؤلاء يشهدون علي ••
صاحت و هي تواجه الجميع :
– ألا فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ، و أن المشرف براء مما قد يحدث لي إذا نزلت ••
عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء :
– أرجوك ، افتح الباب ••
أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ، امتثلت ريم بسرعة ، فتخطى سعيد الأجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول :
– سأنزل معك ••
كان يضع يده على كتفها ، فأمسكت بها ريم امتنانا ، و تأهبت للقفز من الباص بمجرد فتح الباب ، و كان لها ما أرادت ••
في لحظــة كانت هي و سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر :
– هل معكم طبيب ؟ هل أنتما طبيبين ؟ هل أحضرتم الدواء ؟
وقفت ريم واجمة و هي ترى تكالبهم عليهما ، تراجعت خطوة حتى لامس ظهرها جسم الحافلة ، ووقف سعيد أمامها يحميها ، صاح بصوت جهوري :
– اهدأوا من فضلكم ، أرجوكم اهدأوا •• نريد فقط أن نعرف ماذا هناك ؟
صاح أحد الرجال و كان مثل الجميع يحمل وجها مغبرا ، مرهقا ، لا تخطيء العين الإعياء فيه ، قائلا :
– مازلتم تريدون أن تعرفوا ؟! إذن لا فائدة ••
أسقط ذراعيه و قال للرجال معه :
– لا فائدة يا جماعة •• يبدو أنهم صحافة ••
تعالت صيحات الإستنكار ، و سمعت ريم بكل وضوح عبارات سخط و لعن و بدأ الرجال ينصرفون و هم يشيحون بأيديهم :
– هيا انصرفوا لا نريد صحافة ••
من إحدى الخيام جاءت إمرأة متشحة بالسواد تركض و هي تصيح و تلطم وجهها :
– أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ، مات الولد ••
ركض أحد الرجال بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ، نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ، هرولت ريم و لم تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء الفريق يتبعوهم ، كانت ريم و سعيد أول الواصلين ، و في إحدى الخيام ، كان هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة ، و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ، كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة فراشه الأرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة :
– لا يا محمد ، لا تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي ••
أخذت دموع ريم تسقط بلا هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ، و كان أعضاء الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها تأكل الحروف :
– مات •• مات ••
أحاطها سعيد بذراعه ، فالتفت الأب إليهم و صاح :
– ماذا تريدون •• هيا صوروا ابني ، و بثوا صورته عبر شاشات التلفاز •• قولوا لهم عن الشهامة العربية ، و الرجولة العربية ، و الموقف العربي النبيل •• هيا صوروه ، أليس هذا ما جئتم من أجله ، هيا صوروا و اركضوا إلى سيارتكم و عودوا بالغنيمة ••
و لم يقو الرجل على إكمال الكلام فبدأ يضرب الأرض بيده و يقبض على التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي ••
تقدم مشرف الفريق خطوات و هو يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل المكلوم و قال بصوت حازم :
– هل هذا المرض منتشر هنا ؟
تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون أن العدوى تنتــشر بين الجميع بسرعة كبيرة ، و أن هذا الشهيد هو الخامس في غضون أسبوع ••
صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من الواقفين :
– جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ، نريد أطباء و أدوية ، وعدونا خيرا و لم يعودوا ••
و قال الأب المكلوم :
– توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات ••
بسرعة جمع المشرف أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و إحضار عدة أطباء بعد شرح الأعراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الأدوية التي يمكن أن تفيد ، شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الأطباء من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ، قال لريم و هو يدفعها برفق :
– اذهبي معهم ، سأبقى هنا في انتظاركم ••
قالت ريم بحزم و عناد :
– لن أذهب ، فليذهب من يريد لكنني سأبقى ••
نظر المشرف إلى سعيد يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق :
– ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ، قد تستطيعين مالا يستطيعونه ••
رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق :
– لن أذهب ••