السباحة ضد التيار
استفاق من شروده ليفتض هدير المحرك الذي اعتقله لفترة في غيبوبة دامت أكثر من نصف الطريق، وبلطف التمس من سائق الشاحنة أن يتركه في مفترق الطرق.
كان ينوي المبيت في مدينة شفشاون فارا إليها من قرى الجوار التي يشتغل بها. أن يغادر المرء هذه الأرياف وأن يتيمم وجهة المدينة كأنما يزف كل مرة إلى عروس في حضن جبل، تجلس بفستانها الأبيض على صخر عات وقد فتحت جدائلها وبسطت جداولها تنساب نحو الوادي.
في الأسفل، هناك على ضفة الوادي، تربع على إحدى الصخور العنيدة التي لم تشأ مفارقة هذا المشهد العجيب للماء وهو ينساب رقراقا، يداعبها تارة ويلطمها تارة أخرى. جلس يرقب السمك وهو يسبح ضد التيار.
أفواج السمك تخترق الماء في كل اتجاه دونما عصا أو حتى بنزين. صوت الصراصير يزاحم خرير الماء في أذنيه. لم يتعود سماع الاثنين يعزفان على إيقاع واحد؛ فأينما عزف صرصار أغنيته، جفت الحياة. لكن، هنا بهذه المدينة الرائعة، يرتب الصرصار آلاته على جنبات الوادي كما ترتب الفتيات سيقانهن في الماء… وتتغنى موسيقى الحياة والموت معا بحكمة الوجود.
من حقيبته التي لا تبالي بشيء، لا بمحتواها، لا به، لا بالماء ولا بالسمك العابر في صمت، أخرج بعض الطعام الذي كان يحمله معه. وهو يداعب السمك بعينيه ويلوك الخبز المحشو بالسفرجل دونما اهتمام، راح يقص الفتات ويرمي به في الوادي.
كانت الأسئلة تتكدس فوق رأسه، تعصر قلبه، تخنق أنفاسه، ودون أن ينبس ببنت شفة، راح يتساءل عن سر الهدوء الذي ينعم به عالم الحيوان رغم ما يعرفه من اختلالات.
أيجوع ويبكي هو كذلك؟أيضيق صدره كما يضيق صدري؟أيغضب ويرضى؟أيحقد ويحب؟أيخطئ ويصيب؟أيمسك الله صحيفته كما يمسك صحيفتي؟أيثيبه عن حسناته ويعاقبه على سيآته؟
هز رأسه كالعصفور المبلل بالقطر وكأنه يزيح عنه شتات تلك الأسئلة التي علقت به ثم أجاب عن حيرته بأن الله خلق الكون وفقا لقوانين مسبقة. وكما أنعم على الإنسان بالعقل وكلفه بفرائض وواجبات، أنعم على الحيوان باللاعقل وأسقط عنه كل الأقلام. فهو كالصبي أو كالمجنون يتمتع بالحياة ويثشبت بها وان تألم.
ساورته حيرته ثانية. تساءل هل صارت نعمة الإنسان نقمته ومصدر شره؟ ثم غاب في شروده. تمنى حينها لو عاد صبيا، لو صار بلا عقل حتى يستطيع أن يتحرر من آلامه وأن يعيش في صلح دائم مع غيره.
كانت الشمس تسير نحو الأفول، وحين أدركه ظل الجبل الخلفي، أدرك أن عليه الذهاب إلى المدينة التي تنتظره بمائها، بأريجها، بخضرتها وألوانها. لملم أطرافه ثم صار يبحث عن سيارة تقله إلى هناك.
حقيبته تشفع له أحيانا في التنقل مع الخواص. لم يكن يرغب في استعمال النقل المزدوج. نقل رديء حيث يختلط فيه جنس الإنسان بجنس الحيوان. نقل يستغل فيه الديكة فرصة اشتمام عطر" باكورابان" الذي يعشقه، ويشتم فيه رائحة الماعز المعطرة بالأعشاب.
في الطريق سأله صاحب السيارة «أيكتب" أم " يقرأ"؟ أدرك بنباهة أنه يقصد ما إن كان يشتغل مدرسا أم …، ثم رد بتفهم أنه "يكتب" وتابعا الطريق.
الطريق ملتوي جدا ومرهق لكنه غير ممل. كان الضباب قد بدأ يلف خصر المدينة وما إن وصل حتى استقبلته السماء بمطر خفيف. تبلل كالعصفور وهو في طريقه إلى الفندق المعتاد حيت يقضي الليلة بثمن مناسب. وقبل أن يصل عاج على أحد الدكاكين ليشتري جبنا مالحا ثم انصرف.
بالقرب منه، وعلى يمينه، وفي جوف قلبه كانت تمتد حبيبته. أكلت حين أكل، ودخلت الغرفة حين دخل ثم امتدت بجانبه حين آوى إلى النوم.
هي قالت :سأرتديك تحت جلدي.قال :من يدفئك غيري؟سأغزل من شعري ثوبا،وأترك جسمي عاريا.
مخيلته تزدحم بصور وشرائط لا تكاد تفارقه. تنهد عميقا ثم أغمض عينيه. تراوده الآن ذكريات رحيله، حين رتب حقيبته ذات صباح، وبعد أن تناول الفطور مع أمه وأبيه نهضوا جميعا وخرجوا من البيت. تحت الشجرة الشامخة، وقف الجميع. قبل أمه الوداع. كانت تتجنب الكلام كي لا تنكشف بحة الحزن في صوتها، لامسته بدفء ومسحت على رأسه بخشونة أصابعها. حين التفت خلفه، وجد أباه مطأطأ الرأس تكاد مقلتاه تنهمر دمعا.
لم يستطع مقاومة الدمع في عينيه ولا الحسرة في حنجرته. تدحرج أمامهما ولم يكن في دهنه غير طيفين اثنين يجثمان في أسى ووحدانية.
تقلب في فراشه، ابتلع حنجرته ثم مسح عينيه ونام.
أصبح على يوم هادئ، لكن للحفاظ على نشاطه ودفئه لابد من تناول زليفة البيصارة المدهونة بزيت الزيتون والمرشوشة بالفلفل الأحمر. صار هذا الفطور طقسا من طقوسه. وحتى يتمكن من إدراك كنه المدينة وسر جمالها، لا بد من زيارة رأس الماء ثم العودة لتأمل الزوار في ساحة "لوطا حمام". (ساحة عمومية وسط المدينة القديمة بشفشاون)
بإحدى المقاهي وسط تلك الساحة، جلس يترجم إحساسا يختلج بصدره. بالقرب منه أعدت طاولة لمجموعة من الزوار الأجانب أفرشت عليها الحلوى والمشروبات بسخاء. كان قد نادى على كوب الشاي حين استل أحدهم آلة تصوير ليفتح نارها على رجل بجلباب قصير جلس القرفصاء وسط الساحة. لم يكن غير أحد الحمقى بالمدينة. شقي لا يبالي بشيء. بشرته اختلطت بأديم الأرض مما أكسبه لونا آخر وأتلف جماله كما تتلف الأيام ألوان الكتابة على أروقة المآثر.
صار يحدق في الزائر، يتبين إن كان يتألم لحال الشقي أم ينعم به ويصنع منه معرضا للصور. كان لا يزال حائرا حين لفت انتباهه شاب مر بخفة رشيقة يلاحق فتاة كانت تبعده ببضعة أمتار. لونها فاقع يشوبه بياض ليس كلون الأرض الجاف. وقبل أن يختفي عن الأعين، أوقفها. وبجرأة أعادها من حيث أتت ثم لا يدري إلى أين.
المائدة المجاورة صارت فارغة وأزيلت من فوقها كل الأواني وكل الفتات. حل زوار آخرون وأحمد لازال يرشف الماء الحلو من بين أوراق النعناع المكدسة في قعر الكأس الطويل. لم يكن لديه برنامج لليوم. انه يوم عطلة. كل ما يعرفه أنه حجز مائدة بكأس من الشاي. عقارب الساعة صارت وئيدة وكلما اقتربت من منتصف النهار اطمأن قلبه دون أن يتساءل عن الوقت الذي يسلخه من جلد عمره بلا حسرة أو أسى.
كأس الشاي يجثم على المائدة كما يجثم قبالته. كانت آثار الغبار بدأت تعلق به وانتشر خبره بين حدائق المدينة، فزاره سرب من النحل وصار يضايقه فيما تبقى من شرابه. وبسخاء، ترك النحل يرتع في حلاوة كأسه كما يرتع الزوار من رونق المدينة.
لازال الشقي يتوسد العمود الكهربائي دون أن يعبا بوجوده، تائه البصر، شارد البال، يبتلع لفافة فتلها بيده، يخاطب نفسه، يبتسم في المارة، يقهقه أحيانا ويصيح أخرى :
ابتلع لفافة،وانفخ في الهواء،تملأ الفراغ من حولك،وارحل عن مكانك،تنعم بالرحيل،ويطيب مقامك.ابتلع لفافة وشكل لوحتك كما تشاء،وأدر شفتيك وانفخ،تصنع ثقبا في السماء...
انتفض من مقعده، وبدل أن ينجز كشفا لأسرار صدره، اعتصر مذكرته بين أصابعه ثم غاب في الزحام.