التيه
جلسنا على حصير نوزع أوراق النرد ومن حولنا جلس الآخرون يتملون بمشاهدة اللعبة. كان كل أحد منهم ينتظر كأس شاي قد يفضل عن اللاعبين وكان وسط الجماعة "السارجان ميدي" يركب كلمات بالفرنسية ترسخت في ذهنه منذ أيام الحرب. لم تبق في ذاكرته غير ألفاظ قدحية فصار يمزح بها مع أحد اللاعبين الذين خسروا اللعبة: "صلو، كوشون...". تنهد عميقا ثم أخرج من جيبه تبغه المفضل وراح يقص مغامراته بحسرة وتلدد.
كان الجنود الفرنسيس عندما يقتحمون أحد البيوت، ينشغلون بجمع المجوهرات والحلي، أما أنا فكنت اتجه مباشرة للبحت عن لذتي المفضلة..."
"عشت حياتك كما يشتهي الرجال..." علق عليه أحد المتفرجين وهو يفرك يديه متحسرا على لحظات لم يمر بها أيام شبابه ثم سأل عن كأس شاي كان يرغب فيه منذ أن بدأت اللعبة.
كلمات الإعجاب تلك كانت تزيد من حماسة السارجان وتذكي فيه رغبة الحديث ومعها الرغبة في شرب السجائر المفتولة. وقبل أن يستمر في الكلام، يبسط قطعة من الورق في كفه ويحشوها بالتبغ ثم يثبت لفافته بلسانه.
"ولجت إحدى الحانات يوما بعد أن حصلت على تسريح لمدة يوم من طرف رئيس التجريدة المغربية. هناك وقع بصري على رومية لم أرى مثلها يوما في العجم ولا في العرب″.
سكت عن الكلام قليلا ليطرد بعض أوراق التبغ التي التصقت بشفتيه ثم استمر في حكيه.
"كانت نظراتي جد منهكة بكؤوس الكونياك التي شربت حينها. ناديت على النادل فطلبت منه أن يناولها كأسا من الذي أشربه. أخد النادل الكأس إليها فتمتما قليلا ثم أدار وجهه نحوي فتسللت بنظرها ثم أشارت لي بيدها تسألني أن أجلس بالقرب منها..."
استمر الجميع في اللعب وضاعت قصة السارجان؛ ليس فقط لانشغال اللاعبين بأوراق النرد ولكن لأن الجميع كان يعرف هذه القصة البطولية التي كانت نهايتها الحتمية الإيقاع بتلك الفتاة في فراش العاطفة الرخيصة.
تعالت الأصوات وتعالى فوقها صوت أحد الخصوم الذي ثار غضبه تجاه شريكه حين ألقى بورقة حاسمة: "مثل هته الورقة لا يرمي بها من يضن نفسه لاعبا ماهرا."
"وما ذا عساي أن أفعل؟ حسبت أن الورقة القاتلة بيدك، الله أكبر على كلمة الحق."
قال هذا عندما ابتلع صوت المؤذن صداع اللاعبين. قيد السكون ألسنة المنهزمين في حين استمر الفريق المنتصر في قهقهة تأجج نار الغضب في صدورهم. بحثوا جميعا عن أحذيتهم واتفقوا كما جرت العادة، على اللقاء بعد تناول وجبة الغداء.
شعرت حينها بصدري ينقبض ويعصر أضلعي فتنهدت عميقا في محاولة لمده بما يكفي من الهواء. مجرد التفكير بأن هناك حصة أخرى من التيه تنتظرني هذا المساء، يخنق أنفاسي ويكدس الأسئلة في رأسي:
الاهي، هل سأعود حيث أنسى تقاسيم وجهي وروائع الطرب؟ أعلي أن أفقد كل يوم معجما من كلماتي وعناوين الكتب؟ أيكون لي مقعد في مجلس الشعر والشعراء؟ أو أن أستمتع ببلاغة أحد الأدباء؟ يا للعجب!! أأقف يوما بأحد الفصول معتزا بقدرتي على تلقين اللغة ومدارس الأدب؟ فبإمكاني أن أجعل تلامذتي يحسون بذلك الانبهار الذي أحسست به عندما باغتتنا أستاذة اللغة الجميلة بأمنية الصباح وقد ازدادت شفتيها إثارة حسب الحروف الدائرية لكلمة كودموووورنين...
أشرت إلى رفيقي برأسي واتجهنا نحو بيوتنا. في الممر الضيق مشينا الواحد تلو الآخر وقد اكتسحنا صمت رهيب، كنا قد تحررنا منه لفترة، إلى أن مزقته قائما:
"لن أعود إلى ذلك المكان القاتل أبدا."
فرد علي ساخرا: "وماذا في وسعك أن تفعل يا ترى؟ ستكتب شعرا وتتلو سورا؟"
"لن أتراجع هذه المرة عن تنفيذ قراري، سأحفر بئرا وأكسر حجرا؟!"
عندما لفظت آخر كلماتي كان قد انحرف يمينا نحو مدخل بيته ولم أشعر بأننا افترقنا حتى سمعته يقول:
"لنا يا صديقي لقاء في المساء...".