يقتل القتيل ويمشي في جنازته
كأنّه محيطي يوحي بالموت!!
البرد قارسٌ، موشومٌ بلونِ الدّم هذا الصّباح...!!
الرّائحةُ كريهةٌ ممزوجةٌ ببصماتِ رصاص...!!
مقبرةٌ القريةِ مهملةٌ، والأحياء بها غدَوْا مُجرّدَ خشبٍ منخورٍ، تسندُهُ أرواحٌ غارقةٌ في بحرٍ من الاكتئاب .
أشعرُ بالرّهبة ومع ذلك أحاول تجريعَ نفسي بقوّة فلتَتْ منّي، لهَوْل حَدَثٍ يعاودُني،
تطاردُني الصّورُ، ويُلازمُني الجرحِ الغائرِ في الرّوحِ وأدندنُ....
يُمّا مْويلي الهوى ... يُمّا مولينا .....
ضَرْبِ الخناجر ولا حُكْمِ النّذلِ فينا ....
أتذكر أنّني سمعتُ هذه الأغنيةَ الوطنيّةَ في سرّيّة رام الله الكشفيّةِ الأولى، قبلَ حوالي إحدى عشرة سنة، لم أسمعْها بعد ذلك، ولم أحاولْ حتّى دندنتها على مدى هذه الفترة. إلاّ أنّ كلماتِها بقيَتْ محفوظةً عن ظهر قلب في القلبِ حتّى هذه الساعة.
مشاهد مِن الماضي البعيدِ تتجسّد أمامَ اللّحظةِ الضّبابيّةِ دونَ سابقِ إنذار...
ودونَ تخطيطٍ أو شعورٍ أنتفض لا إراديّا.
حبّات عرقٍ تتلألأ على جبيني، وتتصبّب ألمًا يعانقُ دموعًا تخونُني من جديد.
الزمن!! صيف 1994....
المكان!! الشارع العمومي في رام الله وبالتّحديد المنارة
إنّهم يتراكضون، لكنّ الجنود يُحاصرونَهم من كلّ حدبٍ وصوْب!!
نريدُهُ بأيّ شكلٍ من الأشكال... يجبُ القبضُ عليهِ اليومَ والآن...
معلوماتُنا دقيقةٌ، إنّه الأرمنيُّ آرتين، سيمُرُّ مِن هنا، هذا ما أكّدَهُ السّيّد ق.م رجُلُنا هناك، استعدّوا يا جنود... يتحدّث قائدُ الجيشِ في منطقة رام الله لعشرةٍ من جنودِهِ وأتباعِهِ، بعدَ أن وزّع عليهم صورةَ آرتين.
وأضافَ قائدُ الجيش:
رجُلُنا قال بأنّ مظاهرةً كبيرةً ستجوبُ الشّوارعَ، احْرِصوا على أن لا يفلتَ من بين أيديكم، أريدُهُ حيًّا أو ميتًا، أريدُ أن أجعلَهُ عبرةً لمَن لا يعتبر.
كان آرتين وحيدَ أهلِهِ، وعاشقًا كبيرًا للحرّيّةِ... كانَ سلاحُهُ الحجرُ والإرادةُ القويّةُ، والإيمانُ بالنّضالِ ضدَّ كلِّ فاسدٍ ومُفْسِدٍ طاغية.
أمّهات مخيّم الأمعريّ تمنّيْنَ من الله أن يهبَهُنَّ أبناء مثل ارتين، لا يخافُ في الله لوْمَ لائم.
لكن...
وكأنّه الموتُ كانَ على موعدٍ مع آرتين في سوادِ ذلك اليوم الأغبر، بعدَ أن تربّصتْ به الجنودُ في كلّ الزّوايا والدّروب، رمَوْهُ برصاصِ الغدرِ دونَ رحمةٍ... سقطَ.. ليُعاودَ النّهوضَ والرّكضَ... لكنّهم لحقوا به.. أمسكوهُ وطرحوهُ أرضًا، ثم.. قيّدوا رجْليْهِ بحبلٍ، ربطوهُ إلى سيّارةِ جيبٍ تجرّهُ، ممرّغًا بدمائِهِ وترابِ بلدِهِ... جالوا به شوارعَ رامَ الله بنرجسيّةٍ وقحةٍ وبتعالٍ ممقوتٍ...
وكانَ يُردّدُ أحدُ العساكر:
لقد قضينا عليه... سيكونُ عبرةً لمَن لا يعتبر..
صرختْ صبايا سرّيّة رام الله:
قتلوا ارتين... مات ارتين... رحل العريس ...
صرخت راضيةُ؛ خطيبتُهُ المفجوعةُ بموت حلمها:
اللّعنةَ على الخونةِ والمدسوسين والمتصهينين ...
اختطفَ الشّبابُ الأوفياءُ الجثّةَ، قبلَ أن يُدنّسَها العسكرُ ويمثّلوا بتفاصيلها البريئة، وأخفَوْها عن العيونِ المراقبةِ للحدثِ الجَلَلِ...
انتشرتِ الصّاعقةُ بين أبناءِ رام الله في ضواحيها الصّامدةِ، هرعوا بالتّوافد إلى نادي الكاثوليك، والى سرّيّة رام الله الأولى، والنّادي الأرثوذكسي، والكلُّ يسعى للمشاركةِ في تنظيمِ جنازةٍ تليقُ بالبطل آرتين.
في اليوم التالي وبعد تشييع جثمان الشّهيد في كنيسته، فُتحتْ أبوابُ النادي الكاثوليكي على مصراعيها في استقبال وفود المُعزّين الغفيرة، فإذا بصوت عجوز يصرخ فجأة:
أخرجي من هنا أيتها العميلة، أنت السبب، أنتِ وزوجُك وأولادُك، لقد قتلتموه واليهود، ماذا تريدون بعْد؟ أخرجوا من هنا.... لا مكان لكم بيننا.
لم ينبسْ أحدٌ ببنتِ شفة.. وخرجت العائلةُ العميلة عاريةً من حيائِها، بعدما كُشِفَ أمرُها، واختفتْ فيما بعد في تجاويف الأرض.
وفي التأبين وفي كلّ حين، وعلى عهدِ الشّهيد يبقَوْن للأبدِ وإلى غير أزل، صليبٌ يُعانقُُهُ هلالٌ، وإنجيلٌ يُناصرُهُ قرآنٌ، وطريقُ النّضال تضيئُهُ أرواحُ الأبرار.