من أوراق «زهايمر خفيف»
لعل القلم يسعفني مجالسة بعض من نصوص «زهايمر خفيف» للشاعر الشاب محمود ماضي، لأسجل رؤيتي المعلقة بين العين والورق والاختلاف بين الشاعر والمشعور وبين صدق القلم، وسرد المواقف التي أتت بعيدة عن فذلكة اللغة وتركيباتها ... لا بل دخل الشاعر محمود ماضي، في قلب الحياة بكلمات اخترقت أقواس الشعر البسيط معبراً عن جيله وأحلامه الشابة التي لا تنتهي بسطر! أو بنهاية صفحات تسجل قصص تائهة بين الماضي والحاضر، كشيخوخة عاجزة عن إيصال أفكار المشاعر التي اختلطت ببقايا عمر جاف، بل أعطى للواقع لمسة من ذاكرة الأمكنة، والمواقف المختلفة التي لا تحتاج إلى إجابة على طرح صوره الوجدانية بل إلى تأمل بالقدرة الرائعة على توليد المعاني والبلاغة .....
لذا تعمد الشاعر على أن يترك القارئ في حالة من التفكير وجوجلة الموضوع مرات ومرات، والتعمق بالوجدانيات على المستوى اليومي الذي يحاكي الشباب والمجتمع، الذي وضعه في نصوص تنكش مما تبقى له في صندوق الذاكرة:
1-
في الذاكرة، حبٌّ وأكثرْ، في الذاكرة مواعيد العمل والأصدقاءُ والبيت والنوم والكتابة، في الذاكرة كلام كثيرٌ أقوله لي، وكلامٌ كثيرٌ أقوله لها..
في الذاكرة "زهايمر خفيف أيضاً"، نسيت اليوم طريق العمل، ونسيتُ قداحة الشعّرِ في البيت، ونسيتُ نظارتي حين وصلت منتصفَ الطريق. ونسيتُ ارتداء جواربي.. اكتشفتُ ذلكَ حين رأيتُكِ من نافذة العملِ تلوّحين بذاكرتي فوقَ يديكِ.
في الذاكرة كثير من الأشياء، أنني أضحكُ، مثلاً، حين أكتب!
لقد نجح الشاعر في تجسيم الأحاسيس الشبابية التي أراد إيصالها إلى المتلقي، ليثبت ان الشعر هو تجربة ورؤى تذهب إلى ما وراء الكونية الشمولية والجزئية، والمنعزلة المنظور لتلك الرؤية الكلية للإنسانية في الحياة ....
وهكذا أدهشنا الشاعر محمود ماضي، بخياله الذي دخل صهوة جواد أركان العقل الذي يعبر عن روح الفرد الهائم في دهشة شريدة كنهر ناعس في وقت الغروب، لنسبح بأوراق لا تشبه "الزهايمر" بقدر ما تحمل من أشياء تفوت تصورنا أو قد لا تعني للفرد العادي، لكن الشعر حول تلك المشاهد إلى وجدانية الفرد بأسلوب مسرحي فلكلوري، حملت في مقاطع تسري كشلال جاري تحت مسمى " زهايمر خفيفة" بروح لينة تعانق مشاعره الندية، ليسكب شذى عصفور تمرد على خربشات حروفه، وكأنه يعيش الحب وخفايا الشوق المجتهد كاشتعال السجائر، ليسجل لنا عالمه العالق بين الروح والجسد في الحياة، وأمنيات الشباب وأحلامهم الحاضرة في مخيلة الشعور...
حيث يلهث الشاعر لتسجيل خواطر تحمل علاقته بالمكان والوجود من خلال دخوله لعقل الأخر وتلمس الأشياء النفسية البعيدة عن تلوثات العقل الزائف من خلال رؤيته لكل ما هو وارد في نطاق البصر والروح المتجلية فوق أوراق تبرق حزنً احتضن هوامش الإنسان وأسرار موضوعات العلاقات البعيدةً عن شغف حطام الروح التي تولد في قلب شبابنا اليوم، بلغة تُسْقِط الكلام الغير مباح في عالمنا ليسأل
02.
ما الذي يمنعكِ من قول الكلام الخفي، الخفيف، الذي أراه في عينيكِ.
تعرفين أنني أدور حول فكرةٍ واحدةٍ وبسيطة. الخروج للمشي صباحاً في شوارع غزة، لننتهي معاً إلى مقهى صغير لنشرب الشاي، ونتحدث حول أمور لا علاقة لها بشيء، ونصمت إذا لزم الأمر.
أما الشاعر محمود، لم يتكلم عن الماضي ولم يعلن تصوره للمستقبل، بل يعيش الحاضر ويسجل حالاته المهدهدة بصور بسيطة وراقية .... ليعبر عن مصير الإنسان والكائنات وعبثية الوجود والحلم الإنساني في تنوع أساليبه الشعرية المكرسة في تجربته السابحة في ماء الواقع الإنساني وتشكيلات مفهومه الذي يخضع لاعتبارات تأملية تملي على الشاعر ما ينير ذائقته التي لم تمنعه من تلمس مصادر القوة الإنسانية ومشاركته الإخفاق المتواجد في شخصية الفرد وارتباطه بهيكل النص الذي يمثل البعد الداخلي في الشعور، بقصد محاكاة المجتمع البسيط الذي دخلت عليه زهايمر الوقت... من خلال لعبته الإبداعية ومكاشفة نوافذ العالم المشرعة، من خلال منظوره لحيثيات معاني الإنسان ليأتي السؤال:
03.
كان سؤالُكِ صعباً، إلى درجة أنني نسيتُ معه نبرة صوتك وخجل النادل الذي كان يمرر ابتسامةً ونظراتٍ كثيرة إلى جلساتنا معاً.
كان سؤالكُ باباً مفتوحاً على كلّ شيء، ونافذةً صغيرة على الذاكرة التي بتُّ أفقد تفاصيلها يوماً بعد آخر، ولن أخجل حين أقول أنني نسيتُ مشروبك المفضل، ومطعمك المفضل وشارعك المفضل. وحتى أن اسمك بات باهتاً في هذا الصباح!
يبحث بلا هوادة عن مهاوي الحلم الشارد من خلال تجواله المهرول بين الذات والآخر، بيقظة ذاكرة الأمكنة التي يعيد النظر بخارطتها ليخترع سعادة هاربة من تصوير الألم والصور التي تحمل ما هو ظاهر ومضمر لاستنهاض الهم والحاضر واستكشاف المستقبل واللحظات المليئة بالطاقة الشعورية ... تلك هي لعبة الشاعر السرية التي يقترفها لتطهير سيكولوجيا النصوص الجافة ... واستبدالها بالحياة المتحركة بأشكال الروح السرية للذات:
07.
أذكرُ أن الصغيرةَ التي فيكِ رسمَت حلماً على كفِّها، وفي عينيْها كان الضحكُ ينامُ كطفلْ..
أذكرُ أن الأشجارَ مالت مع الريح، ورقصتْ، وأذكرُ أن الطيرَ شكّلَ وجهَكِ حماماً كثيراً وغيما وزرقةَ ماء.
في خدّكِ خالٌ صغيرٌ، رشّةُ مسكِ وركضُ خيل.في خدّكِ رؤى الصوفيّ، بابُ الحياةِ، عينُ الخجل..
لم يتوارى الشاعر عن تفكك طلاسم العقل والقيود، بل يوصف لنا براءة حالات الحب العذري الذي يتكلم بتبادل أشارت روحين تعانقهما أسئلة تطير حول مستقبل جيلهم المقلق بأجنحتهم الطرية التي كلما قبلت الكلمات الواقع! تهرب لحروف من شفاههم:
09.
تنقرُ الحروف نافذةَ الصبيّة وتدخل، تتجاور بعضُ الحروف فوق كرسي خشبي مشكلةً قصيدةً عن الصبي الذي يحبها، بعض الحروف تنقش نفسها فوق ملابسِها الملونةِ لتذكرها بأنها تعيش في عالم صغير لا ينتهي، وحرفُ أسمها يلْصِقُ نفسَه فوق كتفها، كملك لا تردّ بهجتَه، وحروفٌ كثيرة تنتظر اكتمال القصائد التي تقولها الصبيّةُ لنفسها..
يكاد الشاعر محمود ماضي أن يعتقل قلمي إلى ما لا نهاية بأسطره البعيدة عن الترهات واستيطان الحزن، حيث يأخذنا الشاعر في نصوصه إلى ما يشاء... من خلال رؤيته الجاهزة للتدفق دون مقاومة... ليمسد جدائل حروف الشعر ويغفوا فوق أوراق تسكن حبر الأصابع...
ولنأكل ونشرب من الأماكن التي سجلت في مخيلته بتلك المقهى الذي ذكره .... وفوق سرير يقظة منزله في الشارع المحشور في مدينته، ليحلق كطائر يطلق شذى عبقريته الباحثة عن مسكن لمخيلته في غيهب يجول في نصوصه المحملة برئتي كلمات تعبر السهل الممتنع .
11.
كانت تكتب على شرشفِ سريرها كلّ يومٍ كتابةً ما، لتصف الحمامةَ التي تنقر زجاجَ غرفتها، وعشواءَ الملابس الملقاةَ على أرض الغرفة، وبابَها المغلقَ منذ سنواتها الكثيرة في هذه العلاقة.
كانت تُمضي وقتَها، أحياناً، برسم وجوهٍ كثيرةٍ على المرآة، باحثةً عن طريقة أخرى للنظر إلى الأشياء..
كانت تجلس على طرفِ سريرها، متأملةً كلُّ هذه الكلماتِ على شرشف سرِّها، وكل هذه الوجوهِ غير المكتملة في المرآة.. لتنشغلَ بقولِ الكثيرِ من القصص عن السيدة الطفلة التي كان لها نفس الاسم ونفس الشعر ونفس الحكايات والأحلام.
لعل كينونة صوت الشاعر تظل هاجسا شعريا لا يمكن السيطرة على نفورها ... حيث النداء ملثما بالحنين ... المجتر فضاءاته الشعرية المختلطة بالتراكيب التصويرية ...
المرفرفة في عقل الآخر، كعصفور تجلى على التحلق في وفاء المخيلة التي أملته حر الكلمات، المحملة بلهفة ساهرة على مخمل الخد ... ما جعله يرسم للمتلقي الذات وضادها المتمايل بين الحاضر والفؤاد المبحر في موجات الحياة .... على جبهات صمت يلاعب نسمات المعاني وملامسة الضمير الحاضر في دلائله:
13.
تلامسُ قدمُ الأعمى حوافَ الرمل في الشارع، ويكون الهواءُ والأصواتُ والعصا في يده دليلُه على الجهات التي يريدها، ويكون حينها المشي بطيئاً وصادقاً، حينها يمشي الغريب على هوايْ، أنا العاشقة التي في يدها كلامٌ، وفي خطوها كلامٌ، وفي عينيها كلام. أنا العاشقة التي بلا اسم، وبلا ذاكرة.
وهكذا لملم الشاعر صوره من الطرقات والأمكنة قبل قد تسرق من الحاضر ....
كما يفعلون بعض المستشعرين والدخلاء على الشعر.. أو كالشعراء المغمورين الذين يتلذذون على وصف الجسد، وشرح أكذوبة مواهبهم البعيدة عن الواقع الحياتي، لينعشوا أحلام الشباب التي مرت بين لعنة الكذب المقلم بفرد عضلاتهم ...
لذا هرب الشاعر الشاب محمود ماضي، من كتابة ما يشبه الرسائل المصفف كالشعر، والتي تبقى كرسائل مارة فوق خيولا محملة ببقايا أقنعة لوثت رهيف الشعر، بما أن الرسائل غالبا ما تكون مديحا أو هجاءا أو مجاملات وردية لكنها تبقى دون عنوان، وهكذا نجد الفرق بين الشاعر وبين المستشعر الذي يرسم فراغ الشعر .....
فأتمنى على الشاعر الشاب محمود ماضي، أن يبقى بعيدا متجليا بإبداعاته المحاكية الواقع الذي أصبح بعيداً عن أقلامنا وأوراقنا...
لنتوقف ونتمعن بكتابة كلمات تلامس بطون المجتمع في نصوص شعرية أو سردية ..، من أن نقرأ الشعر والنقد لأشخاص تحمل أقلام أفكار كتابات لكتاب آخرين! أليس الأفضل لنا ان نقرأ ما يمكن لمسه في الحاضر، من أن نقرأ لأشخاص مستشعرين، مبتدعين، مستكتبين ....، يضيعون ألوان مثل هذه النصوص الجميلة بطلاء كتابات كلماتهم المستنسخة تحت تأثير زهايمر مصطنع.