معتزل جديد
دوّى الأذان في المدينة الشمالية، وهو يمشي يدفع عن رأسه الخواطر المختلفة والتخاطرات. كان الأذان جماعيا متداخلاً يصعب ترجيعه. إن ردّد "الله أكبر"، سمع "الله أكبر" أخرى، وثالثة. كذلك مع "أشهد أنّ لا اله الا الله".. ابتكر ترجيعه الخاص، وهو أن يتلو الأذان كلّه وحده دفعة واحدة؛ مستغربا من تقاربٍ في الأماكن أو تباعدٍ في الصوت، مشوشّين، لأن الأذان كان يُقام بالحلق وحده..
إذا تأخر في القدوم للمسجد دقيقة، سبقته السمّاعة بإقامة الصلاة. إذا كان مرهَقاً، أطال الإمام صلاته. كان يعرف أغلب المصلّين، منهم مساكين ومنهم لئام، وآخرون لا يبالون بشيء (ولا يعرف لم يصلّون). الإمام السمين ذاته ينتقي آيات موسى والتسليم لله، و"إن جنحوا للسلم فاجنح لها"، يعني بها ما لا يدرك معناه، غيرُه، ويرفضه.
وترتطم كتف بكتفه أو قدم بقدمه عند الوقوف، أو تزاحمه على السجود اصابع كفّ تلامس جانبَ أصابع كفّه. يغمض عينيه على صور تتجسّد في مخيلته وهو يستمع للتلاوة؛ فهناك من يترصّدها: ذوو أسلاف طويلة، في مكان داخل العقل مقسّمٍ على طبقاتِ عجاب، مدنسو العمر صغارٌ والعقيدة، ليستعملوها ضد مصلّين غيره.
منظف الحمامات اتخذها مهنة: يضع صندوقا لا تَعرفةَ له، لكنه مفتوح على ما لا حدّ له، بحجة الصدقة والإحسان. أمسكين هو رضي بعقابٍ وثني، أم طامع بالاثنتين: الكسب المرتاح والايمان؟ كان عندما يستعيذ من الخبث والخبائث، وهو يضع قدمه اليسرى أول الدرج المؤدي للخلاء، عانيا بها (الخبيثين) ممن قبلوا بما لا يقبله الخالق؛ كان يسمع نخرة أنفه، أو أنف غيره؛ أو –في الحمّام- قرقرةَ شيء خشبيِّ كباب ومعدنيَّ الصوت كارتطامة، كأنهما تنهرانه عن استعاذته..
خادم المسجد، حركيّ الانتماء، ومستمتعاً، لا يفعل شيئا سوى المرور بالمكنسة الكهربائية أمامه، عندما ينتحي جانباً؛ ليضايقه ويدفعه للخروج من المسجد.
وحين يرفض كل ما يحيط به، ويغمض عينية ليستجمع سكينة الخشوع، تتضخم عليه "سوادات" ذات كهرباء –في النفس، أسفل عمق الجبين- صاعقة ومؤذية، ليضجّ الصفّ، في اللحظة ذاتها، بتيار متمايل صوتياً من النهرات الجافة، تهدّده. أما صدره فيغلي منقبضاً بشتى الانفعالات، ما بين ضنك وضيق.
//
لم يقبل هذا (التزامن) العجيب، واعتقد أن المصلّين قد أصابهم شيطانٌ إنسيٌّ -أو أكثر- بمّس جماعي.
عند السجدة، أو الركوع، أو حتى الوقوف، يتراءون له كخيالات متحركة صغيرة تتراقص في رسوم على السجادة المزخرفة، عكس السُنّة: ألاّ يكون هنالك تصاوير ورسوم.
لمّا بلغ به الوعي والتضجر حدهما الأقصى، ترك الصلاة مع الجماعة مرّة، وأقامها في الركن الخلفي أمام الباب، وحده، مخالفا ترتيلهم وتصويتهم وقيامهم وسجودهم..
أحسّ أنه الجماعة والبقيّة قلّة، في الأرض المرتفعة المقدّسة.