الأحد ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
من ذكريات المراهقة ووقائع الشيخوخة
بقلم إبراهيم عوض

ماجدولين بين ألفونس كار والمنفلوطى

ما زلت أذكر بكل وضوحٍ الوقتَ والظروفَ التى قرأتُ فيها جميع ما عرَّبه المنفلوطى، رحمه الله، من قصص ومسرحيات فرنسية، ومنها رواية "ماجدولين" التى تدور عليها الدراسة الحالية، فى قريتى كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية من أرض الكنانة فى الإجازة الصيفية التى تلت حصولى على الإعدادية سنة 1963م.

وكنت أقرأ تلك الروايات كعادتى أوانذاك فى كل مكان أكون فيه: فى البيت، وفى الدكان، وعلى المصطبة، وعلى شط الترعة. بل لقد كنت أقرؤها أيضا على رأس الحقل المطل على سوق القرية الذى كنا نتخذه ملعبا لكرة القدم، إذ كنت أحتفظ دائما بالكتاب فى سَيَّالتى (وهى جيب كبير فى الجلباب ملاصق للخاصرة والفخذ) وأُخْرِجه لأقرأ فيه وأعيش مع أحداثه وأبطاله عندما أكون عند ذلك الحقل، أما حين يبدأ اللعب فكنت أعيده إلى مكانه وأخلع جلبابى وأنخرط مع زملائى فى الجرى والنط، وكنت مشهورا بالمهارة فى المحاورة وتسجيل الأهداف.

وكانت تلك الفترة هى فترة المراهقة والتفتح العاطفى والعقلى، وكنت أيامها أخطو خطواتى الأولى فى عالم القراءة الجادة، فكنت أتشمم رائحة الورق المصقول الذى طُبِعَتْ عليه الروايات المنفلوطية وأمتع نظرى بحروف الطباعة الكبيرة الجميلة وشرح الكلمات الغريبة فى الهامش، تلك الكلمات التى كنت أحفظها هى ومعانيها وأنا نشوان جذلان كالزهرة التى تتفتح أوراقها مع الندى فى بُكْرَة الصباح، إذ كنت وضعت فى ذهنى أن أكون أديبا، وكنت أقول لكل من يسألنى عن تطلعاتى فى المستقبل إننى سوف أدخل الكلية التى تخرّج الأدباء، وأقصد بها كلية الآداب. ذلك أنى كنت من السذاجة رغم ذلك بحيث ظننت أن الأدباء يتخرجون من الكليات كما يتخرج الأطباء والمدرسون والمهندسون والصيادلة مثلا. ولهذا حوّلت أوراقى من المعهد الأزهرى الأحمدى بطنطا إلى المدرسة الأحمدية الثانوية بنفس المدينة، وإنْ كاد أن يتغير مسار حياتى مع ذلك حين أغرانى بعض أصدقاء أبى، رحمه الله، بعد حصولى على التوجيهية عام 1966م أن أدخل كلية السياسة والاقتصاد حتى أكون من رجال السلك الدبلوماسى، فدخلتها رغم كراهيتى للسياسة ودهاليزها وضيقى بوطأة الاستبداد الناصرى المرعب آنذاك على أمل أن أجمع بين تخصصى فى السياسة وهوايتى للأدب كما فعل إبراهيم ناجى وعلى محمود طه وصالح جودت ويوسف إدريس وغيرهم ممن لم يتخرجوا من كلية الآداب، لكنهم استطاعوا الجمع بين إبداع الأدب ومهنهم المختلفة التى لا علاقة لها به.

ومع هذا لم أُطِق المكث فى تلك الكلية أكثر من ثلاثة أيام قمت من الفجر بعدها فى اليوم الرابع، وكنت فى تلك الليلة نائما خارج المدينة الجامعية فى شقة بعض الزملاء من أهل قريتى بميت عقبة، فصليت الصبح، وما إن اقترب بدء العمل الرسمى فى المصالح الحكومية حتى استقللت الحافلة ووصلت إدارة كلية الاقتصاد أول طالب، وكانت على ما أذكر فى الركن الواقع شمال شرق حديقة الحيوان بالجيزة داخل مبنى كلية الهندسة، فقدمت طلبا بتحويل أوراقى إلى كلية الآداب، التى تصادف، بعد دخولى مبناها فى ذلك الصباح للتعرف عليها، أن وجدت نفسى واقفا أمام جدول المحاضرات الخاص بقسم اللغة العربية فى الطابق الثانى، فحسمت ترددى بينه وبين قسم الصحافة واللغة الفرنسية، وتوكلت على الله واخترته، وشرعت فى الحال أحضر محاضراته قبل أن تأتينى الموافقة الرسمية على تحويلى.
وسرعان ما صرتُ حديث الطلاب فى الجامعة والمدينة الجامعية بوصفى الشاب الغريب الطباع الذى رفس النعمة برجليه وأصبح "شيخا"، وإن كان هناك فى ذات الوقت من زملائى فى كلية الاقتصاد من كانوا يغبطوننى على جرأتى وتحويلى أوراقى إلى الكلية التى أعشقها. ذلك أنهم كانوا يريدون أن يصنعوا صنيعى فيحولوا أوراقهم إلى كليات أخرى، لكنهم خَشُوا كلام الناس.

وكنت، أيام تعرفى على المنفلوطى، أسمع أنه لم يترجم تلك الروايات التى عرّبها، بل أخذها مترجمة من بعض من يعرفون الفرنسية ثم صاغها بأسلوبه الفخيم الجميل. وربما كان من المفيد أن أشير هنا إلى ما جاء فى مقدمة كتابه: "النظرات" من نَعْيه على الكتاب الذين يترجمون من اللغات الأجنبية تمسُّكهم بحرفية النص والتواء عبارتهم وانبهام معانيهم من ثَمَّ. فكأنه يومئ هنا إلى أهمية الدور الذى قام به حين أعاد صياغة الترجمة العربية لــ"ماجدولين" وأمثالها بأسلوب أدبى بديع. ولم يكن يدور بخاطرى آنذاك بطبيعة الحال أنه سوف يأتى علىّ، بعد نحو خمس وأربعين سنة، يوم أنهض فيه بالمقارنة بين إحدى تلك الروايات التى عرّبها المنفلوطى وبين أصلها الفرنسى. لقد كنت أوانذاك لا أعرف من الفرنسية إلا مبادئها الأولى. ذلك أننى لم أكن، رغم حصولى على الإعدادية وقتها، قد درست منها إلا مقرر السنة الأولى الإعدادية الخاص بالمدارس الوطنية وثلث مقرر السنة الثانية، نظرا للظروف التى تعلمتها فيها، إذ كان الأزهر قد أدخل تعلم اللغات الأجنبية فى ذلك الحين فى المرحلة الابتدائية التى غيَّر مسماها ساعتذاك إلى المرحلة الإعدادية وفُرِض على بعض الفصول تعلُّم اللغة الفرنسية، وكانت هى الفصول الأولى، أما الفصول الأخيرة ففُرِض عليها تعلم اللغة الإنجليزية.

ولما كان اسمى "إبراهيم" فقد كان من نصيبى دراسة الفرنسية لأن الأسماء التى تبدأ بالهمزة تأتى على رأس الفصول الأولى. وكانوا قد قَسَّطوا مقرر التربية والتعليم الذى يدرسه طلبة المدارس الإعدادية فى ثلاث سنوات أربعة أقساط نظرا إلى أن المرحلة الإعدادية فى الأزهر أيامها كانت أربع سنوات لا ثلاثا كما تطورت الأمور فيما بعد. وكنت، حين دَخَلَتِ اللغاتُ الأجنبيةُ الأزهر، أدرس فى السنة الثالثة الإعدادية، فكان نصيبى فى ذلك العام ثلثى مقرر الفرنسية الخاص بالسنة الأولى الإعدادية فى التربية والتعليم، ولما انتقلت إلى الإعدادية أَعْطَوْنا الثلث الباقى والثلت الأول من مقرر السنة الثانية الإعدادية لطلاب المدارس. من هنا لم يكن يدور لى فى بال ولا حتى فى المنام أن أفكر أنه سوف يأتى علىّ وقت أدرس فيه تلك الرواية دراسة مقارنة. لكنها الأقدار.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن الفرنسية أضحت اللغة الأوربية الثانية بالنسبة لى نظرا إلى أننى قد حصلت على الدكتورية من جامعة أوكسفورد مما استتبع بروزَ الإنجليزية عندى وتقدُّمَها إلى المرتبة التالية للغة القرآن بدلا من الفرنسية، التى كنت قد نسيتها تماما بسبب انصرافى فى أعوامى الأولى ببريطانيا إلى تعلم لغة جون بول وعكوفى على إتقانها إلى الدرجة التى استطعت أن أكتب رسالة الدكتورية بها بغاية السهولة تبين لنا ازدياد غرابة الأمر. ولكنها الأقدار مرة أخرى، إذ عزّ علىّ أن أنسى لغةً كنت قطعت فيها شوطا، أيًّا ما تكن مسافة ذلك الشوط، فى مقابل تعلم لغة أخرى جديدة، وقلت فى نفسى: إننى بهذه الطريقة لم أصنع شيئا، فقد نسيت لغةً مكان لغة، ورجعتُ "محلَّكَ سِرْ". فصح منى العزم على دراسة لسان الفرنسيس من نقطة الصفر حتى استرددت ما كنت فقدته فى مدة قياسية، وصارت معرفتى له أفضل، وثقتى بنفسى فى القراءة به أصلب وأقوى. ولا بد أن أصارح القارئ بأننى إذا كنت قد استمتعت بقراءة "ماجدولين" فى فترة المراهقة فقد استمتعت بدراستها هذه الأيام متعة لا تقل عن تلك المتعة الأولى. ومعروف أن لكل سن استمتاعاتها الخاصة بها، إذ كانت المتعة الأولى هى متعة القراءة، أما متعتى الحالية فهى متعة البحث الأدبى والدرس المقارن.

والآن إلى المقارنة، ولكن علينا أن نقوم أولا بالتعريف بالرواية فنقول إن "ماجدولين" هى فى الأصل رواية فرنسية بعنوان "Sous les Tilleuls: تحت أشجار الزيزفون"، وهى أول عمل روائى للأديب والصحافى والناقد الفرنسى المعروف ألفونس كار: Jean-Baptiste Alphonse Karr (1808- 1890م). ويرجع تاريخ صدروها إلى عام 1832م، أيام كان مؤلفها فى الرابعة والعشرين من عمره. وهى تنتمى إلى القصص الرومانسى الحاد الذى كان منتشرا على نطاق واسع فى فرنسا، بل فى أوربا بوجه عام، أثناء القرن التاسع عشر، ويعتمد السرد فيها أسلوب المراسلة معظم الوقت. وقد أُعْجِب المنفلوطى (1876- 1924م) بها وبادر إلى نقلها إلى اللغة العربية لما فيها من نزعة خيالية وجدانية تتبدى فى إخلاص بطلها العنيف فى حبه، وإن غلبت عليها السذاجة واللامنطقية فى أحيان كثيرة. ونشر، رحمه الله، القسط الأول من تلك الرواية سنة 1912م فى الجزء الثانى من كتابه: "النظرات"، ثم أكملها وأصدرها فى مجلد مستقل عام 1917م.

ولعل مؤلف الرواية قد أراد إلى إظهار الخلاف بين مفهومين للسعادة: أحدهما يرى أن السعادة فى الحب والوفاء للحبيب، والآخر يرى أنها فى المال أيا كانت الوسائل المستخدَمة في الحصول عليه. بَيْدَ أن إغراقها أحيانا كثيرة فى الخيال واللامنطقية يضعف تأثيرها فى نفوسنا الآن، فكثير من أحداثها ومواقف بعض أبطالها لا يمكن أن يقبلها منطق الحياة السائد على الأقل. ذلك أنها مصطنعة اصطناعا ولا تتسق مع الطبيعة البشرية، بل لا تخطر لأحد فى بال إلا على سبيل التوهم والمغالاة فى التكلف.

ولم يكن المنفلوطى يجيد الفرنسية فلم ينقل الرواية مباشرة إلى لسان العرب، بل أعاد صياغتها بعد أن قصها عليه أحد معارفه ممن كانوا على علم بتلك اللغة، وهو محمد فؤاد كمال بك. ولم يلتزم كاتبنا الكبير، رحمه الله، بما جاء فيها، بل كان يخرج فى أحيان كثيرة عن الأصل فيلجأ إلى الاستطراد والتطويل والحذف والإضافة والتحوير والاستبدال وفقا لموقفه من الأحداث ورأيه فى أحوال الحياة والبشر، أو رغبة فى إظهار مقدرته البيانية كما سوف نبين بالتفصيل والشواهد بعد قليل. وقد يكون للنسيان والسهو أو عدم الرغبة فى أن يَشُقّ على القراء بنقله لهم تلك الرواية الطويلة كاملة مدخل فى ذلك.

وتدور "ماجدولين" حول فتى اسمه ستيفن من أسرة متوسطة الحال يحب المطالعة ويتعشق الموسيقى ويأنس للطبيعة، ويجد لذته في العزلة والبعد عن الناس. ويحدث أن يترك ستيفن منزل الأسرة بعد وفاة أمه وزواج أبيه بامرأة أخرى ويسكن وحيدا فى غرفة متواضعة بأحد المنازل حيث يحبّ ماجدولين ابنة صاحب البيت وتبادله الحب، فتتغير نظرته إلى الوجود ويمتلئ قلبه أملا وبهجة. وتتكرّر اللقاءات بين ستيفن وماجدولين فى أحضان الطبيعة الخلابة وعلى ضفاف النهر أو تحت شجرة الزيزفون القائمة فى حديقة المنزل أو فى زورق يتهادى بهما على سطح البحيرة القريبة، فيحلم العاشقان بزواج سعيد ويرسمان في خيالهما صورة بيتهما المقبل تحيط به حديقة تمتلئ بأزهار البنفسج وأشجار الزيزفون.

لكن السعادة التى بدأت تلوح معالمها فى خاطر الحبيبين قطعها والد الفتاة حين صارح ابنته بأنه غير موافق على العلاقة التى تربطها بفتى فقير مثل ستيفن لا يستطيع أن يوفر لها السعادة المبتغاة. وحين حاولت ماجدولين إقناع والدها بالعدول عن رأيه كتب إلى الفتى رسالة عاجلة يدعوه فيها إلى مغادرة المنزل والابتعاد عن ابنته، فجاءت ماجدولين إلى حبيبها تودعه الوداع الأخير حيث تعاهدا على الوفاء واتخذ كل منهما فى إصبعه خاتما من شعر حبيبه آمِلَيْن أن يمنّ الله عليهما باللقاء من جديد ويحقق حلمهما فى الزواج.

ورغم افتراق الحبيبين ظلت الرسائل بينهما ذاهبة آيبة. وفى تلك الأثناء عاد ستيفن إلى منزل والده، الذى أراد أن يزوجه فتاة ثرية، فأقام لهذه الغاية حفلة راقصة فى داره، وطلب إليه أن يتودد إلى تلك الفتاة، فلم يشأ أن يغضب أباه فأذعن لمشيئته، لكنه صارحه رغم ذلك بأنه لا يفكر فى الزواج منها، مما أغضب الوالد والأقارب فطردوه من البيت، فخرج باحثا عن عمل يَكْسِب به قُوتَه، ويستعيد به حريته المسلوبة، ويهيئ له العودة الكريمة إلى حبيبته بعد أن يكون قد جمع ما يحتاجانه من مال.

واستأجر ستيفن غرفة فى بيت حقير وراح يبحث عن عمل يكفل له القوت، وظلت ماجدولين تبعث إليه برسائلها مؤكدة له أنها باقية على عهده أبد الدهر. وفي تلك الغرفة الحقيرة الضيقة ينزل صديقه إدوار ضيفا عليه ويقاسمه المأكل والمشرب والفراش. ويحسن ستيفن معاملة إدوار وينقذه من الموت إثر فضيحة أخلاقية أقدم عليها. وكان إدوار يوشك أن يبلغ سن الرشد حيث لا يعود بحاجة بعدها إلى وصاية عمه ويرث ثروة كبيرة. وأثناء هذا تحل ماجدولين ضيفة على صديقتها الثرية سوزان فتتعرف إلى أسلوب الحياة التى يعيشها الأغنياء، وتُطْلِعها صديقتها على ما تملكه من الحلى والجواهر، وتتبادل الصديقتان الأحاديث والشجون، فتعرف ماجدولين أن صديقتها سوزان تعشق شابا غنيا مثلها، وأنها توشك أن تتزوجه، فتبوح لصديقتها بحبها لستيفن، الذى تنتظر عودته إليها بعد أن تكون أحواله قد تحسنت، فتلومها سوزان أشد اللوم وتقنعها بأن تتخلى عن أوهامها وتتزوج صديقها إدوار، الذى كان قد ورث فى تلك الأثناء الثروة المنتظرة، ويَقْدِر من ثَمَّ على توفير ما تصبو إليه من السعادة.

وتمر الأيام، وتهبط ثروة على ستيفن فينصرف إلى إنشاء البيت الذى سيضمه مع حبيبته، إلا أنه حين يذهب إليها كى يخبرها بالأمر يفاجأ بها جالسة إلى جانب إدوارد، الذى عرف أنه قد خطبها إلى أبيها وأنهما بسبيلهما إلى الزواج، كما يفاجأ بأنها قد وضعت في إصبعها خاتما من الماس مكان الخاتم الذي نسجته من شعره وتعهدت له بأن يظل فى إصبعها إلى آخر الأيام.

ويصاب ستيفن بما يشبه الجنون، فيعتل جسمه وتسوء حاله، ويدخل المستشفى ويشرف على الموت، ولا يعود إلى رشده إلا بعد أن تزوره ماجدولين برفقة صديقه إدوار، فيعدل عن فكرة الانتحار الذى كان قد أزمعه وينصرف كليا إلى الموسيقى ويبرع فيها ويصبح واحدا ممن يشار لهم بالبنان فى ميدانها. أما إدوار فتسوء علاقته بزوجته كما تسوء حاله المالية، فيبدد ثروته فى القِمَار والشراب ويعلن إفلاسه ويبيع قصره ويهاجر حيث ينتحر بعيدا عن زوجته الحامل التى تُضْطَرّ إلى بيع بيت أبيها وفاءً لديون زوجها.

وتتصل ماجدولين بستيفن بعد أن حلت بها الكوارث المتعاقبة معلنة توبتها، فتكتشف أنه ما زال على حبه لها، إلا أن كرامته تأبى عليه أن يعود إليها بعد الطعنة التى وجهتها إليه. ومع ذلك نراه يبذل لها أقصى حدود المعونة. وتتوالى الأحداث، فتأتى ماجدولين إلى بيت ستيفن صباحا دون علمه حيث تترك طفلها الصغير مع رسالة تعلن فيها أنها قررت الانتحار غرقا فى النهر المجاور وأنها تترك أمر طفلها إليه، فما إن يعلم بذلك حتى يهب مسرعا إلى النهر مستعينا بزورق أحد أصدقائه ولكن بعد فوات الأوان، فلم يستطيعا إلا انتشال جثتها من الماء. ويعيش هو وابنها الصغير فى بيت واحد محطما قد شاب شعره وغارت وجنتاه رغم أنه لم يتجاوز سن الشباب. وكان يفكر دائما فى الموت ويتعجله كى يلحق بماجدولين وأخيه يوجين، الذى مات فى الحرب.

هذا عن الرواية، أما الكلام عن عمل المنفلوطى فيها فيقتضينا أن نقدم له بكلمة عن وضع الترجمة الروائية فى الأدب العربى الحديث. والمعروف أن النهضة العربية الحديثة قامت، فيما قامت، على ترجمة الكتب المختلفة، ومنها الترجمة الأدبية، وعلى رأسها ترجمة الروايات والقصص، وهو ما يهمنا هنا. وإذا كان عدد من هذه المترجمات قد صُبَّ فى أسلوب سليم متين كما هو الحال فيما ترجمه محمد عثمان جلال والمنفلوطى وحافظ إبراهيم مثلا، فإن كثيرا منها لم يحظ بالعناية اللازمة فجاءت لغته هزيلة ركيكة مبتذَلة لا تخلو من الأخطاء الصرفية والنحوية. وكان بعض المترجمين لا يهتم إلا بتأدية المعنى كيفما اتفق، إذ كان كلما قرأ فصلا من الرواية التى يترجمها نحّاها جانبا ثم شرع يترجم من الذاكرة ناسيا أشياء، ومضيفا أخرى، ومقدما ومؤخرا حسبما يحلو لذاكرته ودون أن يراجع ما كتب، إذ كثيرا ما كان أولئك المترجمون يتخذون من الترجمة مُحْتَرَفًا لكسب الرزق، فلم يكن لديهم وقت للتدقيق والتجويد وإحسان التحبير. كما كانوا يحوّلون الحوار فى كثير من الأحيان إلى سرد، مضيفين إليه بعض محفوظاتهم من الشعر العربى مما يناسب الموقف، فضلا عن أن كثيرا من الروايات التى عرّبوها لم تكن من روائع القصص فى كثير أو قليل، بل من الروايات الشعبية التى يراد بها التسلية ولا تهتم إلا بالتشويق والمغامرات وحيل اللصوص والمجرمين العجيبة وما إليها (انظر د. محمد يوسف نجم/ القصة فى الأدب العربى الحديث/ 31- 34، وبطرس البستانى/ مناهل الأدب العربى/ مكتبة صادر/ بيروت/ 17/ 67- 68، ود. عبد المحسن طه بدر/ تطور الرواية العربية فى مصر/ ط2/ دار المعارف/ 1968م/ 130- 135).

وبالنسبة إلى الطريقة التى جرى عليها المنفلوطى فى تعريب "ماجدولين" نراه يقول فى مقدمة الجزء الأول من تلك الرواية بالمجلد الثانى من كتاب "النظرات" (ط 1912م): "أما طريقة تعريبها فقد كان يملى علىَّ ترجمةَ أغراضها ومعانيها حضرةُ صديقى العالم الفاضل محمد فؤاد بك كمال، ثم أعود إلى كتابة ما أملاه علىَّ بكثير من التصرف ما بين زيادة وحذف وتقديم وتأخير حتى فرغنا من هذا الجزء الصغير". ويقول جبرائيل سليمان جبور فى مقدمته التى كتبها لطبعة "دار الآفاق الحديثة" الصادرة عام 1402هـ- 1982م من الرواية إنها "رواية غرامية اجتماعية مقتبسة من رواية فرنسية" (صفحة ل). أى أنه يراها عملا مقتبسا لا ترجمة. كما ذكر فى المقدمة ذاتها ما كان قد قرأه من أن الذى ترجم له هذه الرواية هو صديقه محمد فؤاد كمال بك، ثم أعاد هو صياغتها بأسلوبه المعروف، وأن الرواية فى طبعتها الأولى كانت تحمل اسميهما معا، ثم انفرد بها اسم المنفلوطى فيما تلا هذا من طبعات. وقال عمر فاخورى إن للمنفلوطى رأيا عجيبا فى التعريب وجرأة على التغيير والتحوير والقلب عاليا على سافل، جرأة لا يسمح المؤلف نفسه لنفسه بأكثر منها (المرجع السابق/ ع). ومما مضى يتبين لنا أن الطريقة التى اتبعها المنفلوطى فى تعريب "ماجدولين" لا تشذ عما كان معروفا آنذاك فى كثير من الترجمات القصصية، وإن تميزت لغته بالفحولة والقوة والجمال، ناهيك عن صحتها التى لا تحتاج إلى النص عليها لما نعرفه عن مكانته رحمه الله فى هذا الجانب.

وبهذا نصل إلى المقارنة بين الرواية فى صورتها الأصلية وبينها فى صورتها العربية المنفلوطية. وأول شىء نلفت انتباه القارئ إليه هو العنوان. إنه فى الأصل الفرنسى "تحت أشجار الزيزفون" لا غير، أما لدى المنفلوطى فثَمَّ عنوانان: عنوان أساسى هو "ماجدولين"، وهذا العنوان لا وجود له فى الأصل الفرنسى كما هو واضح. ثم عنوان آخر مسبوق بكلمة "أو" يقابل العنوان الفرنسى، وإن لم يكن ترجمة دقيقة تماما له حسبما يمكن أن يلاحظ القارئ من المقابلة بين الأصل والصدى. ذلك أنه ليس فى النص الفرنسى أى إشارة للظلال التى ذكرها المنفلوطى. ومعروف أن الظلال لا توجد دائما تحت الأشجار، بل عندما تكون الشمس فوقها فحسب.

وهناك ملاحظة أخرى تتعلق باسم بطلة الرواية: إنها عند المنفلوطى "ماجدولين" بالواو، فيما هى عند ألفونس كار "ماجدِلين" (بكسر الدال وإمالة الياء)، بمعنى "المجدلية" تيمنا بمريم المجدلية فيما هو واضح، إذ إن "Magdeleine" (وفى صيغة أخرى: "Madeleine: مادلين") هى الصفة النَّسَبِيّة من "Magdala: المجدل"، المدينة الفلسطينية التى تقع على بحيرة طبرية، وتنتمى إليها مريم المذكورة، وهى امرأة كانت تشتغل بالبغاء ثم تابت وأقبلت على السيد المسيح عليه السلام فآمنت به وانضمت إلى أتباعه المقربين. ومعنى هذا أن المنفلوطى قد حرّف اسم بطلة الرواية فبدا وكأنه قد اخترع اسما من عنده لا وجود له، إذ ما معنى "ماجدولين"؟ لا نكران أننا قد تعودنا على هذا الصيغة الأخيرة حتى إن يدى أنا نفسى لا تطاوعنى على كتابة الاسم فى صيغته الأصلية، فما بالك، أيها القارئ الكريم، بغيرى ممن لا يعرف إلا تلك الصيغة ولا يتطرق إليه أن المنفلوطى قد غيَّر فى اسم بطلة الرواية وبدَّل؟ وعبثا يتساءل الباحث عن السر فيما صنعه المنفلوطى: أتراه لم يسمع الاسم جيدا من معاونه الذى ترجم له هذه الرواية وأعاد هو صياغتها بأسلوبه البديع؟ لكن هل يعقل أن ذلك المترجم قد ذكر للمنفلوطى اسم بطلة الرواية مرة واحدة فلم يلتفت هذا إلى النطق الدقيق لذلك الاسم؟ وهب ذلك قد حدث، وهو ما أستبعده تماما، أولم ير المترجم المذكور الرواية بعنوانها واسم بطلتها إلا منشورة لا يستطيع حيالها شيئا؟ وهب ذلك هو الذى حدث، أفلم يكن من الممكن أن يلفت نظر المنفلوطى بغية تدارك هذا فى الطبعة التالية؟ أم ماذا؟

كذلك لا يهتم المنفلوطى بتأريخ ما هو مؤرَّخ من الرسائل التى يتبادلها أبطال الرواية على قلة ذلك، بل يكتفى بالنص على أن الرسالة من فلان إلى فلان كما هو الحال فى الفصل الأول، إذ ساق الرسالة التى كتبتها ماجدولين إلى سوزان دون النص على أنها كتبت فى الحادى عشر من إبريل. وبالمناسبة فلا أظن القارئ قد فاته أن المؤلف الفرنسى قد اكتفى بدوره هو أيضا بالنص على ذكر اليوم والشهر، أما السَّنَة فلا.
هذا فى الإطار الخارجى للرواية. أما إذا دلف الباحث إلى داخلها ونظر فى صياغة المنفلوطى لها وقابل بينها وبين الأصل الفرنسى فسوف يلحظ أن هناك تفاوتا كبيرا بين العملين: فقد يقدم المنفلوطى بعض الجزئيات أو يؤخرها عن موضعها، وقد يحوّر بعض المعانى، وقد يكتفى بالتعبير عن الفكرة تعبيرا مقاربا، بل قد يعبر عنه تعبيرا مباعدا ليس فيه من الأصل إلا عبق طفيف، وقد يبدل الأحداث، وقد ينسى بعض الوقائع والأشخاص، وقد يحذف فصلا أو أكثر... إلخ. ولكيلا يكون الكلام نظريا بحتا ينبغى أن ننظر فى نص من النصوص المنفلوطية ونقارنه بنظيره لدى كار، وليكن هذا النص هو الفصل الرابع الذى عنونه المنفلوطى بــ"خواطر ستيفن".
.
وأول ما نلاحظه هو أن المنفلوطى قد اتخذ للفصل الذى بين أيدينا عنوانا هو "خواطر ستيفن"، وهو ما لا وجود له عند كار، إذ يدخل الكاتب الفرنسى فى فصله، لنجد أنفسنا على الفور أمام خواطر ستيفن، وإن لم يكن واضحا من السياق الذى وردت فيه تلك الخواطر هل كانت مدونة أم هل هى مجرد خواطر دارت فى ذهن ستيفن ثم انتهى أمرها عند هذا الحد. ولكن لو كانت مجرد خواطر فكيف علمنا نحن بها؟ إن ستيفن لم يواجهنا ويقصها علينا، فكيف وصلتنا إذن؟ أقصد كيف وصلت تلك الخواطر إلى المؤلف فنقلها لنا بدوره؟ لو أن المؤلف قص علينا هو نفسه الخواطر بلسانه لما كان عليه من حرج، فالمفروض أنه يعلم كل شىء حتى لو كان هاجسة فى ضمير أحد أبطاله، أما أن يحكى ستيفن خواطره لنا بنفسه دون أن يقابلنا فيقصها علينا مواجهة ودون أن يتركها وراءه مقيَّدة فى دفتر، فذلك أمر يُنْتَقَد على المؤلف.

وها هى ذى ترجمة النص بقلمى، وقد حاولت جاهدا أن تجىء تلك الترجمة ألصق ما يكون بالأصل الفرنسى: "الوقت الآن متأخر، وأنا فى غرفتى بجوار الـمُصْطَلَى، وقد أثار خطاب إدوار عندى الخواطر. ترى هل يمكن حقا أن أشهد يومًا انطفاء شاعرية روحى؟ ترى هل من الممكن أن أرى أحلامى الجميلة وقد اصفرّت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة؟ آه! لا، لا. إن الله الذى خلقنى لا يمكن أن يكتب لى هذا الفشل المرير، كما أنه من غير الممكن أن يكون قد وهبنى الرغبة والأمل من أجل أن تقضى عليهما وتحطمهما تلك الإحباطات الحزينة، أو أن يكون قد أعطى روحى ذينك الجناحين اللذين انتزعانى من الأرض وبلغا بى سحب الصباح الوردية من أجل أن يدهورنى إلى الأرض من جديد بهذه القوة. إن السعادة التى أحسست بها لا يمكن أن تكون مجرد فكرة، بل هى روحٌ تبحث عن روحى، وامرأةٌ تكمل حياتى، وحبٌّ يهبنى ذلك النصف منى الذى كنت أحس نقصانه فى قسوة، والذى من شأنه أن يملأ ذلك الفراغ المؤلم من قلبى. إن ما فى الطبيعة لهو أعظم مما نتخيل، فلم يحدث قط أن تخيلت جبلا شامخا على النحو الرائع الذى هو عليه فى الحقيقة. ومهما يقل شعراؤنا فى وصف شروق الشمس فإن ما شعرتُ به أول مرة طالعتُ فيها ذلك الشروق البديع جعلنى أوقن أن خيالى لا يمكن أن يصل فى تحليقه إلى سماء الواقع الشاهقة.

إن أحلام الخيال ليست إلا انعكاسا شاحبا لما تصنعه يد الله. ترى أيصح الظن بأن عقلنا، من خلال مثل تلك الموهبة البائسة، يمكنه أن يحتاز قدرة على الخلق أعظم من قدرة الله، وأن لديه القوة على تخيل سعادة لم يجعلها الله له؟ كلا. إن هذه السعادة التى أشعر بالحاجة إليها قد خلقها الله من أجلى مثلما خلق الشمس التى تحيى الأشجار، والريح العاطرة التى ترعش الأوراق. وإذا كان إدوار على حق فإنى أدعو الله ألا يطيل أيامى إلى ما بعد تحطم آمالى وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحى وألا أرى نفسى، بعد شعورى بأن رأسى قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدت أزحف فى التراب مثل سلحفاة باردة!

وعلى أية حال فلسوف أرى ماذا يحدث، ولا أظننى سأعيش بعد أن يكون عمرى قد وَلَّى. وهأنذا أسجل انطباعاتى فى كثير من الأحيان وأقارنها. وفى اليوم الذى أتيقن أن ما بقلبى ليس إلا فقاعة صابون براقة سرعان ما تنفثئ وتتلاشى وأن سعادتى سوف تفر منى كما يفر الماء من خلال الأصابع المطبقة عليه فإنى سوف أرحل عن هذه الدنيا وأبتهل إلى الله فى السماء أن يحقق لى ما كان قد وعدنيه على الأرض، إذ هو أب رحيم، وما من حاجة لنا إلا وتنطوى على وعد بتحقيقها".

هذه ترجمتى للفصل المذكور، ثم ها هى ذى تأدية المنفلوطى له: "مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع أطلب الراحة فى أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه. إن إدوار يسخر منى فى كتابه ويهزأ بى وينذرنى بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أمانىَّ وآمالا، ويرى أن جميع ما أقدّره لنفسى من سعادة فى الحياة وهناء أشبهُ شىءٍ بالخيالات الشعرية التى يسعد الشعراء بتصورها ولا يسعدون بوجودها. فلئن كان ما قال حقا فما أمرَّ طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة! لا لا، إن الذى غرس فى قلبى هذه الآمال الحِسَان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها وتتلألأ أزهارها، وإن الذى أنبت فى جناحىّ هذه القوادم والخوافى لا يرضى أن يَهِيضنى ويتركنى فى مكانى كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذى سلبنى كل ما يؤمّل الآخرون فى هذه الحياة من سرور وغبطة ولم يُبْقِ لى منها إلا حلاوة الأمل ولذته لأَجَلُّ من أن يقسو علىّ القسوة كلها فيسلبنى تلك الثمالة الباقية التى هى مِلاَك يمينى وقِوَام حياتى.

على أننى ما ذهبت بعيدا ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيقٌ آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش فى الكون معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال أحدهم يشعر فى نفسه بذلك النقص الذى كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التى خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه ويُلْقِى عصاه.

وبعد، فأى مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحيلته؟ وأى عقل من عقول هذه المخلوقات يستطيع أن يبدع فى تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة فى مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التى تمتلئ بها أذهاننا وتهتف بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه؟ ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها أو مهبط الليل عند نزوله أو جمال غابة من الغابات أو علوّ جبل من الجبال ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات. لذلك أعتقد أنى ما تخيلت هذه السعادة التى أقدّرها لنفسى إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة وأنها آتية لا ريب فيها. إن اليوم الذى أشعر فيه بخيبة آمالى وانقطاع حبل رجائى يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتى. فلا خير فى حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير فى قلب يخفق بغير حب".

والآن، وبعد أن وضعنا كلا النصين بإزاء الآخر، هيا بنا إلى الملاحظات التى يخرج بها المرء من المقارنة المذكورة: فعبارة "الوقت الآن متأخر" صارت عند المنفلوطى: "مضى الليل إلا أقله" مع أنه ليس شرطا أن يكون تأخُّر الوقت قد بلغ هذا المبلغ، فقد يكون الوقت متأخرا عند قوم بدءا من الثانية عشرة مساء مثلا، بل قد يبدأ التأخر قبل ذلك عند آخرين. بل إنه لمن المحتمل أن يكون تأخر الوقت نهارا لا ليلا. لكن المنفلوطى حسم الأمر وجعل الليل يمضى إلا أقله، وهو ما يعنى أن الفجر كان قد أوشك أن يطلع على ستيفن، وهو لم ينم بعد. وهذا ما أكده المنفلوطى حين قال إنه "لم يبق إلا أن تنفرج لِمَّة الظلام عن جبين الفجر". وقد عثرت بهذه العبارة فى "العبرات" أكثر من مرة: ممن ذلك قوله فى قصة "اليتيم": "فلم أزل واقفًا مكانى لا أبرحه حتى رأيته قد طوى كتابه وفارق مجلسه وأوى إلى فراشه، فانصرفت إلى مخدعى، وقد مضى الليل إلا أقله، ولم يبق فى سواده فى صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباح فيأتى عليها"، وكذلك قوله فى قصة "الجزاء": "مَضَى اللَّيْل إلا أقلّه، وَسُوزَان جَالِسَة إِلَى نَافِذَة قَصْرهَا المشْرِفَة عَلَى النَّهْر، تَلْتَفِت إِلَى سَرِير اِبْنَتهَا مَرَّة، وَتَقَلَّبَ وَجْههَا فِى اَلسَّمَاء أُخْرَى"، مما يومئ إلى أنها واحدة من العبارات الجاهزة فى ذهن المنفلوطى، انبجست من شق قلمه دون تريُّث، بغض النظر عن مدى مطابقتها للأصل الفرنسى. كذلك فقول ستيفن إنه لا يزال "قلق المضجع" معناه أنه كان فى السرير يحاول النوم فلا يجد النوم إلى جفنه طريقا، وهو ما لا تتحمله العبارة الفرنسية التى ينص فيها ستيفن على أنه كان بجوار المصطلى. أى كان، فيما يغلب على الظن، جالسا على كرسى ذى مساند يستدفئ قرب الموقد على عادة الأجانب فى مثل تلك الظروف. ولم يكتف المنفلوطى بهذا، بل زاد فأكد أن ستيفن كان يعالج النوم بكل ما يستطيع فلا يواتيه النوم. ولم يقل المنفلوطى هذا مرة واحدة، بل قاله مرتين بعبارتين مترادفتين: "أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه". كذلك نرى ستيفن فى الطبعة العربية يشير إلى سخرية إدوارمنه رغم أن النص الفرنسى هنا يخلو خلوا تاما من هذا. إننى لا أخطّئ المنفلوطى، بل أشير فقط إلى الفروق التى بين العملين. ذلك أن من الممكن جدا أن يقال إن ستيفن قد فهم كلام إدوارعلى أنه سخرية منه، وأن هذا ما فهمه المنفلوطى. إلا أننى أحاول أن أحصر نفسى وعملى فيما هو أمامى فى الأصل دون اعتبار لما يكمن بين السطور، إن كان ثمة فعلا شىء يكمن بينها. وبالمثل يخلو النص المنفلوطى تماما مما يوجد فى الأصل الفرنسى من صور مثل: "انطفاء شاعرية روحى" أو "أرى أحلامى الجميلة وقد اصفرت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة"، إذ اكتفى، رحمه الله، بأداء المعنى هنا عاريا عن الصور البلاغية كما هو واضح.

والآن تعال ننظر كيف تحولت عبارة "الرغبة والأمل" إلى "الآمال الحِسَان"، مثلما تحول "الجناحان اللذان انتزعانى من الأرض وبلغا بى سحب الصباح الوردية" إلى "أنبتَ فى جناحىّ هذه القوادم والخوافى"، مثلما تحول أيضا "يدهورنى إلى الأرض بهذه القوة" إلى "يهيضنى ويتركنى فى مكانى كسيرا لا أنهض ولا أطير"... وهكذا. أما قول المنفلوطى: "على أنى ما ذهبت بعيدا ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال العالم وزخرفه" فلا وجود له فى النص الفرنسى. ولكن قوله: "رفيق آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش فى التحدث معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر بذلك النقص الذى كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التى خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه" هو نقلٌ لما قال ستيفن من بعيد، وبتصرفٍ واسع لا يأتيه إلا واحد كالمنفلوطى لم يكن يترجم، بل يسمع أو يقرأ ما يقال له فيتذكر خلاصته على وجه الإجمال، ثم يشرع فى صياغة ذلك عربيًّا بأسلوب يضع نصب عينيه جمال العبارة قبل دقتها. كذلك لم يكتف المنفلوطى بالمثال الذى ضربه ستيفن للفرق بين الطبيعة والتصور الإنسانى لها، وهو وصف الشعراء لشروق الشمس، بل ألحق بذلك وصف هبوط الليل وجمال الغابة، وهو ما لا وجود له فى كلام ستيفن، وكذلك وصف شموخ الجبل، الذى جاء ذكره قبلا فى سياق جزئى مختلف.

ولنر إلى قول ستيفن فى النص الفرنسى: "وإذا كان إدوارعلى حق فإنى أدعو الله ألا يطيل أيامى إلى ما بعد تحطم آمالى وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحى وألا أرى نفسى، بعد شعورى بأن رأسى قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدتُ أزحف فى التراب مثل سلحفاة باردة!"، ولنقارن بينه وبين ما جاء عند المنفلوطى من قوله: "إن اليوم الذى أشعر فيه بخيبة آمالى وانقطاع حبل رجائى يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتى. فلا خير فى حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير فى قلب يخفق بغير حب"، ولسوف ترى بنفسك بكل سهولة ما صنع المنفلوطى فى نقل المعنى إلى العربية، وما لجأ فيه إلى الاختصار أو التحوير.

وبالإضافة إلى ذلك ثَمَّ عبارات كثيرة قد اختفت من النص المنفلوطى، مثل قول ستيفن: "إن هذه السعادة التى أشعر بالحاجة إليها قد خلقها الله من أجلى مثلما خلق الشمس التى تحيى الأشجار، والريح العاطرة التى ترعش الأوراق"، وكذلك السطور التالية، وهى من قوله أيضا: "وعلى أية حال فلسوف أرى ماذا يحدث، ولا أظننى سأعيش بعد أن يكون عمرى قد وَلَّى. وهأنذا أسجل انطباعاتى فى كثير من الأحيان وأقارنها. وفى اليوم الذى أتيقن أن ما فى قلبى ليس إلا فقاعة صابون براقة سرعان ما تنفثئ وتتلاشى وأن سعادتى سوف تفر منى كما يفر الماء من خلال الأصابع المطبقة عليه فإنى سوف أرحل عن هذه الدنيا وأبتهل إلى الله فى السماء أن يحقق لى ما كان قد وعدنيه على الأرض، إذ هو أب رحيم، وما من حاجة لنا إلا وتنطوى على وعد بتحقيقها".

كذلك ففى الفصل الخامس لدى المنفلوطى، ويقابله فى النسخة الفرنسية الفصلان الخامس والسادس، نجد ستيفن يحكى ما وقع بينه وبين مولر وماجدولين وابن عمها بلسانه هو، على حين أن المنفلوطى قد حول الأمر فأورد الحكاية على لسان الراوى الغائب العليم بكل شىء، فضلا عن أن ثمة فروقا بين الروايتين تتمثل فيما زاده المنفلوطى مما لا وجود له فى الأصل الفرنسى، إذ جعل ستيفن يتجسس على ابنى العم أثناء حديثهما فى حجرة الفتاة، وإن كان لم يسمع شيئا مما كانا يقولانه، وهو ما لا وجود لشىء منه فيما كتبه كار. وربما أبرز المنفلوطى عدم استطاعة ستيفن سماع أى شىء من كلام الفتاة والفتى لسببين: أنه ليس فى الأصل شىء من ذلك، وأنه إنما أراد فقط أن يبين مدى الغيرة وما استتبعته من فضول مؤلم لدى ستيفن. ومن ثم جعله يتجسس دون أن يسمع شيئا، فكأنه تجسس ولم يتجسس. وبهذا يكون قد خرج من المخالفة التى اجترحها فى حق الأصل، وكأنه لم يفعل شيئا.

ومما يلاحظ أيضا على تعريب المنفلوطى للرواية قيامه فى بعض الأحيان بوصل فصلين من فصول الرواية معا كأنهما فصل واحد كما صنع فى الفصلين الخامس والسادس، إذ يفاجأ القارئ بهما عنده فصلا واحدا هو الفصل الخامس الذى أعطاه عنوان "الحب". ثم لم يكتف بهذا، بل حوَّل الخواطر التى انتابت ستيفن والتى حكاها هذا (لمن؟ لا أدرى) فى الفصل السادس من الأصل الفرنسى إلى سرد مروىٍّ بضمير الغائب، أى على لسان السارد العليم بكل شىء، وهو ما كرره فى مواضع أخرى كما فى الفصل الثانى والأربعين لَدُنْه (الثامن والأربعين لَدُنْ كار)، إذ بدلا من أن يحافظ على طريقة الأصل الفرنسى فى الكلام عن الغرفة الحقيرة الضيقة التى استأجرها ستيفن حين ضاقت عليه موارده تماما فيوردها كما هى فى الأصل بأسلوب الخواطر الداخلية التى تدور فى رأس ستيفن، نراه يورد كل هذا بضمير الغائب. كما نراه يحذف أشياء غير قليلة من الفصلين المذكورين: فعلى سبيل التمثيل لا يذكر، رحمه الله، شيئا عما قاله مولر والد ماجدولين لستيفن حين كاد هذا أن يدوس عن غير قصدٍ إحدى الزهرات النادرة التى لا يوجد لها نظير، حسبما قال له مولر، إلا فى مكانين اثنين فقط من العالم: واحدة فى أمستردام بهولندا، والأخرى فى شينون بفرنسا، إذ ذكر له ما تتمتع به تلك الزهرة من قيمة نادرة، كما أورد اسمَها باليونانية وما قاله مشاهير علماء النبات عنها... إلخ.

ومرة أخرى ليس ذلك فقط، إذ يضيف المنفلوطى إلى الأحداث شيئا ليس فى الأصل، فقد ذكر أن ستيفن عندما عاد من نزهته بالخارج وأراد أن يصعد إلى غرفته وجد ماجدولين وقريبها شميدت فى غرفتها يتحدثان بحديث لم يستطع أن يسمع منه شيئا من مكمنه الذى كان يتصنت منه عليهما، ثم سمعها بعد قليل تغنى. ذلك أن إشارة بطل الرواية إلى ما كانا يتحدثان به وعجزه عن سماع ما كان يقولان هى أمر لا وجود له فى الأصل الفرنسى، بل الذى حدث أنه سمعهما معا منذ البداية يغنيان، فلم يكن هناك إذن كلام، كما أن الغناء كان منهما معا وليس منها وحدها. ومرة ثالثة ليس هذا فقط، بل زاد المنفلوطى فتدخل، وهو السارد العليم بكل شىء، بالتعليق على مشاعر ستيفن قائلا إنه نَفَسَ على شميدت خلوته بماجدولين، والإنسان لا ينفس على غيره شيئا إلا إذا كان عزيزا عليه. وهذا التدخل لا وجود له بطبيعة الحال فى الرواية، إذ الرواى فيها هو ستيفن كما سبق بيانه، وما كان لستيفن أن يعلق بمثل هذا التعليق على مشاعره. ثم إن تدخل الراوى الذى يسرد أحداث الرواية بضمير الغائب بالتعليق على تلك الأحداث هو أمر غير مستحب، إذ من شأنه أن يفسد الجو على القارئ ويخرجه من وهمه الذى يخيِّل له أنه بصدد وقائع حقيقية يشاهدها ويسمع أبطالها مباشرة لا من خلال رواية موضوعة.

وإلى جانب ما مر قد يهمل كاتبنا فصلا كاملا أو أكثر كما فعل مع الفصل الحادى والثلاثين من الأصل الفرنسى الذى لم يترجم منه حرفا، وهو فصل طويل يبلغ 147 سطرا، ويضم نحو 1270 كلمة. وهناك أيضا رسائل متعددة بين بعض أبطال الرواية وبعض تشغل كل منها فصلا كاملا أهملها، رحمه الله، إهمالا تاما. ويكثر هذا فى الفصول التى تلى رحيل ستيفن من بيت أبيه واستئجاره غرفة ضيقة فى منزل حقير بمدينة جوتنج. ومثلها معظم الرسائل التى أرسلتها سوزان إلى ماجدولين بعد زواج هذه من إدوار بناء على نصيحة صديقتها. وقد ترتب على هذا كله فى نهاية الأمر أن فصول الرواية كما صاغها قلم المنفلوطى تقف عند سبعة وتسعين فصلا، على حين أنها فى الأصل الفرنسى تبلغ مائة وخمسة وأربعين، وهذا فرق شاسع كما ترى. ومع ذلك فالفرق هنا لا يعكس الحقيقة كاملة، إذ إن عدد كلمات النص الفرنسى هو ضعف نظيره فى نص المنفلوطى مرتين ونصفا، فقد حسبت بنفسى كلمات الأول فوجدتها نحو 52000 كلمة على وجه التقريب، فى حين يشير الكاتوب إلى أن عدد كلمات النص الفرنسى يزيد عن 124600 كلمة بقليل. وهذا يوسِّع الفرق أكثر وأكثر، مع ملاحظة أن المنفلوطى لم يكن يختصر دائما، بل كان كثيرا ما يفصّل القول فيما أوجزه ألفونس كار.

كما أنه، رحمه الله، قد يقسم الفصل الواحد إلى فصلين مثلما صنع مع الفصل الثالث والثلاثين، إذ جعله اثنين هما الفصل الثلاثون والفصل الحادى والثلاثون عنده، وهو الفصل الذى يتناول فيه ألفونس كار مغادرة ستيفن منزل أسرته ورحيله من مسقط رأسه إلى جوتنج. كذلك لاحظت أن المنفلوطى قدّم ذات مرة فصلا على فصل سابق عليه فى الأصل الفرنسى، وذلك فى الفصلين الخامس عشر والسادس عشر بعد المائة فى النص الفرنسى، الذين يقابلهما فى "ماجدولين" العربية الفصل الرابع والخمسون والخامس والخمسون والسادس والخمسون، وهذا مجرد مثال.

وهناك نقطة أخرى أود أن أتريث عندها قليلا، وهى أن ستيفن فى الفصل السادس من الأصل الفرنسى قد أرسل من يده قبلة نحو ماجدولين عبر النافذة والستائر المسدلة عليها تعبيرا عن شدة حبه لها: "J’envoie de la main un baiser vers sa chambre"، على حين أنه لا أثر لهذه القبلة بتاتا فيما كتبه المنفلوطى. فهل للاعتبارات الأخلاقية دخل فى صمت كاتبنا، رحمه الله، عن ذكر تلك القبلة رغم أنها قبلة من بعيد لا تقدم ولا تؤخر؟ لا أظن ذلك لأنه فى مواقف أخرى من الرواية لم يتردد فى ذكر ما وقع من قبلات بين المحبين، كالذى فعل عندما قبّل ستيفن فى الزورق جبين ماجدولين مثلا، وذلك فى الفصل السادس عشر عنده، ويقابله الفصل التاسع عشر عند ألفونس كار، وإن لم يتلبث المنفلوطى عند هذه النقطة علىعكس المؤلف الفرنسى، الذى توسع فيها فأورد مقدمات القبلة حين تلامس شعرا الحبيبين فشعرا برعدة فى جسديهما ثم استأنفا ما كانا فيه من حديث ليعود ستيفن بعد ذلك إلى محاولة تقبيل يدها، فلما حاولت سَحْبَها طبع على جبينها قبلة من نار، فيما اختصر كاتبنا المصرى الكلام اختصارا، إذ كان كل ما قاله هو: "فلما أرادا أن يفترقا أدنى يدها من فمه يحاول أن يقبلها فأبت، فقبلها فى جبينها". إلا أنه رحمه الله، حين كتبت ماجدولين إلى ستيفن بعد افتراقهما تصف له مشاعر التأثم التى شعرت بها، جرى على خطة معاكسة فأفاض القول فى ذلك وتحدث عن الجبين الذى اسودّ من الإثم، والخد الذى احمرّ من الخجل، ولذعات الضمير التى سوف تلقى بها ربها يوم القيامة، كما أنطق ماجدولين بأنها كانت حَرِيّةً أن تَبْخَع نفسَها لولا تعزّيها بأنه إنما اختطف منها تلك القبلة اختطافا على غير إرادة منها، فضلا عن تحذيرها له بأنه إن لم يَكُفَّ عن صنع ذلك مستقبلا فلسوف يراها بين يديه فى يوم من الأيام جثة هامدة. المنفلوطى إذن قد فصّل القول فى وصف مشاعر التأثم لدى ماجدولين، لكنه لم يخترعها اختراعا، بل هى موجودة فى الأصل كما قلنا على عكس ما يُفْهَم من كلام د. محمد أبو الأنوار فى هذا الموضوع فى الجزء الثانى من كتابه: "مصطفى لطفى المنفلوطى- حياته وأدبه" (مكتبة الشباب/ 1983م/ 157)، إذ يُرْجِع الأمر برُمّته إلى حاسة المنفلوطى الدينية لا إلى كار نفسه، الذى ذكر هذا عن ماجدولين، ثم أتى المنفلوطى فزاد فى الطنبور بعض النغمات ليس إلا، لكنه لم يبتدع اللحن كله. ولكى يتبين القارئ الأمر على حقيقته ينبغى أن أنبهه إلى أن كار قد خصص لوصف تأثم ماجدولين من تلك القبلة فصلا كاملا هو عبارة عن رسالة منها إلى حبيبها، الذى باغتها فقبّلها على غير إرادتها

كذلك ذكر المنفلوطى فى الفصل السادس أن ستيفن قد ظل فى مكمنه قريبا من غرفة ماجدولين حتى مشت جذوة النهار فى فحمة الليل، على حين ينص الأصل الفرنسى على أنه ترك المكان دون تريث لأنه شعر بالحاجة إلى الراحة، ومن ثم كان ينبغى أن يأوى إلى سريره

ومن الاختلاف بين الأصل الفرنسى والنسخة المنفلوطية من "ماجدولين" أيضا أن كاتبنا المصرى قد يقلب الفكرة رأسا على عقب، إذ وجدتُه فى ختام الفصل الحادى والثلاثين عنده يذكر أن ستيفن، حين صارح أستاذه العجوز الذى كان يتعلم على يديه فن الموسيقى بحالته المادية المضعضعة وحاجته إلى المساعدة، قد وعده الأستاذ المذكور خيرا، مما جعله ينصرف مغتبطا مسرورا على حد قول المنفلوطى، وهو ما يجرى عكس ما وقع من الأستاذ فى النص الفرنسى، إذ كان كلما نفض إليه ستيفن حقيقة وضعه يجيبه بأنه لا يستطيع له شيئا، وهو ما أصاب ستيفن بخيبة الأمل، وإن لم يَفُتَّ الأمر رغم ذلك فى عضده لشعوره بأن حبه لماجدولين كفيل بقهر الصعاب التى تعترض طريقه

وإلى جانب ما مضى ثَمّ تأثيرات عربية إسلامية يلقاها الباحث فى "ماجدولين" المنفلوطى: منها قوله مثلا (فى بدء الفصل السابع عنده، والعاشر عند كار) عن مولر والد الفتاة: "فنظر نظرة فى النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا هذه الليلة مطرا غزيرا..."، إذ لا وجود لمثل تلك النظرة فى "ماجدولين" كار: لا فى النجوم ولا فى غير النجوم. وكل ما هنالك هو أن مولر "كان يدخن غليونه ويفرك يديه فقال:...". وواضح أن المنفلوطى قد استجلب العبارة المذكورة استجلابا من القرآن الكريم (الآية 88 من سورة "الصافات") استمتاعا باستعمالها فى حد ذاتها دون أن يكون فى الرواية الأصلية ما يدعو إلى استخدامها.

وفى مفتتح الفصل الرابع عشر عند المنفلوطى (السابع عشر عند كار بسبب إدماجه فى بعض الأحيان أكثر من فصل معًا كما أشرنا من قبل) يقول رحمه الله على لسان ستيفن مخاطبا ماجدولين إنه حين كان يوشك أن يغرق فى النهر وهو يحاول إنقاذ الغريق هتف باسمها يعوذ به من العاقبة الوخيمة: "فعُذْتُ باسمك فى شدتى كما يعوذ المؤمن فى شدته باسم الله، فكان لى خير معاذ وملاذ"، على حين يقول الأصل: فإن لاسمك القدرة على إبعاد شبح الموت عنى مثلما يُلْقِى اسمُ الله بإبليس فى نيران الجحيم".

وفى نفس الفصل يصف ستيفن فى النسخة الفرنسية ماجدولين بأنها "mon ange gardien"، أى ملاكه الحارس، وهو ما لا نعثر به فى تعريب المنفلوطى. وأعتقد أن هذا راجع إلى تحرجه الدينى رحمه الله. ذلك أن هذا المفهوم لا وجود له فى العقيدة الإسلامية، إذ معناه الملاك المصاحب للشخص المسيحى كما جاء فى (ط 1939م). والمقصود الملاك الذى يقوم على حراسة الشخص، وهو ملاك طيب، إذ من الملائكة لدى النصارى طيبون كجبريل ورافائيل، وشريرون كإبليس وبعلزبول حسبما نجد فى القاموس المذكور أيضا. ثم تُوُسِّع فى استعمال هذا المفهوم حتى شمل الشخص الذى يخفّ دائما لنجدة الإنسان، فكأنه ملاكٌ خَيِّرٌ مُوَكَّلٌ بحمايته من الأذى، وكذلك الشخص الذى يتفاءل به بعض الناس وينظرون إليه على أنه فى الطهارة والبركة ملاك من أولئك الملائكة الطيبين الذين يحمونهم من الأذى. وفى "’طبعة 1923.

ويقول ستيفن فيما أنطقه به كاتبنا المصرى واصفا مشاعره عند ذكره اسم ماجدولين وهو فى الماء يوشك أن يغرق: "فلما ذكرتُك استروحتُ من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف"، وهو ما لا وجود له أيضا فى النص الفرنسى. والإشارة هنا إلى ما جاء فى سورة "يوسف" عن يعقوب صلى الله عليه وسلم حين ظل يبكى حزنا على ابنه المفقود حتى "ابيضَّتْ عيناه من الحزن فهو كظيم"، إلى أن أتاه البشير فى نهاية المطاف بقميص يوسف من مصر ووضعه على وجهه فارتد بصيرا فى الحال. وهذه النقطة ليست موجودة فى قصة يوسف حسبما نقرأ فى الكتاب المقدس (الإصحاح السابع والثلاثين من سفر "التكوين")، بل كل ما فيه أنه عندما أخبر يعقوبَ أبناؤه بأن الذئب افترس يوسف وقدموا إليه قميصه المغموس فى الدم صاح قائلا: "«قَمِيصُ ابْنِي! وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ، افْتُرِسَ يُوسُفُ افْتِرَاسًا». 34فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ مِسْحًا عَلَى حَقَوَيْهِ، وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً. 35فَقَامَ جَمِيعُ بَنِيهِ وَجَمِيعُ بَنَاتِهِ لِيُعَزُّوهُ، فَأَبَى أَنْ يَتَعَزَّى وَقَالَ: «إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ»، وَبَكَى عَلَيْهِ"، وذلك دون أى ذكر لابيضاض عينيه كما جاء فى القرآن المجيد، كما أنه لا ذكر مطلقا فى رواية الكتاب المقدس لواقعة إلقاء القميص على عينى يعقوب وارتداد بصره إليه.

وفى أوائل الفصل الرابع والعشرين، حين يصف المنفلوطى الحديقة والجو فى الصباح المبكر الذى كان على ستيفن أن يغادر فيه بيت مولر شبه مطرود، نجد كاتبنا يقول: "والطَّلُّ لم يَجْرِ ذائبُه"، وهى عبارةٌ بَشّاريّةٌ تدل على البكور مأخوذةٌ من قصيدته البائية التى مدح بها عمرو بن هَبِيرَة أحد ولاة الأمويين. وليس فى كلام كار ما يقابلها إلا من حيث المعنى الإجمالى، أما أنه نص عليها نصا فلا، إذ كل ما نقرؤه، وخلاصته أن العشب كان مغطى بالندى الذى يتضوّء بالألوان المختلفة للماس والياقوت والزمرد وعين الهِرّ، وإن لم يذكر المنفلوطى من كل تلك الأحجار الكريمة سوى الماس. فكما نرى لم يقل ألفونس كار مباشرة إن الطل لم يجر ذائبه، بل قال إن الطل كان يغطى العشب فقط، إلا أن المنفلوطى المتضلع من الأدب العربى القديم شعره ونثره لم يشأ أن تمر الفرصة دون أن يرصّع الكلام باستعارة من شعر ابن بُرْد.

وفى الفصل التاسع والعشرين من "ماجدولين" المنفلوطى نجده يدير فى خاطر ستيفن حديثا لا وجود له فى القصة هو فى الواقع من وحى أخلاق المنفلوطى الإسلامية، إذ الفقرات الثلاث الكبيرة التى عزاها إلى ستيفن وجعله يحدث بها نفسه فى إنكارٍ وغضبٍ مدمدمٍ ليست فى الواقع إلا حملة عنيفة على المراقصة والمخاصرة اتهم فيها الراقصين بالرياء والإثم والفجور وأنهم إنما يخطفون فى الحقيقة الزوجة من زوجها والابنة من أبيها ثم يتخذونها عشيقة لهم، كما اتهم الأزواج بالقِوَادة على زوجاتهم إذ يتركونهن يراقصن الغرباء ويلتصقن بهم وهن عاريات الصدور والظهور، مما يؤدى إلى الوقوع فى الشهوات الفاجرة والحمل الحرام (ص 71- 72). والمفترض أن هذه الخواطر قد ثارت فى خاطر ستيفن بمناسبة حفلة الرقص التى أقامها أبوه لعقد آصرة التعارف بينه وبين أسرة الفتاة التى كان يريد له أن يتزوجها.

وفى الفصل الثالث والخمسين من "ماجدولين" العربية، المناظر للفصل الرابع عشرة بعد المائة لَدُنْ كار، يكتب المنفلوطى على لسان سوزان، التى لم تكن تحبذ زواج صديقتها ماجدولين من ستيفن لفقره وغيرته الشديدة وما تدفعه إليه تلك الغيرة من تضييق عنيف عليها: "والله لو جاء فى خِطْبتى مَلَكٌ من ملائكة السماء يحمل على رأسه تاج الملإ الأعلى ويمهرنى بالجنة وما فيها من حُورٍ ووِلْدانٍ ورَوْحٍ وريحان ويَعِدنى بالخلود الدائم والنعيم الذى لا يفنى على أن يضعنى فى قفص مثل هذا القفص الذى أعدّه لك هذا الخطيب المأفون لآثَرْتُ موت الفجأة والتغلغل فى أعماق السجون والفرار إلى أديرة الصحارى المنقطعة على الرضا به والنزول على شَرْطه". وليس شىء من هذا فى الأصل الفرنسى، ولا يمكن أن يكون: فملكوت السماوات عند النصارى ليس فيه حُورٌ ووِلْدان كالذى فى جنتنا، كما أن "الملأ الأعلى" اصطلاح إسلامى لا تعرفه النصرانية. كما ان فى تركيب الكلام صدى قويا من رد سيدنا رسول الله على عمه أبى طالب فى السيرة النبوية حين اقترح عليه، بناء على إلحاح قريش، أن يلاينهم بعض الشىء، إذ قال له: "والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يُظْهِره الله أو أَهْلِك فيه ما تركته". ثم إنه لا صحارى فى فرنسا ولا فى أى مكان من أوربا، ومن ثم لا يمكن أن تذكر سوزان فى كلامها "أديرة الصحارى". إنما هى إضافة منفلوطية تأثر فيها المنفلوطى، رحمه الله، بعقيدته وبيئته.

ومما يمكن أن يكون مرجعه كذلك إلى العقيدة الإسلامية عنده إهماله ذكر الصليب فى تعريب النص الذى سأورده بعد قليل. ذلك أن الكاتب الفرنسى، فى حديثه أثناء الفصل الثانى بعد المائة عن الأزهار المحبوسة بين جدران الغرف فى المدن بعيدا عن الشمس والهواء، يروح فى فاصل من الرثاء لتلك الأزهار، مشبّها إياها بالراهبات اللاتى يَذْوِين فى الأديرة محرومات من الحب لا يستطعن إرواء غُلّة رغباتهن الطبيعية فيستعضن عن تقبيل الزوج بتقبيل المسيح المعلق فى الصليب العاجىّ المدلَّى من رقابهن دون أمل فى تلقى قبلة من ذلك الزوج العاجز (حسب تعبيره) ردا على قبلاتهن له، وقد وضعن خدودهن على وسائدهن يبللنها فى ظلام الليل بالدموع الملتهبة، وهو ما لم يتعرض له المنفلوطى بشىء

لكن لا بد من الإشارة أيضا إلى المنفلوطى فى قصة "الشهداء" المنشورة فى كتابه: "العبرات" لم يتردد فى الحديث عن الصليب الذى كانت حبيبة البطل تخرجه فى السر ليلا وهو نائم فتناجيه وتبثه ما فى نفسها: "وَكَانَتْ لا تَزَال تَغْشَى وَجْه اَلْفَتَاة مذ فَارَقَتْ مَوْطِنهَا سَحَابَة سَوْدَاء مِنْ اَلْحُزْن مَا تَكَاد تَنْقَشِع عَنْه. وَكَانَا إِذَا نَزَلا مَنْزِلاً وَأَخَذَا مَضْجَعهمَا مَنْ تربه وَأَحْجَاره نَهَضَتْ مِنْ مَرْقَدهَا بَعْد هَدْأَة مِنْ اللَّيْل وانتحت نَاحِيَة مِنْ حَيْثُ تَظُنّ أَنَّهُ لا يَشْعُر بِمَكَانِهَا وَمَدَّتْ يَدهَا إِلَى صَدْرهَا فَتَنَاوَلَتْ صَلِيبًا صَغِيرًا فَقَبّلَتْهُ ثُمَّ أَنْشَأَتْ تُهِمّهُمْ بِكَلام خفي كَأَنَّهَا تُنَاجِي بِهِ شَخْصًا غَائِبًا عَنْهَا فَسَتَغْفِرُهُ مِنْ ذَنَب جَنَّته إِلَيْهِ مَرَّة، وَتَطْلُب مَعُونَته عَلَى أَمْر لا تَعْرِف مَصِيره وَلا تَعْلَم وَجْه اَلصَّوَاب فِيهِ أُخْرَى حَتَّى يَنْبَثِق نُور اَلْفَجْر فَتَعُود إِلَى مَرْقَدهَا".

على أن الكلام فى هذه القضية لا يتم إلا بالتنبيه إلى أن بطل تلك القصة قد انخرط بعد موت حبيبته فى هجوم صاعق على رجال الدين الذين يحرّضون الفتيات على الترهب ويبغضونهن فى الزواج فى تنكر بشع لما أودعه الله فى طباعنا من الهفوّ إلى الحب والتطلع إلى الامتزاج بالجنس الآخر كى تستمر مسيرة الحياة، إذ يخاطب القسيس الذى كان مسؤولا عن ترهب حبيبته قائلا: "أَتَدْرِي أَيُّهَا اَلرَّجُل لِمَ مَاتَتْ هَذِهِ اَلْفَتَاة؟ لأَنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلْعَذْرَاءِ ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْحُبّ فِى طَرِيقهَا فَوَقَفَتْ حَائِرَة بَيْن قَلْبهَا وَدِينهَا فَلَمْ تَجِد لَهَا سَبِيلاً إِلَى اَلْخَلاص إِلا سَبِيل الانْتِحَار فَانْتَحَرَتْ. تِلْكَ جَرَائِمكُمْ يَا رِجَال اَلأَدْيَان اَلَّتِى تَقْتَرِفُونَهَا عَلَى وَجْه اَلأَرْض. مَا كَفَاكُمْ أَنْ جَعَلْتُمْ أَمْر اَلزَّوَاج فِي أَيْدِيكُمْ تُحِلُّونَ مِنْهُ مَا تُحِلُّونَ وَتَرْبطُونَ مَا تَرْبطُونَ حَتَّى قَضَيْتُمْ بِتَحْرِيمِهِ قَضَاءً مُبْرَمًا لا يَقْبَل أَخْذًا وَلا رَدًّا! إِنَّ اَلَّذِى خَلَقَنَا وَبَثَّ أَرْوَاحنَا فِى أَجْسَامنَا هُوَ اَلَّذِى خَلَقَ لَنَا هَذِه القُلُوب، وَخَلَقَ لَنَا فِيهَا اَلْحُب، فهُوَ يَأْمُرنَا أَنْ نُحِبّ وَأَنْ نَعِيش فِي هَذَا اَلْعَالَم سُعَدَاء هَانِئِينَ. فَمَا شَأْنكُمْ وَالدُّخُول بَيْن اَلْمَرْء وَرَبّه، وَالْمَرْء وَقَلْبه؟... إِنَّا لا نَعْبُد إِلا اَللَّه وَحْده، وَلا نُشْرِك بِهِ غَيْره. وَفِى اِسْتِطَاعَتنَا أَنْ نَعْرِف اَلطَّرِيق إِلَيْهِ وَحْدنَا بِدُون دَلِيلٍ يَدُلّنَا عَلَيْهِ، فَلا حَاجَة لَنَا بِكُمْ وَلا بَسُلْطَتكُمْ".

وفى أول رسالة من ستيفن إلى ماجدولين بعد علمه أنها قد خُطِبت لإدوار وأنها من ثَمّ لم تعد له (فى الفصل الثالث والستين لدى المنفلوطى، والفصل الخامس والعشرين بعد المائة عند كار) نسمع بطل روايتنا يبدى جزعه مما حدث ويقارنه بما يقع يوم القيامة: "هكذا تقوم الساعة، وتَرْجُف الراجفة، وتنتثر كواكب السماء فى الفضاء، وتُطْوَى السماء طَىَّ السجلّ للكتاب"، وهو كلام مأخوذ من مواضع متفرقة من القرآن الكريم: إما بنصه كما هو، وإما على وجه التقريب، وذلك فى سورة "الأنبياء"/ 104، و"الروم"/ 12، و"النازعات"/ 6، و"الانفطار"/ 2. ومع هذا فلا وجود لشىء منه فى الأصل الفرنسى. إنما هو زيادة زادها المنفلوطى على عادته فى كثير من الأحيان فى هذه الرواية بتأثير من ثقافته العربية الإسلامية.

وفى الفصل الخاص بالزفاف، الفصل التاسع والستين فى النسخة العربية، والخامس والثلاثين بعد المائة فى النص الأصلى، نجد المنفلوطى لا يَعْرِض بشىء للخاطرة الأخيرة من الخواطر التالية التى ثارت بستيفن وهو يرقب غرفة نوم ماجدولين وإدوارد، إذ أخذت التصورات تعذبه وهو يتصور أنها عما قليل ستكون لإدوارد بين أحضانه: جسدها يلامس جسده، وفمها ملتصق بفمه. نعم، وعارية أيضا له فى السرير

لقد ذكر المنفلوطى كل شىء ما عدا العرى فى السرير، وهذه هى عبارته: "إنها الآن له، وبين يديه لا يحول دونهما حائل، وكأنى به وهو يضمها إلى صدره، ويلصق فمه بفمها ويوسعها لثما وتقبيلا فتعطيه من نفسها ما يعطيها من نفسه". وبالمثل لم نجد فى نسخة المنفلوطى أى أثر لقول كار فى الفصل ذاته يصف خواطر ستيفن التى تتخيل صرير السرير تحت ثقل جَسَدَىْ ماجدولين وإدوارد، وتأوهاتها وتنهداتهما

. على أن ما لا ينقضى عجبى منه أن كار، وهو ذلك الرومانسى المغرق فى الرومانسية حسبما يتبين ذلك من قصته التى نحن بصددها، لا يحس أى تحرج من هذا الحديث عن الجسد والتنهدات وصرير السرير وعرى ماجدولين بين يدى إدوار وطوع رغباته!

ومع هذا نجد المنفلوطى من ناحية أخرى لا يتأثم من وصف الحب بأنه "إله قادر لا يُعْجِزه شىء فى هذا العالم، ولا يَثْبُت على قدرته شىء"، هذا الوصف الذى هو امتداد لتصورات الوثنيين الإغريق عن الآلهة المختلفة ما بين إله الحب وإله الفن وإله الحرب وما إلى ذلك، وإن لم يقصد المنفلوطى بطبيعة الحال أى معنى وثنى، بل استخدم العبارة استخداما مجازيا. إلا أننى أردت التنبيه إلى أن مصدر هذه الصورة إنما هو قصة ألفونس كار، وأن عمل المنفلوطى لم يزد عن نقلها كما هى.

وبالمثل لم يجد كاتبنا حرجا فى نقل كلام كار على لسان ستيفن تزيينا للانتحار وتسويغا له وهجوما على من دانوه وإيهاما بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسخط على من يبخع نفسه بسبب اليأس أو الألم: "لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعف وجبن، وما الضعف والجبن إلا الرضا بحياةٍ كلها آلام وأسقام فرارا من ساعة شدة مهما كابد المرء فيها من الغصص والأوجاع فهى ذاهبة، ولا رجعة فيها من بعد ذلك... إنا لم نأت إلى هذا العالم باختيارنا، فلم لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنا لم نكتب على أنفسنا عهدا بين يدى أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر، فلم يُسَمَّى سعينا فى الخلاص منه خيانة وغدرا أو كفرانا بنعمة الله ومنّته؟ إنها هفوة هفاها شيشرون الرومانى فى ذلك العهد القديم حينما قال: "إن كان لحامل الراية فى الحرب حق فى إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق فى قتل نفسه"، وجاراه المحتمع الإنسانى كله على هفوته هذه حتى اليوم دون أن يخطر على بال فرد من أفراده أن يقول له: إن لحامل الراية الحقَّ كلَّ الحق فى إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه. وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه وافتنّوا فى تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلى عبدا من عبيده ببليّة لا تطيب معها الحياة ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها أبد الدهر ولا يبتغى لنفسه طريقا إلى الخلاص منها".

وسبب استغرابى هو أن المنفلوطى رجل مسلم يحب دينه، ومقتنع به كل الاقتناع، تبرهن على هذا كتاباته ومواقفه بما لا يدع مجالا للريب فى ذلك. فما الذى جعله يبدو وكأنه يدافع عن الانتحار ويسوّغ الإقدام عليه والتعرض من ثَمَّ لنقمة الله؟ ثم هل ما نعرفه عن غضب الله على من يبخعون أنفسهم هو كلام من كلام البشر لا قيمة له كما يقول ستيفن؟ أم هل هو كلام الرسل عليهم السلام، أمرهم ربهم بتبليغه إلى الناس للالتزام بما فيه؟ قد يقول قائل: إن المنفلوطى لا يعبر هنا عن نفسه، بل عن الكاتب، أو إن شئنا قلنا: إنه إنما ينقل وجهة نظر ستيفن فى حالته النفسية الراهنة ليس إلا. لكن اختيار المرء، كما نعرف، هو دليل على عقله، وقد اختار المنفلوطى تعريب هذه الرواية لأنها أعجبته، فكيف أعجبته، وفيها عن الانتحار هذا الكلام الذى لا يرضى عنه الله ورسوله؟ ثم إن المنفلوطى قد أضفى على منطق ستيفن الأعوج جاذبيةً قويةً من خلال صياغته الأسلوبية البارعة. خلاصة القول إن الرومانسية لا ينبغى أن تُغَشِّىَ على بصائرنا فنحلّل ما حرم الله.

ومعروف أن المنفلوطى كثيرا ما يتدخل فى سياق السرد والوصف كى يدلى برأيه أو يحذف شيئا لا يرضى عنه ضميره أو يحوّر معنى لا يرى رأى المؤلف فيه، فلماذا لم يصنع هذا هنا، والأمر أخطر بكثير من المواقف الأخرى التى كان يتدخل فيها؟ لقد كان يمكنه أن يصنع هذا دون أن يفسد الفن ويخرج على متطلباته، وفى ذكائه وموهبته ما يسعفه بالمطلوب فى تلك الحالة، كأن يلمح مثلا إلى أن هذه كانت فورة نفسية عنيفة من ستيفن غطت على عقله فجعلته لا يبصر مواقع أقدامه ولا يتحكم فى فلتات لسانه، وذلك بدلا من أن يجند لها أسلوبه المتقد وحماسته النارية وكأنه يشاطر بطل الرواية فيما يرتئيه، مع أنه رحمه الله كتب أكثر من مرة يحمل على الانتحار حملة نارية: كما فى مقالة له منشورة فى الجزء الأول من كتاب "النظرات" تحت عنوان "الانتحار"، كلها تحذير من غضب الله ممن يبيعون سعادة آخرتهم بخسارتهم سعادة دنياهم فيخسرون السعادتين. وكما فى مقالة له أخرى فى الجزء الثانى من "النظرات" تحت العنوان ذاته، يعبر فيها رحمه الله عن جزعه وهلعه جَرّاء تقليدنا للغربيين فى كل ما يضرنا ويهلكنا، ومنه الإقدام على الانتحار مثلما يفعلون حين يأخذ عليهم اليأسُ الطريقَ من كل وجه، وهو ما لم يكن المسلم يصنعه قبل اتصاله وافتتانه بالحضارة الغربية حسبما يقول. وفى بداية هذه المقالة نراه يبدى شديد استغرابه لإقدام أحد التجار المسلمين على إزهاق روحه رغم اعتقاده بسوء عاقبة المنتحر يوم الحساب، ثم يختمها مؤكدا أن الانتحار "نزغة من نزغات الشيطان وخطرة من خطرات النفس الشريرة". بل إنه، فى مقالة ثالثة منشورة فى الجزء الأول من "النظرات" أيضا بعنوان "المدنية الغربية"، يحذر تحذيرا شديدا من اتخاذ طريق المدنية الغربية لنا طريقا، وإلا كان هذا الطريق طريقا إلى الهلاك. ومما نعاه على تلك المدنية الإلحاد والانتحار، وهما لا يصلحان للمسلم، ولا المسلم يصلح لهما أو بهما. فما عدا إذن مما بدا؟

وهناك، إلى جانب ما مر، مجالان آخران هامان يصلحان للمقارنة بين العملين اللذين نحن بصددهما، بل يستدعيان تلك المقارنة استدعاءً: الأول رغبة كل من الكاتبين فى التدخل أثناء سرد القصة بالتعليق على ما يحدث وإظهار مشاعر العطف أو الإنكار تجاه أبطال القصة، واتخاذ موقف المؤيد أو المنكر إزاء تصرفاتهم، والتعبير المباشر عن رأيه الشخصى فيما يعرضه العمل القصصى من قضايا المجتمع والحياة. كذلك يشترك الاثنان فى نزعتهما الرومانسية الحادة التى أرى أنها هى السبب فى تعلق المنفلوطى برواية "ماجدولين"، إذ نجد نفس الروح التى نعرفها من المنفلوطى فى "العبرات".


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى