إلى شيوخ الضلال
(أُرْسِل لى على البريد الضوئى مقال عنوانه: «كلمة بشأن المظاهرات قبل فوات الأوان» يحذر كاتبه، طبقا لبعض النصوص القرآنية والحديثية التى أوردها، من الخروج فى أية تظاهرات تطالب بإصلاح أحوالنا الفاسدة المنتنة. وقد عَنَّ لى أن أكتب ردا على ذلك المقال حين قرأتُه فأَلْفَيْتُه يخلط الأوراق، ويفسد الأمر إفسادا شنيعا. وقد قسمت المقال أقساما وردت علي قسما قسما، مثبتا فى بداية كل قسم منه نجمة، وفى بداية ردى على كل قسم نجمتين)
– يقول الكاتب: بعد أن عانينا حقبة طويلة من بطش الأنظمة الحاكمة وجبروتها واعتدائها على مقدساتنا وحرماتنا وكرامتنا، وبعد أن ذقنا الأمرين من دعم الأنظمة الشرقية والغربية لهذه الحكومات وغَضّ الطرف عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان بل تزويدها بوسائل البطش والتعذيب والتنكيل بالدعاة إلى الله، أصبح فجأة مطلوبا منا أن ننزل إلى الشوارع لإسقاط هذه الحكومات والإتيان بحكومات ديموقراطية كبديل لها، ولم يجدوا طبعا أفضل من الشباب المسلم ليكون وقودا لهذا النظام الجديد.
– وأقول أنا: الحق أننى مستغرب من منطق الكاتب صاحب المقال. ذلك أنه يصور لنا السكوت على الظلم والاستبداد والقمع والهوان طيلة هذا الوقت وكأنه هو القاعدة التى ينبغى أن تسود، ومن ثم فمن الخطإ والخطل أن يفكر أحد فى الخروج على هذه القاعدة والوقوف فى وجه الطغاة المستبدين، إذ ما دمنا قد خنعنا فى الماضى وأخذنا بالجزمة على وجوهنا، فلماذا نفكر فى الثورة والتمرد الآن على هذا الوضع؟ أليس هذا هو ما يقوله الكاتب، أو أليس هذا هو ما يفهم من كلامه؟ فهل ثَمَّ عاقل يوافق على ذلك الذى يقوله كاتب المقال؟ يا أخى، لقد كنا خانعين، وهذا ضلال وإثم مبين، واليوم تحررنا وفكرنا فى التكفير عن هذا الخنوع. ففيم الخطأ فى هذا؟ أم ترى الصواب بل الواجب المطلوب هو مداومة الخنوع، بينما الخطأ هو التحرر من ذلك الخنوع؟ واضح أن هذا هو ما يرمى إليه كلامك أو ما يُفْهَم من كلامك. إن هذا لهو بعينه تزيين الباطل، وتحسين المذلة والهوان، وإغراء للناس بالصمت الجبان. فهل هذا هو شرع الله، وهذا ما يريده من المسلمين رسول الله؟ أستغفر الله!
– يقول الكاتب: أيها الأخ المسلم، لا وقت للمزيد من الكلام والعبارات، بل نريد منك إجابات على هذه الأسئلة: إتك تنزل إلى الشارع بهدف إسقاط حكومة والإتيان ببديل، وهذا الأسلوب مهما اتخذ طابعا سلميا فهو في النهاية ثورة وجهاد، فهل أنت تجاهد تحت راية إسلامية واضحة نقية أم تحت رايات عمية لا تدري ما انتماءاتها أو أهدافها؟
هل تعلم ما حكم الجهاد تحت رايات عمية غير إسلامية المقاصد؟ اقرأ معي قول رسول الله صلى الله عليه وسالم: "من قاتل تحت راية عمية: يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية، فقُتِل، فقِتْلَة جاهلية". رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية لمسلم: "ومن قتل تحت راية عمية: يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي". قال أبو زيد اللغوي: "العمية: الدعوة العمياء، فقتيلها في النار". وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تكون فتنة يقتتلون عليها، على دعوى جاهلية، قتلاها في النار".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
– وأقول أنا: والجواب على أسئلة الكاتب هو: إذا لم يكن طلب الحرية والعزة والكرامة ومحاسبة المسؤولين عن الفساد ومراجعة الحكام الظلمة المستبدين اللصوص الخونة القتلة الذين يلقون بالأبرياء فى غيابات السجون، ويولون أمور المسلمين لقساة القلوب واللصوص والملاحدة ومن لا يتقى فى الأمة ربًّا ولا يرعى فيها إلاًّ ولا ذمة، إذا لم يكن هذا كله هو الراية الإسلامية التى يسأل عنها الكاتب فليس فى الدنيا راية إسلامية إذن. اللهم إلا إذا قال: إن الراية الإسلامية هى راية الخنوع والذل والهوان والحقارة والجبن والرضا بالظلم والاستزادة منه، وكراهية الحرية والأحرار، والنفور من الخير والأخيار. أما عشق الحرية والجهاد فى سبيل رد الحقوق إلى أصحابها والتمرد على الطغيان والجبروت ومناطحة العمالة للمستعمر المجرم ونصر الكفر على الإسلام فهذه هى الجاهلية فيما يبدو.
وأى فتنة فى أن يبحث المسلم عن العدل والمساواة أمام القانون وأن ينال كل ذى حق حقه فلا يظلمه ظالم ولا يضرب ظهره أو بطنه أو قفاه أو وجهه ضارب أو يقتله قاتل دون ذنب أو جريرة؟ أوقد التاثت بعض ضمائر القوم وانطمست بصائرهم فلم يعودوا يعون شيئا من أمور الدنيا، وصاروا من الغباء والخطل والبلاهة إلى الحد الذى تختلط عليهم عنده مثل تلك الأمور الواضحة الشفافة؟ فيا لضيعة الإسلام إذن! أإذا نهض فريق من المؤمنين فتنادَوْا بوجوب استرداد حقوقهم المهدرة وحرياتهم المضاعة وكراماتهم المذالة، أيكون هذا فتنة جاهلية؟ أوتريدون بعد هذا أن يصدّقكم الناس حين تقولون لهم إن الإسلام دين عظيم؟ فأين بالله عظمة دين يصوره بعض أتباعه أو من يدّعون أنهم أتباعه بصورة الكاره للحرية، المناصر لمصادرة الحقوق، المبارك لقتل البشر واعتقالهم دون جريمة ارتكبوها؟ وهل إذا قام بعض الأحرار الشرفاء الكرام النفس الرافضين للمهانة والذل وقالوا للمستبد: "كفى، واخْشَ الله واتركنا وارحل" يكونون قد اتبعوا العصبية الجاهلية؟ إذن فاستبداد الحاكم العربى برعاياه وتعذيبه لهم وسَوْق مصلحيهم إلى السجون والمعتقلات وسرقته أموالهم بالمليارات ومحو آثار الإسلام من البلاد وتزوير الانتخابات وتهميش كل صاحب ضمير طاهر وصوت حر أبى ويد نظيفة هو الإسلام كل الإسلام. فهل يقول هذا عاقل؟
إن اتهام الأحرار بأنهم مثيرو فتنة إنما هو دعوى جاهلية. ألم يقل المشركون فى مكة إن محمدا إنما جاء ليفرق بين المرء وأهله، وإنهم كانوا فى ثبات ونبات إلى أن أتاهم الإسلام مفرّق الجماعات وهادم اللذات فنشر بينهم الفتنة وقام البيت الواحد بعضه على بعض؟ فما الفرق بين ما يقوله الكاتب وبين ما كان يقوله المشركون؟ جاء فى السيرة النبوية لابن هشام فى حكاية ما اقترحه على المشركين كى يرددوه عن القرآن الكريم: "ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من فريش، وكان ذا سِنٍّ فيهم، وقد حضر الموسمُ، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسمُ، وإن وفود العرب ستَقْدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا. فأَجْمِعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولُكم بعضُه بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فَقُلْ، وأَقِمْ لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أَسْمَعْ. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالُجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السُّحّار وسِحْرهم، فما هو بنَفْثهم ولا عَقْدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة (قال ابن هشام: ويقال: لَغَدَقٌ)، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرِف أنه باطل. وإنَّ أقرب القول فيه لأَنْ تقولوا: ساحرٌ جاء بقولٍ هو سحرٌ يفرّق به بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ولا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله: «ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحيدًا * وجعلتُ له مالاً ممدودًا * وبَنِينَ شُهُودًا * ومَهَّدْتُ له تمهيدا * ثم يطمع أن أَزِيدَ * كلا إنه كان لآياتنا عنيدًا»، أي خصيما.
ثم إن المتظاهرين الذين يخرجون إلى الشارع مسمعين صوتهم للطاغوت ولأمتهم وللدنيا كلها لا يقاتلون أوّلاً. وحتى لو قاتلوا فهم لا يقاتلون انحيازا لأية عصبية من العصبيات ثانيًا، بل يستظلون بلواء العدل والحرية والكرامة والمطالبة بالحقوق المهدرة. إنهم يريدون إيقاظ أمتهم وتأمين حقوقها وإيقاف الطغاة عند حدودهم والرجوع بهم إلى ما ينبغى أن يلتزموه من أنهم ليسوا سوى خدم للشعب لا مسلَّطين عليه يضربون أبشاره ويقتلونه ويسرقونه ويسلخونه ويسحلونه ويعدمون أحراره أو يلقون بهم فى غيابات السجون. ولا صلة بين شىء من هذا وبين العصبية، فضلا عن أن تكون تلك العصبية عصبية جاهلية. ولو نظر الكاتب إلى ما وصل إليه الغربيون من حرية ورفاهة واحترام وتقدم علمى وحضارى بعيد المدى لعرف أنهم لم يتسنَّ لهم شىء من ذلك إلا بالثورات والتظاهرات. لقد كان ملوكهم فى العتوّ والتجبر والغطرسة بل التألُّه مثل حكامنا نحن العرب والمسلمين، إلا أن شعوبهم استطاعوا عن طريق الثورات والتظاهرات أن يُرُوهم العينَ الحمراء ويعرّفوهم أن الله حق. ومن يومها وهم لا يفكرون فى ظلم رعيتهم، وإلا فهم يعلمون تمام العلم أن السَّحْل وقصف الرقاب ينتظرهم. ومن يومها لم يعد عندهم فِتَنٌ بالمعنى الذى يحذرنا الكاتب منه.
لماذا؟ يجيب الشيخ الغزالى على هذا التساؤل فى "الإسلام والاستبداد السياسى" قائلا إن "إسقاط حكومة ما فى البلاد التى تسودها النظم الديمقراطية عمل معتاد٬ وفى الغرب شواهد متجددة على أن استبدال وزارة بأخرى أمر هين٬ وسحب الثقة من أية وزارة هناك يرجع إلى رغبة الشعب فى تحقيق مطالب معينة أو رؤية لون جديد من النظم والأفكار. وقلما تسقط حكومة هناك لخروجها عن طبيعة وظيفتها، فإن يقظة الأمم هناك وأمانة الحكام لا تسمحان بتطور الأمور على هذا النحو القاتم. وليت الأمور فى الشرق تجرى على هذا النسق الرتيب فيستريح الحاكم والمحكوم من اضطراب الأجواء وعصف الأنواء. ويبدو أن دول الغرب نظمت أحوالها كذلك على ضوء ما أفادت من تجارب ماضيها، فإن الثورات الطائشة والانقلابات المفاجئة كلفت الأمم تضحيات ثقيلة. فلما جاء واضعو الدساتير الحديثة ليحكموا العلائق بين الشعوب وحاكميها أقاموا فى صلب النظم الدستورية أعمدة ثابتة تشبه مانعات الصواعق لتفرغ الجماهير فيها غضبها إذا رأت حاكمها أخطأ فى حقها، دون أن يتعرض جوهر الحكم لزلزال يَدُكّ بنيانه. وهذا حسن! وما يمنع المسلمين من الإفادة منه إلا أنهم مغلوبون على أمورهم من قديم. والمرء لا ينظّم بيته إلا إذا كان سيدا فيه٬ وقديما قال المتنبى:
|سادات كل أناسٍ من نفوسهمو |وسادة المسلمين الأَعْبُدُ القَزَمُ|
وربما كانت أمم الغرب غير محكومة بما أنزل الله، فهى على كلٍّ محكومة بما أرادت لنفسها".
ويقول عمر العبقرى العظيم لمن حوله ذات يوم: "لوددت أنى وإياكم فى سفينة فى لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يُوَلُّوا رجلا منهم: فإن استقام اتبعوه، وإن جَنَفَ قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوَّج عزلوه؟ فقال عمر: لا. القتل أنكر لمن بعده". وعمر، حين قال ما قال، إنما كان ينطلق من مبادئ الإسلام القائمة على الحرية والكرامة وأن السلطان ليس سوى خادم لرعيته يشتغل لديها بأجر تدفعه له لقاء إشرافه على أمورها لا سيد يملك رقابها ويتصرف فيها كما يشاء، ويقطفها متى أراد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنه سيكون عليكم أمراء مضلون يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم٬ إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: وما نصنع يا رسول الله؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى٬ نُشِروا بالمناشير وحُمِلوا على الـخـُشُب. والذى نفسى بيده لَمَوْتٌ فى طاعة الله خيرٌ من حياة فى معصية الله".
فالرسول الكريم يستحث الناس على مقاومة الظلم حتى لو نُشِروا فى سبيل ذلك بالمناشير. ثم يأتى بعض القوم فى آخر الزمان وكأنهم يفتون المسلمين بأن يباركوا تنكيل حكامهم بهم ويستزيدوا منه ويتقربوا إلى الله به!
ولا سبيل للمسلمين إلى تجنب هذه الفتن إلا أن يعملوا على أن يكون لهم نظام حكم شورى بحيث يأتى الحاكم إلى سدة الحكم أو يتركها برأى الشعب ليس إلا. حينئذ سنقول، ونحن مطمئنون: وداعا للفتن! ترى هل أمة محمد أقل من أمم الغرب؟ بالعكس إن ديننا لهو دين الحرية والعزة والكرامة. ونزيد عنهم وقتئذ بإيماننا بالله واليوم الآخر. والمسلم إذا فرّط فى كرامته وعزة نفسه فسوف يبوء يوم القيامة بالخزى المبين ويعذبه الله بعذاب النار، إذ كيف يكون مسلما وذليلا فى ذات الوقت؟ هذا ما لا يمكن أن يكون! ولا يُقْبَل من المسلم أن يقول إننى كنت مستضعفا فى الأرض، وهو يقدر على ألا يكون حتى لو كان الحل هو الهجرة بعيدا عن ديار الظلم، اللهم إلا إذا عجز عن ذلك عجزا مطلقا. قال عز شأنه:
«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (المنافقون/ 8)، «لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا»« (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" (النساء/ 100).»
ومعروف أن من أسماء المولى سبحانه وتعالى "العزيز"، فعلى المسلم أن يعمل بكل ما فى وسعه على التحقق بالعزة امتثالا لقول القرآن المجيد: "ولله المثلُ الأعلى فى السماوات والأرض"، وإن كانت عزة الله مطلقة لا أول لها ولا آخر، أما عزة الإنسان فمحدودة. إلا أنه يبقى هناك دائما فرق بين العزة والذلة كالفرق ما بين السماء والأرض.
– يقول الكاتب: فهل هذه التظاهرات إسلامية أم جاهلية؟
مطلوب منك في هذه التظاهرات ألا تردد شعارا إسلاميا لأنه شعار طائفي!
مطلوب منك أن تقف صفا واحدا ويدا بيد مع العلماني والنصراني والنصيري وعبدة الشيطان، فأنتم إخوة تناصلون لنفس الهدف!
مطلوب منك ألا تردد عبارات تنديد بأمريكا وغيرها، فنحن لا نريد أن نخسر دعمهم لقضيتنا!
مطلوب منك أن تطالب بالديموقراطية وتعدد الأحزاب!
مطلوب أن تسقط النظام بحشد الأكثرية، وأنت تعلم أن الميزان في شرعنا هو الحق، وليس رأي الأكثرية!
أخي المسلم: لست أنت من اختار توقيت النزول إلى الشارع والثورة بل التوقيت جاء من أطراف غير معروفة. ألا تخشى أن تصبح ورقة ضغط في أيدي القوى المهيمنة؟ ألا تخشى أن يذهب جهدك ودمك إلى جيوب العملاء والمنتفعين؟
– وأقول أنا: لقد اشترك النبى عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام فى حلف الفضول، وأثنى عليه وعلى الأساس الذى قام عليه وأكد أنه لو دُعِىَ إلى مثله فى الإسلام لأجاب: "لقد شَهِدْتُ مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جُدْعان ما أُحِبّ أن لي به حُمْر النَّعَم. ولو دُعِيتُ به في الإسلام لأجبتُ". لقد حدث هذا الحلف فى الجاهلية، أى بين قوم جاهليين، ومع هذا لم يعبه رسول الله ولا قال فيمن تعاقدوا عليه كلمة يُشْتَمّ منها أى لون من ألوان المذمة، بل مدحه وأكبره كما قرأنا فى كلامه الشريف. إن التعاون على الخير هو من الأمور الواجبة حتى لو كان الطرف الآخر فى عملية التعاون غير مسلم. ثم إنه لا توجد دولة خالصة الإسلام مائة فى المائة أو لا تكاد توجد. فماذا نفعل؟ هل ندير ظهورنا للآخرين رافضين أى تعاون بيننا وبينهم على ما فيه مصلحتنا المشتركة؟ إن بين البشر على اختلاف أديانهم وأوطانهم وثقافاتهم وأغراضهم مصالح مشتركة لا حصر لها، ولا بد أن تمضى هذه المصالح، وإلا توقفت الحياة. ثم هل المسلمون فى مصر فى الظروف الحالية التى نعرفها جميعا يملكون أمورهم فى بلادهم بحيث يمكنهم أن يُقْصُوا غير المسلمين من المعادلة السياسية؟ وهل، لو ملكوا زمام أمورها، يحسن منهم أن يقصوا غير المسلمين؟ لقد كان الرسول أحرى أن يفعل هذا لو كان هذا هو المنهاج السليم. لكننا نعلم أنه، بمجرد هجرته إلى المدينة، قد كتب صحيفة يرسى فيها أسس التعاون بينه وبين اليهود محددا لكل طرف من طرفيها واجباته وحقوقه. صحيح أنهم غدروا ببنود هذا الدستور. لكن هذا موضوع آخر.
أما قول الكاتب إن "الميزان في شرعنا هو الحق، وليس رأي الأكثرية" فهذا المبدأ لا يمكن العمل به إلا عن طريق الأكثرية. كيف؟ ترى لو أن المسلمين يمثلون أقلية فى مجتمع من المجتمعات فكيف يتسنى لهم أن ينفذوا هذا المبدأ كما هو حالهم مثلا فى فرنسا أو بريطانيا أو حتى فى أية دولة إفريقية أو آسيوية غير مسلمة؟ لقد كان المسلمون فى بداية الدعوة أقلية فى مكة، فهل استطاعوا أن يضعوا هذا المبدأ موضع التنفيذ؟ الواقع أنهم لم يستطيعوا هذا إلا بعدما صاروا فى المدينة أغلبية بحيث أضحى لكلمتهم وزن ومعنى. ليس هذا فحسب، إذ إن المسلمين الحاليين فى بلادهم ذاتها، أقصد البلاد التى يشكلون فيها أغلبية ساحقة ماحقة، لا يستطيعون أن يعيشوا وفق شريعتهم ومبادئ دينهم فى كثير من الأحيان، بل تفرض عليهم أوضاع تناقض دينهم تمام المناقضة، وكثيرا ما تملى عليهم الأقليات هذه الأوضاع كما نعلم جميعا. أليس كذلك؟ والسبب فى هذا هو أنهم لم يتوصلوا إلى النظام الذى من خلاله يستطيعون أن تكون لهم فى بلادهم كلمة محترمة يؤخذ بها. وما دام بيننا من يسمى الانتفاضات والتظاهرات من أجل نيل الحقوق: "فِتَنًا" فلا أمل فى التوصل إلى هذا المستوى الذى بلغته كثير من الدول الأخرى.
إن الكاتب فى هذا السياق يشير إلى ما يصاحب الانتفاضات والتظاهرات من متاعب وإزعاجات. ولكن هل يمكن أن تخلو الحياة يوما من المتاعب والإزعاجات؟ هل خلت حياة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم حتى بوصفه نبيا وقائدا سياسيا وعسكريا من المتاعب والإزعاجات؟ إن القرآن ليؤكد أن حياة الإنسان يحوطها الكَبَد من كل جانب: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ في كَبَدِ" (البلد/ 4). إن الولادة مؤلمة، والتسنين مؤلم، والجوع مؤلم، وارتفاع الحرارة مؤلم، والعطش مؤلم، والتعلم مؤلم، والجهل مؤلم، والملل مؤلم، والشك مؤلم، والحيرة مؤلمة، والإهانة مؤلمة، والحرمان مؤلم، واليتم مؤلم، والفقر مؤلم، والتخلف مؤلم، والمرض مؤلم، والبرد مؤلم، والحر مؤلم، والحروب مؤلمة، والثورات مؤلمة، والتظاهرات مؤلمة... والتاريخ فى معظمه ثورات وانتفاضات وحروب ومؤامرات. ولولا هذا ما كان تقدم ولا تطور ولا انتقال من حال إلى حال ولبقيت الحياة تراوح مكانها فى مرحلتها الأولى أيام كان يعيش الإنسان فوق الأشجار أو فى الكهوف والغيران، ويمشى عاريا لا يستره إلا شعر جسده، ويأكل الطعام نيئا: لحما كان أو نباتا. فليست التظاهرات والانتفاضات وحدها هى المؤلمة كما نرى. ولو أننا خفنا من كل مرحلة جديدة نحن مقبلون عليها لما فيها من منغصات وآلام ما تحركنا خطوة واحدة ولَشَلَّتِ الحياة.
وإنى لأذكر بكل وضوح كيف كنت فى بداية كل مرحلة تعليمية أشعر بخوف وألم لأننى كنت أنتقل معها من مكان ووضع ألفته إلى مكان ووضع جديد علىّ تماما كما هو الحال حين تركت قريتى إلى طنطا وأنا صبى صغير فى الثانية عشرة من عمره، وكنت أشعر بحزن كاسح تدمع معه عينى وقلبى لمفارقتى حضن جدتى، التى تولت تربيتى بعد موت أمى فأبى، وكما هو الحال حين انتقلت لدن دخولى الجامعة إلى القاهرة، وحين انتقلت للدراسة فى جامعة أوكسفورد ببريطانيا رغم أن زوجتى كانت معى... وهكذا. وسبق أن ذكرنا أن الجاهليين كانوا مستنيمين تماما إلى أوضاعهم وراضين بها، فلما جاء الإسلام نظروا إليه على أنه شىء مزعج وفتنة لا تطاق، ومن ثم رأيناهم يحاربونه حربا لا هوادة فيها. ولو قُيِّضَ للجاهليين أن ينصتوا إلى كلام كاتبنا ما أسلموا ولظلوا يرددون حتى يوم الناس هذا أنه فتنة شنيعة سوف تأخذ العرب والبشر إلى ما لا تُحْمَد عُقْباه. كذلك لو قُيِّض لنبينا أن ينصت إلى ذات الكلام وخَشِىَ اشتعال الحروب والغزوات التى خاضها، ومات فيها من مات، وتيتم من تيتم، وأُسِر من أُسِر، وترمَّل من ترمل، وفقد أعضاءه من فقد، وافتقر من افتقر، ما كان إسلام ولا توحيد ولا إمبراطورية عربية ولا شىء من هذا التاريخ العظيم الذى خطه المسلمون فى صحائف الحضارة والمجد ولا ولا...
* يقول الكاتب: أليس كل هذا فتنة وخلط بين الحق والباطل؟
ألم يقل الله تعالى: «ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْم»؟
– وأقول أنا: نحن مع الكاتب فى ألا يندفع المسلم فى أمر لا يعرف له مصدرا ولا موردا. إلا أن هذا لا ينطبق على ما نحن فيه الآن، إذ المتظاهرون يعرفون أنهم إنما نهضوا من أجل المطالبة بالحقوق المهدرة، ودفع المظالم المتجذرة التى تحولت بسبب استمرارها لعقود طويلة إلى ما يشبه أن يكون سنة طبيعية كطلوع الشمس من المشرق وغيابها فى المغرب و سقوط أى شىء ذى ثقل إلى الأرض... وهلم جرا. أما إذا تمادى الكاتب فى وصف الأمر بأنه اقتفاء ما ليس للمتظاهرين به علم، ففى هذه الحالة لن يكون هناك شىء واحد فى هذه الدنيا يمكن أن يكون لنا به علم، ومن ثم كان علينا أن نقف أَشِلاّء لا نحرك ساكنا أبدا ولا نفكر فى تصحيح خطإ مهما تكن بشاعته وشناعته. ومن يا ترى يقول بهذا؟ أم عند كاتبنا بديل نافع غير استمرار المسلمين فى الخنوع والهوان والرضا بالظلم وتقبُّل ضرب الظهر والوجه والقفا والسجن والاعتقال وسلب الأموال وقصف الرقاب، وهم يبتمسون ويقولون: ليس فى الإمكان أبدع مما كان؟
– يقول ا لكاتب: ألسنا في زمن الفتن؟ فلماذا لا نقرأ الأحكام الخاصة بهذا الزمن؟ هل أهمل الرسول الكريم توجيهنا لهذه الفترة؟
سأورد لك في هذه العجالة بعض الروايات عن النبي الكريم، وأترك لضميرك وعقلك الكلمة الأخيرة.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ. فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
– قال: نَعَمْ.
– قلت: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟
– قال: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ.
– -قلت: وَمَا دَخَنُهُ؟
– قال: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.
– قلت: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
– قال: نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
– قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا.
– قال: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
– قلت: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قال: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ.
– قلت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟
— - قال: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح مَنْ كَفَّ يده".
إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ أو معاذًا فليعذ به".
رواه: الإمام أحمد والشيخان.
عن بسر بن سعيد: "أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال عند فتنة عثمان بن عفان رضي الله عنه: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. قال: أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا. القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. فكَسِّروا قسيكم، وقَطِّعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دُخِلَ على أحدكم فليكن كخير ابني آدم".
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وهذا، وابن حبان في "صحيحه" بنحوه.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وقد رواه: الإمام أحمد وأبو داود أيضا من وجه آخر عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين أيديكم فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا. القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق أبي داود، ثم قال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي موسى أيضا رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس، إنها فتنة باقرة تدع الحليم فيها كأنما وُلِد أمس. تأتيكم من مأمنكم كداء البطن لا يُدْرَى أَنَّى يؤتى. المضطجع فيها خير من القاعد، و القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن"، والروياني، وابن عساكر في "تاريخه".
وعنه رضي الله عنه قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة بين يدي الساعة. قال: قلت: وفينا كتاب الله؟ قال: وفيكم كتاب الله. قال: قلت: ومعنا عقولنا؟ قال: ومعكم عقولكم".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
عن عمرو بن وابصة الاسدي قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب خير من المجري. قتلاها كلها في النار. قال: قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: ذلك أيام الهرج. قلت: ومتى أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه. قال: قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: اكفف نفسك ويدك، وادخل دارك. قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل رجل عليَّ داري؟ قال: فادخل بيتك. قال: قلت: أفرأيتَ إن دخل عليَّ بيتي؟ قال: فادخل مسجدك، واصنع هكذا (وقبض بيمينه على الكوع)، وقل: ربي الله، حتى تموت على ذلك".
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول: إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع أقوامٌ خَلاَقَهم فيها بعَرَضٍ من الدنيا يسيرٍ". قال الحسن: "والله لقد رأيناهم صورا بلا عقول، أجساما بلا أحلام، فراش نار، وذِبّان طمع. يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين. يبيع أحدهم دينه بثمن العنز".
رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه مبارك بن فضالة: وثَّقَه جماعة، وفيه لين. وبقية رجاله رجال الصحيح".
وعن حذيفة أيضا رضي الله عنه أنه قال: "أتتكم الفتن مثل قطع الليل المظلم. يهلك فيها كل شجاع بطل، وكل راكبٍ مُوضِعٍ، وكل خطيبٍ مِصْقَع".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن أبي الطفيل عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أنه قال: "أنا لِغَيْر الدجَّال أَخْوَفُ عليَّ وعليكم". قال: فقلنا: ما هو يا أبا سريحة؟ قال: "فِتَنٌ كأنها قطع الليل المظلم". قال: فقلنا: أي الناس فيها شر؟ قال: "كل خطيبٍ مِصْقَع، وكل راكبٍ مُوضِع". قال: فقلنا: أي الناس فيها خير؟ قال: "كل غني خفي". قال: فقلت: ما أنا بالغني ولا بالخفي. قال: "فكن كابن اللَّبُون: لا ظهرٌ فيُرْكَب، ولا ضرعٌ فيُحْلَب".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه قال: "أتتكم الفتنة ترمي بالرَّضْف. أتتكم الفتنة السوداء المظلمة. إن للفتنة وقفات ونقفات، فمن استطاع منكم أن يموت في وقفاتها فليفعل".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وزاد في رواية أخرى عن زيد بن وهب، قال: "سئل حذيفة رضي الله عنه: ما وقفاتها؟ قال: إذا غُمِد السيف. قال: ما نقفاتها؟ قال: إذا سُلَّ السيف".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه أبو نعيم في "الحلية" بنحوه مختصرا.
قال ابن منظور في "لسان العرب": "النقف: كسر الهامة عن الدماغ ونحو ذلك، كما ينقف الظليم الحنظل عن حبه. والمناقفة: المضاربة بالسيوف على الرؤوس. ونقف رأسه ينقفه نقفا ونقحه: ضربه على رأسه حتى يخرج دماغه".
وقال أيضا تبعا لابن الأثير: "وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "اعدد اثني عشر من بني كعب بن لؤي، ثم يكون النقف والنقاف"، أي القتل والقتال. والنقف: هشم الرأس. أي تهيج لفتن والحروب بعدهم. وفي حديث مسلم بن عقبة المري: "لا يكون إلا الوقاف ثم النقاف ثم الانصراف". أي: المواقفة في الحرب ثم المناجزة بالسيوف ثم الانصراف عنها.
وعن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: "جُعِلَتْ في هذه الأمة خمس فتن: فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم تأتي الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي يصير الناس فيها كالأنعام".
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، والحاكم في "مستدركه" من طريقه، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه الحاكم أيضا من حديث محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: "تكون في هذه الأمة خمس فتن: فتنة عامة، وفتنة خاصة، ثم فتنة عامة، وفتنة خاصة، ثم تكون فتنة سوداء مظلمة يكون الناس فيها كالبهائم".
قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن كرز بن علقمة الخزاعي رضي الله عنه قال: "قال أعرابي: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: نعم. أيُّما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرًا أَدْخَل عليهم الإسلام. قالوا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: ثم تقع فتن كأنها الظلل. قال: فقال أعرابي: كلا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده؛ لتعودُنَّ فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربع فتن تكون بعدي: الأولى يسفك فيها الدماء، والثانية يستحل فيها الدماء والأموال، والثالثة يستحل فيها الدماء والأموال والفروج، والرابعة صماء عمياء مطبقة تمور مَوْر الموج في البحر حتى لا يجد أحد من الناس منها ملجأ، تطيف بالشام، وتغشى العراق، وتخبط الجزيرة بيدها ورجلها. تُعْرَك الأمة فيها بالبلاء عرك الأديم، ثم لا يستطيع أحد من الناس أن يقول فيها: مَهْ مَهْ. لا يدفعونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن". قال في "كنز العمال": "ورجاله ثقات، ولكنْ فيه انقطاع".
وعن حذيفة أيضا رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تفنى أمتي حتى يظهر فيهم التمايز والتمايل والمعامع. قلت: يا رسول الله، ما التمايز؟ قال: التمايز عصبية يحدثها الناس بعدي في الإسلام. قلت: فما التمايل؟ قال: تميل القبيلة على القبيلة فتستحل حرمتها. قلت: فما المعامع؟ قال: سير الأمصار بعضها إلى بعض تختلف أعناقهم في الحرب".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي بأن فيه سعيد بن سنان. قال: "وسعيد متهم به".
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "ستكون فتنة عمياء مظلمة منكسفة، لا ينجو منها إلا النُّوَمَة". قيل: وما النُّوَمَة؟ قال: "الذي لا يدري ما الناس فيه".
رواه العسكري في "المواعظ"، ونقله عنه صاحب "كنز العمال".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تدوم الفتنة الرابعة اثني عشر عامًا، ثم تنجلي حين تنجلي وقد انحسر الفرات عن جبل من ذهب تُكِبّ عليه الأمة، فيقتل عليه من كل تسعة سبعة".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربع فتن تكون بعدي: الأولى يسفك فيها الدماء، والثانية يستحل فيها الدماء والأموال، والثالثة يستحل فيها الدماء والأموال والفروج، والرابعة صماء عمياء مطبقة".
وعن الحكم بن نافع بلاغا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تكون في أمتي أربع فتن تصيب أمتي في آخرها فتن مترادفة: فالأولى يصيبهم فيها بلاء حتى يقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف. والثانية حتى يقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف. ثم الثالثة كلما انقطعت تمادت. والفتنة الرابعة يصيرون فيها إلى الكفر إذا كانت الأمة مع هذا مرة، ومع هذا مرة، ومع هذا مرة، بلا إمام وجماعة، ثم المسيح، ثم طلوع الشمس من مغربها، ودون الساعة اثنان وسبعون دجالا منهم من لا يتبعه إلا رجل واحد".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن"، وله شواهد كثيرة.
وعن حذيفة أيضا رضي الله عنه أنه قال: "تكون فتنة لها رجال فيضربون خيشومها حتى تذهب، ثم تكون أخرى فيقوم لها رجال فيضربون خيشومها حتى تذهب، ثم تكون أخرى، فيقوم لها رجال فيضربون خيشومها حتى تذهب، ثم تكون أخرى فيقوم لها رجال فيضربون خيشومها حتى تذهب، ثم تكون الخامسة دهماء مجللة تنبثق في الأرض كما ينبثق الماء".
رواه ابن أبي شيبة.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف".
رواه: الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
قوله: "تستنظف العرب ": قال ابن الأثير وابن منظور: "أي تستوعبهم هلاكا".
أسأل الله لي ولكم العافية.
– وأقول أنا: الكاتب ينصح المسلمين إذا أرادوا أن يُرْضُوا ربهم ويفوزوا بالجنة أن يعتزلوا تماما ما يجرى على ساحة السياسة من تظاهرات واعتصامات وما إلى ذلك ويتركوا غيرهم ينال كل شىء، أما هم فيبوؤون بخيبة الدنيا والآخرة. إن مكاسب الانتفاضة سوف تذهب حينئذ إلى غير المسلمين من شيوعيين ونصارى ونصيريين ومن إليهم ممن ذكرهم الكاتب، ولأُمّ المسلمين الهَبَلُ. ولا عزاء لهم فى شىء، فقد أخذوا بنصيحة أخينا المقدام فحق عليهم الخذلان. إن الفتن التى ينبغى الابتعاد عنها هى المنازعات التى يثيرها بعض الطامحين والطامعين فى الحكم ممن لا يهمهم مصالح المسلمين، بل كل ما يريدونه هو مغانم الكرسى والتحكم فى رقاب العباد وسَوْقهم أمامهم سوق الدواب بالعصا والسوط. على أن الابتعاد عن تلك المنازعات لا يعنى أن يُصِمّ المبتعد أذنيه ويغلق عينيه عن الأمر بحيث لا يكون له فيه أية مشاركة. بل المقصود، فيما أفهم، ألا ينحاز إلى فريق من الطامحين الطامعين ضد الفريق الآخر تحت اعتبار قبلى أو مصلحى مثلا، بل يعمل كل ما فى وسعه على المصالحة والقضاء على أسباب النزاع. أفلم يقل القرآن الكريم: " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات/ 9- 10)؟ أم ترانا ينبغى أن نهمل ما يقوله المولى سبحانه وتعالى ونأخذ بكلام كاتبنا المفضال؟
وعلى أية حال ليس فى تظاهرات الشباب هذه الأيام اقتتال أو تطلع إلى أية مغانم خاصة، بل كلها مطالب إصلاحية للأمة كلها. وإذا كان قد وقع صدام فهم ليسوا مسؤولين عنه، بل المسؤول هو مَنْ جَنَّد المشاغبين وسَلَّطهم على أولئك الشبان النبلاء، فقذفوهم بالطوب وبالرصاص، فلم يجدوا بدا من الرد على الحجارة بحجارة مثلها. أما الرصاص والإبل والخيول والحناطير والعربات المصفحة والمدرعة التى قتلت منهم من قتلت فهذه ليس لهم منها قُلٌّ أو كُثْرٌ، بل كانوا يسألون الله السلامة. فماذا كان الكاتب يريد منهم؟ أكان يريد منهم أن يتركوا للبلطجية المجرمين الجمل بما حَمَل ويُخْلُوا لهم الساحة ويكتفوا من الأمر بما هتفوا به من هتافات لن تؤكِّل عيشا حافيا إذا لم يواصلوا التظاهر والصمود من أجل فوز الأمة بحقوقها أو ببعض حقوقها التى طالما تُجُوهِلَتْ واعْتُدِىَ عليها من قِبَل الحكام؟ أم ماذا؟ إن كل ما يفعلونه الآن إنما هو الصراخ بكلمة حق عند سلطان جائر طبقا لما أمر الرسول عليه السلام المسلمين به، ولو لم يعملوه لباؤوا بخسران مبين.
لوأن الكاتب طلب من المسلمين فى تلك الظروف أن يحكّموا عقولهم ويمحصوا الأمور التى تقع من حولهم ويعملوا على فهمها ومحاولة الخروج منها بأكبر قدر من المكاسب وأقل نصيب من الخسائر لقلنا له: نعم، ونعام عين. أما أن يكون مطلبه هو هروب المسلمين من وجه الأحداث والاعتصام بالسلبية والفرار من الميدان وتركه للأطراف الطامحة الطامعة تقرر مصيره ومصير الدولة كلها دون أن يكون لهم رأى أو موقف، فهذا ما لا أدرى كيف يكون. الواقع أنهم لو انتصحوا بما ينصحهم به الكاتب لأخذوا أبشع مقلب يمكن أن يأخذوه.
كذلك فإن هذه الفتن التى تتحدث عنها الأحاديث النبوية المذكورة إنما هى فِتَن آخر الزمان حين يظهر المسيح والدجال وتطلع الشمس من مغربها وينحسر الفرات عن جبل من ذهب تُكِبّ عليه الأمة فيقتل عليه من كل تسعة سبعة كما تقول الأحاديث التى رواها كاتبنا. فهل نحن الآن فى آخر الزمان؟ فأين المسيح إذن؟ وأين المسيخ الدجال؟ وأين جبل ذهب الفرات؟ وهل صارت الشمس تطلع من مغربها ونحن لا ندرى؟ إننا الآن فى عز التاريخ، وليست هناك شواهد بعد على أننا مشرفون قريبا على يوم القيامة. ولقد قامت بعض الفتن فى عهد الرسول، فلم نره صلى الله عليه وسلم يعتزل الفتن، بل كان يقتحمها ويأخذ بقرونها ويذللها فتذل له عليه السلام. هذا هو الموقف الإيجابى الذى ينبغى أن نحتذيه ونسير على منواله لا أن نفر ظانين أننا بهذا الفرار نحسن صنعا. ولقد انتقد كثير من المراقبين قوات الجيش المصرى الرابضة الآن فى ميدان التحرير حين هاجم البلطجيةُ رجالَ الانتفاضة الشرفاء فتركهم الجيش أوّلاً يمرّون، ثم تركهم مرة أخرى يعتدون على أبطال الانتفاضة. وكانت حجته أنه لا يريد أن ينحاز إلى أحد الطرفين، مما كانت ثمرته وقوع عدد من القتلى والجرحى كنا فى غنى عن وقوعه لولا هذا الموقف العجيب الذى ينادى به كاتبنا. ولو كان رجال الجيش منعوا المعتدين من دخول ميدان التحرير أول الأمر ما كانت هذه الكارثة.
إن الدعوة إلى تأثيم المظاهرات ليس له إلا عاقبة واحدة هى أن يظل المسلمون فى هم وغم وفقر واستبداد وشقاء فلا يصلح لهم حال أبدا، فما دام حكامهم مطمئنين إلى أن شيوخ الضلال تقول بحرمة التظاهر والوقوف فى وجه المستبدين فما الذى يضطرهم إلى سلوك الصراط المستقيم؟ هاتوا لنا ملائكة تحكمنا إذا أردتم أن يلتزم المسلمون بنصائحكم التى تودى بهم فى داهية. لكن لم نسمع فى يوم من الأيام، ولن نسمع كذلك فى مُقْبِل الأيام، أن ملائكة قد حكمت البشر، بل حكام البشر لا يكونون إلا من البشر، الذين يمكن أن يكذبوا ويسرقوا ويقتلوا ويستبدوا ويَطْغَوْا فى البلاد. فماذا يفعل المسلمون؟ أيتركونهم يصنعون بهم ما يشتهون دون نكير أو تأفف أو كفاح؟ ترى هل المسلمون أصنام لا تحس ولا تفهم ولا تتألم ولا تتطلع إلى إصلاح؟ يا لهوانهم إذن إن صح فيهم هذا الذى أقول! ترى ماذا نصنع بما قال أبو بكر رضى الله عنه غِبَّ توليه خلافة المسلمين: "أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم. فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"؟ وماذا نصنع بما رد به أحد المسلمين على عمر فبارك عمر رده عليه حين قام فى الرعية خطيبا فقال: "إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوِّموني. فنهض رجل وقال لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوَّمناك بسيوفنا. فقال عمر: الحمد لله، الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوِّم عُمَرَ بسيفه"؟
إن أمثال الكاتب، على العكس من ذلك، يستشهدون دائما بالحديث التالى: "عن عوف بن مالك، عن رسول الله قال: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا ولا تنزعوا يدًا من طاعة"، مع أنه لا وشيجة بين هذا الحديث وما نحن فيه من تظاهرات سلمية. كذلك لو أُخِذ هذا الحديث على ظاهره لما كان أسهل من إفساد الحاكم على راحته لأمور البلاد والعباد مع التحرُّم بصلاةٍ نفاقيّةٍ يؤديها كيلا يخرج عليه خارج. الله أكبر! حتى لو ظاهر الأعداءَ فى الداخل والخارج ضد الإسلام؟ نعم حتى لو ظاهر الأعداءَ فى الداخل والخارج ضد الإسلام. ألا يصلى؟ بلى هو يصلى. فاتركوه يفعل بكم وبدينكم ومصالحكم وكرامتكم ويضربكم بالجزمة القديمة ما شاء له إجرامه وجبروته وساديّته. وإياكم أن تهبّوا وتأخذوا على يده، وإلا حقت عليكم لعنة الله والرسول والملائكة والناس أجمعين.
أما قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر: "إن الناس إذا رَأَوُا الظالم فلم يأخذوا على يده عَمَّهم الله بعقابه"، أو قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" فإياكم ثم إياكم أيها المسلمون ثم إياكم أن تصدّقوا منه شيئا فتحاولوا تطبيقه. إنه حديث للزينة ليس إلا. أستغفر الله! لقد فات الكاتب وأشباهه أن المراد من الحديث الذى ينهى عن الخروج من الطاعة هو ألا يسارع كل إنسان يسخط على الحاكم شيئا بالخروج عليه (الخروج بالسلاح لا التظاهر لإسماعه شكاة المظلومين. أم ترى يجب على المسلم أن يطقّ من أجنابه ولا يفتح فاه بشكوى أبدا؟)، وذلك حتى لا يتحول الأمر فوضى عارمة وينهار بناء الدولة والمجتمع. كما يراد به من يسخط على السلطان لأنه عاقبه ولم يتركه يفلت بجريمته. ذلك أن هناك ناسا يريدون أن يبغوا فى الأرض وأن يذلوا الآخرين فلا تفتح الدولة فاها، بل تبارك ما صنعوا. ويا حبذا لو أعطتهم عليه جائزة أيضا. لكن لا يمكن أن يكون المراد هو رضا الأمة بكل ما يصنعه الحاكم بها من مظالم ومفاسد واستبداد وترويع ونهب وسلب ومحسوبية، وبخاصة إذا لم يتولَّ الحكم بناء على اختيار الأمة بل اغتصبه اغتصابا: سواء كان الاغتصاب اغتصابا بَوَاحًا أو بالانتخابات المزورة التى لا تساوى بصلة. ومثل ذلك الحكم هو حكم غير شرعى.
ولقد بين الرسول الكريم أن من يتطلع إلى الحكم ويطلبه لا ينبغى أن ينال منه شيئا، حسبما قال لأحد الصحابة ممن طلب منه توليته عملا من أعمال الدولة. فعن أبى موسى الأشعرى: "دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أَمِّرْنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: إنا لا نُوَلِّي هذا مَنْ سأله ولا مَنْ حَرَص عليه". فإذا نهضت عندئذ طائفة هائلة العدد تعبر عن ضمير الشعب فتنادت بالإصلاح وعملت على ردع ذلك الحاكم وإيقافه عند حده فما وجه الإنكار عليها فى هذا، وبخاصة حين يكون إنكارا سلميا يُسْمِعون به صوت احتجاجهم للأمّة والعالم ويحرجون به الظلمة الفسقة الضالين المضلين، اللهم إلا إذا كنا جماعة من المازوكيين، الذين يتلذذون بتعذيب الآخرين لهم؟ وحاشا للمسلم أن يكون مازوكيا!
ولنفترض أنْ كان هذا الذى كتب الكاتب فى مقاله صحيحا، فكيف نصنع بقول رسولنا الكريم: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد"؟ أليس معناه بكل وضوح أن الحاكم (مَثَلُه مَثَلُ أىّ شخص آخر. أم على رأس الحاكم ريشة؟) إذا أراد أن يغتصب عِرْض مسلم أو ماله أو ضَيَّق عليه فى دينه، فدافعه هذا المظلوم عن ماله وعرضه فقُتِل أثناء هذا الدفاع فهو شهيد؟ أليس معنى ذلك أن الإسلام يحض على ذلك الدفاع؟ أتراه، لو كان الاستسلام هو مبدأه فى مثل هذه الحالة، يعلى على هذا النحو من شأن الشهادة فى سبيل الدفاع عن الحقوق؟ ألم يكن أجدر بالحديث حينئذ أن يقول مثلا: من اغتصب الحاكمُ مالَه أو اعتدى على عِرْضه فليتركه له عَفْوًا صَفْوًا لا يكدّره عليه بمكدر؟ وماذا نقول لرسول الله ذاته حين أعطى الدرة لرجل من المسلمين ليقتص بها منه لقاء ما تصور أنه قد آذاه بها؟ أوقد أخطأ الرسول عندما طاف بذهنه أن للرعية حقا عند الحاكم تستطيع بناء عليه أن تقتص منه؟ ثم ماذا نقول فى هذا النص النبوى الكريم: "إنَّ الناس إذا رَأَوُا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللّه بعقابٍ"؟ أو هذا: "لا يَقِفَنَّ أحدكم موقفا يُقْتَل فيه رجلٌ ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على كل من حضر حين لم يدفعوا عنه. ولا يقفنّ أحدكم موقفا يُضْرَب فيه رجلٌ ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه". فإذا كانت هذه عقوبة من يرى الظلم ويسكت فلا ينصر المظلوم، فما بالنا بالمظلوم نفسه؟ لا شك أن عقابه يكون أشنع وأفظع إذا سكت عن حقه ورضى أن يضرب ويهان ويسرق، متصورا أنه يتقرب إلى الله بهذا الصمت وذلك الخنوع كما يريد الكاتب. ثم هل هناك معصية أبشع من الاستبداد السياسى بكل مفاسده ومساوئه؟ إذن فلنقرأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما من قومٍ يُعْمَل فيهم بالمعاصى ثم يَقْدِرون أن يغيّروا ثم لا يغيّرون إلاَّ يوشك أن يعمهم اللّه منه بعقابٍ". ولم يستثن الحديث معاصى الحكام. ومن الطبيعى أن تأتى مثل تلك المعاصى على رأس الفساد فى أى بلد، إذ هى أُسُّ الكثير من المعاصى الأخرى. ثم هل من العدل أن يتميز الحاكم بأنه فوق السؤال والمحاسبة دون باقى الشعب؟ إذن أبشروا فى بلادكم بخراب شامل يا مسلمون!
وبعد، فقد أقر المسؤولون الذين قامت التظاهرات ضدهم تهتف بسقوطهم بأنها تظاهرات نبيلة تعبر عن حقوق الشباب، فما رأى كاتبنا الهمام؟ أم تراه يفضل أن يكون ملكيا أكثر من الملك ذاته؟إلى شيوخ الضلال: