فضح السيد قمنى فى كتاب (الحزب الهاشمى)
كنت قد كتبت مقالا منذ عدة سنوات بعنوان (اعتزال سيد القمنى) تعرضت فيه، ضمن موضوعات أخرى، إلى موضوع الدكتورية التى ينتحلها القمنى، ويشكك ناس كثيرون فى حصوله عليها من الأساس، وقلت آنذاك: إن الكرة الآن فى ملعب سيد القمنى، ومن ثم فبيده إذا أراد أن يضع حدا لهذا اللغط وذلك الاختلاف، إن لم يكن من أجل تبرئة ساحته والنَّأْى بسمعته عن أن تكون محلا للتشكيك من قِبَل المخالفين أو للمزايدة من جانب المشايعين، فعلى الأقل من أجل تجلية الحقيقة، تلك الحقيقة التى يعلن دائما أنه إنما يتجشم ما يتجشم فى الكتب التى تحمل اسمه من أجل إظهارها! فهل تراه يفعل وينهى هذا الخلاف الذى أذكر أنه قد ثار من قبل منذ وقت غير قريب، ولم يحاول من يومها فى حدود علمى أن يحسمه، مع أن حسمه فى منتهى السهولة، إذ كل ما هو مطلوب منه أن يحدد القسم والكلية والجامعة التى درس فيها وحصل منها على درجة الدكتوراه، والموضوع الذى كتب فيه رسالته، والمشرف الذى كان يدرس على يديه طوال تلك الفترة، والمكتبة الجامعية التى يمكن المتشككين أن يراجعوها ليَرَوْا نسخ الرسالة التى حصل بها على الدرجة المذكورة، والتاريخ الذى تم فيه ذلك، والزملاء الذين كانوا يدرسون معه تحت توجيه المشرف ذاته، ومدى أهلية الجامعة التى حصل منها على الدكتوراه لإعطاء مثل تلك الشهادة إن كان حقًّا وصدقًا قد حصل عليها، ولماذا لم يطبع رسالته حتى الآن يا ترى؟ بل لماذا لا نرى له مؤلَّفا واحدا فى تخصصه، وهو الفلسفة، فى الوقت الذى نرى عدة مؤلفات (لا عشرات كما يزعمون) تحمل اسمه، كلُّها فى الإسلاميات، وهى ليست من تخصصه ولا هو منها فى شىء؟... مما يستطيع أن يجُبّ به عن نفسه الغِيبَة ويُلْقِم المتَّهِمين له حجرا يُسْكِتهم بل يُخْرِسهم، وفى نفس الوقت يريح ضمائر الباحثين عن الحق والحقيقة، ولا شىء غير الحق والحقيقة؟
إن الأمر، كما نرى، فى منتهى السهولة واليسر، ولا يحتاج لوقت أو جهد أو بحث أو مال أو أى شىء آخر سوى أن يجيب سيد القمنى على الأسئلة السالفة، وكان الله يحب المحسنين! وبغير ذلك فللقارئ الحق فى تصديق اتهام المتَّهِمين للقمنى بأنه لم يحصل على الدكتوراه على الأقل، وبخاصة أنه من غير المفهوم أن يبقى عبقرى مثله خارج الجامعة دون أن يحاول على أهون تقدير أن يتقدم لشَغْل وظيفة مدرس فى إحدى الجامعات المصرية مادام حاصلا على جواز المرور الذى يخوِّل له العبور من بوابة الجامعة إلى حيث يكون دكتورا فيها بدل بقائه دون شغل ثابت فيما أفهم طوال هذا الوقت، أو على الأقل: فى وظيفة أقل مستوى من شهادته وخبرته! والطريف أن سيد القمنى يكتب تحت اسمه فى بعض المواقع أنه "باحث أنثروبولوجى وأستاذ جامعى من مصر". فأما "باحث أنثروبولوجى" فنفوّتها له، لكن متى كان سيادته أستاذا فى الجامعة؟ ليس الأستاذ الجامعى بالتمنى، ولكن ما وقر فى كشوف أعضاء هيئة التدريس، وصدّقه دخول المحاضرات وقبض المرتبات".
وبعدها بعدة سنوات تناول د. قاسم عبده قاسم، فى خبر منشور فى 25/ 7/ 2009م بجريدة (المصريون) الضوئية عنوانه: (قاسم عبده قاسم: على مسؤوليتي الشخصية القمني لا يحمل الدكتوراة)، ذات النقاط التى لمستها فى مقالى فقال إن حالة سيد القمني حالة مزورة بالكامل. مؤكدا في شهادته لـ"المصريون" أن القمني لا يحمل شهادة الدكتوراة. وأضاف بلهجة حاسمة قوله: هذا الكلام على مسؤوليتي الشخصية: القمني ليس حاصلا على الدكتوراة. ثم استمر يقول: أتحدى القمني ومن رشحوه ومن منحوه الجائزة أن يظهروا للناس شهادة الدكتوراة التي يزعمون أنه يحملها. هذا نموذج للتزوير في أفحش صوره، وما يدعيه من حصوله على الدكتوراة محض كذب وانتحال. هذا نموذج للتزوير في أفحش صوره وما يدعيه من حصوله على الدكتوراة محض كذب وانتحال. وقال قاسم الذي يحظى باحترام واسع في أوساط النخبة المصرية إنه التقى قبل سنوات بالقمني وسأله عن حكاية الدكتوراة التي يحملها، وعن أساتذته ومن الذي أشرف على رسالته ومن الذين ناقشوه فيها وما هو موضوعها، فهرب منه. ثم ظهر بعدها بسنوات يروج أنه حصل عليها من جامعة أجنبية. وأضاف قاسم بأن ما ينشره القمني عن التاريخ الإسلامي أو التاريخ القديم لا يمت بصلة للعلم ولا للمنهج ولا للأمانة، مجرد زيف وتهريج حسب قوله.
وبعدها ببضعة أيام ليس غير (فى 1/ 8/ 2009م على وجه التحديد) نشرت (المصريون) خبرا يحسم المسألة ويؤكد أن شهادة الدكتورية التى مع القمنى يمكنه أن يبلها ويشرب ماءها: قبل تغيير الريق أو بعده، لا يهم! وهذا نص الخبر، وهو بعنوان (القمني اشترى دكتوراه بمائتي دولار من مكتب محترف تزوير شهادات): في تتابع مخيف لفضيحة التزوير الذي تتستر عليه وزارة الثقافة المصرية والمجلس الأعلى للثقافة فيما يخص الجائزة التي منحوها لسيد محمود القمني مدرس الثانوي، وادعاء القمني والوزير والمجلس بأنه حاصل على دكتوراة في فلسفة الأديان، تم الكشف عن أن القمني متورط في جريمة تزوير خطيرة تمثلت في إقدامه على شراء شهادة دكتوراة مزورة من مكتب أمريكي محترف في تجارة الشهادات المزورة بجميع صورها ودرجاتها مقابل مائتي دولار.
وكانت السلطات الأمريكية قد ألقت القبض على أصحاب هذا المكتب الذي أطلقوا عليه اسم (جامعة كاليفورنيا الجنوبية) وتم تقديمهم للعدالة حيث قضت محكمة نورث كارولينا بسجن أصحابه خمس سنوات في واقعة اعتبرتها المصادر الجامعية أكبر جريمة تزوير في تاريخ الجامعات الأمريكية. وبناء عليه قررت السلطات الأمريكية طرد أي موظف أمريكي تم تعيينه بموجب شهادات مستخرجه من هذا المكتب مكتفية بهذه العقوبة له على مشاركته في جريمة التزوير، وهو ما نتمنى أن تحذو حذوه الحكومة المصرية بسحب الجائزة التي منحها فاروق حسني وزير الثقافة لسيد القمني بوصفها تأسست على معلومات مضللة وأوراق مزورة، كأقل عقوبة يمكن أن يواجهها بنفس التهمة.
وكان بداية الخيط في الفضيحة الجديدة حوار اكتشفناه صدفة نشره القمني في صحيفة (القبس) الكويتية ذكر فيه أنه حصل على درجة الدكتوراة بالمراسلة من جامعة كاليفورنيا الجنوبية عام 1983 عن كتاب اسمه: (رب الثورة أوزوريس). وكان هذا الادعاء شديد الفجاجة والغرابة وبعيدا عن المنطق، لأنه في ذلك التاريخ لم يكن هناك خدمات الإنترنت التي تتيح إنجاز رسائل علمية بالمراسلة مع أمريكا، حيث تكون الرسالة البريدية العادية تحتاج أسابيع لكي تصل، وأشهرا لكي يتم الرد عليها، فكيف برسالة دكتوراة يتم النقاش فيها والأخذ والرد والتعديل وخلافه؟
هذه هي الملاحظة الأولى التي كشفت الكذب والتزوير. ثم إن رسالة الدكتوراة المقدمة لجامعة أمريكية كيف يمكن أن تقدم هناك وتتم مناقشتها ودراستها، وهي باللغة العربية من غير نص إنجليزي؟ هذه هي الثانية. وكان ذلك دافعنا إلى تقصي الحقيقة من خلال المؤسسات الأمريكية المعنية بالأمر. وعندما بدأنا البحث عن تاريخ التعليم بالمراسلة في الولايات المتحدة وجدنا أن المرجع رقم واحد في العالم في هذا الموضوع هو كتاب يتضمن قائمة بالجامعات المزورة في الولايات المتحدة منذ نهاية السبعينات. لم تكن مفاجأة لنا أن نجد اسم الجامعة العريقة التي تخرج منها هذا القمني في هذه القائمة وتحت اسم الجامعة مكتوب بالنص أن أصحاب الجامعة تم محاكتمهم و سجنهم خمس سنوات لبيعهم شهادات جامعية من كل الأنواع مقابل ٢٠٠ دولار فأكثر.
ولم تكن هذه مجرد جريمة تزوير كما في أي جامعة، بل كانت طبقا للكتاب أكبر جريمة تزوير في تاريخ الجامعات الأمريكية. وتمت المحاكمة في محكمة نورث كارولينا في أكتوبر ١٩٨٧. وطبقا لوزارة التعليم الأمريكية فإن كل الدرجات الممنوحة من أي جامعة مزوره تعتبر لاغية لكون الحاصلين على هذه الشهادات لم يقوموا بالدراسة بالإضافه لمشاركتهم في عملية التزوير ويتم الاكتفاء بطردهم من وظائفهم".
ولم يكتف القمنى بهذا، بل دلس مرة أخرى زاعما أنه قد عادل شهادته المزيفة من المجلس الأعلى للجامعات فى مصر، فما كان من المسؤولين فى المجلس إلا أن كذبوه فى أصل وجهه الذى لا يعرف الحياء. وهذا ما ذكرته جريدة "المصريون" الضوئية فى عددها الصادر فى 5/ 8/ 2009م فى هذا الصدد: "صرح مصدر رفيع في وزارة التعليم العالي للمصريون بأن ادعاءات سيد القمني بأنه حصل على معادلة لشهادته المزورة من المجلس الأعلى للجامعات محض خيال فاسد، كما أن المعلومات والوثيقة المنشورة في مقاله بصحيفة المصري اليوم مغلوطة تماما، ولا تتصل بشهادته العلمية، وإنما هي إفادة عامة من المجلس الأعلى للجامعات تقدَّم لأي مواطن ولا تصدر باسم طالب الإفادة توضح لوائح أو قرارات كأصول عامة للتعامل، والوثيقة المنشورة توضح قرار المجلس الأعلى للجامعات المصرية في العام 1965 بقبول معادلة الشهادات من الجامعات الأمريكية، وأن جامعة جنوب كاليفورنيا من الجامعات المعترف بها، وهي غير الجامعة التي قال أنه حصل على شهادته منها. ولا تصدر الإفادة بأسماء، ويمكن لأي مواطن عادي أن يطلب توضيحا مماثلا عن أي جامعة في العالم بعد سداد الرسوم المقررة. وأضاف المصدر أنه من المحال عقلا أن يتقدم طالب لمعادلة شهادته ودفع الرسوم المطلوبة في يوم 11/5/1987 ويتم صدور شهادة المعادلة بعد ثلاثة أيام فقط في 14/5/1987، فهذا كلام شديد الغرابة والخيال، لأن إجراءات المعادلة دقيقة وتستغرق من شهرين كحد أدنى إلى ستة أشهر، حيث يتم دفع الرسوم المقررة، ثم تقديم نسخة من الرسالة الأصلية وبيان بالمقررات الدراسية التي درسها الطالب، وتقدم إلى لجنة المعادلات بالمجلس الأعلى التي تضم ممثلا لكل جامعة من الجامعات المصرية وتقوم لجنة المعادلات بإرسال هذه الوثائق شاملة الرسالة إلى إحدى الكليات المناظرة، وتحيل الكلية هذا الملف إلى أستاذ من الأساتذة في مادة تخصصه ويكتب تقريرا يرد إلى اللجنة وتأخذ به اللجنة، ويسبق ذلك التأكد من صدقية الوثائق المقدمة. وفي حالة كهذه لا بد من وجود ختم السفارة المصرية في واشنطن على الشهادة المقدمة، وكذلك ختم للجامعة الأمريكية والمستشار الثقافي المصري في واشنطن. وأكد المصدر أن تقارير لجان المعادلات لا تزال وتظل "محفوظة"، ويمكن الاطلاع عليها في كل وقت. ولكل حالة رقم وتاريخ في دفاتر معروفة. ويصدر القرار باسم وزير التعليم سابقا أو التعليم العالي حاليا بوصفه رئيس المجلس الأعلى للجامعات، وينشر في الوقائع المصرية، وهذا كله ما لم يحدث مطلقا مع حالة سيد القمني".
لكن المسألة لما تتم فصولا بهذا التطور، إذ اعترف القمنى، بعدما ضاقت فى وجهه السبل وسدت الأبواب والنوافذ بأن شهادته مزورة، إلا أنه ككل مزور فاسد الضمير أراد أن يتبرأ من الجريمة فقال إنه هو نفسه قد غُرِّر به، إذ كان لا يعلم أن الجامعة التى أعطته الدكتورية هى جامعة مزورة. فما كان من جمال سلطان إلا أن كتب ساخرا فى جريدة "المصريون" الضوئية يوم الخامس من أغسطس 2009م ساخرا من هذا الكلام الأبله الذى يظن صاحبه المدلس أنه يجوز فى العقول:
"قُضِيَ الأمر، واعترف المزور بجريمته علنا وعلى رؤوس الأشهاد، ولم يعد هناك مجال للمماحكة أو الجدال بعد الاعترافات الخطيرة التي قدمها سيد القمني بخط يده ونشرتها صحيفة "المصري اليوم" أمس، والتي أقر فيها بأن شهادة الدكتوراة التي ادعى أنه حصل عليها من الولايات المتحدة بالمراسلة هي شهادة مزورة، وأنه "غُرِّر به" (يا عيني!) ولم يكن يدرك الفارق بين الجامعة الحقيقية والجامعة الوهمية نظرا لأن وسائل الاتصال وقتها لم تكن متقدمة بشكل كاف. وأحنى "المزور" رأسه للمرة الأولى أمام صحيفة "المصريون"، واعترف بفضلها في تتبع خيوط جريمة التزوير، وادعى أنه لم يكن يعلم بالتزوير حتى قامت صحيفة "المصريون" بالبحث والتقصي واكتشفت الجريمة. والحمد لله ذي المنة والجلال والعظمة والجبروت، الذي جعل من اتهمنا بالكذب ورمانا بالباطل أن يعترف علنا وعلى رؤوس الأشهاد بفضلنا، ويأتي بهذا المغرور المتعجرف بذيء اللسان صاغرا محني الرأس ذليل الموقف أمام الصحيفة التي ضبطته متلبسا بالجريمة. وأصبح الرأي العام المصري أمام مشهد هزلي مهين لمصر الدولة والثقافة والأخلاق. فقد ورط فاروق حسني الدولة المصرية في منح جائزتها الرفيعة إلى مجرم مزور محترف باع ضميره واشترى شهادة مزيفة للدكتوراة تسلل بها إلى الحياة العلمية وإلى مؤسسات الدولة لكي ينال أرفع جوائزها.
والطريف أن القمني، في اعترافاته التي انتظر عشرة أيام كاملة لكي يدبجها بتمهيد طويل عريض لتشتيت ذهن القارئ عن صلب اعترافاته، أراد أن يمهد لاعترافه بتحقيره للجامعات المصرية حيث ادعى أنه أراد أن يحصل على الدكتوراة من جامعة عالمية كبيرة تتيح له العمل في جامعات أوربا، وأنه وجد أن الجامعات المصرية غير معترف بها دوليا، بينما هذا الأفاق المزور كان أول شيء فعله بعد أن اشترى الشهادة المزيفة أن جاء إلى القاهرة وقدمها للمجلس الأعلى للجامعات من أجل أن يعادلها له بشهادة مصرية. فإذا كانت الجامعات المصرية تافهة وغير معترف بها لماذا هرولت بشهادتك المضروبة لكي تعادلها بشهادة مصرية أيها الأفاق؟ وهي كلها تناقضات مثيرة تعتري اللصوص والمجرمين عندما يتم ضبطهم متلبسين بجرائمهم فيحاولون الهرب من وقع الفضيحة فيتورطون في المزيد من الفضائح كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
والقمني أضاف إلى سجل جرائمه جريمة تزوير جديدة، حيث ادعى في مقاله المنشور أنه استصدر شهادة من المجلس الأعلى للجامعات المصرية بالدكتوراة ونشر وثيقة مزعومة مع مقاله على أنها شهادة المعادلة. وهي تزوير جديد، ماكينة تزوير لا تتوقف، لأن الورقة المنشورة ليست شهادة أبدا، وإنما إفادة عامة يستخرجها أي مواطن عادي بعد دفع الرسوم المقررة عند استفساره عن جامعة من الجامعات الأجنبية ومدى قبول الشهادات التي تصدرها، فيتم إفادته بأن هناك قرار وزاري رقم كذا وكذا. فدلس القمني على القارئ وزعم أنه حصل على معادلة. وهو الآن في كل خطوة يحاول فيها الهرب من الفضيحة يرتكب جريمة جديدة. وأعتقد أن السادة المحامين أصبحوا أمام مهمة سهلة الآن بجريمة مزدوجة، جريمة تزوير شهادة علمية وجريمة تزوير واتهام لمؤسسة وطنية، وهي المجلس الأعلى للجامعات. ولا بد من تقديم هذا المزور إلى العدالة. وأناشد كل الشرفاء في هذا الوطن من كتاب ومثقفين وصحفيين أن يعلنوا أصواتهم بوضوح ضد عصابة الفساد في وزارة الثقافة، وأن يطالبوا فاروق حسني راعي المزورين باتخاذ القرار الأخلاقي الملزم له بسحب الجائزة من سيد القمني والاعتذار للشعب المصري عن تسرع الوزارة بمنحه الجائزة. المسألة لم تعد قضية رأي ولا وجهة نظر ولا حرية فكر، وإنما المسألة بوضوح أننا أمام اعتراف صريح بجريمة تزوير مزدوجة بطلها منحته الدولة جائزتها التقديرية بوصفه رمزا من رموز مصر... عار!". وكان القمنى قد أعلن منذ عدة سنوات توبته وتبرؤه من كل ما كان قد صدر من كتب ومقالات حاملا اسمه وتراجعه عن آرائه ومواقفه، ذلك التراجع الذى شكك فيه كثيرون وقتها، ثم اتضح لكل إنسان فى العالم أن المسألة كلها مفبركة فبركة رخيصة كأى شىء يصدر عن القمنى.
هذا عن التزوير والتلفيق فى حياة القمنى. أماعن مستواه العلمى فأقول: كان لدىّ منذ عقد من الزمان تقريبا طالب دراسات عليا يحضّر معى أطروحة عن أحد شعراء بنى أمية، ولاحظت أنه ينقل كلاما عن بعض الكتب دون أن يكون للكلام معنى أو منطق. وعبثا حاولت أن أَثْنِيَه عن هذه الخطة الغبية فكنت أخفق فى كل مرة، إذ كلما صححت له شيئا من هذا القبيل عاد فاقترف شيئا شبيها له فى موضوع آخر. والسبب هو حماقته وقلة عقله وتصوره أن كل مهمته هى النقل عن الكتب التى تصادفه دون قانون أو أساس يرتكن إليه. وكان سهلا على أى ملاحظ أن يربط بين ذلك وبين حجم دماغه، إذ كان أَصْعَل كرأس النعامة. واعتمادا على المؤلفات الخاصة بما يسمى بـ"النقد الأسطورى"، الذى كان رائجا منذ عدة عقود رواجا أحمق كأية صرعة سخيفة يقلدها المماسيخ عندنا ممن لا شخصية لهم ولا مقدرة على تمييز الخبيث من الطيب ولا اللغو من القصد والذى كان يزعم منتهجوه أن العرب قبل الإسلام كانوا يقدسون الملوك والكواهن والنساء والثور الوحشى ولا أدرى ماذا أيضا، كتب اللوذعى الأصعل أن العرب كانوا يقدسون الناقة ويعبدونها، وكرر ذلك مرات حتى باخ الأمر وضاق صدرى من جرائه، فسألته: وأين يا بنىّ الدليل على أنهم كانوا يعبدون الناقة؟ فجاءت إجابته صاعقة، إذ قال: الدليل هو أنهم كانوا يركبونها. فقلت له ضاحكا: الله أكبر على هذا العلم اللدنى الذى لم يؤتَه أحد فى الأولين، ولا أظن أحدا سيؤتاه أيضا فى الآخِرين!
تذكرت هذا وأنا أقرأ بعض ما كتب القمنى (الدكتور المزيف الذى يذكرنا بحلاق الصحة أيام زمان حين كان يتصدى لمحاولة علاج الناس من كل الأمراض ويزعم أنه "دكتور"، والذى حصل على درجة الليسانس بتقدير "مقبول"!)، إذ وجدته ينقل كصاحبنا الأصعل من الكتب دون فهم ولا عقل، وهذا إن كان هو صاحب تلك الأفكار ولم يلقَّنْها تلقينا ليرددها على الورق كما حفّظوها له، فأنا كثير الشك فى أن يكون هو صاحب تلك الأفكار كما شككت من قبل فى الهالك خليل عبد الكريم، الذى كان "يُوَنِّج" معه فيكتبان الكلام الماسخ ذاته ويرددان الأفكار السخيفة المسيئة للإسلام ذاتها كأنهما الصوت والصدى، مع اختلاف الأسلوب فقط، ذلك الأسلوب المفعم بالأخطاء الفاحشة فى الحالتين، وأرى أن هناك جهة واحدة تمدهما بالأفكار والأطروحات التى تخدم هدفا بعينه فى حلبة الصراع الثقافى المراد منه طعن الإسلام فى مقتل، فضلا عن تقارضهما الثناء أيضا، وبطريقة ممجوجة بل مُقَيّئة.
وللقمنى هذا كتاب بعنوان "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، وهو لا يختلف فى شىء ذى بال عما قاله خليل عبد الكريم فى الكتاب الذى يحمل اسم "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية". فهما يزعمان أن أجداد الرسول، وبالذات جده المباشر عبد المطلب بن هاشم، كانوا يعملون على إشاء دولة تحمل اسمهم، وأنهم توسلوا إلى ذلك باستغلال وسيلة الدين وأن تحقق هذا المطمح قد تم على يد محمد، الذى لم يكن نبيا ولا خلافه، بل مجرد رجل من بنى هاشم تنبه إلى مطامع عشيرته فى السلطان والحكومة فاستخدم كل وسيلة ممكنة لتحقيقها، ونجح أخيرا فيما كانوا يضعون الخطط من أجله طوال تلك الأجيال. ومن الواضح أنه هو والقمنى ينزعان عن قوس واحدة ويرددان كلام جهة واحدة، ولهذا نراهما يتقارضان الثناء ويصف كلاهما الآخر بأنه كذا وكذا فى عالم البحث والتأليف مما أفضتُ فيه القول فى كتابى عن عبد الكريم: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، وهو الكتاب الذى بينت فيه بالأدلة الموثقة تهافت الكلام المنسوب لعبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه وسخفه وزيفه وبطلانه، وأحيل القارئ عليه إذا أراد أن يعرف وزن ما يقوله القمنى فى كتابه الذى معنا الآن.
وظاهرة أخذ أفكار الآخرين سرقةً أو عن طريق التراضى بين الآخذ والمأخوذ منه، بل أحيانا بأمر المأخوذ منه للآخذ أن يأخذ ما يكتبه وينشره باسمه، هى ظاهرة معروفة. وخليل عبد الكريم قد أخذ كتاب أبى موسى الحريرى: "قَسّ ونبىّ" ولفق منه كتابه هو: "فترة التكوين" حسبما وضحت بالأدلة القاطعة التى لا تقبل نقضا ولا إبراما فى كتابى: "لكن محمدا لا بواكى له". وأضيف هنا شيئا جديدا وعلى درجة هائلة من الأهمية والخطورة، إذ كان الجميع يظن أن أبا موسى الحريرى هو ابن بجدتها فى القول بأن الإسلام هو دعوة نصرانية إبيونية، على أساس أنه يقول بما كان الإبيونيون يقولون به، ألا وهو أن عيسى مجرد نبى لا إلهٌ ولا ابنٌ للإله. لكن اتضح أن هذه الفكرة قد سبقه بها حنا زكرياس (ت 1959م) مؤسس الملفات المذهبية والأدبية للقرون الوسطى ومؤسس معهد سانت سابين فى روما... إلخ، فقد توصل بعد ثلاثين عاما من الدراسة، كما قيل، إلى الزعم بأن محمدا ليس هو مؤلف القرآن، بل مؤلفه راهب نصرانى- يهودى من طائفة الإبيونيين، تلك الطائفة التى كانت تعتمد على عدد من الأناجيل غير المعترف بها، مثل إنجيل توماس وإنجيل الطفولة وإنجيل متى المزيف، والتى كانت تعتقد أن عيسى ليس إلا نبيا ليس فيه من الألوهية شىء. وإلى القارئ النص الذى يقول هذا الكلام، وهو جزء من مقال منشور فى موقع
"L’Église Baptiste Évangélique de Rosemont"
تحت عنوان "Le Coran".
وهذا رابطه:
http://eglisederosemont.ca/plan_site/index.html
[1]
وأيا ما يكن الأمر فأساس هذه الدعوى المنكرة التى لا يسندها العلم ولا التاريخ ولا المنطق ولا العقل ما كان يقوله بعض المشركين فى مكة كأبى جهل وأبى سفيان وغيرهما حسبما تخبرنا النصوص التالية المأخوذة من "سيرة ابن هشام" والتى يردد فيها المشركون أن محمدا طالبُ مُلْكٍ أو مَلِكٌ فعلا، على حين يؤكد هو وصحابته أنه رسول لا مَلِك. ومع هذا يصر القمنى وخليل عبد الكريم، لأن هناك من كلفهما بذلك الإصرار، على أنه عليه السلام كان طالب ملك له ولعشيرته بنى هاشم. فانظر أيها القارئ أين يضع القمنى وعبد الكريم نفسيهما. إنهما يتخذان موقف المشركين ويرددان ما كانوا يزعمونه فى حقه صلى الله عليه وسلم.
ولنقرأ: "قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه. فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: "لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا"، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا، والذي حلفتَ به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تحاذينا على الرُّكَب وكنا كفرسَيْ رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال فقام عنه الأخنس وتركه".
"اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث (بن كلدة) أخو بني عبد الدار وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وأمية بن خلف أو من اجتمع منهم، قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصِموه حتى تُعْذِروا فيه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فَأْتِهم. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنْ قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بَدَاءٌ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم. فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك: لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك (أو كما قالوا له). فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوِّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه قد غلب عليك (وكانوا يسمون التابع من الجن: رئيا) بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. أو كما قال صلى الله عليه وسلم".
"دخلتُ (المتحدث هنا هو العباس عم الرسول ليلة الفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه. قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أَجَرْتُه. ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل. فلما أكثر عمر في شأنه قال: قلت: مهلا يا عمر، فوالله أنْ لو كان من بني عَدِيٍّ بن كعب ما قلتَ هذا. ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. قال: فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي. فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يَأْنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننتُ أنْ لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال: نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَة. فيقول: مالي ولمزينة؟ حتى نَفِدَت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها. فإذا أخبرته بهم قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء... قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم، لا يُرَى منهم إلا الحـََدَق من الحديد فقال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلْك ابن أخيك الغداة عظيما. قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن".
والآن ندخل فى كتاب القمنى المذكور، ولكن فى شىء من العجلة يضطرنى إليه ارتباطى مع إحدى المؤسسات العلمية بعقد لمدة أشهر، ذلك الارتباط الذى منعنى فى الأسابيع الماضية من كتابة أى شىء يتعلق بقضية القمنى المعقدة والمتشعبة رغم إلحاح بعض الأصدقاء الكرام ممن يحسنون بهذا القلم أن أنزل إلى الساحة مشاركا فى تلك القضية، وأنا أتعلل لهم بظروفى الخاصة التى تقيدنى عن أخذ راحتى كما يحبون وكما كنت حريا أن أفعل لولاها. فأرجو من هؤلاء الأصدقاء أن يتقبلوا ما سأكتبه هنا على أنه جهد المقل للظروف التى شرحتها لهم ولظروف أخرى لم أذكرها ساعتها، ومنها الكدمة التى أصابتنى فى باطن قدمى منذ أيام وتؤلمنى ألما صعبا، وغير ذلك من الظروف التى لا أريد أن أخوض فيها هنا. وهذا المقال هو ثمرة بضعة أيام استطعت أن أختلسها من وقتى الضيق، وأرجو أن يكون الله قد بارك فيها رغم كل شىء. وقد أكد أحد الملحدين العرب فى منتداهم الحشّاشى على المشباك أن كتاب "الحزب الهاشمى وتأسيس الدولة الهاشمية"، الذى نحن بصدده هنا، سبب من أسباب تضامنه بقوة مع الدكتور سيد القمني، مؤكدا أنه مما يشرّف جائزة الدولة أن ينالها كاتب مثله، وأن الكتب التى ألفها، وبخاصة كتاباه: "رب الزمان" و"الحزب الهاشمى"، كانت كافية لضعضعة بل وزلزلة إيمانه "بالثوابت التاريخية" التي كان يؤمن بها بقوة بحكم نشأته الدينية، وأنه لهذا يقدم جزيل شكره وتضامنه مع شخص القمنى الكريم في مواجهة الظلاميين من كل فكر ودين.
ويدور محور الكتاب المذكور، حسبما وضحنا، على أن أجداد الرسول كانوا يعملون على إحكام تسلطهم على مكة وقريش، وأن عبد المطلب قد استشف بثاقب نظره أن باستطاعة واحد من ذريته إنشاء دولة تضم قبائل العرب المتناحرة تحمل اسم الهاشميين، وأن حفيده محمدا، الذى كان أيامها ولدا صغيرا لا راح ولا جاء ولا يفهم فى السياسة ولا دياولو قد التقط العبارة التى ينسبها القمنى زورا وبهتانا وجهلا وسخفا إلى عبد المطلب، الذى زعم سيد المدلسين والمزورين أنه قالها على مسمع من أولاده وأحفاده، ومنهم محمد الصغير اليتيم الأبوين المكسور الجناح، فالتقطتها ذاكرته فى الحال وخزنتها لليوم الموعود، مع أن عبد المطلب منها بَرَاءٌ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. أى أن المسألة هى مسألة مطامع سياسية هاشمية، ولا دين هناك ولا وحى، بل الأمر كله من صنع محمد. ويكفى أن يطالع القارئ عنوان الفصل المسمى: "بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا" حتى يتبين له ما يريد مؤلف الكتاب فى التو واللحظة، إذ المعنى ظاهر بين لا يحتاج إلى شرح، وهو أن بنى هاشم قد خططوا (أو بتعبير الشيوعيين الحقراء: قد "تكتكوا") لإنشاء دولة يترأسونها، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى استغلال الدين (أو "الأيديولوجيا" بتعبير الشيوعيين أيضا) فى سبيل الوصول إلى هذا الغرض. ولسوف يلمس القارئ ذلك كله الآن بيده لمسا، ويراه بأم عينيه رؤية، ويشمه بأنفه شما، ويتيقن منه بعقله وقلبه وضميره تيقنا.
ولكن قبل أن أدخل فى هذا الخبايا العطنة العفنة التى أرجو من القراء تحمل عطنها وعفنها إيمانا واحتسابا أود أن أشير إلى أن هذه الفكرة بعينها موجودة لدى خليل عبد الكريم "وِنْج" القمنى الشمال الذى ردد فى كتابه: "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" ما قاله القمنى عن أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكد كما أكد القمنى، حَذْوَك النَّعْل بالنَّعْل، أن عبد المطلب كان شخصية باهرة استطاعت أن تستوعب النظريات السياسية فى زمنه وتعرف أن السياسة كثيرا ما استعانت بالدين لتثبيت أركانها، فاستثمر من ثم الدين بكل وظائفه من رؤى وأحلام وأساطير وادعى أن شابا سيخرج من صلبه يبنى دولة قريش ويقوم بأمرها ويملك المشرق والمغرب، ثم لم يكتف بذلك بل حرص على ربط رؤاه وتعبيرها بالكهان والعالم العلوى حتى يصبح التشكيك فيها نوعا من التجديف والإلحاد، فضلا عن اجتهاده فى توثيق علاقته بمن حوله من الملوك بغية تسهيل تلك المهمة ووضعها موضع التنفيذ دون مشاكل أو عقبات. ثم مضى أبعد من هذا فقدم ابنه أضحية للالهة من خلال الزعم بأنه رأى ذلك فى المنام. ولم ينس عبد الكريم أن يتحفنا، وهو يتكلم عن شيخ قريش المسكين، بطائفة من المصطلحات الماركسية الفاشلة من مثل "الملكية الجماعية" و"الجماهير المحرومة" و"تسارُع المجتمع المكى فى التفكيك" و"عرق الكادحين" و"أصحاب الفبارك" و"التمايز الطبقى" و"عمل الشغيلة" و"فائض القيمة" مما تجد بعض صداه فى كتاب القمنى، وكأننا فى خلية من خلايا الشيوعيين. والحمد لله أن لم يقل الذى كتب هذا الكلام ووضعه فى فم عبد الكريم ليردده بصوته (على طريقة "الدوبلاج" فى الأفلام الأجنبية) إن عبد المطلب كان عضوا فى حزب "حدتو" أيضا. وقد سمى عبد الكريم رؤيا عبد المطلب بــ"المسطورة"، أى الأسطورة، على طريقته فى الحذلقة الماسخة التى اشتهر بها رغم جهله الشنيع فى اللغة حسبما بينت فى الفصل الأول من كتابى: "لكن محمدا لا بواكى له"، ولم يستطع أن يفتح فمه بكلمة واحدة لا هو ولا أى واحد ممن يرافئونه على هذا السخف الساخف الذى انهال به الإلهام عليه بغتة بعد أن تخطى الستين بزمن!
وزاد خليل عبد الكريم فصور الأمر كله على أنه خطة رسمها عبد المطلب بإحكام وخبث بغية الوصول إلى أهدافه السياسية، مؤكدا بلغة الحوذية أن أمل عبد المطلب فى أن يكون هو أو أى واحد من صلبه نبيا قد "شعشع فى دماغه" (بنص تعبيره العربجى) حتى بشره بذلك أحد العرافين، فعمل على نشر هذه البشرى بين الناس (ص37- 44 من الكتاب المذكور/ ط. سينا للنشر/ 1993م. ويجد القراء الأعزاء ردى المفصل على هذه التحشيشات والانسطالات فى كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 2000م/ الفصل الثالث بدءا من ص127. وهو موجود فى مواقع مشباكية كثيرة لمن يريد تحميله).
وثم عبارة محورية يدور حولها كتاب "الحزب الهاشمى"، وهى ما نسبه القمنى إلى عبد المطلب جد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من قوله: "إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء". وهذا هو النص الذى وردت فيه هذه العبارة كاملا، وهو أول شىء فى الكتاب مما سماه على سبيل الحذلقة المتنطعة: "تأسيسا": "إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء: قالها عبد المطلب بن هاشم، وهو يشير إلى أبنائه وحَفَدته، فبرغم التفكك القبلي في بيئة البداوة، التي عاشتها جزيرة العرب، فإن هناك من استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة: هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا برغم واقع الجزيرة آنذاك. وكان هناك من هو لرأى عبد المطلب من ذوى النظر الثاقب والفكر المنهجي المخطط الذين استطاعوا أن يصلوا إلى النتيجة نفسها بعد قراءة واعية للخريطة السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية، لكن الكثرة الغالبة لم تكن مع هذه الرؤى. حتى اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظَهْرَانَيِ العرب كعرب ما خطر لهم هذا التوقيع قط، وإنما كانوا يترفعون على سائر العرب، ويفاخرون بأن لهم من الأنبياء عددا وعدة، ومن الأسفار المقدسة كتاب سماوي المصدر. ومن ثم أجاز الأستاذ العقاد لنفسه، وهو رجل متزن ومتوزان، أن يجزم قاطعا بأن "شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق كان أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب".
وهذه الحقائق التي يعنيها الأستاذ العقاد هي أنه، برغم عدم قراءتهم الصحيحة لإفرازات الواقع على الأقل بالنسبة لمكة، فإن حكاياتهم عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها الملك النبي داودوما لحقها من تهويلات ومبالغات، كانت وراء الحلم الذي داعب خيال سراة العرب وأشرافهم حتى بدا لكل منهم طيف زعامته للدولة الموحدة، مشرقا في الخيال تدعمه ما بدأت تشهده الجزيرة في مناطق متعددة من محاولات لتوحيد القبائل سياسيا: سواء عن طريق التحالفات الجانبية التي شكلت نُوَيّاتٍ مرجوّةً لوحدة أكبر، أو عن طريق إخضاع قبيلة لأخرى، أو التحالفات التي تتفق ومنطق البداوة، والتي كانت تتم بين القبائل المنتمية إلى سلف واحد، مما يجعل انتظامها تحت إمرة زعيم واحد أمرا أيسر، خاصة عند حدوث جلل طارئ أو خطر مشترك. ولا ننسى المحاولات الأخرى المباشرة التي اتخذت صيغة الـمُلْك وصِبْغته، كمحاولة زهير الجنابي زعيم قضاعة تمليك نفسه على بكر وتغلب أو الممالك التي قامت فعلا من زمن سابق، لكن في ظروف مختلفة، على حدود الإمبراطوريات الكبرى، مثل مملكة الحيرة ومملكة الغساسنة. لكن بقية الناس حتى داخل مكة ممن كانوا يعتبرون أنفسهم عقلاء لم يكونوا مع هذا التفاؤل ولا مع هذا الجموح في الآمال، فهذا الأسود بن عبد العزي يقدم الاعتراض البدهي والواضح والمباشر قائلا: ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك. وهو اعتراض يستند إلى قراءة أخرى. فالعرب، أيا كان الظرف الاجتماعي، لا تقبل بفرد يملك عليهم ويسود، لأن معنى ذلك سيادة عشيرة على بقية العشائر، وقبيلة على بقية القبائل، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه. ولعل هذه القراءة تجد حجتها البالغة في تجربة رجل مثل النعمان بن المنذر، الذي ورث المُلْك أبا عن جد في مملكة الحيرة، ومع ذلك وقف يلقى خطابه أمام كسري الفرس، وفي حضرة وفود دول عدة، مدافعا عن عروبته بقوله: "فليست أمة من الأمم إلا وجهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أوائلها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دينا، فلا ينسبه ولا يعرفه. وليس أحد من العرب إلا يسمى آباءه أبا فأبا. حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا يُنْسَب إلى غير نسبه، ولا يُدْعَى لغير أبيه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد إلى رجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف. وإنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يُعْرَف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأَزِمّتهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حالوا أن يكونوا ملوكا أجمعين".
والخطاب هنا، سواء صحت نسبته للنعمان بن المنذر أو لم تصح، لصاحب رؤية سياسية فذة حاول أن يوضح بإيجازٍ الظرف الاجتماعي العربي الذي حال حتى هذا الوقت دون قيام وحدة سياسية كبرى لعرب الجزيرة، ذلك الظرف المتمثل في نظام قبلي و عصبية عشائرية كانت من لزوم ما يلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر للإبقاء على دوام وجود القبيلة باعتبارها وحدة عسكرية مقاتلة يلزمها التماسك اللزج دوما، والذي كانت مادته اللاصقة رابطة الدم التي اكتسبت قدسية مفرطة، وهو ما يفسر الشكل الديموقراطي البدائي التي تمتعت به القبيلة بحيث وقف جميع الأفراد داخلها على قدم وساق بمساواة تامة، وبمعيار الانتساب لأب واحد، وذلك وحده كان كفيلا بإلغاء أي تمايز، إضافة لظرف آخر دعم هذه المساواة، وهو مواجهتهم جميعا لذات المصير دوما كمقاتلين.
والخطاب يوضح أيضا بشكل وضاء الأسباب التي لم تؤد بالنظام البدوي إلى إفراز مؤسسات سياسية ملكية متوارثة، لأن القبيلة وحدة عسكرية طارئة، وزعامتها بدورها أمر طارئ متغير لمقتضيات الصراع الناشئ وظروفه، تلك المقتضيات التي تحدد سمات الزعيم المطلوب آنيا. وعليه فالزعامة كانت تمنح منحا لصاحب القدرات التي تناسب الظرف ومقتضياته، وهي صفات مكتسبة لا تنتقل بالوراثة، على حين ينضوي الجميع في الظروف الاعتيادية تحت لواء الأحكم، الأكبر، الأكثر دراية والأكثر قدرة على المنح والعطاء. وفي كلتا الحالين تظل المساواة حاضرة، مما جعل البدوي واعيا تماما لفرديته، مصرا على الاعتداد بنفسه بإسرافٍ تمثله دواوين العرب في الحماسة والفخر والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب.
وفي خطاب النعمان دعم آخر لوجهة نظر الأسود بن عبد العزي، فهو يؤكد أن الأمم إنما تقبل الخضوع لملك فرد في وحدة سياسية إذا "تخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف". وقد أثبت الحجاز، ومكة بالذات، أنه بعيد المنال، ولا يتخوف نهوض عدوه إليه. فبينما كانت الممالك العربية قد وقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي، ففقدت اليمنُ استقلالها منذ الربع الأول من القرن السادس الميلادي وسقطت تحت حكم الأحباش ثم الفرس، وفقدت مملكة الحيرة استقلالها وتحولت إلى إمارة يحكمها أمير فارسي، واضطربت أحوال المملكة الغسانية بعد أن قلب لها الرومان ظهر المجن، فإن منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين: مكة ويثرب كانت تتمتع باستقلال نقي هيأها له وضعها الجغرافي، ووعورة الطريق إليها، فكانت هي البيئة العربية الخالصة البعيدة عن مجال الصراع الدولي، وعن التأثر بالحضارات الأجنبية بدون أن تفقد التواصل معها، ولم تخضع لحاكم أجنبي. ومع ذلك فلم تكن فيها ممالك بالمعنى الحقيقي، ولا وحدة سياسية كبيرة تنتظم أمر قبائل الحجاز جميعا، وهذا كله إنما هو دعم حقيقي لرأي الأسود بن عبد العزى!
وإزاء كل هذه العوائق الواضحة والمحبطات السافرة للحلم وللأمل وللتوقع لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيا مثل داود.وعندما وصلوا إلى هذا فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب حتى اشتد الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة، وآمن هؤلاء بذلك، وأخذوا يَسْعَوْن للتوطئة للعظيم الآتي، وإن ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوحدة، وظن كل منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل أمية بن عبد الله الثقفي، الذي راودته نفسه بالنبوة و الملك فقام ينادي:
ألا نبي منا فيخبرنا * ما بعد غايتنا في رأس مَحْيَانا؟
لكن العجيب فعلا ألا يمضي من السنين غير قليل حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة بل دولة قوية و مقتدرة تطوي تحت جناحيها، وفي زمن قياسي، ممالك الروم و العجم بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أنه النبي المنتظر!".
والحق أن العبارة التى يدور عليها الكتاب لا يمكن أن تكون صحيحة، على الأقل بالمعنى الذى يقصده القمنى وأمثاله من العباقرة كخليل عبد الكريم الفلحاس الأعظم الذى كان كالقمنى يزج بنفسه أو يزج به من يدفعونه من الخلف فى المآزق والكُرَب العظام التى لا يستطيع السداد فيها. ولكن علينا أولا أن نحاول معرفة المصدر الذى استقى منه القمنى هذه العبارة. ولقد ألفيته نقلها من كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية" لأبكار السقاف الكاتبة اليمنية التى وجدتُ بعضا من ذوى التوجهات الفكرية المعينة يشيدون بها ويطنطنون لما تركته وراءها من كتب تحمل اسمها وتتسم بالركاكة والعسلطة والمعاظلة حتى إنها لتكاد تتوخى دائما تأخير ما حَقُّه التقديم وتقديم ما حَقُّه التأخير من عناصر الجملة دونما أدنى داع. إنما هى حذلقة، والسلام. وبالمناسبة فكثير من الأفكار فى الكتاب الذى يحمل اسم القمنى وذلك الذى يحمل اسم أبكار السقاف واحدة.
وهذه سمة الكتابات القمناوية أو بالأحرى: الكتابات التى تحمل اسمه، إذ هى انعكاس مباشر لما عند الآخرين، وبالذات من المستشرقين والمبشرين. خذ مثلا انتقاده لـ"طريقة جمع المصحف العثماني التي لم تراعَ في تصنيفها وتبويبها قواعد التصنيف والتبويب المعروفة: كأن تجمع آيات التعبد معا، والتشريعات معا، وعلى الترتيب الزمني والقصص الوعظي معا، وقوانين الأخلاق معا. بل أنها لم تراع الترتيب الزمني للآيات وارتباطها بأحداث الواقع وجدلها معه وتأثرها به وتأثيرها فيه وتغيُّرها وتبدُّلها حسب متغيرات هذا الواقع. وهى سمة فارقة تميز الإسلام عن بقية الأديان. الحكمة الوحيدة في الترتيب العثماني، إذا كانت حكمة، هي السير في ترتيب النصوص من السور الأطول إلي السور الأقصر دون أي رابط موضوعي ولا زمني. هذا بينما السور الأقصر كانت هي الأُولَى زمنا بحيث لو أردت قراءة القرآن قراءة شبه مرتبة فعليك البدء بآخر المصحف رجوعا إلى أوله... ولا عبرة هنا بقول من يصرون على أن هذا الترتيب توقيفي، أي كان وقفا على النبي وجبريل، وأنهما من رتباه على هيئته الحالية، لأنه لو كان الأمر كذلك ما ظلت مصاحف الصحابة الكبار على اختلافها بعد موت نبيهم وحتى زمن عثمان بن عفان، ولأنه حتى لو كان الأمر كذلك فإنه يظل بحاجة إلى إعادة نظر".
وهذه الفكرة ذاتها قد أثارها منذ سنوات كاتب تونسى اسمه يوسف صديق لا يستطيع أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة بل يخطئ منه فى الأَوَّلِيّات. وقد رددت وقتها على سخافاته فى مقال لى منشور على عدد من المواقع المشباكية المختلفة بعنوان "يوسف صديق وأباطيله حول القرآن". وكلام صديق هو بدوره انعكاس لما يردده المستشرقون والمبشرون دائما. وكانت صحيفة "القاهرة" المصرية قد نشرت في الصفحة الخامسة (العدد 144) حوارًا مع يوسف صديق بجامعة السوربون بعنوان "المفكر التونسي يوسف صديق: نحن لم نقرأ القرآن بعد" أدلى فيه الأستاذ المذكور ببعض الآراء التي استوقفتني ورأيت أنها تحتاج إلى مراجعة لأنها تثير قضايا على قدر عظيم من الأهمية لا يمكن أن يمر كلامه فيها دون تمحيص وتعقيب.
ولتكن بداءتنا عنوان الحوار نفسه: "نحن لم نقرأ القرآن بعد"، وهو عنوان الكتاب الذي جاء في حديثِ صِدّيق إلى الصحيفة أنه بسبيل إعداده. وقد أدلى الرجل بكلامين في هذه المسألة: الأول في بداية الحوار، وهو أننا "كلما تقدمنا وتعمقنا في الفكر و الفلسفة استطعنا أن نفهم القرآن بشكل يتواءم مع التقدم في معرفتنا". وهذا كلام لا نستطيع إلا أن نتفق معه فيه، فالقرآن أوسع وأعمق وأبعد غورًا من أن يفهم حق الفهم دفعة واحدة، بل تظل هناك دائمًا، مهما طال الزمان، أبعاد تحتاج إلى من يحاول ارتيادها واكتشاف ما فيها من أسرار. وسبب ذلك أنه من عند الله، فهو يمثل المعرفة المطلقة، أما معارف البشر فهي محدودة ونسبية. لكن الأستاذ صديق قد عدّل كلامه هذا قرب خاتمة الحوار (والعبرة، كما يقولون، بالخواتيم) فقال إننا لم نقرأ القرآن بعد، بما يعني بوضوح أن كل ما قمنا به طوال الأربعة عشر قرنًا من تلاوة القرآن وتفسيره ودراسته في كتب تعد بالآلاف، فضلا عما وُضِع حوله من معاجم واسْتُخْلِص منه من علوم...إلخ...إلخ، هو عبث في عبث، وأنه سيكون أول من يقرأ القرآن من عباد الله. أي أن علينا أن نضرب صفحًا عن كل هذا التراث القرآني الذي شاركت في صنعه عشرات الأجيال ونشتغل فقط بما سيجود علينا به قلمه في هذا الصدد، فهل من يوافق على هذا الكلام الغريب الذي أظن (وبعض الظن عين العقل بكل يقين) أنه هو مقصد المؤلف الحقيقي، وإن لم يشأ أن يجابهنا به في بداية الحوار بل مهّد له بأن القرآن "لا يكشف عن دلالاته مرة واحدة"؟ وهو أسلوب من التدرج يلجأ إليه بعض الكتاب بغية تحذير القارئ المسكين!
وفي السؤال الثاني و الثالث تتساءل مُجْرِية الحوار عما طرحه د. يوسف صديق في كتابه الذي صدر فى ذلك الوقت باسم "القرآن كتاب مفتوح" (وإن كان العنوان الفرنسي كما يظهر في صورة الغلاف المنشورة مع الحوار هو "القرآن: قراءة جديدة وترجمة جديدة") من فكرة تدعو إلى تفسير آيات القرآن حسب تواريخ نزولها لا حسب ترتيبها في المصحف، وكان جوابه أنه لا يمس سوى عمل بشري لا صلة له بالقدسية. يقصد أن ترتيب الآيات داخل كل سورة هو من عمل الصحابة. وهذا غير صحيح، ولم يقل به أحد إلا هو، إذ ادعى أن الرسول قد ترك القرآن قِطَعًا متفرقة لا تنتظم في سورة، وهو ادعاء باطل ألقى به الأستاذ صديق باستخفاف لا يليق بأستاذ جامعي أو غير جامعي.
لو كان الكلام اقتصر على "تفسير" القرآن حسب ترتيب النزول لآياته فلربما لم يجد د. صديق من يختلف معه اختلافًا شديدًا، فهذا لون آخر من ألوان الدراسات القرآنية الكثيرة رغم الصعوبة البالغة بل رغم الاستحالة التي تكتنف مثل هذه الدراسة القرآنية لأن كثيرًا جدًّا من آيات القرآن لا نعرف لها سبب نزول، ولأن قسمًا من الآيات الأخرى قد اخْتُلِف حول سبب نزوله. ومن قبلُ قام العالم الفلسطيني محمد عِزّة دَرْوَزة بتفسير القرآن حسب الترتيب النزولي للسور مع الصعوبة الشديدة في ذَلك لأنه لا إجماع هنالك على مثل هذا الترتيب، علاوة على أن عددًا كبيرًا من سور القرآن لم تنزل منه السورة دفقة واحدة ولا دفقات متتالية، قلت: لو كان الكلام اقتصر على "تفسير" القرآن حسب الترتيب الزمني لآياته فلربما لم يجد المؤلف من يختلف معه اختلافًا شديدًا، بيد أن كلامه في الجواب عن السؤال المذكور يشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز هذا إلى الدعوة لــ"ترتيب" آيات القرآن كله حسب تاريخ نزولها لا إلى "تفسيرها". ومعنى هذا أن تنفرط آيات القرآن كما تنفرط حبات المسبحة و ينهار بناؤه إلى أن يهلّ علينا العبقري الذي يقدر على صنع "المستحيل" فيعيد ترتيبه حسب التاريخ الخاص بنزول كل آية، وهو ما لن يتحقق دهر الداهرين، اللهم إلا إذا قال د. صديق إنه هو ذلك " العبقري المنتظر"! وهيهات أن نصدقه! ومرة أخرى نقول إن الكلام في هذا الحوار يبدأ بفكرة بريئة ثم يفاجَأ القارئ بأن الأرض الصُّلْبة التي كانت تحت قدميه قد استحالت بقدرة قادر إلى رمال متحركة تريد أن تبتلعه ابتلاعًا.
ولا يقف الإرباك الذي يسببه الحوار للقارئ عند هذا الحد، إذ نجده ينتقل بغتة إلى الحديث عن دعوة الأستاذ التونسي لسور القرآن حسب ترتيب نزولها. وهذا شئ غير ترتيب آياته الكريمة حسب تاريخ وحيها كما أشرنا من قبل وقلنا إنه أمر من الصعوبة جدًّا بمكان، وهي دعوة يجري فيها الرجل على درب المستشرقين، وليس هو ابن بجدتها كما يريد أن يوحي للقارئ. وأمامي الآن ترجمتان إنجليزيتان للقرآن الكريم حاولتا هذه المحاولة: إحداهما للقسيس البريطاني رودويل، والثانية للمدعوّ: داود، وهما تختلفان في ذلك الترتيب اختلافًا بعيدًا، كما أن بعض مترجمي القرآن ممن التزموا ترتيب السور حسبما ورد في المصحف يصدّرون ترجمتهم بدراسة عن القرآن يتناولون فيها، ضمن ما يتناولون، مسألة ترتيب الوحي ترتيبًا زمنيا محاولين استخلاص السمات المضمونية والأسلوبية التي تميز كل مرحلة في تاريخ نزوله، وإن اقتصر الأمر في ذلك على الخطوط العامة. وممن فعل ذلك "إدوار مونتيه" السويسري و"بلاشير" الفرنسي في ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية. ويجد القارئ تفصيلا لهذا الأمر في الباب الثاني من كتابي "المستشرقون و القرآن"، وهاتان الترجمتان أمامي الآن أيضا وأنا أكتب هذا الكلام.
على أن د. صديق، في جوابه عن قلق الأستاذة التي أجرت الحوار معه مما تمثله دعوته تلك من مساس بقدسية النص القرآني، ينبري مؤكدًا أننا نحن الذين قد ابتدعنا هذه القدسية. وهذا كلام خطير جدا، فالقرآن مقدس لأنه من عند الله لا لأننا الذين خلعنا عليه هذه القداسة. صحيح أن من لا يؤمن بأن القرآن وحي إلهي لا يرى فيه نصًّا مقدسًا، لكننا نحن المسلمين نؤمن بقدسيته، وإلا فلسنا مسلمين. هذا أمر بديهي، أليس كذلك؟ والكاتب يؤكد إيمانه بالقرآن، فكيف لا يراه كتابًا مقدسًا؟ أما دعواه بأننا قد "ألَّهنا" الرسول عليه الصلاة و السلام فهي دعوى غريبة بل منكَرة، إذ لا يوجد مسلم واحد على وجه الأرض يقول بــ"تأليه" الرسول. صحيح أنه عليه السلام "رجل يمشي في الأسواق مثلنا ويأكل، وله كل المواصفات البشرية" كما جاء في كلام الدكتور لكنه في ذات الوقت ليس بشرًا عاديًّا، بل هو نبي يوحَى إليه، وأخلاقه من السمو بحيث لا يدانيه غيره من البشر، وهو ما كنت أحب أن يضيفه د. صديق إلى كلامِه السابق حتى يكتمل المعنى. وفي القرآن الكريم أَمْرٌ للنبي بأن يقول: "إنما أناَ بَشرٌ مثلكم يُوحَى إلىّ"، وفيه أيضا: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم"...إلخ، فكان ينبغي ألا يغفل الأستاذ الدكتور في كلامه ذلك البعد الذي يميز الرسول، رغم بشريته، عن سائر الخلق.
كذلك ترددت في حديث د. صديق الإشارة إلى "مصادر" القرآن ومراجعه"، فما الذي يقصده الدكتور بهذا؟ إن للقرآن مصدرًا واحدًا ليس غير هو الوحي الإلهي، أما الحديث عن "مصادر" و"مراجع" كما لو كنا بصدد دراسة تقدم بها أحد الباحثين ويتذرع لها بما يستطيع أن يضع يده عليه من الكتب السابقة فهو كلام لا يليق بمسلم أن يقوله. ولصاحب هذه السطور كتاب في هذا الموضوع عنوانه "مصدر القرآن" رددت فيه بتفصيل شديد على النظريات الاستشراقية و التبشيرية السخيفة التي تحاول إرجاع القرآن إلى مصادر بشرية. فالقول بأن للقرآن "مصادر ومراجع" هو فرية استشراقية معروفة أساسها قول مشركي مكة عن الرسول عليه السلام: "إنما يعلمه بشر"، وإن القرآن الكريم هو"أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُمْلَى عليه بكرة وأصيلا". وها هي ذى تطالعنا بوجهها القبيح في كلام لأحد المنتسبين للإسلام. ولخليل عبد الكريم كتاب كامل فى هذاالموضوع هو "جذور الشريعة الإسلامية" نقل فكرته وكثيرا من تفاصيله من بعض الكتب التبشيرية التى تعزف نفس النغمة المسئمة، مما أشرت إليه من قبل فى هذه الدراسة.
ويمكن لمن أراد من القراء أن يعود إلى كتابى: "المستشرقون والقرآن"، الذى صدر للمرة الأولى سنة 1984م، والذى كنت كتبته قبل ذلك بسنتين أو أكثر قبل أن أعود من بريطانيا، ليجد إشارت متكررة فى مواضع متفرقة منه إلى هذا الرأى الاستشراقى وردى عليه. بل إن بعضهم، حسبما سبق القول، قد أعاد ترتيب سور القرآن لدن ترجمته لكتاب الله كريتشارد بل وم. رودويل ون. ج. داود. كما جرى على هذه الخطة المستشرق ريجى بلاشير عند إصداره ترجمته الفرنسية للقرآن للمرة الأولى، وإن كان قد عاد فالتزم الترتيب المصحفى فى الطبعات التالية. لكننا للأسف نراه فى بعض الأحيان يعبث بالنص القرآنى الكريم فيقدّم، إلى جانب الترتيب الموجود فى مصاحفنا، ترتيبا لبعض الايات يختلف عن الترتيب الذى تتبعه تلك المصاحف. ومن يرجع إلى طبعة هذا العام من "Encyclopaedia Universalis: الموسوعة اليونيفرسالية" يجد كاتب المادة الخاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المستشرق الفرنسى اليهودى الماركسى مكسيم رودنسون، يردد هذا القول المتهافت زاعما أن القرآن نص مضطرب النظام لا يصح الاعتماد عليه فى التوصل إلى ترجمة موثوق بها للرسول عليه السلام، وهذا نص ما قاله، والضمير فيه عائد على القرآن: "Mais son texte est en grand désordre. On ne peut y rétablir qu’avec peine et avec bien des incertitudes l’ordre chronologique. Les événements de la biographie du Prophète n’y sont évoqués que de façon allusive. C’est donc une source difficile à utiliser".
ولنعد إلى فكرة القمنى المحورية فى كتاب "الحزب الهاشمى"، وهى أن نبوة محمد إنما هى تحقيق لمطامح عشيرته من قديم الأجيال، وبالذات منذ أيام هاشم وعبد المطلب. يقول كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية"، الذى يحمل على غلافه اسم أبكار السقاف، عن الصراع بين قريش ومحمد فى العهد المكى وشكاواهم المتكررة إلى أبى طالب من ابن أخيه: "وقدح عمل الوجدان شرر الذاكرة فعملت من أبى طالب المخيلة وراحت تستعرض الماضى والحاضر، وفى امتداد راحت تطوى الحاضر وترتاد آفاق المستقبل الذى قد التمعت منه البوارق خلال تلك الخلوة التى خلا فيها إلى محمد وأصغى إلى حديث أدرك من ورائه أن التاريخ السياسى للعرب يتجه اتجاهًا لا فحسب جديدًا بل مغايرًا، وأن أمره إنما أمرٌ هو فى بيت هاشم وبيت عبد المطلب محصور! ومن ثم هب أبو طالب يجمع بيت هاشم وبني المطلب ويفضى إليهم بأمر ابن أخيه وابن أخيهم طالبًا إليهم، وهم فرع عبد مناف، أن يمنعوا محمدًا من فرع عبد الدار، ثم، وهم بيت هاشم، أن يمنعوه من بيت عبد شمس. فاستجابوا له جميعًا باستثناء عبد العزى بن عبد المطلب استجابةً هم فيها ولا ريب كانوا متأثرين بالعصبية القومية وبالخصومة القديمة بين فرعي عبد الدار وعبد مناف وبالمنافسة الجديدة بين بيت هاشم وبيت عبد شمس، مما جعلهم يرون حقا لابن أخيهم أن يعلن الناس برأيه. وهكذا اعتصم محمد ببيته من هاشم وبعمومته من أبناء عبد المطلب، لا فحسب من فـرع عـبد الدار وبيت عـبد شمس، وإنما من سائر قـريـش!
ولكن كانت هذه "المنعة" الهاشمية لمحمد إلهابًا لجذوة الخصومة بين بنى العمومة، فمن حول نفسها أخذت سائر الفروع والبيوت القريشية تستدير حلقات ليتعقد منها الرأى عند القول بأن فى انتصار هذا الفرد من عبد مناف انتصارا لفرع عبد مناف على عبد الدار، وبالتالى انتصارًا لبيت هاشم على بيت عبد شمس. وفى هذا ما فيه من الخطورة على ما لهذه الفروع والبيوت من قريش من مكانة اجتماعية وسياسية، ومن ثم بدأت للقضاء على ما فى هذه الدعوة من المبادئ السياسية والاجتماعية ألوان من الاضطهاد تنزلها قريش بمن لديها من الإماء والعبيد ممن كَلِفُوا بالوعد المحمدى كَلَـفًا أخرجهم من طاعة قريش إلى طاعة محمد. وازداد بنو هاشم والمطلب، وإن كانوا لمحمد فى دعوته الدينية لا يؤازرون، منعا لمحمد وللأذى عن الموالى والعبيد من أتباعه دفعًا دفع حمزة بن عبد المطلب إلى أن يعلن اتّباعه محمدًا ومعاهدته على نصرته والتضحية فى سبيل أمره". إنها نفس الفكرة المحورية فى "الحزب الهاشمى"، وإن كان لا بد من أن نأخذ فى الاعتبار المدى الزمنى بين كتابة الكتابين، والفرق بين شخصية أبكار السقاف وشخصية القمنى، فضلا عن تغير الظروف الدولية فى وقتنا الحاضر عما كانت عليه فى الوقت الذى تم فيه تحبير كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية".
ولنقرأ فى ذات الكتاب، ولكن فى موضع آخر: "بمنعة أبي طالب لمحمد وبانتصاره له وإيمانه بدعوته السياسية رغم عدم إيمانه بدعوته الدينية بدأ مظهر النزاع القديم بين هذين الفرعين من قُصَيّ يتخذ دوره الإيجابى مسفرًا عن اشتداد إخلاد قريش إلى عقيدتها بأنّ هذه الدعوة التى يطلع بها عليها محمد ليست فى مداها الحقيقي إلا دعوة سياسية لجأت فى تدعيم كلمتها إلى "الوحي"، واتخذت الدين الحنيف وسيلة إلى غاية تنحصر فى إحراز سلطة مطلقة عن طريق وحدة سياسية تأتي للعرب بإمبراطورية كتلك التى للفرس وكتلك التى للرومان، بل تهدف إلى أن تقيم القوائم من سلطانها على أنقاض هاتين الإمبراطوريتين كما كان قد أعلن هذا الهدف لمحمد نداء ما زال يتردد مجلجلا: اتبعونى. والذى نفس بيده لتملكنّ كنوز كسرى وقيصر!
لا جدل فى أنه مذ ثوى قُصَيٍّ، والتطاحن على سيادة العرب سِجَالٌ بين فـرعي قـريش وعَوَانٌ، ولكنه ما اشتد قَطُّ اشتداده فى هذا العهد. كلا وما عمل كلا الفرعين إلى الإمارة وإليها جَدَّ جِدُّهما مثل هذا العهد. ولذلك فإن قريشًا، إذ تقف مقتنعة بأنّ محمدًا إنما سياسي اتخذ "الوحي" طريقًا للاعتراف بما يضمن له كامل السلطة ومطلق السلطان وأنه ليس إلا مفتريًا اتخذ اللَّه إلى هدفه وسيلة واتخذ الدين الحينفى مسندًا إليه فى دعوته يستند ليكفل لكلمته إصغاء، فليس إلا بوحي من أحداث العصر كانت قريش قد كونت عن محمد هذه الفكرة التى تحولت فى صدرها إلى يقين غداة استجابت لمحمدٍ هاشمٌ، مما كان السبب فى شد أزر الدعـوة المحمدية وتثبيتها والخروج بها من الدور الإعدادى إلى الدور العملي الذى اتخذ مظهر النزاع السافر بين الفريقين، والذى ما لبث بدوره أن تطور إلى مظهر التحدي حتى كاد يندلع شرر الحرب بين الفرعين".
ولمزيد من المعلومات حول أبكار السقاف أسوق للقارئ العزيز ما قرأته فى بعض المواقع المشباكية لمحمد جلال القصاص من أن كتابها: "نحو آفاق أوسع" (وهو الكتاب الذى يعد كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية" أحد أجزائه) قد "صدر عام 1945م، وحدثت "دوشة" كبيرة حول الكتاب انتهت بمصادرته عام 1946م. لا حظ أنّ الكتاب تم مصادرته في فترة لم يكن ظهرت فيها ما يسمونه بــ"الأصولية الإسلامية"... وأبكار السقاف من المعاصرين ومن المعمَّرين (1913م- 1989م)، ولا يعرف عنها التاريخ سوى أنها إحدى الحسناوات ربيبة القصور وزوجة الأمراء والأثرياء. وقد أجهد نفسه من يترجم لكتب شىء عنها فلم يجد سوى التعجب من أن تهمل هذه الحسناء بنت الأثرياء. أقول: وهذا حالها، فقد صدر كتابها: "نحو آفاق أوسع" في عام 1945م، وكان عمرها اثنين وثلاثين عاما، والكتاب موسوعة ضخمة في أربعة مجلدات، ويشبه التحقيق الكبير. كيف أخرجته هذه الصبية الجميلة، وكانت قد تزوجت (أو خُطِبَتْ) وطُلِّقَتْ (أو انفصلت) من أمير برقة، ثم تزوجت ومات زوجها، ثم لم تخرج بعده عملا في نفس قيمته مع أنّها عُمِّرَتْ وتفرغت بعد ذلك؟ وإذا وضعنا في الحسبان أنّ هذه الفترة كان النصارى مشغولون فيها بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي من جديد، وإخراج كوادر "إسلامية متنورة"، وهي ذات الفترة التي خرجت فيها "دائرة المعارف الإسلامية"، ألا يدل كل ذلك على أنّ هذه الفتاة كُتِب لها أو أُعِدَّتْ لها الأفكار والمفاهيم، وهي صاغتها؟ مجرد تساؤل لا أجد صعوبة في الإجابة عليه بالإثبات. وإنْ حَلَفَ غيري لا أظن أنّه يحنث".
قلنا إن عددا من الأفكار فى الكتاب الذى يحمل اسم القمنى وذلك الذى يحمل اسم أبكار السقاف واحدة، كما أن القمنى يباهى بأنه تلميذ لتلك الكاتبة، التى رأينا أن كتبها المطروحة هذه الأيام بوفرة واهتمام قد صودرت حين نشرت لأول مرة، وهو كلام له مغزاه، وبخاصة حين يقرأ الإنسان كتابها عن الدين فى بلاد العرب فيلفيها تتكلم عن الإسلام والقرآن ومحمد فى الغالب بكلام يحتمل معنيين: المعنى الأول أن يكون القرآن من عند محمد، استقى ما فيه من لقاءاته بالرهبان وأهل الكتاب الذين قابلهم هنا وهناك فى رحلاته التجارية إلى اليمن والشام، تلك اللقاءات التى تقرر أنها أثرت فى شخصية محمد، فهى كثيرا ما تقول مثلا: "وانطلق لسان محمد يقول كذا وكذا"، أو "استرسل من محمد الكَلِم يقول كذا"، أو "راح الصوت المحمدي يتجه نغما هادئا ينادي بكذا"، أو "أتت الإجابة من شفتي محمد بأنّ اللَّه له يقول كذا"، أو "جاءت الوعود من شفتى محمد بكذا"، أو "ارتفع الصوت من محمد ينادى بكذا"، أو "جاوب الجانبُ المحمديّ مرددًا كذا"، أو "يقول محمد بأنّ اللَّه عن الأمر الفلانى يقول كذا"، بدلا من أن تقول إن الوحى قد نزل عليه بالآية الفلانية أو السورة العلانية. وهو أسلوب من القول درج على شىء شبيه به عبد الرحمن الشرقاوى فى كتابه: "محمد رسول الحرية". وأما المعنى الثانى لكلام السقاف أو من كتب مستخدما اسمها، وإن لم يكن بنفس قوة المعنى الأول، فهو أن القرآن وحى من السماء. ويساعد على هذه الحيرة بين المعنيين أن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب أسلوب متكلف عَسِر لا تتضوع فيه أنفاس البيان العربى، وفيه من العجمة شىء ليس بالقليل.
ومما يحيرنى كذلك فى أمر السقاف أن بعض كتبها الأخرى ككتابها: "إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة" وكتابها: "الحلاج أو صوت الضمير" مثلا قد صيغت بأسلوب مباشر يختلف تماما عن هذا الأسلوب: فلا تكلف ولا عجمة ولا تقديم لما حقه التقديم ولا تأخير لما حقه التقديم، ولا عبارة مثل: "لا ثمة شك" المتحذلقة التى لم أجد لها نظيرا فيما يكتب الكتّاب والكاتبات. هل هناك أكثر من يد وراء تلك الكتب السقّافية؟ مجرد سؤال. هل تلك الكتب قد صاغتها فعلا يد أبكار السقاف، التى تمسك وهى فى مجالس الرجال بالسيجارة بدلال ولا دلال فاتنات السينما، وقد ارتدت ملابس تكشف عن صدرها وكتفيها وزنديها وذراعيها وساقيها وتركت شعرها الوَحْف دون أن تستره ولو بإيشارب حسبما تخبرنا صورتها المنتشرة على المشباك؟
ويؤكد أيضا التشابه الكبير فى الأفكار الرئيسية بين الكتاب الذى يحمل اسم السقاف ونظيره الذى يحمل اسم القمنى ما نقرؤه عند السقاف مثلا عن عبد المطلب: "ليس بالجديد أن نقول إنّ عبد المطلب كان من حكام قريش وأشرافها وساداتها، لكن الجديد أن نكتشف ما قد كان لعبد المطلب من سجايا مطمورة فى تربة التاريخ وأن نراه يقف فى العصر القريشي مثلا رائعا للتوحيد الصافى والخالص النقي من وصمة اتخاذ الوسطاء على الله والتشفع بهم إليه ليسجل تنبُّه الوعى تماما فى هذه الفترة إلى ما إليه كان قد انصرف القلب قديما من دينٍ صاحَبَه الاعتقاد بأن به قد هبط إبراهيم الوادى وأورثه لإسماعيل غداة تَرَكَه بين جُـرْهُم يصحر معهم فى الصحراء. يقينا إنّ من الجديد أنْ نعلم أنّ عبد المطلب هو أوّل داعية رفض التوجه فى العبادة على "الوسطاء" والتمسح بأصنامهم أو تماثيلهم بغية التشفع بهم إلى الله! ومن الجديد أن نعلم أنّ عبد المطلب وحّـد الله توحيدًا خالصًا رفض به إلاّ التوجّه إليه بالسؤال. فهو بينما يقوم صورة بارزة للقيم الأخلاقية محرمًا الخمر والفسق وآمرًا بترك البغى والظلم وموصيًا بالوفاء بالعهد وناهـيًا عن نكاح المحارم وعن الوأد ومتبعًا التقاليد العربية فى قطع السارق وحاثًّا على مكارم الأخلاق ومحذرًا من يوم حساب عنه يطلق القول مقسمًا: "والله إن وراء هذه الدار دارًا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسىء بسيئاته" فإنما يقوم معلنًا أنه يعبد الله على شريعة الحنيفية ويتبع دين إبراهيم وإسماعيل، وأنه يتخذ مكانًا لهذا التعبد "حراء". فقد كان عبد المطلب إذا أهل شهر رمضان صعد إلى حراء يتحنّث ويتعبّد ليعود فيُودِع التبشير بهذا الدين فى مسمع من حوله من أبنائه من بهم كان قد اشتد ساعده، ومن عنهم كان يتحدث قائلا: "إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء!". للحظة أخرى يتمهل الفكر هنا ويسبح مستوعبًا المعنى من هذا الصوت الذى لا بد أن يكون قد رنَّ فى وعى محمد صبيًّا وهو فى حجر عبد المطلب نشأ، وفى كنفه تربى، ليعود الفكر من هذا السبح مُوقِنًا بأن فى نفس محمد كان حتمًا أن يترك رنينُ هذا الصوت انطباعاته التى بوضوح بعد قد تجلت غداة أنشأ محمد "بالنبوة" دولة!".
فهذا الكلام يماثل قول القمنى فى "الحزب الهاشمى": "إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء: قالها عبد المطلب بن هاشم، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته، فبرغم التفكك القبلي في بيئة البداوة التي عاشتها جزيرة العرب، فإن هناك من استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا برغم واقع الجزيرة آنذاك... وإزاء كل هذه العوائق الواضحة والمحبطات السافرة للحلم وللأمل وللتوقع لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيا مثل داود. وعندما وصلوا إلى هذا فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب حتى اشتد الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة،. وآمن هؤلاء بذلك، وأخذوا يسعون للتوطئة للعظيم الآتي، وإن ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوحدة، وظن كل منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل أمية بن عبد الله الثقفي الذي راودته نفسه بالنبوة و الملك، فقام ينادي:
ألا نبي منا فيخبرنا * ما بعد غايتنا في رأس مَحْيانا؟
لكن العجيب فعلا ألا يمضي من السنين غير قليل حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة بل دولة قوية ومقتدرة تطوي تحت جناحيها، وفي زمن قياسي، ممالك الروم و العجم بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أنه النبي المنتظر... ويبدو أن أخطر شأن في هذه الملة وفي أمر عبد المطلب جميعه هو إدراكه للنسب وخطورته بين الأعراب بحسبانه العامل الجوهري في تفككهم السياسي لاعتزاز كل قبيلة بنسبها القبلي والذي ظل مستبطنا في بطن التحول الجديد للبنية الاجتماعية المكية. ومن هنا كان إعلانه أن العرب جميعا، وقريش خصوصا، يعودون بجذورهم إلى نسب واحد. فهم، برغم تحزبهم و تفرقهم، أبناء لإسماعيل بن إبراهيم. لذلك، ولأنه ينتمي إلى هذه السلالة الشريفة، فقد أعلن في الناس تبرؤه من أرجاس الجاهلية وعودته إلى دين جده إبراهيم. ودين إبراهيم هو الفطرة الحنيفية التي ترفض أي توسط بين العبد والرب. فإذ أهل رمضان صعد إلى غار حراء متحنفا، ثم عاد ينادي قومه أنه قد حرم على نفسه الخمر وكل ضروب الفسق، حاثا على مكارم الأخلاق، داعيا الناس لاتباعه، مؤمنا بالبعث والحساب والخلود، هاتفا: "والله إن وراء هذه الدار دارا يجزي فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بسيئاته"، ثم لا يلبث أن يبشر قومه بقرب قيام الوحدة السياسية، فيشير إلى أبنائه وحفدته الذين أصبحوا له عزوة وشد أزر ويقول: "إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء"، أولئك الأبناء الذين كاد يقدم أحدهم ذبيحا ابنه عبد الله أب النبي عليه السلام كما كاد يفعل جده البعيد إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام. وفي أمر عبد المطلب يقول المسعودي: "تنازع الناس في عبد المطلب، فمنهم من رأى أنه كان مؤمنا موحدا، وأنه لم يشرك بالله عز وجل. وكان عبد المطلب يوصي بصلة الأرحام وإطعام الطعام ويرغبهم ويرهبهم، فِعْل من يراعي في المتعقب معادا وبعثا ونشورا".
كذلك وقفت السقاف عند عبد المطلب وزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بوصفهم حنفاء، وعلى هذا الترتيب الذى تناولهم به القمنى أيضا، وإن كان القمنى قد تناول حنفاء آخرين، إلا أنه أبقى الكلام عن هؤلاء الثلاثة إلى النهاية وساقهم بهذا الترتيب، وأرود لهم كثيرا من النصوص التى أوردها كتاب السقاف، وأبرز أهيمتهم بنفس الطريقة التى نجدها عندها، أو بالأحرى: فى الكتاب الذى يحمل اسمها. والملاحظ أيضا أن احتفاء الاثنين بأمية بن أبى الصلت وتمجيده كبير حتى إنهما ليركزان كثيرا على "طهره" و"تطهره"، فضلا عن إيرادهما أشعاره المشبهة لما فى القرآن بوصفها أشعارا صحيحة مع ما هو مشهور بين العلماء من أنها منحولة عليه. وقد زاد القمنى فعزا، عن طريق التدليس، القول بصحتها إلى د. جواد على، الذى قال عكس هذا تماما. إلا أن القمنى حذف من كلام الباحث العراقى سطورا كثيرة ثم لحم النص بطريقة توحى بأن جواد على يقول ما قاله هو من أن شعر أمية المشابه للقرآن هو شعر صحيح، وأن الرسول والقرآن من ثم مدينان له.وقد فصلنا القول فى ذلك تفصيلا فى المقال المسمى: "اعتزال سيد القمنى".
ولكن هل كتاب أبكار السقاف هو مصدر العبارة المنسوبة إلى عبد المطلب، تلك التى يباهى فيها ذلك الشيخُ الجليلُ بأبنائه وأحفاده ويؤكد أن أمثالهم أحرياء أن ينشئوا الدول؟ كلا ثم كلا ثم كلا. إنما هو فى أحسن أوضاعه مرجع وسيط. ولكن صاحبته للأسف لم تذكر المصدر الذى أُخِذَتْ منه هذه المعلومة، بل أوردت اسم مرجع وسيط آخر، ثم زادت الطين بلة فلم تحدد مكان الطبع ولا تاريخ الطبعة أو رقم الصفحة، مكتفيةً بالقول بأنه كتاب "قصة الأدب فى الحجاز فى العصر الجاهلى" من تأليف خفاجى والجيار. وهو أمر يبعث على القهقهة، إذ الصواب أنه من تأليف د. محمد عبد المنعم خفاجى وعبد الله عبد الجبار، فانظر الفرق بين الأمرين كى تدرك مدى الاضطراب الذى أحاط بالكاتبة حتى إنها لا تعرف الفرق بن عبد الجبار والجيار ولا تفكر فى تحديد الطبعة ورقم الصفحة فى كتاب يبلغ عدد صفحاته زهاء السبعمائة.
وقد أرهقنى الأمر قبل أن أنجح فى الوصول إلى موضع الاقتباس، وهو الصفحة رقم 306 من طبعة مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة عام 1400هـ- 1980م لأفاجأ بأن السقاف قد أفسدت النقل، إذ ذكرت أن عبد المطلب هو الذى قال هذه العبارة وهو ينظر إلى أولاده وأحفاده مباهيا بهم، على حين أن قائلها، كما ورد فى كتاب خفاجى وعبد الجبار وكما ورد فى كتاب "أعلام النبوة" للماوردى، إنما هو أعرابى كان قد مر بعبد المطلب جالسا وحوله أولاده وأحفاده. على أن المؤلفَيْن المذكورَيْن بدورهما لم يذكرا المصدر الذى استقيا منه هذه العبارة وتركانا فى عماية معماة من الأمر. فانظر، أيها القارئ العزيز، إلى كل هذا الاضطراب، وتعجب ما حلا لك التعجب! ثم يقال بعد هذا كله لذلك المزور القرارى إنه باحث لم تلده ولادة! ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إلهى يحرسك من العين يا قمنى!
بالله أهذا الهلس يصلح فى ميدان البحث العلمى؟ أمن المعقول أن يأتى أحدهم إلى عبارة طائرة لا يدرى من أين أُخِذَتْ ولا من قالها ولا ماذا تعنى، بل لا يدرى أصلا أهى صحيحة أم لا، ثم يرتب عليها أطروحته كلها، وهى أطروحة فى منتهى الخطورة، إذ تتهم محمدا عليه السلام بأنه ليس نبيا بل رجلا سياسيا أراد تحقيق مطامح جده فى توحيد العرب وإقامة دولة تحمل اسم الهاشميين، ثم لا دين بعد ذلك ولا يحزنون؟ وقد نفضتُ كثيرا جدا جدا من كتب التراث التى يغلب على الظن أن مثل تلك العبارة يمكن أن يعثر الباحث عليها فيها فلم أوفق. وبعد رحلة بحثية أخرى لم أعثر عليها إلا فى كتاب واحد هو كتاب "أعلام النبوة" للماوردى المولود فى أول الثلث الأخير من القرن الرابع الهجرى تقريبا.
والملاحظ أن هذه العبارة لا وجود لها فى تاريخ الطبرى ولا فى سيرة ابن هشام ولا فى "المغازى" للواقدى ولا فى غيرها من كتب التاريخ الموجودة فى موقع "الوراق"، وهى بالعشرات. فكيف انفرد الماوردى بها؟ وأين كانت قبل أن يوردها فى كتابه؟ وحتى لو صدقنا بها، فمن ذلك الأعرابى الذى قالها؟ وفى أية ظروف نطق بها؟ بل من هو الراوى الذى رواها للماوردى؟ والواقع أن العبارة لا يمكن أن تكون صحيحة. لماذا؟ أولا لأن كلمة "دولة" بالمعنى الذى يقصده القمنى ومن يتابعهم عميانيا دون فهم أو عقل أو منطق أو تدقيق ليست من معجم الجاهليين. ودونك، يا قارئى العزيز، الشعر الجاهلى كله ففَلِّه براحتك. فإن وجدت هذه الكلمة فى أى شاهد منه غير الشاهد التالى، وهو بمعنى مختلف تماما عما نحن فيه، فتعال قل لى، ولك منى الشكر الجزيل. يقول سليمة بن مالك الأزدى: "وَالقَومُ لا يغنيهمُ رَيْبُ الدُّوَلْ"، أى تداول النصر والهزيمة.
كذلك دونك القرآن الكريم، ويقينا لن تعثر على هذه الكلمة بين مفرداته، بل هناك فقط كلمة "دُولَة" فى قوله تعالى عن الحكمة وراء توزيع الأنفال على فئات بعينها من المهاجرين غِبَّ انتصار المسلمين فى خيبر: "كيلا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم"، أى كيلا ينحصر تداول المال فى يد الأغنياء منكم. فـ"الدُّولَة" هنا من التداول، ولا علاقة لها بمفهوم الدولة (state) إطلاقا. كذلك تخلو أحاديث الرسول الكريم من تلك الكلمة أيضا، اللهم إلا حديثين أو نحو ذلك من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة استعملا الكلمة بمعنى "السيادة" أو "الدَّوْر" أو "الحصّة"، إذ نُسِب إلى الرسول قوله: "إن للمساكين دولة. قيل: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: إذا كان يوم القيامة قيل لهم: انظروا من أطعمكم في الله لقمة وكساكم ثوبا أو سقاكم شربة ماء، فأدخلوه الجنة"، "حدثني جبريل عليه السلام، قال: يدخل الرجل على الحوراء فتستقبله بالمعانقة والمصافحة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فبأي بنان تعاطيه؟ لو أن بعض بنانها بدا لغلب ضوؤه ضوء الشمس والقمر. ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها. فبينا هو متكئ معها على أريكته إذ أشرف عليه نور من فوقه فيظن أن الله عز وجل قد أشرف على خلقه، فإذا حوراء تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ فيقول: من أنت يا هذه؟ فتقول: أنا من اللواتي قال الله تبارك وتعالى: "ولَدَيْنا مَزِيد"، فيتحول عندها، فإذا عندها من الجمال والكمال ما ليس مع الأولى. فبينا هو متكئ معها على أريكته، وإذا حوراء أخرى تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ فيقول: من أنت يا هذه؟ فتقول: أنا من اللواتي قال الله عز وجل: "فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون". فلا يزال يتحول من زوجة إلى زوجة".
ويؤكد هذا كلَّه ما أثبته الخليل بن أحمد فى معجم "العين"، وهو أقرب المعاجم العربية إلى الجاهلية، وهو: "الدُّولةُ والدَّوْلةُ لغتان، ومنه الإدالة. قال الحَجّاج: إِنّ الأرضَ ستُدَالُ مِنّا كما أَدَلْنا منها. أي نكون في بَطْنها كما كُنّا على ظَهْرها. وبنو الدِّول: حَيٌّ من بني حنيفة". وكما يرى القارئ لا وجود لكلمة "دولة" بالمعنى العصرى فى هذا المعجم. وقد جرت العادة حينذاك أن يقال: "الفرس والروم والأحباش" مثلا بدلا من "دولة الفرس ودولة الروم ودولة الأحباش" كما فى قوله عز شأنه: "ألم غُلِبَتِ الرُّوم فى أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبهم سيَغْلِبون* فى بِضْع سنين".
ولقد بدا لى قبل هذا أن أراجع الشعر الجاهلى كله فى الإصدار الثالث من "الموسوعة الشعرية" لأرى الأبيات التى تتضمن تركيب "إذا أحب الله..."، فلم أجد فيه ولو شاهدا واحدا، بل لم أجد أى شاهدا أتى فيه اسم الجلالة فاعلا لفعل "إذا" الشرطية قط رغم أننى استعرضت فى ذلك مئات الأبيات التى استعمل فيها أصحابها هذه الأداة ما بين شعراء مشهورين وآخرين مغمورين، وشعراءَ رجالٍ وشاعراتٍ نساءٍ، وما بين "إذا" التى فعل شرطها ماض و"إذا" التى فعل شرطها مضارع، وما بين "إذا" المجردة من "ما" وإذا" التى يعقبها هذا الحرف، وكذلك ما بين "إذا" التى تليها جملة فعلية و"إذا" التى تليها جملة اسمية، وما بين "إذا" الابتدائية و"إذا" التى تتصدر جملة الخبر، وما بين "إذا" التى ترد فى صدر البيت و"إذا" التى تأتى فى دَرْجِه... إلخ. ثم إننى لم أكتف بهذا، بل زدت فاستعرضت فى الموسوعة المذكورة كل الأبيات التى ورد فيها الفعل: "أَحَبَّ" فلم أجده قط فى شعر الجاهليين مسندا إلى الله ولا واقعا عليه أيضا.
وثالثا كيف يمكن أن تخطر لأعرابى فكرة إنشاء الدول، ولم يعرف الأعراب أوانذاك إقامة الدول، إذ كانوا قبائل متناحرة لم يعرفوا الدول ولا الأوطان كما نعرفها نحن الآن؟ وبحقٍّ يؤكد مكسيم رودنسون المستشرق الفرنسى المعروف، فى مادة "محمد" فى طبعة هذا العام من "Encyclopaedia Universalis: الموسوعة اليونيفرسالية"، أن العرب "كانوا يجهلون فكرة الدولة: la notion d’État était inconnue". بل إنهم لم يكونوا ينسبون مثل هذه الأمور إلى الله سبحانه ولا كان يدور فى أذهانهم فى ذلك الوقت من الجاهلية مفهوم المشيئة والإرادة الإلهية على النحو الذى عرفوه بعد الإسلام. لقد كانوا يقولون مثلا: "نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر". ولدينا الشعر الجاهلى، وليس فيه شىء يدل على أنهم كانوا يربطون بين مثل ذلك الأمر وبين إرادة الله. ولنفترض بعد هذا كله أن ما قلناه غير صحيح، وهو لا يمكن إلا أن يكون صحيحا، فكيف لم يحاول واحد من منشئى الدول هؤلاء حسب قولة الأعرابى المزعومة كالعباس وحمزة وأبى لهب وأبى طالب مثلا أن يفكر فى إقامة دولة، اللهم إلا صغيرهم وابن أخيهم محمدا؟ لقد وقفوا منه أول ما بدأ دعوته إلى الإسلام موقف العداء والعناد، بل لقد انضم بعضهم إلى معسكر المؤذين له المتآمرين عليه كأبى لهب. كما أن الذين آمنوا من كبارهم إنما آمنوا بأُخَرَةٍ ولم يسارعوا إلى الانضمام إلى صفوف أتباع منشئ الدول هذا. أما أبو طالب، الذى بسط حمايته على ابن أخيه وكان له فى كثير من المواقف ردء صدق، فلم يؤمن به قط رغم كل الحنان الذى كان يكنه له فى قلبه.
بل لقد كان أبو طالب يطلب منه صلى الله عليه وسلم فى بعض الأحيان أن يكف عن الدعوة إلى ما جاء به إبقاء على العلاقات التى تربط الهاشميين بسائر المكيين على ما تصوره لنا الرواية التالية من السيرة النبوية لابن هشام والتى أوردها الكاتب نفسه فى كتابه موجزة: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه. ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مَشَوْا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استَنْهَيْناك من ابن أخيك فلم تَنْهَه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفّه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدّث أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا (الذي كانوا قالوا له)، فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق. قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءٌ أنه خاذله ومُسْلِمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي. قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أُسْلِمك لشيء أبدا". أفلو كان هناك تلك التخطيطات التى يزعمها أصحاب التخليطات الحشاشية، أكان هذا يكون موقف أبى طالب من ابن أخيه الساعى لإنشاء دولة العشيرة؟ أُفٍّ لكل مُهْتَلَسٍ مَأُوف!
ثم إن الكاتب نفسه يقول بعد ذلك ما نصه: "وكانت النتيجة التي سجلتها كتب التاريخ الإسلامي أنْ حَقِبَ الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادأ بعضهم بعضا، وقام حزب عبد الدار يستجمع حلفاءه لمواجهة ما بدأت نذره في الأفق برغم نداء بعض العقلاء مثل عتبة بن ربيعة، الذي التقى النبي، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، فقام يقول لقريش: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم. فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. وعلى الطرف الآخر أعلن الهاشميون أنهم قد منعوا فتاهم برغم عدم متابعة دعوته دينيا، اللهم إلا أفرادا فرادي. فكانت عصبيتهم القبلية درعا قويا لدعوة حفيد عبد المطلب، التي استنفرت الحزب المناوئ الذي أصر على زعمه أنها دعوة لو كتب لها النجاح لصار الأمر كله إلى البيت الهاشمي". وإن العاقل ليتساءل: لماذا يا ترى يَنْكِل الهاشميون عن متابعة محمد فى دعوته ما دامت تؤدى إلى إنشاء الدولة التى لا تكلّ عشيرتهم عن التخطيط لها والعمل على تحقيقها بكل وسيلة منذ أجيال؟ وماذا يضيرهم فى أن يتابعوه على دعوته؟ أو فلنقل: وماذا كان يضيره لو ترك دعوته الدينية وركز على تنفيذ خطته السياسية ما دام الدين الذى جاء به قد فرق قومه، وفرق معهم عشيرته أيضا، بدلا من توحيدهم؟ ثم كيف يفسر كاتبنا البلبوصىّ هذه الحكمة التى بدت على عُتْبة بن ربيعة فأراد من أهل مكة أن يكفّوا عن مناوأة الرسول، وابنُ ربيعة لم يكن هاشميا؟
وبالمناسبة فالكاتب لا يرتاح هنا إلا بعد أن يكذّب ما يقوله الرسول والصحابة عن عمرو بن هشام، الذى سَمَّوْه: "أبا جهل"، إذ يقول لوذعيُّنا الكارهُ لكل شىء فى الإسلام: "ومن الجدير بالذكر أن عمرو بن هشام لم يكن رجلا أحمق أو أبله بدلالة تحاكم العرب إليه في النفورة والمشاورة والمخايرة منذ حداثته حتى إنهم أدخلوه دار الندوة صبيا". وهذا يعنى أن ما قاله المسلمون والرسول عن جهله وحمقه هو كذب فى كذب وغيظ وحقد لا حقيقة له، وكأن كل صاحب منصب لا بد أن يكون أهلا لذلك المنصب. أفلا يكفى أن يعادى دعوة الإسلام وأن يظل طوال عمره مفعم القلب بالحقد على الرسول الكريم عاميا عن القيم النبيلة المضيئة التى يحتوى عليهادينه، مؤثرا عليها قيم الجاهلية الجهلاء؟ أفلا يكفى أن يكون هو مُورِد قومه مَوْرِد التهلكة فى بدر حين أصر فى عنادٍ غبىٍّ وكِبْرٍ مقيتٍ على متابعة جيش قريش تقدمه إلى بدر رغم توارد الأنباء بنجاة القافلة القرشية التى خرج الجيش لحمايتها، فكانت ثمرة ذلك العناد الجهول الأحمق أن جُنْدِل العشرات من صناديد قريش وقوادها ورؤسائها، ومنهم أبو الجهل هذا؟
وتخبرنا السيرة أن كفار قريش قد عرضوا على النبى، ضمن ما عرضوه، الـمُلْك والسلطان، إلا أنه رفض. فلم يا ترى، وقد كان حريًّا به أن يَعَضّ على تلك السانحة بالنواجذ فلا يفلتها أبدا؟ جاء فى كتب السيرة والأحاديث النبوية "أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من عبد الدار، وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا فقالوا: يا محمد، والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعِبْتَ الدين، وسفَّهْتَ الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تطلب الشرف فينا سَوَّدْناك علينا. وإن كنت تريد مُلْكا مَلَّكْناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتي رَئِيًّا تراه قد غلب بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ونُعْذِر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا. قالوا: فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فَسَلْ لنا ربك الذي بعثك به فَلْيُسَيِّرْ عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجحر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا. فإن لم تفعل فَسَلْ ربك مَلَكًا يصدّقك بما تقول، وأن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك على ما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش. فإن لم تفعل فأسقط السماء علينا كِسَفًا كما زعمتَ أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك أن تعجّل ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة، فيشهدوا لك أنك كما تقول. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا، فأنزل عليه ما قاله عبد الله بن أبي أمية: "وقالوا لن نؤمن لك" إلى قوله: "بشرا رسولا"...".
وهَبِ الرسول عليه السلام قد أخطأ خطأ الدهر الذى لا يُجْبَر، فكيف تركه بنو هاشم فلم يدفعوه إلى قبول مثل ذلك العرض الذى كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر وخلع الضرس، بل بفقء العين، وكانوا على استعداد لأن يبذلوا فى سبيله الغالى والنفيس؟ ألم يكن هذا هو حلم آبائهم وأجدادهم منذ أجيال على ما يقول القمنى وعبد الكريم تبعا لما لُقِّنَاه؟ فيكف يفلتون كلهم جميعا مثل تلك الفرصة؟ ثم كيف نفسر أنه صلى الله عليه وسلم لم يعهد برئاسة الدولة من بعده لأحد من بنى هاشم وترك الأمر شورى بين المسلمين؟ إن ما يقوله عبد الكريم والقمنى إنما هو ترديد لما ظنه الكفار هدفا لمحمد فعرضوا عليه الملك كما رأينا. إلا أن محمدا قد رفض هذا العرض رفضا باتا، مكذبا بذلك كل الكفار فى كل الأدهار. أليس ذلك أمرا مخزيا؟ ألا إن فى ذلك لذِكْرَى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! لكنْ على من تتلو مزاميرك يا داود؟
وأخيرا فها هو ذا القمنى بعظمة لسانه بعد كل هذه التهويشات الحلمنتيشية عن "الدولة" التى وضع محمد إنشاءها نصب عينيه منذ كان طفلا صغيرا جالسا مع جده وسائر أعمامه وأطفالهم واستمع إلى عبارة جده الخطيرة عن الرجال الذين إذا أحب الله إنشاء دولة خلق أمثالهم لها، ها هو ذا القمنى يلحس كل ما قاله فى هذا الشأن ويؤكد أن النبى حتى بيعة العقبة الأولى لم يكن يضع فى ذهنه بتاتا إقامة أية دولة. يقول سيد المزورين الأولين والآخرين إلى يوم الدين فى الجزء الثانى من مقال له منشور فى موقع "الحوار المتمدن" بعنوان "البيعة ليست هى التصويت": "كانت بيعة العقبة الأولى تحديد هدف الدين بالسعي في الدنيا للحصول على رضا الله لدخول جنته، وليس لإنشاء دولة ذات سلطة وسلطان، ومُلْك يتناصر حوله الناس أو يتصارعون". ونفس الشىء فيما يتعلق ببيعة العقبة الثانية حسبما نقرأ بعد ذلك بسطور قليلة: "بيعة اتفاق على الدم والهدم والحرب وألا يتخلى الأنصار عن نبيهم ويمنعوه كما يمنعون نساءهم وأطفالهم حتى يشتد أمره وتقوى شوكته. وعليه أيضا عندما يقوى شأنه ألا يرتد عنهم ويتخلى عنهم ويعود إلى بلده. هذه هي العقبة الثانية بتفاصيلها ليس فيها شئ عن دولة أو انتخابات... إلخ".
ثم لا يتركنا القمنى فى ضلال من الأمر، بل يعود فيؤكد ما قاله مرة أخرى: "أين هنا الدولة؟ العقبة الأولى كانت تمهيدا للهجرة، وكانت اتفاقا سريا غير علني، والدول غير سرية. العقبة الثانية سرية لتنفيذ الإتفاق". ثم لا يكتفى بهذا، بل يعاود بعد قليلٍ التأكيد قائلا: "مرة أخرى: أين هي الدولة؟ العقبة الأولى كانت تمهيدا للهجرة، وكانت اتفاقا سريا غير معلن، والدول غير سرية. العقبة الثانية سرية بدورها لتنفيذ الاتفاق السري". ثم سوف يعود مرة ثالثة فى الجزء الثالث من المقال مؤكدا ما سبق أن أكده من أنه لم يكن ثم وجود لفكرة الدولة فى ذهن النبى أو الأنصار فى بيعتى العقبة: الأولى والثانية. ليس ذلك فقط، بل هو يصرح بكل ما عنده من صوت عال مجلجل أن "الإسلام لم يقصد إقامة نظام دولة، بل قصد الدين وحده، ولذلك كان لكل خليفة من الراشدين رأيا يختلف عن الآخرين في طريقة استلام الحكم وفي علاقته بالمحكومين. كل شيخ وطريقته في الشغل".
ثم ها هو ذا للمرة الخامسة فى مقال له آخر اسمه: "دولة الحداثة الدينية" ومنشور أيضا فى موقع "الحوار المتمدن أن "اسم الدولة أو الحكومة، بما نفهمه منه اليوم، غاب بالمرة وبالمطلق عن كل التاريخ الإسلامي منذ جاء جبريل بـ"إقرأ" وحتى اليوم، لأن رب الإسلام لو كان يريد دولة لدينه لخلق لها الجماعة التي تضع ذلك وتدرسه وتطبقه وتضع له مواصفاته وشروطه ومؤسساته التي تشرف على تنفيذه وتحميه، وهو كله الكلام الذي لم يكن معلوما زمن الصحابة ولزمن بعيد بعده حتى ظهور ابن تيمية وسياسته الشرعية، وإبن القيم و"أعلام الموقعين"، وحسن البنا و"الإسلام هو الحل". لوأرادها الله دولة إسلامية لخلق هؤلاء زمن الدعوة ليجلسوا حول الرسول ويشيرون عليه بما يقولونه لنا اليوم، ويعظونه به كما يعظوننا، ولقامت الدولة مواكبة لقيام الدين". ثم مرة سادسة فى ذات المقال أن الإسلام "لم تكن الدولة ضمن أهدافه بالمرة ". ومرة سابعة، وفى نفس المقال أيضا: "الدين الإسلامى طلب منا الإسلام، ولم يطلب منا الدولة".
إذن فالقمنى قد انقلب على نفسه وقال ما قلناه من الصبح، ولكن بعدأن طلَّع روحَنا معه. ولنستمع إليه أيضا، فى الجزء الثالث من مقاله: "الوطن والمواطنة عند الإسلاميين" المنشور فى موقع "الحوار المتمدن"، يقرر بصريح العبارة دون أى لبس أن "الإسلام لم يأت لينشئ دولة ولا ليقيم إميراطوريات، ولا علاقة له بالوحدة والتعدد الاجتماعي، ولم يعرف أصلا معنى كلمة "دولة". وكانت "الدولة" عنده هى تداول الأزمان والأشياء، أى تحرُّكها وتبدُّلها: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ليس أكثر". أرأيت أيها القارئ مدى التخبط عند القمنى، أو فلنقل: فى الكتابات التى تحمل اسم ذلك البلبوص؟
والمضحك أن القمنى ذاته ينصحنا فى مقال آخر له عنوانه: "مشايحنا يصلحون" منشور أيضا بموقع "الحوار المتمدن" بأن نراعى السياق التاريخى والاجتماعى للفظ الذى نسمع أو نقرؤه فلا نفسره بالمعنى الذى يستخدمه عصرنا فيه. يقول: "وطالما أن الإسلام قد ظهر في جزيرة العرب وبلغتهم في القرن السابع الميلادي، وحتى نفهم مقاصده الحقيقية، فلا بد أن نتعامل مع الألفاظ بدلالات زمنها، كما كان يفهمها أهل مكانها البيئي وظرفهم الإجتماعي والاقتصادي، وليس كما يشرحها لنا وعاظ أيامنا ليحمّلوها بدلالات لم يقصدها السلف و لا أرادته اللغة، بل ولم تعرفه اللفظة أصلا". وهو ما كرره فى الجزء الثالث من مقاله: "الوطن والمواطنة عند الإسلاميين" المنشور فى الموقع المذكور حيث يؤكد أن "اللفظ هو ابن التاريخ و ابن الواقع الذي يعطيه المعنى و الدلالة". ألم يكن أحرى به أن يقول هذا الكلام لنفسه؟ اللهم إلا أن يكون قد نقل كلامه الحالىّ وكلامه السابق عن جهة من الجهات طلبت منه أن يتبناه ويؤديه كما هو لتحقيق غرض بعينه فى كل مرة دون مبالاة بالصواب والخطإ، فصدع بالأمر فى الحالتين دون إدراك لأبعاده أو فهم لمضامينه، وهو ما أرجّحه!
ثم ها نحن أولاء كذلك، فى الجزء الثانى من مقال له بعنوان "الوطن والمواطنة عند الإسلاميين" منشور فى هذا الموقع ذاته، نقرأ أنه "عندما جاء الإسلام لم ينشغل بالمرة بشئ اسمه الدولة والوطن لأنه لم يكن في مجتمع يعرف بعد معنى كلمة دولة"، وأن "الدولة لم تكن إطلاقا من صلب الدين الإسلامي". إذن فمحمد، فى رأى سيدنا البلبوصى لا رضى الله عنه، كان يدعو إلى دين ولا يريد إنشاء دولة: لا هاشمية ولا قمنية ولا باذنجانية ولا بلبوصية! كذلك لم يكن من الممكن أن يخطر للأعرابى الموهوم أو لعبد المطلب نفسه مفهوم "الدولة". فبأى رأى من الرأيين المتناقضين نأخذ؟ أفتونى ايها الناس! أنا أقول لكم: إنه يرفض الآن أن يكون فى الإسلام دولة، نكايةً فيمن ينادون بإقامة الدولة على أساس إسلامى، على حين يقول فى "الحزب الهاشمى" بأن محمدا إنما قصد إقامة دولة هاشمية من أجل أن ينفى نبوته. وهذا هو السر فى الموقف المتناقض الذى يقفه فى هذه القضية!
ولا أظن القارئ إلا تنبه إلى أن القمنى (حلاق الصحة الذى ظن أنه يستطيع أن يلحق بطبقة الدكاترة بمائتى دولار) قد فتح همزة كلمة "إعلام" فى اسم كتاب ابن القيم: "إعلام الموقعين" والصواب كسرها، إلى جانب بعض الغلطات الأخرى، وإن لم نكن هنا فى مقام مؤاخذته بأخطائه اللغوية والإملائية، وما أكثرها رغم أن مثل هذه المقالات تخصع للمراجعات اللغوية. فما بالنا لو لم تخضع؟ لقد أحصيت له مئات الأغلاط اللغوية والإملائية فى بعض المقالات المنشورة له بموقع "الحوار المتمدن"، فهو لا يستطيع أبدا التمييز بين همزة القطع وهمزة الوصل أو بين التاء المربوطة والهاء المقفولة، شأنه فى ذلك شأن أى تلميذ ابتدائى فى سنواته الأولى، ودائما ما يفتح همزة "إن" بعد القول، كما أنه كثيرا ما ينصب المبتدأ واسم "كان"، ويرفع المفعول به أو المضاف إليه، ويرتبك فى استعمال الضمائر وأسماء الإشارة، ويحذف نون الأفعال الخمسة فى حالة الرفع أو يثبتها فى حالة النصب، ويثبت الياء فى الاسم الناقص النكرة فى حالتى الرفع والجر، ولا يستطيع استعمال تركيب "بعضهم بعضا" أبدا، فضلا عن الركاكة المخزية التى تدل على أنه عديم الذوق فى اللغة والأدب والأسلوب وأنه يجرى على طريقة "كله عند العرب صابون"! مع ملاحظة أننا إنما نتحدث هنا عن الكتابة. والكتابة، كما نعرف جميعا، تخفى كثيرا من الفضائح والمخازى بسبب خلوها من التشكيل.
ويكفى أن يسمعه الإنسان منا على التلفاز مرة واحدة بلغته الفظة ولسانه الطويل وعباراته الشوارعية التى يوجهها إلى العلماء وحركاته السوقية وشتائمه المنهمرة من فمه كالسيل لا يستطيع أن يتحكم فيها حتى يدرك أنه لا علاقة لهذا الشخص بالفكر والأدب واللغة الراقية على الإطلاق. ولعل من المناسب أن ننقل هنا ما قاله القمنى (فى مقال له يرد به فى موقع "الحوار المتمدن" على نادر قريط المدوّن العراقى) عما نصحته به والدته إذا أراد أن يهين شخصا محترما: "تذكرت المرحومة أمى الحاجة صفية، وهى تحذرنى: خد بالك يا سيد يا ابنى. إذا عايز تبهدل راجل محترم سلّطْ عليه مَرَه شَرْشُوحه". ويا لها من نصيحة غالية! ويا له هو من ابنٍ بارٍّ مطيعٍ ينفذ نصائح والدته بنفسه بمنتهى الإخلاص دون الحاجة إلى امرأة شرشوحة! وآخر هذه الفظاظات ما ذكره الصحفى بسيونى الحلوانى فى جريدة "المصريون" الضوئية بتاريخ 5/ 8/ 2009م من أن "المفكر المبدع الحاصل على جائزة الدولة التقديرية من وزارة فاروق حسنى قال لصحيفة "نيوزويك" العربية إنه سيقف "بلبوصا" أي عاريا أمام كل الذين انتقدوه وهاجموه"، وهو ما علق عليه الحلوانى قائلا إننا "يجب أن نأخذ الشطر الأخير من التهديد على محمل الجد، فليس بغريب على كاتب عَرَّى نفسه فكريا وثقافيا وارتكب كل الحماقات ضد شريعته وهويته الإسلامية أن يعري نفسه جسديا ويكشف عوراته وسوءاته الجسدية للناس". وهذه ثمرة الدكتوراهات المزيفة أم مائتى دولار!
ولم يقف أخذ سيد القمنى فى "الحزب الهاشمى" من الكتب الأخرى دون نَصٍّ عليها عند هذا الحد، بل هناك أشياء أخرى وأشياء، منها زعمه أن من بين ما لجأ عبد المطلب إلى استغلاله بغية إقامة الدولة الهاشمية دون أن يكون له أصل فى الواقع التاريخى دعواه أنه هو والعرب أبناء لإبراهيم وإسماعيل. وهذا كلامه نصا: "ويبدو أن أخطر شأن في هذه الملة وفي أمر عبد المطلب جميعه هو إدراكه للنسب وخطورته بين الأعراب بحسبانه العامل الجوهري في تفككهم السياسي لاعتزاز كل قبيلة بنسبها القبلي، والذي ظل مستبطنا في بطن التحول الجديد للبنية الاجتماعية المكية. ومن هنا كان إعلانه أن العرب جميعا، وقريش خصوصا، يعودون بجذورهم إلى نسب واحد. فهم، برغم تحزبهم وتفرقهم، أبناء لإسماعيل بن إبراهيم. لذلك، ولأنه ينتمي إلى هذه السلالة الشريفة، فقد أعلن في الناس تبرؤه من أرجاس الجاهلية، وعودته إلى دين جده إبراهيم. ودين إبراهيم هو الفطرة الحنيفية التي ترفض أي توسط بين العبد والرب. فإذ أهل رمضان صعد إلى غار حراء متحنفا، ثم عاد ينادي قومه أنه قد حرم على نفسه الخمر وكل ضروب الفسق، حاثا على مكارم الأخلاق، داعيا الناس لاتباعه، مؤمنا بالبعث والحساب والخلود، هاتفا: والله إن وراء هذه الدار دارا يُجْزَي فيها المحسن بإحسانه، ويُعَاقَب فيها المسيء بسيئاته. ثم لا يلبث أن يبشر قومه بقرب قيام الوحدة السياسية، فيشير إلى أبنائه وحفدته الذين أصبحوا له عزوة وشدّ أزر، ويقول: "إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء"، أولئك الأبناء الذين كاد يقدم أحدهم ذبيحا: ابنه عبد الله أب النبي عليه السلام كما كاد يفعل جده البعيد إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام".
فهذه التهمة المفزعة إنما سطا عليها ونتشها من طه حسين وفلهلم رودلف، اللذين أشار، فى كتابه عن إبراهيم الخليل، إليهما وإلى كتابيهما: "فى الشعر الجاهلى" و"صلة القرآن باليهودية والمسيحية" وما ورد فيهما حول هذه النقطة إشارة تامة الوضوح بما يدل على أنه مدرك لما فى الكتابين وأبعاد ما فى الكتابين وبحيث لا يستطيع هو أو أى من أبواقه المنافحين عنه بالباطل على طول الخط أن يعطسوا فيها مجرد عطسة، إذ نراه يتحدث بأنه ليست هناك دلائل تاريخية على وجود إبراهيم عليه السلام أصلا، وأن عدم وجود هذه الدلائل دفع باحثا مثل فلهلم رودلف إلى إنكار وجوده تماما وإلى القول بأن محمدا قد زعم أنه هو جَدّه البعيد وجَدّ جميع العرب، والمسلمين على وجه الخصوص، وذلك بعد هجرته إلى يثرب تألفا لقلوب اليهود هناك. كما رصد أيضا التشابه بين كلام رودلف وما قاله طه حسين فى كتابه المشار إليه آنفا من أن ما ذكره القرآن عن إبراهيم وإسماعيل إنما هو نوع من الحيلة لإثبات صلة بين اليهود والعرب، وكذلك بين اليهودية والإسلام (سيد القمنى/ النبى إبراهيم والتاريخ المجهول/ مدبولى الصغير/ 17).
وهذا الزعم يلقاه القارئ أيضا لدى مكسيم رودنسون المستشرق الفرنسى اليهودى الذى كتب فى مادة "محمد" فى طبعة 2009م من "Encyclopaedia Universalis: الموسوعة اليونيفرسالية" أن فكر محمد قد تطور فى المدينة جَرّاء ما نشب بينه وبين اليهود من خلاف بحيث تعرَّب الدين الذى يدعو إليه، فاكشتف أن إبراهيم هو أبو العرب عن طريق ابنه إسماعيل مثلما هو أبو اليهود من خلال ابنه الآخر إسحاق، وأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، بل كان مثله حنيفا مسلما. وبالمثل نُسِب إلى إبراهيم وابنه إسماعيل أنهماهما اللذان أسسا الكعبة: "Pendant ce temps, ses idées avaient évolué, et la religion qu’il prêchait s’était nettement arabisée. Il se rattache directement à Abraham (Ibrāhīm), dont il a découvert qu’il était l’ancêtre des Arabes par Ismaël (Ismā،īl) aussi bien que des juifs, qu’il n’était ni juif ni chrétien, mais comme lui un monothéiste pur. Il s’agit pour les Arabes de retrouver cette foi, non de s’aligner sur les religions étrangères. À Ismaël et à son père se trouve attribuée la fondation de la Ka،ba, l’énigmatique maison située au centre du sanctuaire mekkois".
هذا، ولا أحب أن يفوتنى إدخال شىء من الترويح على قلب القارئ العزيز فأقول له إن سيد القمنى قد لحس أيضا، فيما لحس، ما كان قد قاله عن الحيلة التى ادعى أن عبد المطلب جد النبى لجأ إليها فى سبيل إقامة الدولة الهاشمية، ألا وهى الزعم بأن إبراهيم هو جد العرب عموما، وقريش على وجه خاص، إذ نجده فى كتابه: "النبى إبراهيم والتاريخ المجهول" يهاجم كتبة العهد القديم، الذين عبثوا بكتابهم المقدس وأَخْفَوْا ذهاب إبراهيم إلى بلاد العرب وإصهار ابنه إسماعيل إليهم. وهذا الموقف الجديد المناقض للموقف القمناوى القديم متاح لمن يود الاطلاع عليه بنفسه فى الفصل المسمى: "الرحيل جنوبا" من كتابه المذكور بدءًا من ص71، وكذلك فى بعض صفحات الفصل التالى. ومع هذا فقد عاد البلبوص الأعظم إلى تشكيكاته، إذ تساءل: كيف يقول القرآن فى موضع إن إبراهيم قد ترك ابنه إسماعيل عند بيته المحرم بما يدل على أن البيت كان موجودا أوانئذ، ثم يذكر فى موضع آخر أنه هو وإسماعيل قد قاما ببنائه بعد ذلك، وهو ما يعنى أنه لم يكن هناك بيت فى ذلك الوقت؟ ومع أنه قد تولى بنفسه سَوْق الرد الذى قدمه العلماء، وهو أن البيت كان موجودا قبل ذلك، إلا أنه احتاج من إبراهيم وابنه عليهماالسلام إلى أن يرفعا قواعده مرة أخرى، نراه يبدى حيرته وتشككه فى جدوى هذا التفسير رغم وجاهته الشديدة. إن المسافة الزمنية بين عمر إسماعيل الرضيع حين تركه أبوه مع أمه فى بَرِّيّة الحجاز وبين السن التى يستطيع فيها معاونة والده فى رفع قواعد البيت ليست بالقليلة، فيمكن أن يحدث للبيت خلالها تصدُّعٌ لسبب أو لآخر يستلزم رفع قواعده. أو ربما كان البيت منذ البداية محتاجا إلى إعادة بناء، إلا أن إبراهيم لم يكن يستطيع القيام وحده بتلك المهمة، فانتظر إلى أن كبر إسماعيل وأضحى قادرا على معاونته. فالمسألة، كما يلمس القارئ الأمر بيده لمسا، هى لدى أبى البلابيص: سمك، لبن، تمر هندى!
وهذا "السمك اللبن التمر هندى" موجود أيضا فى موقفه من إسرائيل والصهاينة. وذلك واضح من المقارنة بين ما كتبه فى كتاب "رب الزمان" عن خطاب إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت، إذ يمطر ذلك الصهيونى العريق فى الإجرام ويمطر معه دولة إسرائيل وقادتها وشعبها كله بما يستحقونه من تهم الإرهاب والغش والتضليل وسفك الدماء واغتصاب الأرض وتدمير البيوت وتقتيل البشر، مستشهدا فى كل ما يقول بنصوص من العهد القديم، لا يتحرج فى ذلك ولا يتردد، وبين ما أصبح يكتبه بعد ذلك من تمجيد لإسرائيل ولشعبها ولأمريكا والغرب كله المناصر لإسرائيل على طول الخط، فى الوقت الذى لا يجد فى العرب والمسلمين أى شىء طيب على الإطلاق. ومع هذا يقولون عنه إنه مفكر (مفكر فقط؟ لا بل مفكر كبير)، وإنه وإنه!
والطريف أن سيد يفرد عضلاته على الباحثين جاعلا من نفسه أستاذا يعطيهم دروسا فى المنهج العلمى وما يستلزمه من انضباط صارم. فهو مثلا فى مقال "رب الزمان"، الذى يناقش فيه ما كتبه د. سيد كريم فى مجلة "الهلال" فى فبراير 1982م من القرن البائد عن قدماء المصريين وبناء الكعبة "ينجعص" إلى الوراء ثم يتفلحس مخاطبا الدكتور بقوله: "واضح من البداية أني لن أكون مجاملا، وفق حسابات بسيطة تماما: أولها أن ميدان البحث العلمي ميدان لا يصح فيه لفارس تجاوُز شروط الفروسية وقواعد اللعبة لتحقيق قصب السبق. وأعتذر عن استخدام تعبير "اللعبة" في حديثي عن العلم وشروطه، لأن الموضوع برمته كان عند د. كريم مجرد لعبة. وثاني هذه الحسابات هو أن القارئ أمانة، والكلمة أمانة، وأول شروط البحث العلمي هي الأمانة. ورغم بساطة الحسابات، فإنها لم تترك لنا بصرامة حقوقها (وهي لوجه الحق حق، وأحق أن تتبع) أيّ فرصة للمحابات أو المجاملة". يا بجاستك يا أخى! فكيف بالله عليك زوَّرت الشهادة إياها أم 200 دولار؟
وهناك فكرة أخرى قد لحسها أيضا أبو البلابيص، فكرة أخذها هو و"وِنْجُه" الشمال خليل عبد الكريم من طه حسين، الذى سبق إلى لحسها والانقلاب بزاوية 160 درجة ليقول كلاما ينقضها تماما، ألا وهى تأكيده أن العرب الجاهليين لم يكونوا جاهلين، بل كانوا مثقفين ثقافة عالية. وهو يزعم أن المسلمين هم الذين أشاعوا عنهم سمة الجهل حتى يثبتوا أن الإسلام هو صاحب الفضل عليهم فى انتقالهم من حال التخلف إلى حال التقدم. فهو يريد أن يقول، من طَرْفٍ خفى، إن الإسلام ليس له فضل على العرب، أىّ فضل. وقالا هما وراءه نفس الكلام. قاله خليل عبد الكريم فى كتابه: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، الذى يسخر فيه من تسمية العصر السابق على الإسلام بــ"الجاهلية" (ط. سينا للنشر/ 1990م/ 7)، مع أن الذى سماها كذلك هو القرآن قبل غيره.
وقاله القمنى فى كتابه: "العرب قبل الإسلام"، وهذه عبارته نصا: "دأب بعض مفكرينا في شؤون الدين، عافاهم الله، على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الاسلام وتصويرهم في صورة منكرة، وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى انسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضا، اقرب الى الحيوانية منها الى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام وابرازهم بتلك الصورة المزرية هو فرش أرضية الصورة بالسواد لابراز نور الدعوة الاسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية كلما كان الاسلام اكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات. وان الامر بهذا الشكل يبعث اولا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي ابسط القواعد المنطقية للايمان، فالإيمان يستدعي بدايةً قيمته من دعوته ومن نصه القدسي وسيرة نبيه، فقيمته في ذاته قيمة داخلية، وليست من مقارنته بآخر. اما الأنكي في الأمر فهو ان تتم مقارنة الالهي بالانساني لابراز قيمة الالهي ازاء نقص الانساني. في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني. فالإلهي لا يقارن بغيره، كما ان مقارنة الإنساني به فداحة في التجني على الانساني بما لا يقارن مع الالهي. وقد فطن الدكتور طه حسين الى ذلك الامر وعمد الى ايضاحه في كتابه: "الادب الجاهلي" مبينا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الاسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة لإبراز دور الاسلام في نقله الاعجازي هؤلاء الاقوام المتوحشين، فجأة ودن مقدمات موضوعية، الى مشارف الحضارة فجمعهم في أمة واحدة فتحوا الدنيا وكونوا امبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح إلى أن العرب لم يكونوا كذلك في تطورها الانساني. اما الركون الى عقائدهم لتسفيههم فهو الامر الاشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا ان نلقى نظرة حولنا، على الانسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا. والمطالع لاخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كتب الاخبار الاسلامية ذاتها، سيجد في الاخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوق تماما مع المستوى المعرفي للامم من حولهم، وان معارفهم كانت تجمع الى معارف تلك الامم معارفهم الخاصة. فقط كان تشتتهم القبلى وعدم توحدهم في دولة مركزية عائقا حقيقيا دون الوصول الى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الامر الذي اخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الاخير نحو التوحد في احلاف كبرى تهيئة للامر العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة واحدة كبرى".
ومن أمور طه حسين المفرطة الغرابة أنه يعود، كما قلنا، فيمسح بممحاةٍ ما كان قد تغزل به فى ثقافة العرب وعقل العرب وتحضر العرب حين كان يريد، من وراء هذا الغزل، إنكار الشعر الجاهلى كما أنكره أستاذه مرجليوث، إذ أراد من وراء هذا التراجع أن يؤكد أن العرب قبل الإسلام لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتّة. ذلك أن النثر، فى رأيه، يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة لم تكن متوفرة فى جزيرة العرب قبل الإسلام (طه حسين/ فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1964م/ 329- 332). وقد قَفَشه د. محمد عبد العزيز الموافى قفشةً بارعةً حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين فى إنكاره لوجود الخطابة الجاهلية إنما كان اعتماده فى ذلك الإنكار على خُلُوّ العصر الجاهلى من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلى على القول بأن ذلك الشعر لا يمثل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين (د. محمد عبد العزيز الموافى/ قراءة فى الأدب الجاهلى/ ط7/ دار الثقافة العربية/ 1424هـ- 2003م/ 286- 287).
ونفس الشىء لدى القمنى، ففى مواضع أخرى من كتاباته ينهال على العرب فى ماضيهم وحاضرهم هجاءً وتلويثًا وتشويهًا وتجريدًا من كل فضيلة وقيمة. والسبب؟ السبب أنه يريد أن يزرع فى رُوع القراء أن الإسلام كان وبالا على مصر والمصريين وعلى كل البلاد التى فتحها وكل الشعوب التى اعتنقته. أليس الإسلام قد جاء عن طريق العرب؟ بل أليس الإسلام نتاجا عربيا؟ وبما أن القمنى يدعو بدعاية الأمريكان ويعمل بكل قواه وجهوده لتعبيد الطريق أمام دباباتهم التى أقبلت من بعيد لتهرسنا وتسوِّىَ بنا وببيوتنا وثقافتنا الأرض، وبما أن هذا يستلزم التقليل بل التحقير لما فى أيدينا مما أتانا به العرب، فلا بد إذن أن يكون العرب فى الدَّرْك الأسفل من الحضارة، بل فى الدَّرْك الأسفل من البشرية ذاتها. وهذا هو مفتاح تفسير الأمر كله! ومرة أخرى نجد خليل عبد الكريم هو أيضا، فى كتابات له أخرى، يقول فى العرب الفاتحين ما قاله مالك فى الخمر، فهم جماعة من المتوحشين المتخلفين ما دخلوا بلدا إلا دهسوه وقَضَوْا على عوامل الحضارة فيه، وهو ما فعله عمرو بن العاص بجحافله التى قضت على كل ما هو جميل وعظيم فى مصر. قال هذا رغم ما أنبأنى به بعض من يعرفونه، إذ أكدوا لى أنه هو وأسرته ذوو أصول عربية، فهم ينتسبون إلى بعض القبائل اليثربية التى أتت بعد الإسلام إلى مصر.
كذلك من تدليسات سيد القمنى، سيد المزورين والمدلسين، قوله عن زيد بن عمرو بن نُفَيْل: "وفي "السيرة النبوية" لابن هشام نجد زيدا دخل الكعبة قال: "اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعَبَدْتُك به، ولكنني لا أعلمه"، ثم يسجد على الأرض. ويؤكد ابن هشام أنه حرم على نفسه أمورا نقلها الناس عنه من بعد كتشريعات لانبهارهم بشدة ورعه وعلمه وتقواه، مثل تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله من ذبائح تُذْبَح على النُّصُب. نعم، لقد أصبحت هذه التشريعات لمجرد امتناع زيد عنها، وربما كان امتناعه عن بعضها لا لعيب فيها، وإنما لأنه كان لا يسيغها، ومع ذلك كان لإعجاب الناس به دور كبير في تحولها إلى قوانين متعالية. وتروي لنا الأخبار أن زيدا قد عاصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه إلتقاه. عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدا بأسفل بلدح، فدعاه إلى تناول طعام مما يذبح للأرباب، فقال زيد للنبي: إني لست أكل ما تذبحون على أنصابكم. ويعلل ابن هشام أكل النبي قبل بعثه نبيا لأضحيات أو قرابين الأصنام بقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرا مباحا، وإن كان لا يأكل فلا إشكال!".
وهذا معناه أن تحريم الإسلام ما ذُبِحَ لغير الله هو من عنديات زيد بن عمرو بن نفيل، وليس وحيا سماويا، وأن الأمر قد يكون راجعا إلى أنه ذوق شخصى له، ولا موضع فيه لحرام أو حلال. لكننا نقرأ فى "صحيح البخارى" أنه عليه الصلاة والسلام "لقي زيد بن عمرو بن نُفَيْل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها. ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكِر اسم الله عليه". وهناك رواية أخرى للحديث تقول إنه صلى الله عليه وسلم قد "لقي زيدَ بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه". والفرق بين الروايتين كبير كما ترى. وقد يُفْهَم من الروايتين، إذا ضممناهما معا، أن القوم كانوا قد قدموا إلى رسول الله ذلك الطعام فرفضه، ثم بدا له أن يعرضه على زيد، فرفض زيد كذلك، فاتفقت إرادتاهما على عدم الأكل منه.
وفى "فتح البارى" أن العلماء قد فسروا الأمر "بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال". ويؤكد هذا ما ورد فى حديث ثالث، إذ رُوِىَ "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكِر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما له".
كذك فالرواية الأولى تخلو مما يدل على أن اللحم كان من أضحية قدمها النبى إلى وثن من الأوثان، بل كل ما هنالك أنه عليه السلام كان معه لحم فقدمه إلى زيد، فرفض زيد أن يأكل منه، وهذا كل شىء. وفضلا عن ذلك قد يكون معنى كلام زيد أنه لا يرفض بالذات الأكل من السفرة التى قدمها النبى وزيد بن حارثة له، بل يعرض شروطه فى الأكل حتى إذا كان الطعام المقدم له متحققة فيه هذه الشروط أكل منه، وإلا فلا. وأتصور أن الأخير هو أقوى الاحتمالات لأنه لا يوجد ما يدل على ما ذهب إليه أبو البلابيص لا من قريب ولا من بعيد. فكما هو واضح قد أورد القمنى ما يظن أنه موصِّله إلى ما يريد من تشويه صورة النبى عليه السلام، وتجنَّب عن عمد وسبق إصرارٍ الأحاديثَ الأخرى التى تنفى أكله صلى الله عليه وسلم من لحوم الأنصاب.
وحتى لو أخذنا بحديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما، وقد أورده ابن حجر فى "فتح البارى، ونصه: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مُرْدِفِي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو... فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه"، فليس معناه بالضرورة أنهما قد ذبحا الشاة باسم وثن من الأوثان، بل كل ما يدل عليه هو أنهما ذبحاها على نُصُبٍ من الأنصاب، والأنصاب هى الحجارة التى كانت قريش تذبح عليها عند الأوثان، فهى مواضع مهيأة لذبح الذبائح عليها. إنها فى هذا كالمسالخ هذه الأيام.
وأنا وأمثالى كثيرا ما نصلى فى مساجد ذات أضرحة، ولا يعنى هذا أبدا أننا نشارك من يؤمنون بــ"الأولياء" فى إيمانهم ذاك المغبَّش، بل يعنى أننا نصلى فى تلك الجوامع فقط رغم أن هناك فريقا ممن يصلى معنا يعتقد فى الشيخ المدفون بضريح المسجد اعتقادات لا يستريح إليها دين محمد عليه الصلاة والسلام. فرغم أن الفريقين يصليان جنبا إلى جنب فإن قلوبهما فى هذه النقطة غير متفقة. والعبرة بالنية والتوجه، وإلا فصلاة طوائف كبيرة من المصريين باطلة وفيها شرك بالله، أستغفر الله، لأن كثيرا من مساجد مصر يحتوى على أضرحة ومزارات. ومن يقول بهذا إلا أحمق ضيق العطن؟ ولقد سمح الرسول للنصارى أن يؤدوا شعائر صلواتهم فى مسجد المدينة، فهل صاروا بذلك موحدين؟ لقد كانوا قبل ذلك، وظلوا أثناء ذلك وبعد ذلك، من المثلثين رغم كل هذا. ويقال، حسب رواية أوربية، إن فرانسيس الأسيزى، وهو راهب إيطالى عاش فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر الميلاديين ووفد إلى مصر لمقابلة الملك الكامل الأيوبى أثناء الحروب الصليبية، قد صلى، بناء على اقتراح الملك الكامل، فى أحد المساجد المصرية قائلا إن دعاء الله مقبول فى أى مكان. فهل جعلته صلاته فى المسجد مسلما؟ كلا وألف كلا. بل لقد جاء إلى الملك وحاشيته كى يعرض بضاعته النصرانية على المسلمين لا ليدخل دين محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن بطرك القدس، عند فتح المسلمين لها وحضور الفاروق مراسم تسليمها إليهم، قد عرض عليه أن يقيم صلاته داخل الكنيسة. ولولا أن عمر رضى الله عنه وأرضاه خشى أن يطالب المسلمون بتحويل الكنيسة مسجدا جَرّاء صلاته فيها لاستجاب للبطرك. وعندذاك ما كانت صلاته لتنقص عن مثيلتها فى أى مسجد بسبب ذلك، إذ العبرة بالنية والتوجه كما ذكرنا مرارا. ولماذا نذهب بعيدا، ولدينا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تقيم كل عام إفطارا لكبار رجال الدولة وعلماء الإسلام داخل الكاتدرائية، فضلا عن صلاتهم المغرب هنالك، ويقوم بالخدمة أثناء ذلك رجال الكنيسة؟ فهل يصح الزعم بأن الصيام والصلاة غير مقبولين لأنهما تما داخل البطركية؟
أما قول ابن الكلبى: "وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها يوما فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي" فثم طائفة من الأسئلة تنبثق فى الذهن تو قراءتنا له وتريد جوابا، وهى: بَلَغَه عَمَّنْ؟ ومن روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف قاله رسول الله بهذه البساطة؟ وكيف لم يثر ذلك الكلام استغراب أحد من الصحابة؟ ثم متى قدّم رسول الله الشاة؟ وفى أية ظروف كان ذلك؟ ومن كان معه؟ ولماذا لم يَرْوِها إذن صاحبه الذى كان بصحبته؟ ولم سكتت قريش فلم تعيّره بهذا حين نزل القرآن يهاجمهم ويهاجم اللات والعزى ومناة وغيرها من الأوثان، ويحمل حملة شعواء على الأكل مما ذُبِح لتلك الأوثان على النُّصُب؟
وأرجو من القارئ أن يتمعن النص التالى: "عن ابن إسحق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، أن عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد قالا: يا رسول الله، نستغفر لزيد؟ فقال: نعم، فاستغفرا له، فإنه يُبْعَث أمة وحده... عن المسعودي عن نفيل بن هشام عن أبيه أن جده سعيد بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه وزيد بن عمرو فقال: يا رسول الله، إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت وكما بلغك. فلو أدركك آمن بك. أفأستغفر له؟ قال: نعم، فاستغفرْ له، فإنه يجيء يوم القيامة أمة وحده. وكان، فيما ذكروا، يطلب الدين فمات وهو في طلبه". وليس فى كلام سعيد بن زيد ما يشى، ولو على سبيل التوهم، بأنه كان فى ذهنه أىّ شىء عن تناول رسول الله قبل البعثة طعاما من لحوم الأنصاب، بل بالعكس نرى سعيدا وهو يحاول نيل رضا الرسول على أبيه لأنه تُوُفِّىَ قبل بعثة النبى عليه السلام فلم يكتب له الدخول فى دين الله. ولو كان الأمر كما زعم سيد المدلسين والمزورين من أكل النبى من ذبيحة الأنصاب ورَفْض زيد لها لما كانت بسعيد بن زيد حاجة إلى طلب الاستغفار من النبى لأبيه، إذ إن أباه فى هذه الحالة قد عرف طريقه إلى الهدى لا يُعْوِزه دعاءٌ ولا ترضٍّ من أحد، بل لما دخل سعيد فى الإسلام أصلا ويعرض نفسه للأذى والإهانة والخوف والتخفى بدينه الجديد وهو يرى أباه قد سبق النبى فى هذه الأشياء!
ترى هل انتهى الأمر؟ كلا، فما زالت هناك بعض المسائل التى لا بد من مناقشتها: ذلك أن أبو السِّيد يقول: "لقد أصبحت هذه التشريعات لمجرد امتناع زيد عنها، وربما كان امتناعه عن بعضها لا لعيب فيها، وإنما لأنه كان لا يسيغها، ومع ذلك كان لإعجاب الناس به دور كبير في تحولها إلى قوانين متعالية". أى أن تحريم ما ذبح للأصنام فى الإسلام إنما يرجع إلى أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يرفض الأكل منها، فضلا عن أن هذا الرفض قد يكون مسألة ذوق شخصى لا أكثر. وهذا معناه أن أفيقوا يا مسلمون من السَّطْلة التى أنتم فيها، فليس هناك وحى سماوى ولا يحزنون. لكننى أُرْجِع الأمر ببساطة إلى أن الرجل كان، مثلما هو الحال مع سائر الحنفاء، يتبع دين إبراهيم، وهو دين توحيدى نقى غاية النقاء، وإن كان علماؤنا القدامى يقولون إن ما كان محرما فى دين إبراهيم هو أكل الميتة فحسب لا الذبح للأوثان رغم أن العهد القديم يحرم ذبح أى شىء لها على ما هو معروف. ولقد ذكر ابن هشام عن زيد نفسه قوله إنه يعبد الله على دين إبراهيم. ولم يقل الإسلام يوما إنه مبتوت الصلة بشرائع الأنبياء الخالين، بل هو امتداد للأديان السماوية السابقة. وهذا مذكور فى القرآن والحديث النبوى ويدركه الجميع. وعلى هذا فتحريم الإسلام ذبح أى شىء للأوثان هو أمر طبيعى تماما، وإلا فما معنى دعوته إلى الوحدانية والحملة على الشرك والوثنية؟ أم تراه يغلق الباب فى وجه الوثنية لتدخل من النافذة براحتها دون أى تثريب؟
المسألة الثانية هى تدليس القمنى على ابن هشام، إذ زعم أنه قد علل "أكل النبى، قبل بعثه نبيا، من قرابين الأصنام بقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرا مباحا". فابن هشام، طبقا لشهادة ابن القمنى المزورة كشهادة الدكتورية أم 200 دولار، يقر بأن النبى كان يأكل فعلا مما ذُبِح على الأنصاب، مع أن ابن هشام لم يتطرق إلى هذه المسألة قط، بل الذى تطرق إليها هو السهيلى صاحب "الروض الأُنُُف"، والسهيلى لم يقل هذا الكلام، بل الذى فى كتابه هو قوله تعليقا على حديث للبخارى فى الموضوع: "وفيه سؤال يقال: كيف وفق الله زيدا إلى ترك أكل ما ذُبِح على النُّصُب وما لم يُذْكَر اسم الله عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أنه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح فقُدِّمَتْ إليه السُّفْرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل منها، وإنما في الحديث أن زيدا قال حين قدمت السفرة: لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه. الجواب الثاني: أن زيدا إنما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدم. وإنما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام. وبعض الأصوليين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة. فإن قلنا بهذا، وقلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب فإنما فعل أمرا مباحا. وإن كان لا يأكل منها فلا إشكال". فانظر الفارق بين الصدق والتدليس!
ويطنطن القمنى حين يقرأ أن هاشما جدَّ الرسول الثانى قد أصهر إلى بعض سكان يثرب فيتصايح مهللا، وكأنه وضع قدمه على كوكب المريخ ولا يستطيع أن ينازعه ملكيته أحد، بأن "هاشما أعطى الوضع المتأزم أبعادا جديدة عندما دعم قوي حزبه العسكرية برجال الحرب والدم والحلقة من بني النجار والخزرج في يثرب فشد الوثاق بهم بأنْ تزوَّج سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج ليكون ذلك لحزب عبد الدار وعبد شمس إعلانا صريحا عن قيام التحالف بين الحزب الهاشمي وأهل الحرب اليثاربة، وترك ولده شَيْبَة المعروف بعبد المطلب ينمو ويربو ويرضع الفروسية بين أخواله، وحيث كان كل التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود". يريد أن يقول إن هاشما جرى هنا أيضا على اصطناع كل ما من شأنه أن يبلّغه أمله فى إنشاء دولة يكون هو وذريته ملوكا عليها، فأصهر إلى أهل يثرب كى ينجدوه ساعة اللزوم، وهو ما نجح فيه فى نهاية المطاف حفيده محمد، الذى تحيَّل بحيلة النبوة من أجل ذات الغرض. وهذا، كما يرى القارئ، تفكير الحمقى، إذ أين يثرب من مكة إذا قامت حرب بين هاشم وأية قبيلة من أهل بلده؟ يقينا لسوف تكون بصرة قد خربت قبل أن يتحرك اليثاربة من مدينتهم. ولقد قرأت فى المجلد الثالث من "الطبقات الكبرى" لابن سعد أن بعض الأوسيين فى الجاهلية كانوا قد قصدوا مكة للتحالف مع بعض القبائل القرشية ضد بنى الخزرج، فما كان من القرشيين إلا أن أجابوهم: بَعُدَتْ داركم منا. متى يجيب داعينا صَرِيخَكم؟ ومتى يجيب داعيكم صَرِيخَنا؟
وعلى أية حال لم يكن هاشم هو وحده الذى أصهر إلى اليثربيين، بل صنع ذلك أيضا ناس من بنى عبد شمس الذين كانوا خصوما له ولعشيرته منهم سفيان بن أمية وأبو عزة الجمحى الشاعر وحبيب بن الحكم وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة بن ربيعة. وبالمثل جرى على هذه الخطة رجال من بنى عبد الدار ومن البطون القرشية الأخرى من الظواهر والبطاح جميعا، ومنهم على سبيل التمثيل أبو بكر الصديق، وكذلك رجال لا ينتسبون إلى قريش بل من حلفائهم ليس إلا. وبعضهم تزوج من يهوديات، كما تزوج بعضٌ آخَرُ نساءً يثربياتٍ كن متزوجاتٍ من رجالٍ هاشميين. وعلى الناحيةالمقابلة نجد أن رجالا من يثرب قد تزوجوا هم أيضا بنساء من قريش (انظر بحثا بعنوان "العلاقات الاجتماعية بين مكة والمدينة منذ ما قبل الإسلام حتى فتح مكة" لإلهام أحمد عبد العزيز البابطين منشورا فى مجلة جامعة الملك سعود/ م ١٨/ الآداب (2)/ ١٤٢٦ ه/ ٢٠٠٦ م/ 281 فما بعدها)، فما قول عبقرينا فى ذلك؟
ومما ألفيته مضحكا فى كتاب "الحزب الهاشمى" أيضا ما فى النص القصير الذى أسوقه الآن من تناقضٍ أبلقَ وخَلْطٍ سخيفٍ بين المراحل التاريخية المختلفة ولَىٍّ لحقائق الأوضاع عن وجهتها المستقيمة، وهو يجرى على النحو التالى: "تقول سيرة ابن هشام إن محمدا صلى الله عليه وسلم لما بادأ قومه بالإسلام لم يجدوا في دعوته غضاضة، ولربما لم يكترثوا لها. ولعل مرجع ذلك إلى حرية الاعتقاد التي كانت عرفا مسنونا، عرفا حتمته المصالح التجارية في مكة، فكان المسيحي فيها يعيش إلى جوار الحنفي إلى جانب اليهودي مع الصابئ والزرادشتي وعبدة النجوم وعبدة الجن وعبدة الملائكة وعبدة الأسلاف وتماثيل الشفعاء دونما قهر أو فرض أو إجبار حتى أن العبد كان يظل على دين يخالف دين سيده دون أن يخشى في ذلك مساءلة أو ملامة.
وبرغم أن محمدا صلى الله عليه وسلم من الفرع الهاشمي فإن حزب عبد الدار، عبد شمس، نوفل لم يهتم كثيرا في البداية للدعوة الجديدة، خاصة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يخرج آنذاك عن اطُر عُرْفهم المسنون في حرية الاعتقاد، فلم يجبر أحدا لاعتناق دعوته، كما لم يحاول فرضها أو اعتبارها الديانة الوحيدة الواجب اعتناقها. وتشهد بذلك الآيات الكريمة: "أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" (٩٩ يونس)، "إِنْ أنت إلا نذير" (٢٣ فاطر)، "وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل" (١٠٧ الأنعام)، "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا" (١٠ المزمل).
ومع أن المناوشات الكلامية التي دارت بين المكيين ومحمد صلى الله عليه وسلم لم تصل بالقوم إلى حافة شفير الحرب مرة أخرى، فإنها نبشت الجمر الثاوي في القلوب بعدما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم دعوته مطالبا أهل مكة باتباعه، فكان حتما أن يتساءل الناس. لكن تساؤل الوليد بن المغيرة (الملقب بـ"الوحيد" لمكانته بين سادات مكة)، والأخنس بن شريق (كبير رؤوس ثقيف) كان تساؤلا مهينا لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قالا: أمفتون محمد أم مجنون؟ فكان أن ردت لهما الآيات الكريمة الصاع صاعين: "بأيكم المفتون"، "همَّاز مشَّاء بنميم. منَّاع للخير معتدٍ أثيم. عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم" (٦- ١٣ القلم). و"الزنيم" هو ابن الزانية. ثم يخاطب الله نبيه في شأن الوحيد قائلا له: "ذرني ومن خلقتُ وحيدا. وجعلتُ له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيدا. سأرهقه صَعُودا. إنه فكر وقدَّر. فقُتِل كيف قَدَّر. ثم قُتِل كيف قدَّر" (١١- 20 المدثر). وفعلا مات الوليد قتيلا بسهم مسموم، قتله الله. ثم قامت الآيات تشبّه رؤوس القوم الذين لم يدركوا أبعاد الدعوة العظمى ومراميها الكبرى بالحمير، فتقول: "فمالهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حُمُرٌ مستنفِرَة. فَرَّتْ من قَسْوَرَة" (٤٩- ٥١ المدثر).
حتى ذلك الحين كانت قريش لا تزال في هدوء وترقب، لكن محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي صمم على إتمام الأمر مهما تكلف من مشقة، قام يؤلب العبيد على أسيادهم يناديهم: "اتبعوني أجعلكم أنسابا. والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسري وقيصر". وهنا بدأ القوم يشعرون بحجم الخطر الآتي، فالأرستقراطية القرشية حتمت مصالحُها وجودَ العبيد، بل أن يتكون جيشهم الذي يحمي التجارة من هؤلاء العبيد في أغلبه، وبات الأمر أمر حياتهم ومعاشهم. ثم إن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعلهم أنسابا التي تمثلت في عتقه لعبده زيد بن حارثة ثم إعطائه أفضل النسب وأشرفه بتبنيه إياه كان يعني لبقية الدهماء من الأعراب أملا عظيما لما كان للنسب من خطورة وأهمية تعطي صاحبها حماية عشائرية وقبلية. ثم إنه يعدهم بأموال أعظم، بأموال كسري وقيصر إن هم تبعوه. وعندما وصلت قريش إلى ذلك الفهم أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في نظرهم، وحسب منطقهم المصلحي، مجرد مغامر طموح يهدف لغرض سياسي يبدأ بضرب قريش في مقتل في مصالحها. حتى إذا تهيأ له الأمر امتلك أمر الحجاز، وزحف على ممالك الروم والعجم، وما يتبع ذلك بالضرورة في منطق العشائر من رفع شأن بيت هاشم، وخفض شأن بيت عبد الدار وعبد شمس ونوفل. هكذا تصوروا الأمر العظيم!
ثم ها هو ينزع عنهم صفة أخرى ترتبط تماما بمصالحهم التجارية، تلك الصفة التي أكسبها لهم انكسار حملة الفيل على حدود مكة، صفة أنهم "أهل الله "، وينادي أهل مكة: "قل يا أيها الكافرون... لكم دينكم ولي ديني" (سورة الكافرون). نعم، ما زالت الآيات تبرز التسامح الديني: "لكم دينكم ولي ديني"، لكنها نعتت أهل مكة بأنهم الكافرون برغم تأكيدها من قبل أنهم قوم يؤمنون بالله رب العرش خالق السماوات والأرض: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأني يؤفكون" (٦١ العنكبوت)، "قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجبر ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأني تُسْحَرون" (86- ٨9 المؤمنون)، "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" (٩ الزخرف). وسعيا وراء تعليل اكتشفت قريش أن إيمانها بالشفعاء هو الكفر، خاصة عندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيب أربابهم، فاستنتجوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد جعل شرط الإيمان به كرسول لإله واحد انطلاقا من قرن الشهادة له مع الشهادة لله في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فهو في فهمهم العنيد إنما يطلب منهم الاعتراف بسيادته عليهم بهذه الشهادة، ويطلب توحدهم جميعا تحت راية قيادته وحده بسلخ كل الشفاعات إلا شفاعته.
ويذكر لنا الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا قومه لما بعثه الله لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم. وهو ذات ما أوضحته رواية عن لقاء وفد قريش، وفيه أبو الحكم، بأبي طالب وابن أخيه صلى الله عليه وسلم ليطلب من محمد صلى الله عليه وسلم (أن يكفّ عن آلهتهم، فَرَدَّ) عليهم: "أي عم، أو أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟ قال: وإلام تدعوهم؟ قال: أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين بها لهم العرب، ويملكون بها العجم! فقال أبو جهل (التسمية الإسلامية لأبي الحكم) من بين القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعَشْر أمثالها". وكانت الكلمة هي الشهادة الإسلامية، فنفروا منه وتفرقوا. وهنا تحول أرق الحزب المناوئ وترقبه إلى تحفز واستنفار، خاصة عندما أخذت الآيات الكريمة في فواصل قصيرة مؤثرة تؤجج الحمية القتالية، وما يحمله ذلك من احتمال وقوع المجابهة العسكرية، وتقول هذا مع التحول الذي بدأ يطرأ في سلوك النبي تجاههم، وتحوله عن الصبر الجميل إلى الهجوم، وما جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة، فكان أن التفت إليهم هاتفا: "أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح". وبَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقسمه في بدر الكبرى!".
ومن الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه عين كل ذى عين أن كاتب هذا الكلام يريد إدانة النبى عليه السلام وإسناد البدء بالعدوان إليه، إذ يؤكد أن الكفار كانوا يتسامحون مع مخالفيهم فى الدين تمام التسامح لولا أن النبى قد ألجأهم إلى تغيير خطة التسامح المشهورة عنهم إلجاءً. إلا أن كاتب هذا الكلام قد وقع مع هذا فى تناقض مضحك حين عاد فقال إنه ما إن بدأ محمد دعوته حتى انقلبت عليه قريش يؤذونه. فأين الحقيقة هنا؟ ثم إن كاتب هذا الكلام يعزو انقلاب قريش على الرسول إلى أنه قد هددهم فى مصالحهم مع أنهم قد انقلبوا عليه منذ البداية بمجرد أن أعلن دعوته. ثم لو كان الأمر كما يزعم كاتب هذا الكلام فلماذا يا ترى كان النبى عليه السلام يستخفى بتلك الدعوة قبل ذلك، ولم يكن فيها شىء مما يزعم الكاتب أنه يهدد مصالح الأرستقراطية القرشية من عتق للعبيد وما إلى هذا؟ ومن الواضح كذلك أن كاتب هذا الكلام قد سرق أيضا من الكتاب الذى يُنْسَب لأبكار السقاف، ففى ذلك الكتاب نقرأ عن القرآن المكى الذى كان يأمر المسلمين بالصبر أنه "من نفس هذا "الكَلِم" الذى انطلق ينفث فى الأتباع روح الصبر تأتينا، فى هذه الفترة الزمنية، صورة خاطفة للغزو وخيل الغزاة ونار الحباحب التى تنقدح من حوافرها والإغارة على العدو صباحًا. ففى هذه الفترة جاء هذا النغم الحار الملتهب يقسم قائلا: "وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا" العاديات)"، وأن "قريشًا إنما بطبيعتها، كما تذكر سجلات التاريخ الإسلامى، محبة للسلام لا تبدأ بالعدوان أحدًا، ومن ثم ليس إلا بدافع هذه الطبيعة راحت تفكر فى إيجاد طريقة لمهادنة هذه الدعوة لتهديها مطارق التفكير إلى فكرة ما تحددت فى جبينها بوضوحٍ منها المعالم إلا وهبت تتساءل: ماذا لو هادنت محمدًا وحاولت له استرضاءً ومنحته ما إليه يتوثب من وراء هذه الدعوة فتكف بذلك هذه العداوات المتأججة فى الصدور، وهو بعد إنما منها، وله فى النسب ما لها من المكانة؟".
ثم تقول أبكار السقاف: "من ثم كان حتمًا أن تبدأ يد الزمن تحريك الجمر الثاوى تحت رماد الأيام بين فرعي عبد الدار وعبد مناف من جهة وبيتي هاشم وعبد شمس من جهة أخرى، وأن يبدأ اللهب من هذا الجمر فى الاندلاع فيرتفع اللسان القريشى يرمى هذه الدعوة بأنها قد فرقت القوم فِرَقًا كما كان حتمًا أن يلتمع فى أفق المخيلة القريشية أمل حاكته شفتا العاص بن وائل، سيد بنى سهم، وتسجله تلك اللحظة التى تحول فيها إلى قريش لها مهدئا يقول: "دعوه! إنما محمد رجل أبتر. لو قد مات لقد انقطع ذِكْرُه واسترحتم منه". ومن الواضح مرة أخرى أن هذا الكلام هو هو ذاته الكلام الذى نقلناه آنفا من كتاب "الحزب الهاشمى" والذى يقول: "ومع أن المناوشات الكلامية التي دارت بين المكيين ومحمد صلى الله عليه وسلم لم تصل بالقوم إلى حافة شفير الحرب مرة أخرى، فإنها نبشت الجمر الثاوي في القلوب بعدما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم دعوته مطالبا أهل مكة باتباعه، فكان حتما أن يتساءل الناس. لكن تساؤل الوليد بن المغيرة (الملقب بـ"الوحيد" لمكانته بين سادات مكة)، والأخنس بن شريق (كبير رؤوس ثقيف) كان تساؤلا مهينا لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قالا: أمفتون محمد أم مجنون؟ فكان أن ردت لهما الآيات الكريمة الصاع صاعين: "بأيكم المفتون"، "همَّازٍ مشَّاءٍ بنميم. منَّاعٍ للخير معتدٍ أثيم. عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم" (٦- ١٣ القلم). و"الزنيم" هو ابن الزانية. ثم يخاطب الله نبيه في شأن الوحيد قائلا له: "ذرني ومن خلقت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيدا. سأرهقه صَعُودا. إنه فكر وقدَّر. فقُتِل كيف قَدَّر. ثم قُتِل كيف قدَّر" ١١- 20 المدثر). وفعلا مات الوليد قتيلا بسهم مسموم، قتله الله. ثم قامت الآيات تشبه رؤوس القوم الذين لم يدركوا أبعاد الدعوة العظمى ومراميها الكبرى بالحمير فتقول: "فمالهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حُمُرٌ مستنفِرَة. فَرَّتْ من قَسْوَرَة" (٤٩- ٥١ المدثر)".
الواقع أنه ما إن دعا النبى إلى الله الواحد الأحد حتى هب المشركون يعاندون ويؤلبون عليه ويشتمونه ويؤذونه. وما حكاية أبى لهب معه حين صعد الصفا أول الدعوة العلنية ودعا عشيرته الأقربين إلى الوحدانية، مجرد الوحدانية، بالتى يجهلها أى مسلم. فلماذا اللف والدروان وتشويه الحقائق؟ وهذه هى الآيات القرآنية بين أيدينا مكيها ومدنيها، فليدلنا كاتب هذا الكلام على شىء أزعج المشركين غير الدعوة إلى الوحدانية والزراية على الأصنام. وإن قوله تعالى فى أول نص قرآنى تقريبا بعد عودة الرسول من غار حراء حيث شاهد جبريلَ للمرة الأولى: "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا" لدليل على أنه عليه الصلاة والسلام قد وُوجِه منذ اللحظة الأولى بالتكذيب والأذى دون أى استفزاز من جانبه لهم، حقيقيًّا هذا الاستفزاز أو مدَّعًى. ومثله قوله تعالى فى تلك الفترة الشديدة التبكير من العهد المكى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)" (سورة العَلَق)، مما يدل على أن الأذى القرشى لم ينتظر أى شىء يمكن أن يُتَّخَذ بوصفه استفزازا من جانب الرسول، بل بدأ مع بدء الدعوة، فكان الكفار يمنعونه صلى الله عليه وسلم من الصلاة، مجرد الصلاة!
ومن المضحك أن يقول الكاتب المسكين الذى لا يحترم علما ولا منطقا ولا تاريخا إن الآيات المكية المبكرة كانت تؤجج الحمية القتالية بما يحمله ذلك من احتمال وقوع المجابهة العسكرية. إى والله: المواجهة العسكرية حتة واحدة! وإذا كان الرسول حتى بعدما أصبح للإسلام دولة وجيش كان ينصح المسلمين ألا يتمنوا لقاء العدو، إلا إذا اضطروا إلى ذلك اضطرارا، فعندئذ فليثبتوا ثبات الرجال، فما بالنا والمسلمون يومئذ بمكة أفراد قليل مستضعفون لو فكروا مجرد تفكير فى قتال ومواجهة لافترستهم قريش افتراسا لا تبقى منهم بعده باقية؟ لا بل إن الكاتب العجيب يريد منا أن نصدق أن الكفار قد ارتعبوا منذ تلك البدايات المبكرة للإسلام، واستطاعوا أن يتوصلوا إلى ما سوف تبلغه الدعوة المحمدية آجلا من انتصار ساحق على الدول المحيطة بالجزيرة العربية وتكوين دولة هاشمية تنتشر فى آفاق الأرض، فمن ثم وقفوا فى وجهه صلى الله عليه وسلم حتى لا يفوز الهاشميون بهذا المجد دونهم، مع أن معظم الهاشميين هم، حسبما نعرف، أول من تصدى لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن من آمن منهم إلا بعد اللتى واللتيا، اللهم إلا على بن ابى طالب، الذى لم يك فى ذلك الوقت سوى صبى صغير لا يؤبه له.
وهذه الفكرة مسروقة سرقة مباشرة من الكتاب الذى يحمل اسم أبكار السقاف، ولكن دون أن يشير السارق إليه، إذ نقرأ فى كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية" أن قريشا "آمنت أن هذا الفرد من بيت هاشم والذى احترف التجارة احترافها، وفى قوافلها التجارية سار، إنما يريد سيادة على العرب، وللعرب امتلاكا بملك لا تحده حدود الحيرة وغسان، بل إلى ما وراءهما سيمتد فيطوى الروم والعجم. فإنما العين من محمد تمتد إلى خارج أرضها. وعلى ذلك يأتي اللسان منه دليل، وهو ينطلق فى ترديد مناديا: "اتبعوني! والذى نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر!". ومن الجلى أن الكاتب قد أغار على فكرة الكتاب المذكور وأخذها كما هى. حتى العبارة التى أوردها للنبى عن كنوز كسرى وقيصر موجودة فى الكتاب الذى يُنْسَب لأبكار السقاف. كذلك فإن كلامه عن خوف قريش من ثورة الصعاليك المسلمين هو هو نفسه الكلام الوارد فى كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية": "وهكذا راحت الأيام تنفرط، وقريش عن عقيدة لها لا تتخلى، ففى المخيلة منها قد رسخت عن محمد هذه الفكرة ليزيدها بمنطقها إيمانًا استشعارها من أنفاس السور الأولى المكية النغمة الاجتماعية التى رأت أن فيها يمكن الخطر من أمر هذه "الدعـوة"، التى راحت لها تؤيد طوائف ممن وُعِدوا بامتلاك كنوز كسرى وقيصر وبأن يكون لهم نسبًا. وهؤلاء إنما هم من تنعتهم قريش "بالسفهاء". فإنه إلى جانب تلك الطبقة من السادة الذين إلى المرامى السياسية من هذه الدعوة كان قد هفا منهم الفكر كانت تقوم هذه الطبقة المؤلفة من الموالى والعبيد ممن إلى المرامى الاجتماعية من أمر هذه الدعوة كانت قد استجابت منهم الأفئدة. بهذا الاتباع الذى تجلى بالاتباع من كلا الطبقتين بدأت الدعوة المحمدية تتخذ مظهرها العملى، فإن محمدًا قد بدأ، وهو الذى كان قد اعتنق الدين الحنيف، يبادئهم بذكر شفعائهم. وكان من قبل لا يذكرها ويعيبها، وكان من قبل لا يعيبها. وهنا عظم الأمر على قريش وبدأ بهم جدى التفكير فى أمر محمد، لقد كان من قبل لا يهمهم حين قال إنه نبى بقدر ما يهمهم الآن، ومن ثم فلم يبق الأمر موضع سخرية واستخفاف وإنما موضع تفكير واهتمام. فالأمر إنما منذر بثورة سياسية قد تهب بهؤلاء السادة، وثورة اجتماعية قد يندلع لظاها بهؤلاء الموالى والعبيد. وهذا إنما أمر لَشَدَّ ما منه تفزع قريش، ولَشَدَّ ما منه تجزع".
ومما قاله مؤلف الكتاب فى التدليل على أن الأمر فى الإسلام إنما هو أمر تخطيط سياسى دنيوى لا صلة بينه وبين وحى السماء زَعْمُه أن عبدالمطلب "تمهيدا لما أزمع (من العمل على بلوغ مأربه السياسى من إقامة الدولة الهاشمية) أعلن في الناس أنه بينما كان نائما في الحِجْر بالكعبة أتاه رَئِيٌّ وغَتَّه ثلاث مرات، وأوحى إليه الأمر بحفر البئر المعروفة باسم "زمزم". وتقول كتب الأخبار الإسلامية إنه لجرهم بين صنمَيْ إساف ونائلة، دفنتها حين تركت مكة. نعم لقد تمثل تنافس بني العمومة من قبل في احتفار الآبار جذبا للقبائل وقوافل التجارة، فقديما حفر عبد الدار أم جراد، ولما حفر عبد شمس الطوي رد عليه هاشم بحفر بدر، فزاد أمية في الكرم وحفر الحضر، فرد عليه عبد المطلب بحفر زمزم". فهو، كما نرى، إنما يعزو الأمر كله فى حفر زمزم إلى كذب عبد المطلب من أجل الوصول إلى الغرض السياسى الذى صممت على بلوغه أسرته منذ قديم الأيام. ثم شىء آخر أخطر من ذلك وأَطَمّ وأدهى، ألا وهو الإحالة على ابن هشام فى مسألة التنافس بين الهاشميين وخصومهم من أقاربهم على حفر الآبار، وكأنه قد نقل ذلك فعلا من كتاب الرجل فى السيرة، مع أن ابن هشام لم يقل شيئا من ذلك البتة. وهذا هو التدليس بعينه الذى مَرَدَ عليه أمثاله!
على أن عبد المطلب لم يقف بكذبه فى رأى صاحب هذا الكلام الأخرق عند ذلك الحد، بل شفع كذبته عن زمزم بكذبة أخرى تتعلق بالأنساب مؤداها أن قريشا تعود بنسبها إلى إبراهيم عليه السلام رغم عُرْىِ ذلك الكلام عن الصحة جملة وتفصيلا. وكأن اليهود كان من الممكن أن يسكتوا على تلك الكذبة لو كان ما يقوله المؤلف البكاش النتاش صحيحا فلا يفضحوا النبى ويكذبوه فيما يقوله القرآن ويقوله هو صلى الله عليه وسلم عن بنوّة العرب لإبراهيم.
وثم شىء آخر تساخف فيه الكاتب وقلب فيه الحقائق على رؤوسها وساق من "الهجايص" ما باخ الأمر معه جدا. قال: "لكن الخزرج سرعان ما تراجعت عن تنصيب ابن سلول زعيما على يثرب إزاء التطورات الجديدة في مكة، وأرسلوا وفودهم إلى ابن أختهم محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقاموا بمحاولة إقناع الأوس بالأمر لما له من وجاهة من عدة نواح: الأولى أنه نبي مؤيد من الله، وفي ذلك كفالة النصرة. والثانية أنه طرف محايد، فلا هو أوسي ولا هو خزرجي. أما الناحية الثالثة والأهم سياسيا واقتصاديا فهي أنه، بخروجه من مكة إليهم، يمكنهم بقيادته شن الحرب على أهل مكة بل قطع خطوطها التجارية مع الشام التي تمر على المدينة. وفي ذلك لا لوم ولا تثريب، فهم إنما يتبعون أمر السماء. ثم إن قائدهم إنما هو فرد مكي ومن أهل مكة أنفسهم. ثم إن اليهود كانوا في تمام الرضا عن هذا التوجه حيث الآيات الكريمة تكرّم أنبياء بني إسرائيل وتفضّل النسل الإسرائيلي على العالمين".
وتعقيبا على هذا التساخف نقول إنه لم يكن ثم عداوة بين المكيين واليثربيين فى ذلك الوقت، وإلا لما جرؤ أهل يثرب على الذهاب إلى مكة فى مواسم الحج، ومنها ذانك الموسمان اللذان توافقا فيهما على هجرة النبى إلى بلادهم وحمايتهم له. أليس هذا هو ما يقوله المنطق والعقل؟ بلى، ولكن بعض الناس لا منطق لديهم ولا عقل. كذلك لم يكن ضمن بنود الاتفاقية بينهم وبين النبى أن يشنوا حربا على قوافل قريش، بل على حمايته صلى الله عليه وسلم فحسب. ولهذا توجس النبى ألا يوافقوا على الخروج إلى بدر باعتبار أن ذلك لا يدخل فى بنود الاتفاقية المذكورة. وعلى عادة كاتبنا الهماز اللماز لا يرضى أن يترك الموضوع دون وخزة سامة يظن أنه مستطيعٌ وخزها للرسول ودينه، إذ يقول إن الأنصار كانوا متأكدين أن القرآن سوف يسهل لهم الهجوم على قوافل قريش فينزِّل آيات تبارك لهم هذا، وكأنهم كانوا يشمون على ظهر أيديهم قبل الهنا بسنة!
أما قوله: "إن اليهود كانوا في تمام الرضا عن هذا التوجه حيث الآيات الكريمة تكرّم أنبياء بني إسرائيل وتفضّل النسل الإسرائيلي على العالمين" فهو كلامٌ متنطعٌ أشد التنطع، إذ كان الوحى المكى ينزل قبل ذلك كالصواعق على رؤوس بنى إسرائيل رغم ثنائه العظيم على رسلهم وأنبيائهم، لأن هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى! ألم يرجمهم براجماته حين ارتدوا على أعقابهم وعبدوا العجل فى غياب موسى فوق الجبل؟ ألم يلعن منتهكى حرمة السبت منهم؟ ألم يسلق جلود من طلبوا من موسى غِبَّ عبور البحر أن يجعل لهم إلها كما للقوم الوثنيين الذين مروا بهم فى سيناء آلهة؟
وينتهى الكتاب بالفقرة التالية: "وهكذا قامت الدولة الإسلامية بجهود البيت الهاشمي، وفضل لا ينكر لأهل الحرب والحلقة اليثاربة وخئولتهم (ملاحظة سريعة: كلمة "اليثاربة" هى أيضا من الكلمات المشتركة التى يستخدمها كل من سيد القمنى وخليل عبد الكريم). لكن ذلك كله لم يَفُتّ في عضد الحزب الأموي، فظل هؤلاء يترقبون الفرص حتى ما بعد اتساع الدولة بالفتوحات، وعندما سنحت الفرصة اقتنصوها، واستولوا على الحكم استيلاء صريحا بعد أن كان ضمنيا باستبعاد عليٍّ بعد وفاة الرسول. وساعتها تجلت مشاعرهم تجاه بني عمومتهم في المجازر الدموية التي راح ضحيتها كل من أيد البيت الهاشمي، حتى امتدت يد الانتقام الحمقاء إلى حَفَدة المصطفى صلى الله عليه وسلم استئصالا لهذا البيت وأهله، ووصل بهم حد الهوس إلى ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق. مشاعر عبر عنها لسان يزيد بن معاوية الأموي منسوبا إليه عن قصيدة طويلة لابن الزِّبَعْرَي:
لعبتْ هاشمُ بالملك فلا * خبرٌ جاء، ولا وحي نَزَلْ
أو كما أورده ابن كثير:
لعبت هاشمُ بالملك فلا * مَلَكٌ جاء، ولا وحي نَزَلْ".
وهى فقرة لا تَسُوق لنا ما حدث من وقائع التاريخ، بل تعكس ما يزعمه مؤلف الكتاب بشأن الإسلام وما يريد ترويجه من أنه ليس دينا سماويا، بل سياسة ودهاء ومكرا وكيدا خبيثا فَتَشَه الأمويون فتصرفوا تجاهه بما يناسبه، فكان كفرهم بدين محمد، إذ كانوا يعرفون الفُولَة وقِشْرتها، فلذلك لم ينخدعوا كما ينخدع أمثالنا من الجهال والعوام الذين بلعوا طعم الهاشميين متمثلا فى الدين الذى اخترعه ابنهم محمد وزيف له قرآنا يضحك به على السُّذَّج الأغرار الذين لا يستطيعون تصور الدين من غير كتاب مقدس. وهى خاتمة منتنة تليق بالكتاب الدنس دَنَسَ من أوحى به وحرص على إفشائه بين المسلمين!
ذلك أنه لا ابن الزبعرى قال ذلك البيت ولا يزيد ردده. ولو كان يزيد قاله لكان هذا كفرا صُرَاحًا لا يمكن أن يسكت المسلمون عليه مهما كانت شدة وطأة الأمويين وقتئذ. ولقد حاولتُ أن أجده فى شعر ابن الزبعرى فلم أُوَفَّق، وما كان يمكن أن أوفق، إذ من المعروف أن ابن الزبعرى لم يقل ذلك البيت البتة، بل هو من وضع الشيعة ليسيئوا إلى يزيد ويخلصوا من هذا إلى اتهامه بالكفر. والكاتب الخبيث إنما نقله عن مرجع شيعى لا يصلح للنقل عنه، وهو "فاجعة الطف" لمحمد القزوينى، الذى لا يتنبه إليه وإلى أمثاله عادة إلا مستشرق أو مبشر يبحث عن إثارة الشغب. وإنما حاولت أن أحقق البيت رغم معرفتى تلك لا لشىء إلا لكيلا أكون قد أَلَوْتُ جهدا. ولقد وجدت فى بعض المواقع الشيعية البيت وبيتا آخر مختلقا على يزيد مع بيتين لابن الزبعرى، وواضح أنه قد وُضِع وضعًا فى هذا المكان لكى تَعْلَق تهمة الكفر، كماقلت، بيزيد والأمويين.
والحق أن ابن الزبعرى لا يمكن أن يكون قد قال هذا البيت: أولا لأنه غير موجود فى ديوانه ولا فى أى مرجع محترم نعرفه. ولقد درسنا هذه القصيدة حين كنا طلابا بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، ولم يكن هذا البيت منها. وثانيا فإن الشاعر يتهكم بالخزرج، والمقصود بالخزرج هنا حسان بن ثابت، الذى كان قد نظم قصيدة يهجو فيها قريشا عقب هزيمتها فى بدر ويفتخر بالخزرجيين قومه وما أَدَّوْه من خدمات للإسلام، فلما انتكس المسلمون بسبب عصيان الرماة لأوامر الرسول فى أُحُدٍ عَمِلَ ابن الزبعرى هذه القصيدة ردا على قصيدة حسان من العام الفائت، فليس للسخرية من الهاشميين إذن موضع فى هذه القصيدة. ثم إنه لم يكن فى المدينة آنذاك حكم هاشمى حتى يقال إن الهاشميين قد لعبوا بالحكم، بل كانت هناك حكومة يرأسها النبى ويعاونه فى تدبير شؤونها أصحاب له من قبائل مختلفة مكية ويثربية. ولنفترض أنه كانت هناك حكومة هاشمية، أفيظن أى عاقل أن ابن الزبعرى او غيره يمكن أن يقول عن الرسول إنه يلعب بالحكم، وقد كان الأمر جدا كل الجد، بل مرا كل المرارة فى تلك الفترة التى تقعقع فيها السيوف وتتطاير الرقاب وتسيل الدماء؟ ومن هذا نرى أن مؤلف الكتاب الجاهل إنما يخبط خبط عشواء. ذلك أنه لا يفهم أصول المنهج العلمى فى التأليف، وكل همه أن يسىء إلى الإسلام بجميع الوسائل الممكنة بغض النظر عن سخفها وتفاهتها وحمقها وضلالها.
وإلى القارئ ما وجدته فى واحد من تلك المواقع الشيعية المذكورة: "من جملة الكلمات الدالة على الكفر الباطني ليزيد وبغضه للرسول صلى الله عليه وآله، إذ أنّه تغنّى بهذه الأشعار وهو في غاية الفرح والنشوة عندما أدخل عليه سبايا أهل البيت بعد مقتل الحسين قائلا:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأَسَلْ
لأهـلُّوا واستهلُّوا فرحًا * ثم قالوا: يا يزيدُ، لا تَشَلّ
قد قتلنا القِرْم من ساداتهم * وعدلناه ببدر فاعتدلْ
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
حياة الإمام الحسين 187:2 و377:3)
أصل هذه القصيدة لعبدالله بن الزبعري، إلا أنّ إنشادها من قبل يزيد في ذلك الموقف ينم عن اعتقاده بمضمونها. وفي أعقاب الترنّم بهذه الأشعار نهضت العقيلة زينب عليها السلام وألقت خطبتها التي ابتدأتها بالآية الشريفة: "ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون" (الروم: 10)، وتلت أيضا ضمن حديثها: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران: 178). ويستدل من خطبتها خروج يزيد من حريم الإسلام وعدم اعتقاده بالدين، ويثبت كفره وفسقه أمام الملأ. لقد كشفت واقعة كربلاء عن الكفر الخفي للأمويين، وأزالت الستار عن حقيقتهم وأظهرتها للأمة وللتاريخ، وهذا من ثمار واقعة الطف الخالدة".
ثم خطر لى بعد هذا أن أراجع "البداية والنهاية" لابن كثير، وهو المرجع الذى يشير إليه الكاتب فى هذا السياق على أساس أنه أورد رواية أخرى للبيت الأخير منها، وأوعز فى نفس الوقت للقارئ أن ابن كثير يوافق على أن هذا البيت جزء من قصيدة ابن الزبعرى وأن يزيد بن معاوية قد قاله تشفيا وكفرا، وهو ما استبعدته تمام الاستبعاد. وهنا انكشف تدليس آخر حقير من تدليسات مؤلف الكتاب، فابن كثير لم يقل إن يزيد قد قال ذلك البيت، بل نفى أن يكون لابن الزبعرى أصلا، وكل ما كتبه هو ما توصلت أنا إليه قبل قليل حين قلت إنه من إضافات الشيعة، فالحمد لله أن جمعنى وهذا المؤرخ الكبير على ذات الرأى والحكم.
وإلى القارئ ما كتبه ابن كثير المفترَى عليه، لعن الله من يفترى على الصالحين الكرام كى يشفى حقده الأسود. قال ابن كثير تعليقا على حديث يحرّم فيه النبى ترويع أهل المدينة ويلعن من يقدم على ذلك: "وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية... وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنه. ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضا لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى لعن أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأوَّل وأخطأ. وقالوا: إنه كان مع ذلك إماما فاسقا، والإمام إذا فسق لا يُعْزَل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا. وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحا شديدا، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته، وأمّروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة. كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم. وقد جاء في "الصحيح": "من جاءكم وأَمْرُكم جميعٌ يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان". وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعري في وقعة أحد، التي يقول فيها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأَسَلْ
حين حلت بفناهم بَََرْكها * واستحرَّ القتل في عبد الأشلّّ
قد قتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدلْ
وقد زاد بعض الروافض فيها فقال:
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء، ولا وحي نزل
فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنّع به عليه".
على أن المسرحية لما تنته فصولا، إذ دلس القمنى تدليسا شنيعا فى الاستشهاد بنص نقله عن د. جواد على من كتابه "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، لكنه لم يؤده كما هو، بل أسقط منه بضعة عشر سطرا عامدا متعمدا دون أن يترك مكانها نقاطا كى يعرف القارئ أن هاهنا كلاما محذوفا (بغض النظر الآن عن أن هذا المحذوف لا يصح حذفه البتة لأنه يفسد المعنى ويقلبه رأسا على عقب)، ثم زاد على ذلك فلَحَمَ الكلامين بطريقة خبيثة لا يتنبه معها القارئ إلى عملية التلاعب الدنيئة التى تمت بلَيْل! والنص المذكور خاص بالكلام عن أمية بن أبى الصلت، وهل استعان بالقرآن فى نظم الأشعار المنسوبة إليه والتى تشبه آى الذكر الحكيم؟ أم هل النبى هو الذى استعان بشعره؟ أم ترى الأمر كله لا يخرج عن استقاء الاثنين من مصدر مشترك؟ وقد انتهى جواد على إلى أن أشعار أمية ذات الصبغة القرآنية الواضحة منحولة عليه بعد الإسلام، ومن ثم فلا تشابه بين شعره وبين كتاب الله على الإطلاق مما لا يعود معه مجال للحديث عن أثر شعره فى القرآن المجيد. لكن تدليس سيد القمنى يقلب القضية رأسا على عقب، إذ يُظْهِر جواد على فى صورة المشايع لما يردده ملاحدة عصرنا من أن الرسول قد استعان بشعر أمية، وهو عكس ما انتهى إليه الرجل فى كتابه.
ويمكن القارئ الرجوع إلى دراسة مطولة لى فى هذا الموضوع منشورة فى بعض المواقع المشباكية عنوانها: "القرآن وأُمَيّة بن أبى الصلت: أيهما أخذ من الآخر؟"، بيَّنْتُ فيها بالدليل الصارم القائم على وقائع التاريخ وتحليل النصوص واستشفاف الجو النفسى والاجتماعى فى ذلك العصر أن من المستحيل القول باقتباس القرآن من شعر أمية، وإلا لكان قد فضح النبىَّ عليه السلام هو ومن يشايعه على موقفه من مشركين ويهود، وبخاصة قومُه بنو ثقيف الذين دخلوا جميعا الإسلام ولم نسمع من أى منهم ولا حتى من أقرب المقربين إليه كأخته أو أبنائه أن هناك تشابها (مجرد تشابه!) بين شعره وبين القرآن الكريم، وأنه إذا كان لا بد أن نقول بالتشابه بين شعره وبين كتاب الله فلا بد أن يكون هو المقتبس من القرآن لا العكس. لكن القمنى قد تلاعب بالنص الذى نقله من كتاب "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" بحيث يبدو وكأن جواد على يقول بتأثر القرآن بشعر الشاعر الثقفى كما ذكرنا، وهو ما يجده القارئ مفصَّلا فى كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" (مكتبة زهراء الشرق/1420هــ- 2000م/ 72 وما بعدها).
وهناك تدليس آخر يتعلق بدين عبدالمطلب، ذلك الذى جعله الكتاب الذى يحمل اسم القمنى حنيفا من الحنفاء بل زعيمهم وأستاذهم جميعا، كما يتعلق فى نفس الوقت بالدين الذى مات عليه ابنه أبو طالب عم الرسول وحاميه. ولسوف نعرض الأمر بتمامه حتى تتضح الصورة اتضاحا كاملا. لقد أكد القمنى أن عبد المطلب كان يتمتع ببصيرة سياسية عميقة لا تبارَى، وأنه استطاع أن يقرأ الواقع القراءة التى تبلّغه مطمحه فى إنشاء دولة لبنى هاشم، فتوسل بالدين إلى درك هذا الهدف، وشرع يتخذ من الخطوات الميكافيلية ما يوصله إليه، فادعى أن هاتفا أتاه فى المنام وأمره أن يحفر زمزم. كما أسس حركة الحنفاء حتى يعيش الدور كما ينبغى. ثم نقل البلبوص عن ابن كثير بعض النصوص.
يقول القمنى: "ويتضح لنا وعي عبد المطلب بن هاشم السياسي وبعد نظره وحسه القومي في قيادته وفدا إلى اليمن برفقة ابن أخيه أمية... وحلفائه: أبو زمعة جد أمية بن عبد الله بن أبي الصلت... وخويلد الأسدي بن أسد بن عبد العزي. ومن الواجب ملاحظة امتداد ذلك التحالف في زواج حفيد عبد المطلب، النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من السيدة خديجة بنت خويلد الأسدي رضي الله عنها، في الوقت الذي استمر فيه على التكتيك الهاشمي بأن سار على السنة الكريمة المعطاء بالجود حتى لقبه الناس: شَيْبَة الحمد. لكن الجديد في أمره هو عمله على وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه، فكان إدراكه النفّاذ لسُنّة جَدّه قُصَيٍّ الدينية والسياسية مساعدا على تحديد الداء ووصف الدواء. والداء فُرْقَةٌ قبلية عشائرية، والأسباب تعدد الأرباب وتماثيل الشفعاء. ومن هنا انطلق عبد المطلب يضع أسس فَهْمٍ جديد للاعتقاد، فَهْمٍ يجمع القلوب عند إله واحد، ويتميز بأنه يلغي التماثيل والأصنام وغيرها من الوساطات والشفاعات لأنه لا يقبل من أحد وساطة ولا شفاعة إلا العمل الصالح. وتمهيدا لما أزمع أعلن في الناس أنه بينما كان نائما في الحجر بالكعبة أتاه رَئِيٌّ وغَتَّهُ ثلاث مرات، وأوحى إليه الأمر بحفر البئر المعروفة باسم "زمزم". وتقول كتب الأخبار الإسلامية إنه لجرهم بين صنمي إساف ونائلة دفنتها حين تركت مكة. نعم لقد تمثل تنافس بني العمومة من قبل في احتفار الآبار جذبا للقبائل وقوافل التجارة: فقديما حفر عبد الدار أم جراد. ولما حفر عبد شمس الطويّ رد عليه هاشم بحفر بدر، فزاد أمية في الكرم وحفر الحضر، فرد عليه عبد المطلب بحفر زمزم. لكن زمزم ليست ككل الآبار، فهي البئر الوحيدة التي قيل فيها إنها حفرت بأمر غيبي في حلم عبد المطلب، إضافة إلى ما شاع يتردد حول أمرها. فهي فعل إلهي لا إنساني فجرها الله قديما تحت خد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ليشرب وأمه منها. وفي ذلك يقول ابن هشام في السيرة: "فَضْل زمزم على سائر المياه: فعفت زمزم على المياه التي كانت قبلها يسقي عليها الحجاج، وانصرف الناس إليها عليهما السلام". ويقدم لنا ابن كثير نص هذا الأمر أو الوحي بحفر زمزم، و هو "احفر زمزم. إنك إن حفرتها لن تندم. هي تراث من أبيك الأعظم. لا تنزف أبدا ولا تزم. تسقى الحجيج الأعظم. مثل نعام جافل لم يقسم. ينذر فيها ناذر بمنعم. تكون ميراثا وعقدا محكم. ليست لبعض ما قد تعلم. وهي بين الفرث والدم". ثم يعقب بالقول: إن عبد المطلب ساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورئاستهم، فكان جماع أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدد حفر زمزم بعدما كانت مطمومة من زمن جرهم، وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تَيْنِكَ الغزالتين اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القليعة. ثم يؤكد أن عبد المطلب كان مؤسسا لملة واعتقاد، فيروي عن ابن عباس وابن عمرو ومجاهد والشعبي وقتادة عن ديانة أبي طالب بن عبد المطلب: هو على ملة الأشياخ. هو على ملة عبد المطلب".
ومعنى ذلك أن عبد المطلب هو مؤسس الحنيفية، وأن أبا طالب حين مات إنما مات على هذا الدين. وقد أحال القمنى أو من كتب له الكتاب إلى كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير للتدليل على ذلك. فماذا عند ابن كثير فى هذا الموضوع؟ لنقرأ ما كتبه ابن كثير فى كتابه كى نرى مدى أمانة القمنى فى النقل والاقتباس. ولسوف يذهل القارئ من جرأته فى التدليس على ابن كثير. ولكن إذا وضع القارئ العزيز فى ذهنه أن القمنى قد دلس على واحد من المعاصرين دون خجل أو حياء أو تردد، فهل سيكون ابن كثير، الذى مات منذ قرون ولا يستطيع الرد على من يكذب عليه، بمنجاة من شيطانية القمنى ومن يوسوسون له فى أذنه وعقله وقلبه وضميره؟
يقول ابن كثير: "قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا. قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم. فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه،فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. قال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد، أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب. قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا. قال: فقال أبو طالب: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا. قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له: أي عم، فأنت قُلْها أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها. لا أقولها إلا لأَسُرّك بها. قال: فلما تقارب من أبي طالب الموتُ نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بإذنه. قال: فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرتَه أن يقولها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أسمع.
قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط: "ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ... الآيات". وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة. وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس في هذا الحديث: يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرتََه أن يقولها. يعني: لا إله إلا الله. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن في السند مبهما لا يُعْرَف حاله، وهو قوله: "عن بعض أهله". وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يُتَوَقَّف فيه لو انفرد. وقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير، فذكره، ولم يذكر قول العباس. ورواه الثوري أيضا عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره بغير زيادة قول العباس. ورواه الترمذي وحسَّنه، والنسائي وابن جرير أيضا. ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءت قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك، وشَكَوْهُ إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم. كلمة واحدة. قال: ما هي؟ قال: لا إله إلا الله. قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب! قال: ونزل فيهم: "ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ"... الآيات إلى قوله: "إِلا اخْتِلاقٌ".
ثم قد عارضه، أعني سياق ابن إسحاق، ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمة أحاجّ بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفر لك مالم أُنْهَ عنك. فنزلت: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا اولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ". ونزلت: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ". ورواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق. وأخرجاه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: "على ملة عبد المطلب"، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما لأستغفرن لك مالم أُنْهَ عنك. فأنزل الله، يعني بعد ذلك: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى"، ونزل في أبي طالب: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين".
وهكذا روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عماه، قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. فقال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأُقِِرّ بها عينك. فأنزل الله عز وجل: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". وهكذا قال عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "لا إله إلا الله"، فأبى أن يقولها وقال: هو على ملة الأشياخ. وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك. قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. ورواه مسلم في "صحيحه" من طرق عن عبد الملك بن عمير به.
وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذُكِر عنده عمه فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيُجْعَل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. لفظ البخاري. وفي رواية: تغلي منه أم دماغه. وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب. منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه. وفي "مغازي" يونس بن بكير: يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه. ذكره السهيلي. وقال الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده": حدثنا عمرو، هو ابن إسماعيل بن مجالد، حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قيل له: هل نفعتَ أبا طالب؟ قال: أخرجتُه من النار إلى ضحضاح منها. تفرد به البزار. قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: لم أسمع، لأن العباس كان إذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة. قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم. ومما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم. وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفسا إيمانها. والله أعلم. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت عليا يقول: لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك قد توفي. فقال: اذهب فوَارِهِ. فقلت: إنه مات مشركا. فقال: اذهب فواره، ولا تحدثن شيئا حتى تأتي. ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.
ورواه النسائي: عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.
ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي: لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات، فمن يواريه؟ قال: اذهب فَوَارِ أباك، ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني. فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء. وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال: وصلتْكَ رَحِمٌ، وجُزِيتَ خيرا يا عم. قال: وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وزاد: ولم يقم على قبره. قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي، تكلموا فيه. قلت: قد روى عنه غير واحد: منهم الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي. ومع هذا قال ابن عدي: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.
وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تُدَانَى ولا تُسَامَى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها. وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه. وفَرْقٌ بين علم القلب وتصديقه كما قرّرنا ذلك في شرح كتاب "الإيمان" من "صحيح البخاري". وشاهد ذلك قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون". وقال تعالى في قوم فرعون: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم". وقال موسى لفرعون: "لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا ربُّ السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا". وقول بعض السلف في قوله تعالى: "وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأَوْن عنه" أنها نزلت في أبي طالب حيث كان يَنْهَى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
فقد روي عن ابن عباس والقاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومحمد بن كعب وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم.
والأظهر، والله أعلم، الرواية الأخرى عن ابن عباس: وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به. وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد، وهو اختيار ابن جرير. وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به. ولهذا قال: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ". وهذا اللفظ، وهو قوله: "وَهُمْ"، يدل على أن المراد بهذا جماعة، وهم المذكورون في سياق الكلام. وقوله: "وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون" يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال. ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها. ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه".
ومن الواضح أن ابن كثير لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن عبد المطلب كان صاحب دين توحيدى أو أن ابنه أبا طالب قد مات على ذلك الدين، بل قال إن عم النبى قد مات على عبادة الأوثان دين أبيه خشية من انتقاد قريش له بأنه ترك دين آبائه، ومن ثم كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام إنه سوف يعذب يوم القيامة، وإن كان عذابه سيخفف إلى أقل حد ممكن، وهو وقوفه فى ضحضاح من نار لا يبلغ سوى كعبيه ويغلي منه دماغه، نظرا لحمايته للرسول رغم كراهيته إعلان الإيمان به. ليس ذلك فقط، بل رد ابن كثير على الشيعة فى ادعائهم أن أبا طالب قد نطق بالشهادتين، اعتمادا على ما قاله العباس للرسول بعدما فاضت روح أخيه، إذ شكك ابن كثير فى تلك الرواية وأورد روايات أخرى واضحة الدلالة تماما فى أن أبا طالب لم يعلن إسلامه على فراش الموت. بل لقد ختم ابن كثير حديثه فى ذلك الموضوع قائلا إن أبا طالب، رغم أنه "كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال"، "لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها"، ثم عقب قائلا: "ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه". وهو كلام حاسم فى إفحام كل بكاش نتاش. ومع هذا كله يدلس القمنى ويكذب على عالمنا الجليل زاعما أنه قال إن عبد المطلب كان صاحب دين توحيدى أنشأه، وأن ابنه أبا طالب قد مات على ذلك الدين. لكن لو أن أبا طالب كان موحدا فلم طلب منه ابن أخيه أن ينطق بالشهادتين؟ ثم لم رفض العم؟ بل لم كان العذاب فى نار جهنم أصلا؟ أرأيتم مثل ذلك التدليس القمناوى الذى على أصوله؟
وتدليس آخر نجده فى إحالة صاحب الدكتوراه الملفقة إلى "السيرة الحلبية" عقب كتابته السطور التالية التى يقول فيها: "وعن اليقين بعلم عبد المطلب بأمر حفيده (يقصد أنه سوف يكون نبيا) يتحدث كتبة التراث مسلّمين بالأمر، ثم يقصون أقاصيص تعبر عن هذا التسليم وذاك اليقين، فيذكرون عن ولده العباس رضي الله عنه قوله: قال عبد المطلب: قدمت من اليمن في رحلة الشتاء، فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور، فقال: من الرجل؟ قلت: من قريش. قال: من أيهم؟ قلت: من بني هاشم. قال: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قلت: نعم ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخريَّ فنظر فيها ثم نظر في الأخرى، فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك مُلْكًا، وفي الأخرى نبوّة. وإنما نجد ذلك، أي كلا الملك والنبوة، في بني زهرة. فكيف ذاك؟ قلت: لا أدري... فقال: إذا تزوجتَ فتزوج منهم. فلما رجع عبد المطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف، فولدت له حمزة وصفية، وزوَّج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب أخي وهيب فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت قريش تقول: فلح عبد الله على أبيه. أي فاز وظفر. ثم رأيت في"أُسْد الغابة" أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد. وجاز أن يكون الملك والنبوة اللذان تكلم عنهما الحبر هما نبوته وملكه صلى الله عليه وسلم لأنه أُعْطِيَهما".
هذا ما قاله القمنى، ومعناه أن عبد المطلب كان يعرف سلفا أنْ سيكون له حفيد ذو شأن وأنه سوف يعلن النبوة، على حين أن صاحب "السيرة الحلبية" لم يقل شيئا من هذا بتاتا. وإلى القارئ نص ما قال: "والسبب الذي دعا عبد المطلب لاختيار بني زهرة ما حدّث به ولدُه العباس رضي الله تعالى عنه، قال: قال عبد المطلب: قدمنا اليمن في رحلة الشتاء، فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور، أي الكتاب، ولعل المراد به التوراة، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من قريش. قال من أيهم؟ قلت: من بني هاشم. قال: أتأذن لي أن أنظر بعضك؟ قلت: نعم ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخريّ فنظر فيه، ثم نظر في الأخرى فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك، وهو مراد الأصل بقوله: في منخريك، مُلْكًا، وفي الأخرى نبوّة. وإنما نجد ذلك، أي كُلاًّ من الملك والنبوة في بني زهرة، فكيف ذاك؟ قلت: لا أدري. قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: الزوجة، أي لأنها تشايع، أي تتابع وتناصر زوجها. قلت: أما اليوم فلا. أي ليست لي زوجة (من بني زهرة إن كان معه غيرها، أو مطلقا إن لم يكن معه غيرها). فقال: إذا تزوجت فتزوج منهم. أي وهذا الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه، فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة يقال له: "حَزّاءٌ" بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة. وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني عن شيخه سيدي علي الخواص، نفعنا الله تعالى ببركاتهما، أنه كان إذا نظر لأنف إنسان يعرف جميع زلاته السابقة واللاحقة إلى أن يموت على التعيين من صحة فراسته. هذا كلامه". واضح أن الحبر اليمنى، إن صحت هذه الرواية، هو الذى خبّره بأن حفيده سوف يكون له شأن، وبناء عليه نصحه أن يصهر إلى بنى زهرة. وهذا غير ما قاله القمنى أو من أَوْحَوْا إليه بوضع اسمه على الكتاب. على أننى لا أعطى مثل تلك الرواية أذنى أبدا ولو لثانية واحدة، إذ تقوم على أن هناك من البشر من يمكنه معرفة الغيب، وهذ مستحيل، فلا يعلم الغيب إلا الله، أما البشر جميعا فالغيب مستور عنهم تماما حتى لو كانوا رسلا وأنبياء. ومن المضحك أن يحرص الحبر على مصلحة رجل لا يعرفه ولا يهمه أمره ولم يقصده فى شىء فينصحه ويشدد النصح أن يتخذ زوجة من بنى زهرة. وهل كان عنده خريطة بقبائل العرب وأبنائها وبناتها يعرف منها مصير كل زواج يتم بين فلان وعلانة. ومن أين له بمثل تلك الخريطة يا ترى؟ ثم كيف يعرف ذلك الحبر الغيب، وقد كان يجهل مَنْ عبد المطلب، وإلى أية قبيلة ينتسب. ألم يسأله: من هو؟ ومن أية قبيلة؟
والقمنى حريص فى أى كتاب أو مقال يكتبه على الإساءة للرسول فى كل سانحة. ومما قصد به الإساءة له صلى الله عليه وسلم فى الكتاب الذى نحن بصدده اختياره من بين الروايات التى تقص خِطْبَته لخديجة بنت خويلد رضى الله عنها الرواية التى تقول إن أبا خديجة قد سُقِىَ خمرا كى يغيب عن الوعى فيوافق على زواج محمد من ابنته حسبما يقول المبشرون الموتورون، ولولا ذلك ما وافق. أى أن الزواج تم بخديعة خبيثة لأن محمدا لم يكن أهلا لمصاهرة خويلد. وإلى القارئ عينة مما يقوله المبشرون وأتباعهم من السذج والدهماء فى هذا الموضوع، إذ وجدت فى أحد المواقع النصرانية المغربية كلمة بعنوان "خديجة تُسْكِر أباها ليزوجها من محمد!" كتب صاحبها ما يلى: "من المعلوم في حياة محمد أن أول زيجاته كانت من شريفة الحسب والنسب وأغنى أمراة في قريش، وهي خديجة بنت خويلد ابنة عم قس مكة ورقة بن نوفل! وكانت إحدى المشاكل المعيقة لهذا الزواج هو والد خديجة، الذي كان لا يريد محمدا زوجا لابنته رغم أنها تزوجت مرتين قبل محمد، الذي كان اسمه قُثَم. ربما بسبب فارق السن الذي تفوق به خديجة على محمد أو لأنه رأى "طمعا" من محمد في أموال خديجة، وهو الشاب العامل اليتيم راعي الغنم و المشكوك في قواه العقلية! وما كان لهذا الزواج أن يتم دون "كيد" النسوان! فدبرت خديجة الحيلة والمكيدة وقررت أن تضع أباها أمام الأمر الواقع فلجأت الى خدعة!". هذا، وقد صححتُ الأخطاء اللغوية والإملائية الكثيرة فى النص.
قال القمنى مزوّر الشهادات العلمية: "وعندما تزوج المصطفى صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها أكثر الناس من الكلام في هذه الزيجة. وهنا يروي لنا ابن كثير أن "عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عيه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها. إني كنت له تِرْبًا، وكنت له إِلْفًا وخِدْنًا، وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، حتى إذا كنا بالـحَزَوَّرة أَجَزْنا على أخت خديجة، وهي جالسة على أدم تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أمَا بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بلى لَعَمْرِي. فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: اغْدُوَا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا أبا خديجة حُلّة، وصُفِّرَتْ لحيته، أي صبغت بالحنّاء، وكلمت أخاها، فكلم أباه وقد سُقِيَ خمرا، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسأله أن يزوجه، فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه. ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وما هذه الصفرة وهذا الطعام؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمار بن ياسر: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله خَتَنُك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوّجته خديجة. فأنكر أن يكون زوَّجَه، وخرج يصبح حتى جاء الحِجْر. وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه، فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته. أما عمه أبو طالب فألقى في العرس خطبة منها قوله: فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا ينكر العرب فضلكم. ورغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم. وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا".
هذا ما كتبه القمنى أو من يتستر وراء اسم القمنى، أما ما كتبه ابن كثير فى "البداية والنهاية" فهذا هو: "قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم أبو عمرو المدني. وقال يعقوب بن سفيان: كتبت عن إبراهيم بن المنذر: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوَّج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمره خمسا وعشرين سنة، وقريش تبني الكعبة. وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم: أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين، وقيل: خمسا وعشرين سنة... وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس أن أبا خديجة زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو، أظنه قال، سكران. ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن عبد الله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا، وكنت له إِلْفًا وخِدْنًا. وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، حتى إذا كنا بالحزوَّرة أجزنا على أخت خديجة، وهي جالسة على أُدُمٍ تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أمَا بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بَلَى لَعَمْرِي. فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: اُغْدُوَا علينا إذا أصبحنا،. فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها، فكلم أباه، وقد سُقِيَ خمرا، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه. ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وما هذه الصفرة وهذا الطعام؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة. فأنكر أن يكون زوَّجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر. وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤه فكلموه. فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: إن كنتُ زوَّجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوّجته. وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدم. حكاه السهيلي. قال المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه، وهذا هو الذي رجحه السهيلي، وحكاه عن ابن عباس وعائشة. قالت: وكان خويلد مات قبل الفِجَار، وهو الذي نازع تُبَّعًا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش. ثم رأى تبع في منامه ما روَّعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه. وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالله أعلم".
وواضح من الرواية التى أوردها القمنى، وهناك روايات أكثر منها شهرة وذيوعا وأقرب إلى المنطق، أنها رواية لا تقنع العقل. ذلك أنه لا يعقل أن يكون والد خديجة رجلا هزؤا بهذا الشكل الذى تصوره الحكاية، فيجرى فى الشوارع ويصيح وكأنه رجل لا حول له ولا قوة وأن عصابة من المجرمين قد اختطفوا ابنته الصغيرة منه وهربوا، فهو يريد من الناس أن يسرعوا وراءهم ويقبضوا عليهم ويستعيدوا له الابنة المختطفة. وتزداد عبثية الحكاية حين نرى خويلدا بعد كل تلك الضجة التى فضح فيها الدنيا يتراجع عما صنع ويقبل محمدا فى الحال. الحق أن هذا لبسلوك المخابيل أشبه، وما كان خويلد الأسدى الذى وقف لتُبَّع تلك الوقفة الرجولية يوما من المخبولين. ثم هل يمكن أن نقبل مثل تلك الرواية التى تريد أن تقول إن محمدا لم يكن أهلا لخديجة ونحن نسمع أبا طالب يذهب فى الفخر بعشيرته وبابن أخيه المذاهب فلا ينكر عليه أحد من أهل الخطيبة شيئا مما قال؟ بل هل من الممكن، لو كان الأمر على ما تقول الرواية، أن يخطر فى بال أبى طالب أن يفتخر بعشيرته وابن أخيه فى خطبة النكاح على هذا النحو؟
أقول هذا مع علمى أنه حتى لو حدث هذا فلن ينال من محمد بشىء. لماذا؟ إن تقديم الخمر لخويلد، لو كان قد وقع وافترضنا أنه تم من أجل تغيبب عقل خويلد، لهو مع إيعاز خديجة لأختها أن تعرض على محمد الزواج منها دليل على أن خديجة كانت واقعة فى هوى محمد وتريد أن تتزوجه، ولسوف تتزوجه حتى لو عارضها سكان الأرض جميعا. ومعنى ذلك أن محمدا مطلوب، ومطلوب بقوة لا يقف فى طريقها شىء أو شخص. وهذا مما يشرّف أى رجل. وعلى كل حال فإن محمدا لا علاقة له بإسكار الرجل ولا علم. ولقد كان شرب الخمر من المفاخر فى عرف الجاهليين، وكان العرب آنذاك يرون فيها باعثا قويا على الكرم والأريحية. فلو كان خويلد قد شرب فى تلك الليلة ما نال هذا محمدا ولا خويلدا بأى سوء. ولو افترضنا أن أبناء الرجل قد أسكروه إسكارا على غير علم منه ولا هوى، ولم يقدموا له الخمر فقط على عادتهم فى مثل تلك المناسبات وسكر هو لإفراطه فى الشراب على غير احتراس، وهو ما يُفْهَم من الحكاية لا ما يروجه المبشرون السفهاء ويتابعهم عليه بعض من المنتسبين إلى الإسلام، أفيعقل أن يكون هذا هو رد فعله عند اكتشافه الخدعة؟ ما كان أسهل عليه أن يرفض إتمام الزواج لو أراد دون أن يجرى فى الطرقات كالمجانين. والحمد لله أن راوى القصة لم يقل إن صبيان مكة قد هُرِعُوا وراءه يزفونه بعبارات السخرية ويرمونه بالحجارة كشأنهم مع المجانين الذين يَعْدُون فى الطرقات وهم يصيحون! ثم لقد كانت خديجة تاجرة شديدة الثراء مستقلة بنفسها وبشؤونها، وكانت تمارس أمور مالها وتجارتها وتستأجر محمدا وغيره مباشرة دون أن تستعين بأحد من أهلها لمفاوضتهم على العمل عندها. وهى، حين فكرت فى الزواج بمحمد، قد تولت بنفسها ترتيب ذلك. فلماذا كان عليها أن تخشى اعتراض والدها فتستعين بأخيها على ذلك النحو الهزلى لإقناعه بالموافقة على زواجها من محمد؟ وفوق ذلك أين كان أبوها من قبل فلم نسمع به قط فى أى شأن من شؤون أمورها مع محمد، الذى كان يشتغل لها بالتجارة؟ وهذا كله لو لم يكن قد مات قبل هذا كما تقول الروايات الأخرى، وهى الروايات التى يقبلها العقل ويراها أحرى بالتصديق من الرواية المضحكة التى نناقشها الآن.
وقد تناول ماكسيم رودنسون هذه القضية قائلا: ثمة رواية تقول إن خديجة قد سقت أباها خمرا كى يمر الزواج دون اعتراض، إلا أن أغلب الروايات تتفق على أن الوالد كان قد مات قبل ذلك بزمن طويل وأن عمها هو الذى كان يمثل الأسرة فى هذه المناسبة. وهذا نص ما قاله طبقا لما جاء فى الترجمة الإنجليزية لكتابه عن رسول الله بقلم آن كارتر (Pelican Books, 1971, P.50): "Some accounts added that this was not easy and that Khadija had to get her father drunk in order to obtain his consent; but most traditions say that by this time her father was long dead and it was her uncle who represented her family in the marriage". وبالمثل ذكرت د. سلوى بالحاج صالح- العايب فى كتابها: "دثرينى يا خديجة- دراسة تحليلية لشخصية خديجة بنت خويلد" (دار الطليعة/ بيروت/ 1999م/ 63) أن "أغلب الروايات تشير إلى كونها (أى خديجة) أحضرت عمها عمرو بن أسد". والمهم بعد هذا كله أن محمدا وخديجة كانا أسعد زوجين بما كان بينهما من حب واحترام متبادل أيها المزور المدلس ذا اللسان السفيه والبذاءات المنحطة التى تصيب جسمك بالـحُكَاك وتظل تهرشك وتعذبك ولا تدعك تهدأ أبدا.
وأيا ما يكن الأمر فقد ساق ابن كثير عددا من الروايات، ووقف ضد هذه الرواية بالذات التى لم يجد القمنى فيما كتبه ذلك العالم الجليل إلا إياها فأوردها على أنها هى رأيه وأنه لا يوجد روايات أخرى عنده سواها، وهذا تدليس. ومن المضحك، وكل ما يقوله القمنى مضحك، أنه كلما انتقد أحدهم ما يكتبه تحجج بأنه ليس إلا ناقلا لما فى كتب التراث. ومن ذلك أن الصحفى حسن عبد الله قد سأله فى حوار "النيوزويك" العربية الذى سبق أن أشرنا إليه قائلا: "لو قلت لك إنني قرأت عددا من كتبك، ومنها "الحزب الهاشمي" و"حروب دولة الرسول"، وأعتقد بأنها تحول الاسلام كله إلى مجرد لعبة أو حركة سياسية لا مكان فيها لوحي أو نبوة، فما ردك؟"، فكان جوابه ما يلى، ولاحظ عامية الذوق فى رده: "ياعمي، انا ماحولتش حاجة. قل هذا للمصادر التي أخذت منها في كتبي. أنا لم أقل شيئا من عندي. وإذا كانوا يريدون أن يلوموا أحدا فليلوموا الكتّاب والمؤرخين المسلمين الكبار مثل ابن كثير والنسفي وغيرهما، أو يقوموا بحذف هذه النصوص من الكتب كيلا نقتبسها ونضعها بين علامات تنصيص ونقول ابن كثير: قال كذا. لماذا يتشطرون علينا ياعمي؟ فالقاعدة الاسلامية تقول إن ناقل الكفر ليس بكافر، وأنا ناقل من كتب التراث الاسلامي وكتب الأمهات". فعاد الصحفى يكشف ألاعيبه قائلا: "أتحدث عن عملية الانتقاء وفصل النصوص عن سياقها العام"، فكان أن عاجله مقاطعا: "هذه تهمة في الامانة العلمية. أنا لا أنتقي تماما بل أحشد لكل جملة أكثر من ثلاثة مصادر تتفق عليها. والفهم والاستنباط يختلف من شخص إلى آخر. ارجع الى أمهات الكتب التراثية، وسترى ماذا تقول".
وهو رد أشبه بكلام المصاطب، وليس ميدانه المناقشات العلمية، إذ إن كثيرا من كتب التراث تسوق الروايات المختلفة لا رواية واحدة حتى لو كان صاحب الكتاب لا يؤمن من تلك الروايات إلا بشىء واحد. هذه طريقة الكثير من علمائنا القدامى، ومنهم ابن كثير، ومن ثم لا يصح علميا التحجج بما تحجج به القمنى. وفى موضوعنا هذا كان عليه أن يسوق جميع الروايات التى ساقها القمنى كما صنعت أنا ثم يختار منها ما يراه مقنعا، أو على الأقل: ما يراه أكثر إقناعا من سواه، ويقدم الحيثيات التى استند إليها فى هذا الإيثار. أليس هذا هو المنهج العلمى الذى يعرفه العلماء جميعا؟ أما أن يخدع القراء ويوهمهم أن الرواية التى أوردها إنما هى الرواية الوحيدة عند ابن كثير، فضلا عن أنها هى الرواية التى يتبناها هذا العالم الجليل، فهذا كذب وتدليس وخداع آثم. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد ورد فى كتاب ابن كثير، كما رأينا، أن خديجة حين تزوجها النبى كانت بنت خمس وثلاثين أو خمس وعشرين سنة، فلماذا أهمل القمنى هذه المعلومة التى لم يشكك فيها ابن كثير كما شكك فى حكاية سُكْر خويلد الأسدى، وبخاصة أن عالمنا الكبير لم يورد إطلاقا شيئا من الرواية التى تقول بأن عمر عميدة أمهات المؤمنين كان فى ذلك الوقت أربعين عاما؟ ألا يرى القارئ أن القمنى يداور ويناور طوال الوقت، وإن كانت مداوراته ومناوراته عبثية لا تؤدى إلى طائل؟
وما دمنا قد فتحنا هذا الموضوع فقد قرأت لماكسيم رودنسون رأيا وجيها مُفَاده أنه من المشكوك فيه أن يكون عمر خديجة عند زواجها من محمد قد بلغ الأربعين، وإلا كان معنى هذا أنها ظلت تنجب أطفالا حتى بعد تجاوزها الخمسين، وهو ما لا يمكن أن يكون، إذ من المعروف أنها أنجبت للرسول ستة أطفال على الأقل. يقول رودنسون فى دراسة له بعنوان "Mahomet"، وهى دراسة أوجز من كتابه الذى يحمل نفس العنوان:
"on dit qu’elle avait alors 40 ans, en 595 – mais, comme elle lui donna au moins six enfants, il est permis de douter de ce chiffre".
وعلى نفس الشاكلة يرتاب ديفيد صمويل مرجليوث المستشرق البريطانى فى كتابه: "Mohammed and the Rise of Islam" أن تكون خديجة تكبر الرسول بخمسة عشر عاما كما تقول كتب السيرة بوجه عام، مقررا أنها لا يمكن أن تكبره إلا ببضع سنوات فقط:
"She was some years older than Mohammed, but assuredly not forty, as Mohammed’s biographers assert" (J. P. Putnam’s sons, New York & London, 1905, P. 67).
أما موريس جودفروا ديمومبين المستشرق الفرنسى فإنه، فى كتابه: "Mahomet"، يسخر من الرواية التى تتحدث عن إسكار خويلد، واصفا إياها بأنها حكاية فلكلورية، مضيفا أن خويلدا كان قد مات قبل ذلك، وأن خديجة كانت فى ذلك الوقت سيدة أمرها (Albin Michel, Paris, P. 68):
"Khadîdja a une quarantaine d’années, un grand âge, pour une Mekkoise… Khuwaïlid refuse son consentement au mariage de sa fille avec un homme pauvre et on en est réduit à l’enivrer pour qu’il le donne; belle histoire, mais thème de folklore, et intervention inutile, car il semble que Khuwaïlid était mort à l’époque du mariage de Khadîdja et que celle-ci, qui avait été mariée antérieurement, était libre de sa personne ."
وبعد، فهذا كتاب "الحزب الهاشمى" كما هو فى حقيقته دون جعجعات أو تحشيشات. إنه كتاب سخيف تافه لا وشيجة بينه وبين أوليات البحث العلمى. وفوق هذا فهو قائم على التدليس "عينى عينك" دون حياء أو تردد كما هو الحال مع اللصوص المحترفين الذين يسرقون الكحل من العين دون أن يطرف لهم جفن ودون أن يبالوا بنظرات الناس المصوبة إليهم وهم يسرقون. ولقد رأينا كيف أن الكِتَاب هو هو ذاته كتاب خليل عبد الكريم، مما يدفعنا دفعا إلى ترجيح أن تكون هناك يد خفية تضع الكلام فى فم الاثنين آمرة إياهما أمرا واجب التنفيذ أن ينطقا به على أنه كلامهما هما حتى يكون القضاء على الإسلام بيد واحد ممن ينتسبون إليه لا بيد شخص غريب، تحقيقا لنصيحة ذلك المبشر الخبيث القائلة بأن الشجرة إنما ينبغى قطعها بفأس مصنوعة من أحد غصونها. وهو ما تنبه إليه د. عبد الرحمن بدوى، الذى روى بعض الصحفيين المصريين أنه قرأ مقالا في "اللوموند" عن الصنيعة الغربية سلمان رشدي فانفجر يسبه ويقول: هذا الفاجر الذي جنده الغرب للطعن في الإسلام حتى يقال: "وشهد شاهد من أهلها"، مضيفا أن سلمان رشدي ليس مسلما، ولم يكن يوما مسلما، بل التقط السم المدسوس له في الغرب. وإنى لأرجح ما قلته عن القمنى ترجيحا لأن ما يصدر عن القمنى فى مقابلاته التلفازية من ألفاظ وتصرفات وتطاولات على الضيوف والمذيعين، كل ذلك لا يوحى أبدا أننا بإزاء شخص يمت للفكر بأية صلة. وليس هذا هو رأيى وحدى، بل رأى كل المعلقين تقريبا الذين سجلوا حكمهم عليه فى المواقع المشباكية والمداخلات المرنائية المختلفة. ويزيد الطين بلة أن القمنى يتصور أنه يمكن أن يلبِّسنا العمة فنظن، ولو للحظة، أنه يقرأ باللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية، إذ يشير دائما إلى كتب مؤلفة بتلك اللغات بوصفها مراجع قد قرأها، مع أنه لا يحسن حتى الإنجليزية، تلك اللغة التى أضحى يدرسها الآن تلاميذ المرحلة الابتدائية أنفسهم.
* * *
حاشية أولى: أود أن أورد هنا رأى سيد المزورين والمدلسين فى وفاء سلطان المرأة المسترجلة التى تتكلم فتذكّرك، حين تنطق بصوتها القبيح الغليظ الخشن بما حفّظوه لها تحفيظا، بالجَمَل الذى يضرب بالقُلَّة، والتى تشتم دائما الله والرسول والقرآن والإسلام، وتقول إنه دين الإرهاب والعدوان والتخلف والرجعية والكراهية والقتل والدموية، وتلعن سنسفيل المسلمين: القدامى والمعاصرين والذين لم يُخْلَقوا بعد، مؤكدة أنهم يستحقون ما ينزله بهم الغرب من دمار وتقتيل وتهجير وأكثر، وأنهم لا ينتمون إلى العالم المتحضر، فهم أمة بدائية تجرى على سنة رسولها الذى كان يمارس القتل والنهب والاغتصاب وكل الموبقات، وتاريخهم ينحصر فى الغزو والغنائم وما طاب من النساء والنكاح وتقطيع الأيدي والأرجل وشرب بول الإبل، وإلههم يثرثر فى القرآن.
وهذا نص ما قاله القمنى فى تلك المرأة الذَّكَر، وقد ورد فى سياق رده على انتقاد نادر قريط المدوّن العراقى لها لطول لسانها وسفاهتها وقلة أدبها وتعصبها البغيض المريض ضد الإسلام والمسلمين لا لأن قريط ذو اتجاه إسلامى، فهو ليبرالى أيضا، بل لأن كلامها فى هذا الصدد قد تجاوز الحدود، فضلا عن أن المسلمين ليسوا وحدهم المعيبين، كما أنهم ليسوا كلهم عيوبا. ويجد القارئ كلام قريط فى موقعه المسمى: "كتابات نادر قريط". قال القمنى: "أعترف أن هذه السيدة ترهبنى شجاعتها ويبهرنى منطقها، وتلسعنى لسعا سرعة بديهتها وحضورها. وهى، اختلفنا معها فى الوسائل أم اتفقنا، السيدة الأولى لـ"بَنِى لِيبْرَال". هذا رغم علمى اليقينى أنه فى البيت العلمانى سيدات يبرزنها (الصواب: "يبززنها"، ودعنا من الأخطاء الإملائية الشنيعة، وهى سمة قمناوية بامتياز) علما ومعرفة بالتراث الإسلامى وتمكنا منة. لكن لهذه السيدة طريقتها، وهى التى تضيف إلى رصيدها نقاط تعلو بها الدرجات. فهى تؤدى دورا نعجز عنه جميعا ربما خوفا من المجتمع (مثلى)، أو ترفعا وتكبرا على تلك السجالات (مثل أخى قريط). وفى رأيى أنها كلها طرق محترمة ما دامت تقوم على عمد من معرفة سليمة ومنطق محجوج، وتهدف إلى مبادئ وقيم المجتمع المدنى الحر فى النهاية".
وموقفه من تلك المرأة ورأيه فيها ينسجمان تمام الانسجام مع ما يقوله عن الحضارة الإسلامية، التى لا يعترف لها بشىء البتة، بل ينسب إليها كل الموبقات ولا يرى فيها شيئا طيبا بالمرة، مؤكدا أن كل ما فيها سواد فى سواد وتخلف ما بعده تخلف، وإرهاب وقتل ودمار وتجريف لكل شىء جميل وجهل وقبح وتسلط واستعباد وسرقة واغتصاب وتداوٍ ببول الإبل، ساخرا من كل شىء يتعلق بتلك الحضارة، ناسبا كل فضل إلى اليونان قديما، والغرب الأوربى حديثا، ومكررا ما تقوله المرأة الذَّكَر من أنه لا أمل للمسلمين إلا بالالتحاق بالغرب ونبذ ما عندهم كله، وهو ما كان طه حسين قد دعا إليه قديما، فهى عصبة بعضها من بعض. وقد مدح القمنى المرأة الذَّكَر، كما رأينا، بأنها شجاعة تقول ما لا يستطيع هو وغيره أن يقولوه. أنعم وأكرم!
* * *
حاشية ثانية- من كتابات سيد القمنى:
* الدولة عبر تاريخها القديم الابتدائي الأول كانت دولة دينية فعلا، لأن ذلك كان يناسب ظرفها الابتدائي الأول، لأنها كانت وثنية، والوثنية كانت تعني توافق المجتمع على آلهة بعينها تتفق مع بيئاتهم وظروفهم، فتجد مصر مثلا تقدس سوبك التمساح لوجوده في نيلهم بوفرة، بينما بدوالجزيرة يقدسون الخروف، ومصر تقدس من ظواهر الطبيعة أعظمها الشمس لدورها الهام في نضوج المحصول ودورتها الفصلية في البذار والحصاد، بينما بدو الجزيرة كانوا يقدسون القمر لدوره في إضاءة ليل الصحراء المقفر الموحش، كانت الأمم تصنع أربابها بنفسها لنفسها بما يوافق جغرافيتها ومصالحها وطريقة تفكيرها ومتطلبات عيشها، كذلك لم يحدث أن وقع صراع اجتماعي في المجتمعات الوثنية بسبب الدين، لأن الدين كان من إبداعهم على التوافق بينهم، أما الأديان الكبرى كاليهودية والمسيحية والإسلام المنسوبة إلى رب كوني فإنها ذات طابع صراعى لأنها لا تجيز اعتراف بعضها ببعض، فلا يمكن وصف الدولة ذات الأديان الكبرى المتعددة بأحد هذة الأديان وإلا وقع الصراع بين اطراف هذا المجتمع، صراعا لا زال يطل برأسه كل يوم حتى اليوم في بلادنا. لأن تلك الأديان لم يتم التوافق الإجتماعي والتواضع الشعبي عليها، وليست بنت بيئته الوطن التى يتشارك فيها جميع المواطنبن، إنما هي جاءت جميعا من خارج الحدود وتم فرضها فرضا على مختلف الأمم المفتوحة.
* دولنا القومية الوطنية عادت إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال العربي، لأنها كانت أسبق في الوجود من هذا الاحتلال بألوف السنين وكانت أعلى تحضرا و أعمق قيمة، وأن جمعها تحت ظل الخلافة كان مآساة تاريخية لشعوب متحضرة عظيمة، كان كارثة إنسانية انتكست بالحضارة فى البلاد المفتوحة إلى البداوة، كارثة صحبها تطهير عرقي و دينى و جرائم في حق الإنسانية، ستظل لطحة عار فى الجبين الإنسانى حتى يعترف عرب الجزيرة و يعتذروا اعتذارا تاريخيا يسمعة العالم كلة، بعد أن آلت معهم مصرنا وكل أمصار حضارات حوض المتوسط الشرقى إلى ما هي عليه الآن، وبين تلك الحضارات القديمة وبين وضعها الآن … شتان!
* الإسلام بحالته الراهنة، وبما يحمله من قواعد فقهية بل واعتقادية، هو عامل تخلف عظيم، بل إنه القاطرة التى تحملنا إلى الخروج ليس من التاريخ فقط، بل ربما من الوجود ذاته.
* الشريعة تفرق طبقيا وطائفيا وعنصريا ومن قال غير ذلك إما جاهل جهلا مركبا وأما هو كذاب أشر نحلم بالماضى السعيد عندما كنا سادة الأمم نفتح ونغزو ونسبى وننهب ونستعبد الآخرين فى زماننا الذهبى، فهل كان زماننا ذاك ذهبيا حقا؟ كل زمن وله ممارساته، فكان الرقص وسكب بعض الماء على الأرض فى زمن السحر تحفيزا للطبيعة لتجود بمطرها على أساس أن الشبيه ينتج الشبيه.
* كانت صلاة الاستسقاء فى زمن الدين كممارسة شبه سحرية لكنها ارتقت من طلب الأرواح إلى طلب إله واحد، وقد تجاوز العالم المرحلتين. المبدأ الإسلامى الجهادى يقوم على تبرير العدوان الغازى لاحتلال البلاد المحيطة بالجزيرة بأنه أمر إلهى وليس بشريا لا يملك المسلم معه إلا الطاعة والامتثال للقرار الإلهى، فتصبح جريمة العدوان على الآمنين ليست بجريمة لأن من أمر بها هو الله. ويكون المدافع عن عرضه ووطنه وممتلكاته هو المجرم، لأنه يقف فى طريق نشر دعوة السماء. لذلك كان العدوان على غير المسلمين وحتى اليوم من وجهة النظر الإسلامية هو شرع مشروع. ونموذجا لذلك سفاح تاريخى لا مثيل له هو خالد بن الوليد الفاتح الدموى لبلاد العراق؛ الذى كان يتسلى ويتلذذ بلذة القتل للقتل. أعلى درجات التعبد هى الجهاد لاحتلال بلاد الآخرين،ونزح خيراتها إلى بلاد المسلمين.
* ردد الصحابة الأوائل الفاتحون شعارات جميلة من قبيل أن الناس يتساوون كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربى على أعجمى، ولم يطبق أى من هذه الشعارات فى حروب الفتوح بل الذبح والسلخ والنهب والأسر والسبى. باختصار الإسلام أو الجزية أو القتل. نعم لدرس تاريخ الإسلام، ليس بقصد الفخر برجال ليسوا منا بل كانوا لبلادنا فاتحين، ولعرضنا منتهكين ولأموالنا ناهبين ولأوطاننا محتلين.
* كان مفهوما أن يصاحب شعار الجهاد المسلمين الأوائل طوال عصر الفتوحات، وكان مفهوما وإن لم يكن مقبولا قيام الفقه الإسلامي بتنظيم قواعد الجهاد وتقنينها من حيث نسب توزيع الغنائم والفيء والمملتكات الخاصة بالمهزوم المفتوح، مع وضع قواعد لتنظيم الجباية وطرقها من زكاة إلى جزية إلى فدية لتوضع في بيت المال تحت سلطة الخليفة الذي يقوم بالتوزيع طبقا للشريعة على العرب وحدهم، لأن أبناء الأمم المغلوبة كانوا هم الغنيمة بشرا ومالا ومتاعا، كانوا هم من يدفعون. لذلك كان العدوان علي غير المسلمين وحتي اليوم من وجهة النظر الاسلامية هو شرع مشروع، وهو الخير نفسه، بل انه أفضل عبادة يتقرب بها المسلم الى ربه، لانها تصل الي قتل المسلم نفسه في حروب ذلك الزمان بالسلاح الابيض، الذي كان لابد فيه من افتراض موت المحارب، وفي حال موته فان موته يسمي استشهادا في سبيل الله يدخل بموجبه جنات الله السماوية عريسا تزفه الملائكة للحور العين.
* واقع الاسلام الاول الذي يريدون استعادته، لا يعرف شيئا عن المساواة ولا الحريات ولا حقوق الانسان فكلها مفاهيم معاصرة بنت زماننا اليوم. ناهيك عن كون تطبيقات المسلمين الاوائل لم تعرف لا المساواة ولا الحرية ولا الحقوق، حتي بمفاهيم زمانها و ماقبل زمانها كما في دساتير روما أو كمافى ديمقراطية أثينا مثلا.
* لقد كان النظام الإسلامي السياسي "الخلافة" حكما عربيا قرشيا أضفى عليه رجال الدين في حلفهم مع الخلفاء الصفة الدينية للاحتماء بمظلة الشرعية الدينية للدفاع عن نظام سياسي بشري لا علاقة له بما يريد الله ولا بالشريعة وأن الدولة الإسلامية عبر تاريخ الخلافة لم تعرف تطبيق الشريعة إلا بما يخدم السلطان وسيطرة رجال الدين.
* نعود للخلفاء الراشدين قدوة المسلمين والذين تحولت فعالهم في المذهب السني إلى سـُنة كسنة الرسول مكملة له بالضرورة، بحسبانها النموذج الذي يدعو له المتأسلمون على كافة ضروبهم لنجد الواقع ينطق بغير أقوالنا المأثورة، فالخليفة الذي قبل من الإعرابي قوله: أن يقومه بسيفه، هو من قوّم الجزيرة كلها بسيفه، فقتل أهلها شر قتلة، قتل من اعترضوا على خلافته وشكوا في شرعية حكمه وصحة بيعته، وقتل من قرر ترك الإسلام إلى دين قومه، فأمر برمي الجميع من شواهق الجبال وتنكيسهم في الآبار وحرقهم بالنار، وأخذ الأطفال والنساء والثروات غنيمة للمسلمين المحالفين لحكم أبي بكر، وهو ما دونته كتب السير والأخبار الإسلامية على اتفاق والخليفة الثاني العادل، هو من استعبد شعوبا بكاملها ومات مقتولا بيد واحد ممن تعرضوا للقهر والإستعباد في خلافته، أما الخليفة الثالث فكان واضحا من البداية في التمييز وعدم العدل خاصة في العطاء فكان أن قتله أقاربه وصحابته الذين هم صحابة النبي قتلا أقرب إلى المثلة، فكسروا أضلاعه بعد موته عندما نزوا عليه بأقدامهم، ورفض المسلمون دفنه في مقابرهم فدفن في حش كوكب مدفن اليهود.
* في دولة الراشدين كان الحكم يقوم كما قال أبو بكر على الكتاب والسـُنة، رغم أن الكتاب كان مفرقا بين الصحابة في الأكتاف والعظم والعسيب ولم يتم جمعه بعد في مصحف واحد، ورغم أن الحديث لم يكن بدوره حتى مسموحا بتدوينه، وكانت نصوصه غير معلومة لجميع أفراد الأمة وكذلك القرآن، فكيف كان يتم حكم تلك الدولة بالكتاب والسنة وهما غير مدونين وغير معلومين من الأمة محل تطبيق هذه القوانين؟ ناهيك عن واضعي الأحاديث المحترفين وأصحاب الفتاوى وكلها كانت تصب لصالح حلف الفقيه والسلطان. والملحوظ أن المواطن لم يطالب بحقوقه من حرية ومساواة وعدل وأمن بقانون وآليات لتنفيذه وحمايته، ولم تسع الدولة من جانبها لتوضيح تلك الحقوق له كما فعل الرومان. لأن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم أمر لا تعرفه الشريعة الإسلامية، إنما تعرف المراتب والمنازل حفظا لقيم المجتمع، ففيها السيد العربي وفيها المسلم المولي، ولا يجوز شرعا المساواة بينهما، وفيها السيد المسلم وفيها الذمي، ولا يجوز شرعا المساواة بينهما، وفيها السيد الرجل وتابعته محل متعته المرأة، ولا يجوز شرعا المساواة بينهما، وفيها السيد والعبد والسيد والأمة ولا يجوز شرعا المساواة بينهما، ولكل من أطراف هذه المعادلة حقوق غير الآخر وواجبات غير الآخر، بل أن السيد دوما كان هو صاحب الحقوق وغيره لا حقوق له. إن دولة الشريعة لا تساوي أبدا بين المواطنين ومن يقول بغير ذلك فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة... ها قد جاء الزمان وتقلبت بالإخوان انتهازيتهم لنقول لهم ما كانوا يقولونه لنا. بل أن المسلم العادي الحر في دولة الشريعة ليس له أيه حقوق إزاء السادة، هي دولة من له كل الحقوق وليس عليه أي واجبات، ومن عليه كل الواجبات وليس له أي حقوق، لأنها دولة جباية ريعية، وهذا هو طبعها التاريخي في كل دول العالم القديم.
* كانت دولة المدينة اتحادا فيدرالي للقبائل حرفتها جميعا الكر والفر ومهاجمة القوافل والدول الغنية المجاورة بالفتوحات. ولغياب آليات الدولة لإدارة هذه الرقعة الشاسعة تفككت الدولة وانتهت بمقتل جميع من حكمها. وكذلك من المعلوم أن نظام العبودية قد لازم الدولة العربية الاسلامية منذ ظهورها، فقوانين الجهاد الاسلامية نشطت عمليات الاستعباد، وأمدت أسواق الرقيق بالبضاعة طوال الوقت بتحويل أبناء الشعوب الحرة المفتوحة الي سلع بعد أن أباحت لهم قواعد الجهاد الشرعية استباحة شعوب بكاملها والاستيلاء علي الارض بمن عليها ملكا للعرب وورثتهم وقفا عليهم وعلي نسلهم من بعدهم حسبما انتهي اليه الخليفة عمر بن الخطاب بدلا من توزيع الاراضي بما عليها من بشر علي الفاتحين وتمزيقها فوقفها بمن عليها لصالح عرب الحجاز.
* * *
حاشية ثالثة: لفت أحد الأصدقاء انتباهى إلى مقال كتبه أسامة غريب فى "المصرى اليوم" بتاريخ 6/ 8/ 2009م بعنوان "الدكتور سيد القمنى والدكتور عصام شمورت"، فقرأته فلم أتمالك نفسى من عقد العزيمة على نشره هنا حتى يضحك القراء كما ضحكت فى هذه الأيام الغبراء التى أصبح الضحك فيها أندر من الكبريت الأحمر. وهذا هو المقال: "أثارت جائزة الدولة التقديرية التى منحتها وزارة الثقافة للأستاذ سيد القمنى لغطا كثيرا بين أوساط المثقفين وغيرهم فى المجتمع المصرى. فمن قائل إن القمنى هو إله التنوير عند المصريين الجالسين فى قهوة البستان وبين قائل إنه يستحق الرجم فى مِنًى والمزدلفة.
والحقيقة أن سيد القمنى هو حالة بذاتها تستحق التفكير والتأمل. والحقيقة أيضا أننى لست ذلك الشخص الذى يفكر فى سيد القمنى أو يتأمل فى سيرته، لكن هناك شخصا آخر هو الذى لا يكف عن تدوير أسطوانة القمنى كلما قابلته. ذلك الشخص هو طيب الذكر الدكتور عصام شمورت بياع البرشام وصاحب كشك السجاير المجاور لقهوة كوكو بالهضبة الوسطى.
ولعصام شمورت دقات جدعنة حفرت اسمه وسط مشجعى أبو صليبة (اسم صنف من المخدرات) بحروف من نور، منها أنه أول تاجر برشام (مخدر) يطهّر ماله ويزكيه بإذابة عشرين قرصا كل طلعة شمس فى الزير الذى يضعه سبيلا بجوار الكشك ويتركه للعابرين يروون ظمأهم منه، الأمر الذى جعل شعبيته ترتفع فى أوساط السواقين الذين كسروا الزير أكثر من مرة أثناء تدافعهم للشرب منه.
ولا يستغربن أحد من أن يسبق اسم شمورت اللومانجى لقب دكتور، ذلك أنه حاز اللقب عن استحقاق ومن حر ماله ولم يتكرم به أحد عليه. ولئن كان سيد القمنى قد حصل على الدكتوراه بمائتى دولار من جامعة كاليفورنيا الجنوبية، فإن الدكتور عصام شمورت قد حصل عليها من جامعة جنوب مقديشيو مقابل حلة محشى كاملة حصل عليها القراصنة الصوماليون الذين منحوه الدكتوراه!
والحكاية أن شمورت كان ذات يوم على مركب تهريب يتسلم شحنة مخدرات من المياه الدولية عندما اعترضهم زورق مسلح عليه جنود صوماليون قاموا بسحب المركب وأخذوهم رهائن. والثابت أن شمورت ورفاقه لم ينتظروا أن يتدخل الدكتور نظيف ويفاوض الخاطفين أو أن يتدخل أهل الخير ويجمعوا مبلغ الفدية بعد صلاة الجمعة، وإنما قاموا بافتداء أنفسهم بحمولة الكيف التى تخلَّوْا عنها كاملة للقراصنة مقابل حريتهم، وعند الرحيل ترك عصام لهم حلة المحشى التى طبختها له أخته عواطف شمورت وزودته بها قبل السفر.
وإزاء حركة الكرم هذه لم يجد زعيم القراصنة سوى أن يكافئه بمنحه الدكتوراه من جامعة جنوب مقديشيو التى يَشْرُف شخصيا بعمادتها. ومن يومها وعصام شمورت يعلق الشهادة فى الصالون. لكن الذى كهرب دماغ الدكتور شمورت وجعل نافوخه يشتعل هو أنه سمع أن صاحب دكتوراه مثل التى معه قد فاز بأرفع جائزة مصرية فى العلوم الاجتماعية، ومعها مائتا ألف ذهوب صاحى.
كذلك عرف أن الجهة التى رشحته للجائزة هى كوفى شوب فى وسط البلد يقدم أحلى سحلب بالبندق، وهو ما أثار أطماع شمورت فى أن تقوم قهوة كوكو بترشيحه فى العام القادم للحصول على جائزة مماثلة، خاصة وقد أخبروه بأن السادة الذين يمنحون أصواتهم للمرشحين أغلبهم موظفون إداريون، وبعضهم لم يقرأ كتابا فى حياته. وحتى المثقفين منهم لا يطلعون على الإنتاج العلمى للمرشح. والأهم أن أفقهم رحب للغاية، ولذلك لا يعنيهم إذا كان حاصلا على شهادة مضروبة من عدمه، ولا يَرَوْن فى شراء الشهادات المزورة ما يجرح نزاهة المرشح!
كل هذا كوم، والفرحة الأكبر التى عاشها شمورت عندما عرف أن الرجل قد فاز بالجائزة لأنه تطاول على دين المسلمين وتهكم على رسولهم، كذلك تطاول على دين المسيحيين ووصف السيدة العذراء البتول بأوصاف مشينة! كانت فرحة شمورت طبيعية لأن سب الدين كان جزءا أساسيا من مفرداته فى التعبير والإقناع وتبادل الحوار ووجهات النظر مع أخته السيدة عواطف شمورت وزوجها قدّورة.
هذا، وقد أعرب عصام عن ضيقه من السادة الذين هاجموا الرجل ويريدون سحب الجائزة منه، ولم يكتفوا بذلك وإنما حصلوا على فتوى من دار الإفتاء تدين الرجل وتستنكر حصوله على الجائزة. وأدرك، بفطرته الملوثة، أنهم بالضرورة من أنصار الظلام أعداء الإضاءة والكهارب والزينات، ولكن أعجبه موقف بعض المفكرين الأقباط الذين يحبون القمنى ويحتفون به وبآرائه العلمية عن وحشية الإسلام وبربرية أصحابه.
أعجبه موقفهم عندما ووجهوا بأن القمنى كتب عن السيدة العذراء مريم الطاهرة البتول أنها منذورة للعهر المقدس، وأسعده أنهم ترفعوا عن الغوغائية واتخذوا موقفا استناريا كلوباتيا يحفظ للدولة المدنية كيانها وقالوا: لا نستطيع التعليق على هذا الكلام لأننا لم نقرأه!
ورفض عصام شمورت الكلام الفارغ القائل إنهم كانوا سيغفرون ليوسف زيدان رواية "عزازيل" التى أغضبتهم لو أنه كتب إلى جانبها بضعة أشياء لطيفة عن تزوير الإسلام ووحشية نبى الإسلام كما فعل القمنى.
والآن هل هناك من يساند الدكتور عصام شمورت فى سعيه المشروع لنيل جائزة الدولة التقديرية للعام القادم؟ وهل إذا تخلت عنه قهوة كوكو نتيجة حزازيات قديمة ولم تقم بترشيحه، هل يستطيع الاعتماد على كيانات ثقافية أخرى فى وسط البلد مثل قهوة ريش والجريون والنادى اليونانى وأستوريل وأفتر إيت؟".