رجاء النقاش يترافع عن أولاد حارتنا
فى خريف 1989م كنت فى مقابلة شخصية فى المكتب الثقافى السعودى بالقاهرة بخصوص العمل فى جامعة أم القرى- فرع الطائف قبل أن تستقل الطائف بجامعة خاصة بها، ودار، كما هى العادة فى مثل تلك اللقاءات، حوار بينى وبين الدكتور السعودى الذى كان يرأس لجنة التعاقدات، وكان مما سألنى عنه: ما رأيك فى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟ فأجبته بأنى سأقول له ما أقوله لطلابى فى الجامعة، وهو أن محفوظا منا وعلينا نحن العرب والمسلمين لا مراء فى هذا، وفوزه فخر لنا أيا كانت الدوافع التى أدت بلجنة نوبل إلى إعطائه الجائزة. وهو يستحقها بكل يقين، بل هو أفضل إلى حد بعيد من بعض من فازوا بها قبله. وكان من الواضح أن هذا الجواب قد أعجب الأستاذ السعودى، وإن شعرتُ بنفس الوضوح أنه لم يكن يتوقع ردا على هذه الشاكلة. ولعلى أشرت يومها أيضا إلى ما كتبته فى كتابى: "فصول من النقد القصصى"، الذى كنت أصدرت الطبعة الثانية منه قبل ذلك بثلاثة أعوام، من أن "ثلاثية" نجيب محفوظ وأمثالها من أعماله التى أبدعها قبل أن يتحول إلى القَصَص الجاف كــ"رحلة ابن فطومة" مثلا هى "قمم يصعب بلوغها فى ميدان القَصَص: قوميّه وعالميّه على السواء". وهذا الذى قلته يومها هو نفسه ما أومن به الآن بنفس القوة، بل إن إيمانى به فى الواقع قد صار أقوى وأرسخ.
تذكرت هذا وأنا أقرأ منذ أيامٍ آخر كتاب صدر لرجاء النقاش، وعنوانه: "أولاد حارتنا بين الفن والدين"، وهو من منشورات "كتاب الهلال" (العدد 686/ فبراير 2008م). وفى هذا الكتاب يحاول الأستاذ النقاش بكل ما أُوتِىَ من قوة أن يقنعنا بأمرين أساسيين: الأول أن رواية "أولاد حارتنا" لعملاق الرواية العربية نحيب محفوظ لا علاقة لها لا بالله ولا بالأنبياء ولا بالدين. والثانى أنه لا يقول بهذا التفسير إلا علماء الدين، الذين لا يستطيعون بطبيعتهم قراءة الروايات على النحو الصحيح، لأنهم يقرؤونها قراءة دينية، على حين أن القراءة الصحيحة هى قراءتها قراءة فنية، وهذا أمرٌ هم غير مؤهلين له، ومن ثم فكلامهم عن الرواية كلام خاطئ.
وأنا ممن يستمتعون بما يخطه قلم الأستاذ النقاش حتى ما أخالفه فيه أشد المخالفة كما فى هذا الكتاب الذى نحن بصدده حسبما سيرى القارئ فيما يلى من صفحات، وكما فى كتابه عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، الذى تطاول فى "وليمته" على الله وعلى الرسول والإسلام والمسلمين أبشع ما يكون التطاول، وحرّض الفتاة المسلمة على مواقعة الفحشاء وزينها لها وأغراها بها بكل سبيل وأقام فى روايته لهذا الغرض علاقة دنسة بين مدرس عراقى شيوعى سافل وبنت جزائرية كانت تدعوه إلى بيت أسرتها حينما يبيت أفرادها عند بعض الأقارب فتعتذر البائسة المغيَّبة العقل والشرف عن مصاحبتهم كى يخلو لها ولهاتك عرضها الجو لقضاء الليل فى ممارسة للزنا يجند لها الكاتب الشيوعى كل أدواته لتقديمها للقارئ فى ثوب أرجوانى فاتن رغم كل العفن والرائحة الكريهة التى يشمها كل ذى ضميرٍ حىٍّ من على بُعْد سبعمائة خريف لا سبعين فقط، فينبرى الأستاذ النقاش فى كتابه المذكور لتحلية هذا الخراء والزعم بأن الرواية إنما تصور علاقة عاطفية فى منتهى السمو والشاعرية، أو كما قال. ونفس الموقف قد وقفه النقاش من رواية السافلة تسليمة نسرين، التى هاجمت الإسلام والمسلمين والقرآن لصالح الهندوس الوثنيين، فى الوقت الذى صورت هؤلاء ملائكة مخبتين فى مواجهة الشياطين الملاعين الـمُسَمَّيْنَ بــ"المسلمين" أكلة لحوم البشر ومغتصبى الهندوسيات وهادمى المعابد التى التى يمارس الهندوس فيها شعائرهم فى سلام ومحبة، إذ ادعى الأستاذ رجاء النقاش أن نسرين إنما تدافع فى روايتها هذه عن الإسلام وتجلو قيمه الرفيعة أحسن ما يكون الدفاع والجلاء، وهو ما يقرؤه القارئ فى مقدمته لترجمة تلك الرواية، التى قام بها عصام زكريا. بل زاد فأثنى على الترجمة ثناء عجيبا رغم ما أثبتّه بالصوت والصورة من أنها ترجمة مملوءة بالأخطاء. وتعبير "بالصوت والصورة" هو، لمن لا يعرف، من ابتداع أحد وزراء الداخلية المصريين حين كان يريد التدليل على أنه قد قبض على المتهم متلبسا بجريمته بحيث لا يمكنه التنصل مما يتهمه به، وإن كان الفرق بينى وبينه أن كلامى ليس من النوع الفشنك، بل هو كلام مدعوم بالشواهد والنصوص والتحليلات التى لا يخرّ منها الماء ولو قطرة واحدة.
نعم أنا ممن يستمتعون بكتابات النقاش كثيرا لسلاسته وهدوئه، وكذلك لذوقه النقدى السليم فى كثير من الأحيان، اللهم إلا أن يكون ذا غرض كما فى الحالات الثلاث السابقة. ولعل أول اهتمامى به كان يوم أن صدر له فى سلسلة "كتاب الهلال" أيضا فى أواسط الستينات من القرن المنصرم كتابه عن محمود درويش. ومما قرأته له وأعجبنى أيضا كتابه: "ثلاثون عاما مع الشعراء" وكتابه الآخر عن لويس عوض وزمرته الخارجة عن العروبة، والكارهة لكل ما يتصل بالعروبة. وإذا كان التكرار يعلم الشطار فليسمح لى القراء أن أسوق هنا ما كتبته فى مناسبة غير بعيدة عن رجاء النقاش، فى سياق ردى على كتاب لويس عوض الضحل التافه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية": "وكنت، حين بدأت أقرأ الكتاب (كتاب لويس عوض)، قد استخرجت من مكتبتى الخاصة كتاب الأستاذ رجاء النقاش: "الانعزاليون فى مصر"، الذى رد فيه على لويس عوض عندما كتب مقالاته فى السبعينات من القرن الفائت يهاجم العروبة وينكر أن تكون مصر عربية رغم لغتها العربية وأدبها العربى وتاريخها العربى وفكرها العربى ودينها العالمى الذى حمله إليها صحابة الرسول العربى محمد صلى الله عليه وسلم (والبند الأخير هو مربط الفرس فى "ذلك كله"، وما "ذلك كله" إلا توطئة له وذر للرماد فى العيون كيلا ترى العيون هذا البند الأخير)، فألفيت الأستاذ النقاش قد أحسن الرد على لويس عوض إلى حد كبير. إلا أنّ... نعم إلا أنّ...! وهاكم توضيحا للأمر: فلرجاء النقاش فى بعض الأحيان مواقف فكرية نبيلة وجريئة يأخذ فيها جانب الحق والعدل فيدفع الشرفاء إلى الإعجاب به وبما يكتب، لكنه فى بعض الأحيان الأخرى للأسف يتخذ من المواقف ما لا ينسجم أو يتسق مع حق أو عدل.
ومن المواقف الأخيرة ما كتبه قبل عدة سنوات دفاعا عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" محاولا أن يجعل من فسيخ تلك الرواية شربات، ومن خرائها عطرا فوّاحًا تَلَذّه الأنوف وتنتشى منه النفوس، إذ ادعى أن الرواية المنتنة التى يدعو صاحبها الفتاة العربية المسلمة، بكل ما يملكه من خبثٍ إبليسى وشرٍّ شيوعىٍّ مَرِيدٍ، إلى التمرد على تقاليد العفة ومكارم الأخلاق الإسلامية والرمى بنفسها وجسدها فى مستنقع الرذيلة والخنا، ويجعلها تمارس الزنا مع شيوعى كافر سافل أنانى ساقط يستغل براءتها وغرارتها وغياب أسرتها عن البيت ويظل طول الليل يجامعها فى منزل أسرتها الخالى، ادعى أن هذه الرواية تدور حول قصة حب رقيقة مرفرفة! الله أكبر! ولا أدرى كيف استطاع أن يجد فى نفسه تلك الجرأة التى تقلب الباطل حقا، والحق باطلا دون أية مبالاة بالقراء الذين اطلعوا على الرواية وأدركوا حقيقة العفن بل القىء الخلقى والفنى الذى يلوث كل صفحاتها، وكذلك دون أى اعتبار لقيم الإسلام الكريمة التى ينافح عنها فى بعض الأحايين ويقف حائلا دون ما يريد أهل القلوب المريضة أن يلطخوا به وجهها. ألا إن هذا لأمر غريب! ومثل ذلك مدحه بل تمجيده لرواية "العار" لتسليمة نسرين البنت البنجالية المفعوصة التى هاجمت الإسلام والمسلمين فى روايتها وزعمت بشأنهما الأكاذيب الحاقدة ولم تدع شيئا يلطخهما إلا انتهجته ببجاحة وكذب ما بعدهما بجاحة أو كذب، وانحازت تماما إلى الهندوس المتعصبين وصوّرتهم ملائكة أطهارا ينكِّل بهم ويغتصب فتياتهم المسلمون المتوحشون، فجاء رجاء النقاش وأطرى الرواية وصاحبتها أيما إطراء زاعما أنها إنما تدافع عن قيم الإسلام الحقيقية!".
وعودةً إلى ما قاله النقاش عن "أولاد حارتنا" وتخطئته لأصحاب "القراءة الدينية" للرواية كما يسميها نقول إن معنى كلامه فى هذا الصدد هو أن الدين والفن عالمان منفصلان لا يلتقيان، وإن أنت حاولت أيها المسلم أن تحكّم إسلامك فى أى عمل أدبى فأنت جاهل لا تفقه شيئا. لم يقل النقاش هذا باللفظ، لكنه هو النتيجة المنطقية لكلامه ولفصله الدين عن الفن والأدب وإلحاحه على أن الدين لا ينبغى أن يكون له مدخل أى مدخل فى عملية التفسير والتقويم لأى نص أدبى، وكأن الدين عالم ضيق منغلق على نفسه. وهذا إن جاز فى أديان أخرى فإنه لا يجوز البتة فى الإسلام، إذ الإسلام هو قانون المسلمين الذى ينظم كل شأن من شؤون حياتهم، ومنها الأدب والفن، لأن الأدب والفن نشاطان من الأنشطة البشرية يلزمهما أن يكون لهما قواعد وقوانين اجتماعية وأخلاقية، اللهم إلا إذا كان على رأسهما ريشة تعفيهما من ذلك، وهو ما لا وجود له، وعلى من يكذّبنى أن يرينى هذه الريشة، ويشرح لى من أين أتت، ولأى شىء رُكِّبَتْ على رأسهما. نعم، الإسلام هو القانون الذى ينظم للمسلمين حياتهم فى كل مناحيها، بالضبط مثلما أن لكل شعب قوانينه التى يجب على كل فرد من أفراده طاعتها، وإلا عرض نفسه لطائلة الحساب. وعلى ذلك فلا يُعْقَل أن يَنْهَى الإسلام عن الزنا واللواط مثلا، ثم يأتى كاتب يزيّن فى رواية من رواياته الزنا واللواط، فإذا تعرض له ناقد قائلا إن هذا لا يصح، قيل له: هذه قراءة دينية لا أدبية، ومن ثم لا تصلح ولا قيمة لها، وخير لك أن تبحث لك عن قط تغمِّضه أو أى شىء آخر تتلهى به بعيدا عن ميدان النقد. وكأن الإسلام قد جاء ليحنَّط فى العُلَب أو ليوضع فى الخزائن بعيدا عن الأيدى والعيون. شىء للبركة مثلا! ويا ليته كسائر الأشياء التى يُتَبَرَّك بها فيوضع تحت الأنظار كى تستطيع العيون النظر إليه، وقريبا من الأيدى حتى تستطيع الأصابع لمسه، فيحصل لأصحابها البركة عن طريق النظر واللمس، بل هو شىء لا يصح لمسه ولا النظر له. كيف؟ هذا ما لا أدريه، ولا أدرى كيف يدريه سَدَنة النقد الجُدُد الذين يريدون تحويل عملية النقد إلى كهانة ككهانة الوثنيين، فى الوقت الذى لا يتورعون هم فيه عن الفتوى فى الدين بكل جرأة وبجاحة رغم ما تتطلبه فتاوى الدين من تبحر فى العلم وحساسية فى التناول ينقصان أولئك السدنة تمام النقصان. إلا أن هؤلاء السدنة الجدد لا يبالون بشىء من هذا، مع جرأتهم فى ذات الوقت على نهى كل من لا يرافئهم على آرائهم عن مقاربة القراءة لأى عمل أدبى بحجة أن شرح الأعمال الأدبية وتقويمها أمر دونه خرط القتاد، بل دونه القنابل والمدافع وبَقْر البطون وسَمْل العيون وتطيير الرقاب وتدمير البيوت والتغييب فى بطون السجون والتعليق على أعواد المشانق!
ونحن نقول للأستاذ النقاش، وإن كان انتقل إلى ذمة الله، إلا أنه حاضر معنا بكتاباته وآرائه ومواقفه، وبخاصة فى كتابه هذا الذى يدور عليه حديثنا الآن: إنك قد استفتيت بشأن "أولاد حارتنا" الدكتور محمد سليم العوا والدكتور أحمد كمال أبو المجد وطرت بما قالاه حتى لامست النجوم التى نراها فوق رؤوسنا، بل حتى تجاوزتها إلى نجوم المجرّة التى فوقها مما لا نراه الآن، وقد نراه فى مقبل الأيام إن كتب الله لنا عمرا طويلا ندرك به عصر المناظير الفلكية العملاقة التى سوف يتم اختراعها فى تلك الأثناء لترينا نجوم المجرات الأخرى، مع أنهما ليسا ناقدين بالمعنى الذى تريد، فكيف كان منك ذلك؟ إنهما أقرب إلى أن يكونا عَالِمَىْ دينٍ، وليسا ناقدين أدبيين. فلماذا قَبِلْتَ منهما ما قالاه عن الرواية المحفوظية وأثنيت عليه وطنطنت به، ورفضت أن يكون لأمثالهما ممن ليسوا بنقاد، أى ممن لم يدرسوا النقد مثلى ومثلك فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب أو أى قسم آخر يناظره، رأى يَرَوْنَه فى تلك الرواية؟ وهل كل النقاد الذين يملأون الساحة النقدية هذه الأيام وقبل هذه الأيام بزمن طويل هم من المتخصصين فى النقد الأدبى؟ بطبيعة الحال لا، فلم إذن تخص من تسميهم: "علماء دين" ممن لا يَحْسُن رأيهم فى رواية نجيب محفوظ بالحرمان، وكأننا فى محكمة من محاكم التفتيش؟ ألا يكفى أن يكون لدى الشخص اطلاع جيد على الأعمال الأدبية ومعرفة بالطريقة التى ينبغى التعامل معها من خلالها؟ وهل يفعل الدارسون فى أقسام اللغة العربية والأدب العربى شيئا آخر غير هذا؟ صحيح أن الدراسة المنظمة قمينة أن تكون أفضل، إلا أن ثم كثيرا من النقاد استطاعوا تكوين شخصياتهم النقدية بالقراءة الحرة والعكوف على الكتب والدراسات التى من شأنها إعانتهم على أداء هذه المهمة. وهل كان سليمان البستانى مثلا أو إبراهيم اليازجى أو جبران خليل جبران أو أمين الريحانى أو روحى الخالدى أو شكيب أرسلان أو الرافعى أو العقاد أو الزيات أو محمد لطفى جمعة أو محمد عبد الغنى حسن أو مصطفى عبد اللطيف السحرتى أو جورج طرابيشى أو لطفى الخولى أو محمد دكروب أو محمود أمين العالم أو حتى نجيب محفوظ ذاته من خريجى أقسام اللغة العربية الذين درسوا النقد الأدبى دراسة منظمة، ودعنا من الفُسُول من أصحاب الدبلومات الضِّحَال الثقافة والذوق الذين لا يستطيع الواحد منهم أن يكتب أو يقرأ جملة واحدة سليمة، فضلا عن أن يفهم النص الذى أمامه فهما صحيحا، وهم الذين يتصدرون مجالس الأدب والنقد هذه الأيام ويمدد الواحد منهم رجليه فى وجوهنا وكأنه جالس على المصطبة الملاصقة لبيتهم فى القرية ثم يفتى فى كل شىء وفى أى شىء، وهو يجهل كل شىء جهلا فاحشا يبعث على القىء، بل هو أجهل من الجهل ذاته إن كان هناك جهل يتجاوز ما نعرفه من جهل، وكل بضاعته كَمْ مصطلحًا من مصطلحات الخردة النقدية الغربية يرددها دون وعى ودون ذوق ودون عقل متصورا أنه قد جاء بالذئب من ذيله؟ الجواب هو "كلا" بالثلث. فلماذا لا تنكر على أى من هؤلاء قيامهم بمهمة الناقد الأدبى وحديثهم عن رواية محفوظ التى نحن بسبيلها؟ أقول لك السبب؟ إنه رفضك أن يكون هناك رأى فى رواية "أولاد حارتنا" يخالف ما ترتئيه. هذا هو السر، ولا سر سواه!
ثم هل هناك، يا أستاذ نقاش، قراءة دينية فى مقابل القراءة الأدبية؟ الذى يعرفه العارفون هو أن هناك عددا من المناهج النقدية المختلفة كالمنهج اللغوى والبلاغى، والمنهج الأسلوبى، والمنهج البنيوى، والمنهج الأسطورى، والمنهج النفسى، والمنهج الاجتماعى... وبعض هذه المناهج يركز على الجوانب الفنية، وبعضها يركز على المضمون. ولعل أقرب منهج يناسب روح الإسلام هو المنهج المتكامل، وهو المنهج الذى يعمل بكل وسعه على الاستفادة من جميع تلك المذاهب. ذلك أن الدين ليس مقصورا على الحلال والحرام وحَسْب، بل يشمل الذوق والفهم وقواعد اللياقة، وكذلك ما ينفع وما يضر، وما يؤدى بالمجتمع إلى الأمام وما يعرقله ويأخذه إلى الوراء، وما ينجز عملية التحضر أو يبذر العقبات فى سبيل الناس ويجلب التخلف على أم رؤوسهم، هادفا فى كل ذلك إلى تحقيق سعادة الفرد والجماعة فى ضوء ما يمكن إحرازه فى دنيانا هذه من السعادة. وفى القرآن دعوة ملحة إلى تملِّى جمال الكون فى الجماد والنبات والحيوان والإنسان، والسماء والأرض والبحر. وكان رسول الله يتذوق الأدب تذوقا راقيا، ويقول إن من البيان لسحرا وإن البراعة فى القول لقد تقلب الحق باطلا، والباطل حقا. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم ينهَى المسلمين عن التهاجى والتفاخر بالأحساب والأموال وينبه أتباعه إلى أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن حصائد ألسنة الناس يمكن أن تكبّهم فى النار على وجوههم. وكان يجمع حوله الشعراء والخطباء ويقربهم ويكرمهم ويقدر إبداعهم ويشجعهم، ويستمع إلى الشعر والخـُطَب ويُسَرّ بالجيد من ذلك ويدعو لصاحبه، وإذا وجد ما يُحْوِج إلى سؤال الشاعر مثلا عن مقصده سأله عن ذلك وأنصت جيدا لما يجيب به. وكان واسع الصدر يقدّر دور الكلمة فى الحياة، ويعرف لها ما تحدثه من أثر فى المجتمع. ذلك أن الأدب نشاط من الأنشطة الإنسانية التى لا يمكن أن تستغنى عنها حياة الناس، ولا يمكن من ثم أن يهمله دين محمد، الذى شرعه الله لتنظيم أنشطة البشر وتوجيهها بما يعود على أصحابها بأعظم درجة من النفع ويقيهم مختلف ألوان الأذى والمتاعب التى تنغص عليهم حياتهم. ولا ننس أن معجزته عليه الصلاة والسلام هى معجزة قولية، إذ القرآن هو برهانه الذى لا برهان فوقه بما فيه من بلاغة ليس لها نظير، وبما فيه من تشريعات ونبوءات وقيم ومبادئ سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية تفوق أية تشريعات ومبادئ بشرية قاصرة، فهو الكتاب الأول لدى العرب والمسلمين. وكان صلى الله عليه وسلم فوق ذلك خطيبا مفوَّها فى أعلى درجات الفصاحة، وكان هذا سببا من أسباب نجاح دعوته هذا النجاح المذهل واقتحامها القلوب واستيلائها على النفوس والعقول والضمائر. ولسوف تظل ماضية فى طريقها تستولى على النفوس والعقول والضمائر فى كل مكان فى العالم وتحوز حصونها ومعاقلها إلى يوم الدين!
لا يوجد إذن ما سماه الأستاذ النقاش: "قراءة دينية"، بل هناك نقد أدبى، وهذا النقد الأدبى صور وألوان واهتمامات مختلفة كما قلنا، وإن كان المنهج المتكامل، أو إن شئت فقل: المنهج التكاملى، هو أشمل تلك المناهج جميعا رغم معرفتنا أنه من الصعب على الناقد تناول العمل الأدبى من كل جوانبه فى دراسة واحدة، إذ كل ناقد، أو كل بحث نقدى، إنما يركز اهتمامه فى المرة الواحدة على بعض الجوانب دون بعض. وليس من حق أحد أن يقول لغيره إنه لا يجوز لك أن تقرأ العمل الأدبى القراءة الفلانية، وإنما يمكن أن يناقشه فيما قال وأن يبين له الأسباب التى تدعوه إلى مخالفته، ويحاول أن يكسبه إلى صفه إن استطاع.
والحق أن تفسير "أولاد حارتنا" الذى تقدمه لنا القراءة التى خطّأها رجاء النقاش ووَسَمَها على سبيل التقليل من شأنها بــ"القراءة الدينية" هو لا غيره التفسير الصحيح لرواية "أولاد حارتنا"، وليس فيه أدنى افتئات عليها أو على صاحبها. لماذا؟ لأن هذا التفسير هو التفسير الذى وصفه نجيب محفوظ بأنه أصح تفسير للرواية، وأثنى عليه وعلى صاحبه. لكنه بطبيعة الحال لم يثن على الشيخ الغزالى والشيخ الشرباصى، اللذين فسراها نفس التفسير قبل أن يفسرها ذلك المفسر الذى مدحه محفوظ ونشر هو بدوره مديح محفوظ على الغلاف الخلفى للكتاب الذى سجل فيه ذلك التفسير، فعلم القراء جميعا بتلك الموافقة وذلك المديح، وأضحى إنكار ما كتبه محفوظ من المستحيلات. وذلك المفسر هو الناقد السورى المعروف جورج طرابيشى، وهو كاتب شيوعى نصرانى. أى أنه ليس عالم دين، بل ليس مسلما أصلا، وفوق ذلك فقد وافقه صاحب الرواية على رؤيته لها ومجَّد هذه الرؤية وعدّها أصدق تفسير لتلك الرواية وغيرها من الروايات التى تعرّض لها طرابيشى فى كتابه: "الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية"، إذ كان محفوظ قد أرسل له رسالة على إثر كتابته ما كتب جاء فيها: "بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عنى بأن تفسيرك للأعمال التى عرضتَها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها".
لقد أكد طرابيشى في ذلك الكتاب أن نجيب محفوظ قد رمز إلى الله بالجبلاوى، مشتقا ذلك الاسم من الفعل: "جَبَلَ" أي خَلَقَ، ورمز إلى "إبليس" بــ"إدريس"، وإلى آدم بــ"أدهم"، وإلى "حواء" بــ"أميمة"، وهو تصغير "أُمّ" إشارةً إلى أنها أم البشر، وإلى الجنة بــ"حديقة بيت الجبلاوى"، وأطلق على موسى اسم "جبل" لأن الله كلَّمه عند جبل الطور، وسمى عيسى "رفاعة" لأن الله رفعه إليه، ودعا محمدا بــ"قاسم" لأنه كان يُكْنَّى: "أبا القاسم". وهذا التحليل موجود فى الفصل الأول من كتاب الطرابيشى المشار إليه آنفا، فلا سبيل إلى المماراة فيه. فكيف يكون هذا التفسير مقبولا بل ممدوحا ومشكورا من طرابيشى، وفى ذات الوقت مرفوضا ومخطّأً ومحقورا من غيره، وفوق ذلك موسوما على سبيل التقليل والتحقير بــ"القراءة الدينية"، ومسخورا منه ومن أصحابه لا لشىء إلا لأنهم من رجال الأزهر، مع أنهم يكتبون بأسلوب أدبى أفضل كثيرا من أسلوب طرابيشى والنقّاش ذاته؟
ولعبد المنعم صبحى، وهو من الذين يحبون محفوظا ويثنون عليه وعلى إبداعه ثناء كبيرا، مقال عن "أولاد حارتنا" نشره فى مجلة "الفكر المعاصر" (عدد مايو 1967م) جاء فيه أن من السهل جدا حل الرموز التى تقوم عليها تلك الرواية: فإدريس هو إبليس، وأدهم هو آدم، وأميمة هى حواء، وقدرى هو قابيل، وهمام هو هابيل، وعرفة نبى العصر الحديث هو العلم، وأن محفوظا يؤكد أن ما يقدمه ليس رواية واقعية، بل رمزا لأحداث تناولها الدين من قبل، وأنه يروى قصة الإنسان بدءًا من طرده خارج الجنة، مرورًا بثورات الأنبياء ومحاولاتهم صنع الخير للإنسان، وانتهاءً بمجىء العلم فى النهاية.
وفى مقدمة ترجمته لرواية "حضرة المحترم" المحفوظية التى نشرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى 1987م يذكر د. رشيد العنانى بمنتهى الصراحة أن "أولاد حارتنا" هى "قصة رمزية متفردة فى تاريخ البشرية منذ الخلق أو التكوين وحتى عصرنا الحاضر، وفيها تُنْزَع عن أصحاب اليهودية والمسيحية والإسلام قداستهم ويتم تمثيلهم تحت ستار رقيق باعتبارهم لا يزيدون عن كونهم مصلحين اجتماعيين ناضلوا بأقصى جهدهم لتحرير شعوبهم من الطغيان والاستغلال. وثمة شخصية أخرى فى القصة الرمزية تمثل العلم الذى يتم إظهاره على أنه حَلَّ محلّ الدين، وعلى يديه تحقق فى النهاية موت الله" (عن "الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ" للدكتور محمد يحيى ومعتز شكرى/ أمة برِسْ للإعلام والنشر/ القاهرة/ 1989م/ 18- 19). وفى هذا السياق يحسن أن نشير إلى ما ذكره عبد الله المهنا من أن موت الإله هى فكرة فلسفية غربية كتب عنها نجيب محفوظ في بداية حياته مقالات عدة مستقاة من أفكار سلامة موسى (عبد الله المهنا/ دراسة المضمون الروائى فى "أولاد حارتنا"/ عالم الكتب/ الرياض /62). أما د. السيد أحمد فرج فقد أشار، فى هذا الصدد،إلى ما كتبه محفوظ فى ذلك الوقت من مقالات كثيرة عن المعتقد والجنس والعلم وفلسفة برجسون والبرجماتية العلمية والمجتمع والرقى البشرى والحياة الحيوانية والسيكلوجية ونظريات العقل وفكرة الله فى الفلسفة (د. السيد أحمد فرج/ أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب/ دار الوفا/ المنصورة/ 1410هـ- 1990م/ 40).
وعلى نفس الشاكلة من التفسير لرواية "أولاد حارتنا" يقول فؤاد قنديل، وهو أيضا من المحبين لمحفوظ المثنين عليه أعظم الثناء، فى كُتَيِّبٍ له عنوانه: "نجيب محفوظ كاتب العربية الأول" (الثقافة الجماهيرية/ 1988م/ 28): "ألحت المشكلات الإنسانية والفكرية عليه وحاصره الحنين إلى الرواية فكتب "أولاد حارتنا"، التى نشرت فى "الأهرام" عام 1959، واحتج عليها رجال الدين، ولم تصدر فى كتاب إلا فى عام 1967 عن "دار الآداب" ببيروت. وهى تتناول ببراعة، وربما لأول مرة، علاقة الخالق بالإنسان وحيرة الإنسان بين قدره ورغبته فى البحث عن طريق تسطع عليه أنوار الدين والعلم والاشتراكية".
كذلك تعرض ستورى ألن سكرتير الأكاديمية السويدية التى منحت نجيب محفوظ جائزة نوبل لتفسير رواية "أولاد حارتنا"، ومبلغ علمى أن هذا الرجل السويدى ليس من خريجى الأزهر ولا يضع عمامة على رأسه ولا يجهل قراءة الروايات، بل قرأ منها الكثير والكثير. أليس خواجة؟ ثم إنه ليس فى لقبه "غزالى" ولا "شرباصى" ولا "سابق" ولا دياولو. فلنقرأ معا إذن الكلمات التالية التى قالها فى حفل توزيع جوائز نوبل: "وللقراء الكثيرين الذين اكتسبهم نجيب محفوظ من خلال الثلاثية بخلفيتها الواسعة التى تصور الحياة المعاصرة جاءت "أولاد حارتنا" كالمفاجأة، فهى تمثل التاريخ الروحى للبشرية. وقد قُسِّمَتْ إلى فصول بعدد سور القرآن الكريم، أي 114 فصلا. وشخصيات الإسلام واليهودية والمسيحية العظيمة تجىء متخفية لتواجه مواقف مملوءة بالتوتر. فرجل العلم الحديث يمزج بنفس الجدارة بين إكسير الحب وبعض المواد المتفجرة، وهو يتحمل مسؤولية موت "الجبلاوى" أو الإله، ولكنه يفنى. فهناك بريق أمل فى نهاية الرواية".
كذلك لا ينبغى فى هذا السياق أن ننسى الدراسة القيمة التى كتبها الدكتور إبراهيم محمد قاسم حول الرواية، وهو أستاذ للأدب والنقدبكلية اللغة العربية- جامعة الأزهر، وعضو عدد من الجمعيات العلمية والأدبية، وصاحب إنتاج متنوع فى ميدان الأدب والنقد، ومشرف على عدد غير قليل من الرسائل الجامعية... إلخ. وهى دراسة علمية مفصلة تتناول تاريخ إبداع الرواية وتتحدث عن ظروف نشرها وتحلل مضامينها وتذكر ما قاله نجيب محفوظ وغيره فى الدفاع عنها وتناقشة مناقشة تفصيلية لا تترك شيئا فيه دون تقليب له على وجوهه المختلفة، مع إيراد الشواهد على كل رأى من هذه الآراء، كل ذلك فى منهجيةٍ نقديةٍ صارمةٍ وحرصٍ على الإحالة لكل ما رجع إليه من مصادر ومراجع لها صلة بالقضية والتزامٍ بالهدوء والموضوعية. وهو يرى ما يراه كل من قرأ الرواية بعيدا عن الاعتبارات الوقتية المحلية من أنها تعالج مسيرة البشرية منذ بداية الحلق حتى عصرنا الحديث، وترمز بالجبلاوى إلى الله، وبأدهم إلى آدم، وبإدريس إلى إبليس، وبجبل إلى موسى، وبرفاعة إلى عيسى، وبقاسم إلى محمد، وبعرفة إلى العلم، الذى افتتن به الناس فى العصر الحديث وأحلّوه فى ضمائرهم وحياتهم محل الله سبحانه وتعالى، وهو ما عبرت عنه الرواية بموت الجبلاوى. وهذه الدراسة النقدية متاحة فى مواقع مشباكية مختلفة، وعلى رأيها موقع الكاتب نفسه: "www.bab.com"، وعنوانها: "قراءة نقدية لرواية أولاد حارتنا".
وأخيرا وليس آخرا نسوق إلى القارئ الكريم ما كتبته الموسوعة المشباكية الحرة: "ويكيبيديا: عن الرواية ضمن مقال خصصته لها، وهو أن "الرواية واقعية رمزية تدور في أحد أحياء القاهرة كما هي معظم روايات نجيب محفوظ كــ"الحرافيش" و"زقاق المدق" وغيرها، وتبدأ بحكاية عزبة الجبلاوي الخاصة التي يملأها أولاده. تندلع حبكة السرد منذ ولادة أدهم ابن السمراء وتفضيل الجبلاوي له على بقية أبنائه وتمرد ابنه إدريس، الأمر الذي أدى إلى طرده من عزبة الجبلاوي لتبدأ رحلة معاناته. ينجح إدريس في التسبب بطرد أدهم من العزبة، و تمضي رحلة الإنسان و الشيطان في الخلق كما روتها الكتب السماوية، فيقتل ابنُ أدهم ابنَه الآخر، ويتيه أبناؤه في الحارة فتنشأ فيها أحياء ثلاثة، ويظهر منها أبطال ثلاثة يرمزون إلى أنبياء الديانات التوحيدية الثلاث. كما يظهر في عصور الحارة المحدثة شخص رابع هو العلم، الذي سيقضي على الجبلاوي... فيما يلي قائمة بأسماء أهم شخصيات و أحداث الرواية وتفاسيرها القياسية بالاعتماد على التفسيرين الديني والنقدي لها:
بالنسبة للاشخاص ورمزهم:
الجبلاوي: الله الخالق عز و جل، وذلك بسبب صفات الجبلاوي الأزلية، وأخذا من الجَبْل (بتسكين الباء) أي الخَلْق.
البيت الكبير: السماء أو العرش
الحارة: العالم أو الكون
قنديل: جبريل: التشابه الواضح بين لفظ الاسمين. ينقل كلام الجبلاوي إلى بعض الناس، خصوصا ظهوره لقاسم ونقله تعليمات الجبلاوي.
أدهم: آدم، التشابه الواضح بين لفظ الاسمين، وكون أدهم الابن الصغير المفضل للجبلاوي. ولادته من أم سمراء (التراب)، وواقعة طرده من البيت/ الجنة.
إدريس: إبليس: التشابه بين الاسمين، وفكرة تكبره وكراهيته لأدهم، وخروجه من زمرة الأبناء المفضلين بتمرده على أبيه.
جبل: النبي موسى: مأخوذ من حديث القرآن عن حديث الله لموسى على جبل الطور، ومن تجلي الله للجبل.
رفاعة: المسيح: ومن ذلك أن القرآن يذكر أنه لم يمت ولم يُصلب، وإنما رُفِع إلى السماء/ أخذه الجبلاوي إلى بيته.
قاسم: محمد: وذلك من كنية الرسول (أبي القاسم). ومنه أنه جاء في حي كان يُدْعَى: "حي الجرابيع"، فأعلى شأن قومه، وكان له أصحاب، وتزوج نساء كثيرات.
صادق: أبو بكر الصديق: وذلك من اسمه وصحبته لقاسم وخلافته له.
عرفه: عرفة: من المعرفة أو العلم، وهو العلم في الرواية، فليس جبليا أو رفاعيا أو قاسميا/ ليس يهوديا أو مسيحيا أو مسلما، وينسبه كل فريق إليهم. وهو قاتل الجبلاوي.
أما بالنسبة للحدث وما يرمز له:
ولادة أدهم من أم سمراء: خلق آدم من الطين.
تمرد إدريس: تمرد إبليس على الله ورفضه السجود.
اطّلاع أدهم على الحجرة حيث الوصية: الأكل من الشجرة المحرمة.
قتل قدري لأخيه: قصة قابيل وهابيل.
حديث جبل والجبلاوي: حديث الله وموسى.
موت رفاعة والاختلاف فيه: واقعة تعذيب المسيح والاختلاف بين المسيحية والإسلام حول صلبه من عدمه.
تحول رفاق رفاعة إلى حكام: بناء القديس بطرس للكنيسة.
تزوج قاسم من امرأة غنية أكبر منه بعشرين سنة: تزوج الرسول من السيدة خديجة بنت خويلد.
خروج قاسم من الحي: الهجرة من مكة إلى المدينة .
المعركة الأولى بالنبابيت: غزوة بدر.
وراثة صادق لقاسم: خلافة أبي بكر للرسول محمد.
جهل نسب عرفة: العلم لا جنسية له ولا دين.
موت الجبلاوي: قلة التدين وضعف الدين في صدور الناس.
تَسَمِّي كل حي من أحياء الحارة باسم الأبرز فيه: الاختلاف بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
عزبة الجبلاوي: الجنة.
الحارة: الأرض
هيه؟ ترى هل ما زالت فى الجعبة ألاعيب أخرى يمكن أن تفاجئنا بعد هذا كله؟
وبالنسبة إلى العلماء الذين كتبوا تقريرا عن رواية "أولاد حارتنا" عند نشرها مسلسلة فى "الأهرام" عام 1959م، وهم، حسبما قرأنا وسمعنا، الشيخ محمد الغزالى والدكتور أحمد الشرباصى والشيخ السيد سابق، فإن من المضحك رمى أمثالهم بأنهم لم يقرأوا رواية واحدة فى حياتهم ولا يستطيعون من ثَمَّ تذوق الأعمال الأدبية وتحليلها وتقويمها كما قال محفوظ وغيره فى حقهم. لقد كان الغزالى فى شبابه شاعرا، وكُتُبُه مصوغة بأسلوب بلغ مدى بعيدا فى الحلاوة والنداوة والنصاعة والبراعة ودفء البيان، وهو يذكرنى بأسلوب الدكاترة زكى مبارك فى حلاوته ونداوته ودفئه. أما الشرباصى فكان، رحمه الله، أستاذا جامعيا فى الأدب العربى، ورسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية، وكانت عن أمير البيان شكيب أرسلان، هى من الدراسات الأساسية فى مجالها لا يستغنى عنها باحث. وهو من الكتاب الكبار، وفوق هذا كان خطيبًا مِصْقَعًا، يعرف ذلك كل من قُدِّرَ له أن يصلى وراءه يوم الجمعة كما كنا نفعل أحيانا عقب النكسة أيام كان يخطب فى مسجد الرفاعى بالقلعة. ويبقى الشيخ السيد سابق، الذى لمزه رجاء النقاش بما جبهه به جمال عبد الناصر من أنه "مفتى الدماء" حسبما يقول، والعهدة عليه، ولا أدرى مبلغ صحة هذه الرواية التى أوردها. وربما كان وراء تلك التهمة آلة الإعلام الجهنمية التى تمتلكها الدولة ولا يملك من تَصُبّ عليه تلك الآلةُ حُمَمَها وسيلةً لتفنيد ما تزعمه بشأنه، ربما. وأنا، وإن كنت قرأت بعض أعمال سابق، وعلى رأسها "فقه السنة"، الذى أفدت منه كثيرا بوصفه موسوعة فقهية تجمع بين الإيجاز والسلاسة وسعة الأفق، وألفيتُ أسلوبه فيما قرأت له أسلوبا مشرقا مبينا، فإنى لا أعرف عنه الكثير، ولكنى أعرف أن عبد الناصر هو "مريق الدماء"، دماء العمال والعلماء والمفكرين. فإذا صح أن السيد سابق هو "مفتى الدماء"، وليس هناك كما قلت دليل على ذلك، فعبد الناصر هو "مريق الدماء"، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فهو مشتهر معروف لا يمكن أن يمارى فيه أحد.
إن كاتب هذه السطور من المعجبين بنجيب محفوظ الروائى الذى لا يدانيه بين العرب روائى آخر، وقلما يوجد مثيل له فى الآداب الأخرى. ولقد بلغ من حبى له أننى، رغم معرفتى بأن لغته لا تخلو من أخطاء نحوية وصرفية نَصَصْتُ على بعضها فى دراستى عن روايته: "رحلة ابن فطومة"، التى يجدها القارئ فى آخر فصل من كتابى: "فصول من النقد القصصى"، قد فكرتُ يوما، إكراما لخاطره، فى شىء لا أظنه خطر من قبل على بال أحد. ألا وهو التفكير فى صياغةِ فعلِ أمرٍ مبنىٍّ للمجهول، وهو ما لا وجود له فى العربية، ولم يفكر أحد فيه مجرد تفكير. والسبب فى هذا هو أننى وجدته ذات مرة قد استعمل فعل أمر مبنيا للمفعول، فقلت فى نفسى ضاحكا فى البداية: ولم لا نصوغ فعل أمر من هذا النوع بدلا من أن نخطئ نجيب محفوظ؟ ثم مضيت فأخذت فيما بينى وبين نفسى أستعرض القواعد التى يمكن أن تنظّم لنا صياغة مثل هذا الفعل، ومضيت فى ذلك شوطا بعيدا. إلا أنى فِئْتُ أخيرا إلى ما ينبغى الالتزام به فى أمور النحو والصرف وطرحت تلك الفكرة من دماغى. ولكن لماذا أقول ذلك الآن؟ أقوله كى يعرف القارئ أننى لست ضد محفوظ فى دراستى هذه، وكل ما هنالك هو أننى أردت أن أبين أن حبى للرجل لا يمنعنى من انتقاده حين يكون هناك موجب لذلك الانتقاد، وبخاصة حين أراه يتخبط ويلقى بالاتهامات يمينا وشمالا من أجل تبرئة نفسه، مع أن الأمر لا يستدعى كل ذلك التخبط. وكان أحجى به أن يقر بأن ما قاله أساتذة الأزهر فى تفسير رموز الرواية صحيح. وإلا فإذا كان يرى حقا أنهم غير مؤهلين للحكم عليها وعلى تفسيرها، فلماذا يا ترى اشترط موافقة الأزهر على طبعها فى مصر قبل أن يأذن لأى ناشر مصرى بإصدارها؟
وبالمناسبة فالأستاذ النقاش يباهى دائما فى كتابه الذى بين أيدينا بأن شكيمة عبد الناصر كانت قاسية باطشة مع الاتجاهات الدينية بحيث لم يكن أحد يرتفع له صوت آنذاك، ومن ثم استطاع أن يقمع الآراء المضادة للرواية. فهل هذا مما يُتَبَاهى به؟ لقد دفعت مصر الثمن غاليا لهذا العسف والاستبداد وما زالت، وإنّ ما نحن فيه الآن من هوان وعجز لهو من الثمار المرة التى خلفتها لنا سياسة عبد الناصر التى تعجب النقاش أيما إعجاب. أقول هذا، وأنا لا أنتمى إلى أى حزب أو جماعة سياسية أو دينية، ولا أرى فيما حولى منها ما يغرينى بالانضمام إلى أيها. وقد وضحت هذا للقارئ حتى لا يظن ظانٌّ أنى أتبع هذه الجماعة أو تلك، ولهذا أنتقد سياسة عبد الناصر، إذ إن الأوضاع المتردية التى خلّفها لنا عبد الناصر لغنية عن كل إضافة أو برهان، وإلا فمن لا يستطيع الرؤية من ثقوب الغربال إنما هو أعمى عمى حيسيا.
ثم إنى بعد أن قلت هذا أود أن أتبعه بأن الملوم فى ذلك ليس جمال عبد الناصر وحده، بل الأمة كلها على بَكْرَة أبيها، فما عبد الناصر فى الحقيقة إلا صدى لأخلاقها وشخصيتها. كذلك فلولا سكوتُ الشعب على عسفه وترويعه واستبداده بالرأى وتركُه إياه يغامر بالوطن على النحو الذى يحلو له وعدمُ وقوف المفكرين والعلماء فى وجهه (إلا القليلين) لما تمادى فى طريقه المدمر ولما انتهت الأمور على يديه على النحو الذى نعرف جميعا. ثم إن الأستاذ النقاش، الذى ملأ صفحات كتابه تألما وغضبا وعويلا بسبب محاولة اغتيال الأستاذ محفوظ، وحَقَّ له أن يفعل، لم يفكر فى أن يذكر المظلومين الذين سحقهم عبد الناصر وألقى بهم فى غيابات السجون أو علقهم على المشانق بكلمة أو يذرف عليهم دمعة ولو فى السر، وكأنهم ليسوا بشرا. ما كل هذه القسوة يا أستاذ نقاش؟
ليس هذا فحسب، بل إن رجاء النقاش قد تناقض تناقضا أبلق من شأنه أن ينسف كتابه كله من أساسه، إذ زعم أن تفسير "أولاد حارتنا" على النحو الذى أوردناه إنما صدر أول ما صدر عن علماء الأزهر، ثم لم يصدر بعد ذلك عن غيرهم. ولقد رأينا كيف قال بذلك التفسير بعد هذا كاتب وناقد شيوعى نصرانى سورى هو جورج طرابيشى، ووافقه نجيب محفوظ على ما ارتآه وأثنى عليه ثناء عظيما. كما ينسى النقاش أنه هو نفسه قد قال أكثر من مرة فى كتابه: "أولاد حارتنا بين الفن والدين" نقلا عن نجيب محفوظ إن الذى أثار الضجة أولا حول الرواية وقام بالتحريض ضدها لتجسيدها الخالق جل وعلا ولتعرضها بما لا يليق للأنبياء العظام هم عدد من الأدباء. إذن فلم يكن رجال الأزهر هم أول من ثاروا ضد الرواية بسبب ما رأوه فيها من إساءة إلى الخالق ورسله الكرام، بل الأدباء، وهؤلاء لا يمكن الزعم بأن قراءتهم للرواية قراءة دينية، على ركاكة فكرة "القراءة الدينية" كما أوضحت فيما سبق، ودعنا الآن ممن قال بهذا التفسير بعدهم. أى أن كل ما زعمه فى هذا المجال هو خطأ فى خطإ فى خطإ. وهكذا يتخبط الأستاذ النقاش تخبطا شديدا، وكل هذا بسبب رغبته فى التعتيم على الحقيقة كيلا تظهر، وهيهات! ذلك أن للحقيقة ضوءا ساطعا وهاجا يخزق العيون التى تحاول إنكاره.
يقول الأستاذ رجاء (ص46 مثلا): "على أن نجيب محفوظ له رؤيته الخاصة لقصة "أولاد حارتنا" وما جرى لها، فهو يقول فى حديث معى سنة 1990، أى قبل محاولة اغتياله بأربع سنوات: بدأت جريدة "الأهرام" فى نشر "أولاد حارتنا" ابتداء من 21 سبتمبر سنة 1959، ومرت حلقاتها الأولى من دون أن تظهر أى ملاحظات عليها، فالجزء الأول من الرواية لا يثير أية مشكلات. ولكن الأزمة بدأت بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة "الجمهورية" كلمة يلفت فيها كاتبها النظر إلى أن الرواية المسلسلة التى تنشرها "الأهرام" فيها تعريض بالأنبياء. وبعد هذا الخبر المثير بدأ بعضهم، ومن بينهم أدباء للأسف، فى إرسال عرائض وشكاوى إلى النبابة العامة وشيوخ الأزهر، بل وإلى رئاسة الجمهورية، يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمى للمحاكمة. وبدأ هؤلاء يحرضون المؤسسات الرسمية ضدى على أساس أن الرواية تتضمن كفرا صريحا وأن الشخصيات التى تقدمها الرواية ترمز إلى الأنبياء. وقد عرفتُ هذه المعلومات عن طريق صديق لى هو الأستاذ مصطفى كامل حبيب، الذى كان يعمل سكرتيرا لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيلا للنيابة. وهو الذى أخبرنى بأن أغلب العرائض التى وصلت النيابة العامة أرسلها أدباء". الحمد لله رب العالمين الذى أظهر الحق، وعلى يد من؟ على يد الأستاذ النقاش ذاته، إلا أنه للأسف لم ينتفع بهذا الحق الأبلج الوهاج، بل حاول بكل وسعه أن يحجزه ويخفيه!
ولعلم القارئ فإن كاتب "الجمهورية" الذى لفت الانتباه إلى مغزى الرواية وأنها فى الأديان كان كاتبا يساريا. أى أن من فسرها هذا التفسير، ولأول مرة، لم يكن عالما أزهريا ممن وصفهم محفوظ متخبطا بأنهم لم يقرأوا رواية واحدة فى حياتهم. وهذا نص ما قاله عادل حمودة فى هذا الموضوع: "وحسبما قال لي نجيب محفوظ في وجود محمد حسنين هيكل فإن "أولاد حارتنا" كانت أول رواية تنشر علي حلقات في صحيفة يومية. ولم يكن ليلتفت إلى ما فيها أحد لولا أن انتبه إليها كاتب يساري في جريدة الجمهورية: ربما أحمد عباس صالح أو سعد الدين وهبة، وقال: ياجماعة، خذوا بالكم. دي مش رواية عادية. دي رواية عن الأنبياء. ساعتها قامت القيامة" (عادل حمودة/ أولادنا عادوا إلى حارتنا/ الأهرام/ السبت 13 يناير 2007م).
وأعجب من هذا وأغرب أن الأستاذ نجيب محفوظ يقول هو أيضا عقب ذلك: "لقد تعرض رجال الأزهر للخداع لأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية أو فهمها. بل إن بعضهم لم يقرأوا رواية أدبية واحدة فى حياته. ومن هنا فسروا رواية "أولاد حارتنا" تفسيرا دينيا، ورَأَوْا شخصية "الجبلاوى" ترمز إلى الله سحانه وتعالى. أما بقية الشخصيات فقد فسروها بنفس الطريقة: فأدهم هو آدم، وإدريس هو إبليس، وجبل هو موسى، ورفاعة هو عيسى. أما شخصية قاسم فقد فسروها بأنها شخصية محمد عليه الصلاة والسلام". أرأيت، أيها القارئ العزيز، كيف يتم التلاعب بالحقائق ورمى الناس بالتهم الجاهزة على غير أساس: فرجال الأزهر الذين فسروا الرواية هذا التفسير الذى يؤكد محفوظ أنه تفسير خاطئ لم يقرأوا رواية واحدة فى حياتهم. كيف عرف ذلك؟ هل كان يعيش مع كل منهم طوال عمره وتأكد أن أيا منهم لم يقرأ رواية البتة؟ إن هذا تخبط لا يليق بنجيب محفوظ، وما كان له أن يقول هذا عن مثل الشيخ محمد الغزالى، وهو يحتل فى ساحة الفكر الإسلامى مكانة لا تقل، إن لم تزد، عن تلك التى يحتلها محفوظ فى ساحة الكتابة الروائية. بل إنى لأظن أن ثقافته أوسع من ثقافة الأستاذ نجيب، الذى اشتهر بمجاملاته حتى لأى كاتب متوسط من كتاب اليسار الذين لا يحسن الواحد منهم كتابة جملة سليمة، ولا تزيد ثقافة كثير منهم عن ثقافة الدبلومات التى لم يحصلوا على أعلى منها، فيظلون طول عمرهم فى أسفل السلم الثقافى والإبداعى، ومع هذا يتكلم عنهم الأستاذ نجيب وكأنه يتكلم عن أبناء بَجْدَتها. أَوَكُلُّ هذا التخبط لمجرد العمل على تبرئة روايته؟ ثم كيف يتهمهم بأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية، ومن ثم أخطأوا تفسيرها، وهو نفسه الذى قال قبل قليل إن الذى فسرها هذا التفسير وقدم العرائض والشكاوى ضدها هم فريق من الأدباء؟
ثم قبل ذلك ماذا يقول فى الخطاب الذى بعث به إلى جورج طرابيشى ونشر هذا بعض سطوره على الغلاف الخلفى لكتابه الذى تناول بالنقد والتحليل فى الفصل الأول منه رواية "أولاد حارتنا" وفسرها نفس التفسير الذى يقول محفوظ عمن قالوا به من شيوخ الأزهر إنهم لا يفهمون فى فن الرواية شيئا، هذا الخطاب الذى أكد فيه أديبنا أن ما كتبه طرابيشى عن هذه الرواية وأشباهها من الروايات الرمزية الأخرى وقال فيه إن الجبلاوى هو الله، وإدريس هو إبليس، وأدهم هو آدم، وموسى هو جبل، ورفاعة هو المسيح، وقاسم هو محمد، وإن الرواية إنما تحكى قصة البشرية من لدن آدم وحواء مرورا بأولئك الأنبياء ودعواتهم السماوية، وانتهاء بالعصر الحديث الذى أضحت فيه لعرفة، أى العلم، السيادة على الفكر البشرى واحتل المكانة التى كان يحتلها الدين سابقا بعد أن قتل الجبلاوى أو تسبب على الأقل فى قتله هو أصح تفسير لها؟ لا أنكر أننى أحب فن نجيب محفوظ، وكانت فكرتى عنه رحمه الله أنه، وإن لم يكن من الشجعان الذين يقفون فى وجه السلطة دون خوف، فإنه رغم ذلك لا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام الغريب. إلا أن الأمر هنا، كما يرى القارئ معى، يبعث على الذهول. لو كان خطابه لطرابيشى غير منشور ومتاح لكل من فى رأسه عينان يقرأ بهما لما كانت هناك مشكلة "فنية" فى الرواية التى ساقها لنا رجاء النقاش على لسانه. أمّا وهذا الخطاب يعلم به القاصى والدانى فلا أفهم كيف قال الأستاذ نجيب ما قال لرجاء النقاش. وكذلك لا أفهم أن يسكت الأستاذ النقاش فلا يصحح هذا الخطأ الأبلق. وبالمثل ما كان ينبغى أن يساير النقاش محفوظا على اتهامه المتخبط لمثل هؤلاء العمالقة بأنهم لم يقرأوا رواية واحدة فى حياتهم، بل كان يجب أن يعلق بما يمسح هذا العار عن عبارة محفوظ. ذلك أنه لا بد لنا من احترام أهل الفضل، إذ إن احترامنا لهم دليل على أننا نحن أيضا من أهل الفضل.
وما دمنا قد فتحنا هذا الموضوع فلا بد أن أقول هنا، وبملء فمى، إننى رغم ما أثنيت به على أسلوب النقاش أرى بكل قوة أن أسلوب الغزالى والشرباصى مثلا أفضل من أسلوبه كثيرا، وثقافتهما كذلك أوسع من ثقافته. ثم إن المعروف عن الغزالى والشرباصى أن فكرهما الدينى كان مبنيا على التسامح وسعة الأفق والرؤية الحضارية الراقية. كما أن سابق كان، فيما سمعت، "ابن نكتة". وكتابه: "فقه السنة" يدل على قوة الفقه وسعة العَطَن وعدم التعصب لرأى من الآراء. وهو مكتوب بعبارة تجمع بين الدقة الفقهية وإشراقة الديباجة. فمن العيب الزراية على مثل أولئك العلماء بهذه الاستهانة المتخبطة التى لا تليق. وأعترف هنا أن ذلك الكتاب قد نفعنى أنا وأسرتى فى حِجَّتَيْنا الثانية والثالثة، إذ طالعتُ فيه كل الآراء الفقهية التى تتعلق بمناسك الحج وأخذتُ وأخذ من كان معنا فى تينك الحجتين بأسهل الآراء وأسمحها وأقلها مشقة وأنسبها لظروفنا وظروف السيدات والفتيات والصغار الذين كانوا معنا. كذلك لم يحدث أن صدر عن أحد من هؤلاء العلماء الكبار شىء يسىء إلى شخص نجيب محفوظ على أى نحو كان، وكان موقفهم ينحصر فى الاعتراض على الرواية، والرواية وحدها، كما لم نسمع أن أيا منهم قد كفّر الرجل أو قلّل من شأنه، فلماذا تحويل القضية إلى هذا المنعطف، بل المنحَرَف، المسىء؟
ولا بد هنا من القول بأن الإسلام لا يتدخل بين العبد وضميره، فمبادئه أوضح من الشمس: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" (الغاشية/ 21- 22)، "قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" (الأنعام/ 104)، "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ" (الأنعام/ 106- 107)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس/99)، "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة/ 256). وعلى هذا فنحن حين نحلّل رواية محفوظ وننتقدها لا نبغى أن نسىء إليه، بل كل ما هنالك أننا نعبر عن رأينا فيما فعل فى روايته، مثلما كان له الحق فى أن يكتب تلك الرواية. أما أن يكون له الحق كل الحق فى أن يقول ما يريد، ثم إذا تعرض لعمله متعرض من النقاد أو المفكرين قيل له: إنه ليس من حقك أن تتناول ذلك العمل، أو إنك لا تستطيع أن تفهم هذا العمل، فهذا إرهاب فكرى من اللون الصغير بل الحقير. ومن ثم نقول إن الرواية تتناول فعلا مسيرة البشرية منذ بداية الخلق حتى عصرنا هذا، وإن الجبلاوى فيها يرمز إلى الله جل وعلا، وإدريس هو إبليس، وأدهم هو آدم، وأميمة هى حواء... وقاسم هو سيد الأنبياء والمرسلين، وعرفة هو العلم. ومن لا يعجبه هذا الكلام فهو حر، لكنه لا ينبغى أن يلجأ إلى التضليل والتدليس فى مثل تلك القضايا الخطيرة، لأنه ببساطة عيب لا يليق.
والذين يعرفون القرآن يلاحظون أن كتاب الله قد حكى فى أكثر من سورة منه قصص عدد من الأنبياء مع أقوامهم على نحو متتابع، ما إن تنتهى قصة لأحد الرسل حتى تبدأ قصة أخرى لرسول غيره... حدث هذا فى "الأعراف" وفى "هود" وفى "الشعراء" مثلا. ولا أستبعد أن يكون كاتبنا قد استلهم تلك الطريقة فى بناء روايته، التى تقوم هى أيضا على حكاية قصص بعض النبيين مع أقوامهم والنجاح الذى أحرزوه، ثم تُتْبِع ذلك برصد التقهقر الذى يصيب أمة كل رسول مع تطاول الزمن واحتياج الأمة أو البشرية من ثم إلى مجىء نبى جديد، والبشرية لا تتعلم الدرس أبدا. وهو ما قد يذكرنا بقول المعرى:
كم وعظ الواعظــون فينــا * وقـــــــــام في الأرض أنبيــــــــاءُ
وانصرفوا، والبلاء باق * ولم يــــــزل داؤنــــــا العيـــــاءُ
حُكْمٌ جـــرى للمليك فينــــا* ونحن في الأصـــــــل أغبيـــــــاءُ
وقد شخص محفوظ الله سبحانه فى روايته التى نحن بصددها لا لأنه يؤمن بأنه سبحانه ذو وجود مادى، بل لأنه إنما يتعامل فى الرواية مع رمز. وأنا لا أدرى على وجه اليقين القاطع ماذا كانت عقيدة محفوظ فى الألوهية والنبوات وقتها: ترى أكان يؤمن بالله سبحانه وبالأنبياء عليهم السلام، أم كان ملحدا، أم كان شاكًّا لا يستقر على قرار؟ وإن كنا قد قرأنا بعد وفاته على لسان الرجل الذى كان يقرأ له الصحف كل يوم، وهو الحاج محمد صبرى المحرر بالقسم الأدبى بــ"الأهرام"، أنه، رحمه الله، كان يصلى ويتيمم بالضرب على الوسادة فيما أذكر نظرا لظروف مرضه. وقد أسعدنى هذا أيما سعادة رغم معرفتى أن الإيمان إنما هو مسألة بين العبد وربه. إلا أن هذا لا يمنع الآخرين من الشعور بالسرور إذا وجدوا أن من يحبونهم يتخذون ذات الطريق التى يتخذونها هم فى الحياة. على أن بعضا من قصصه فى الفترة التى تلت نشر "أولاد حارتنا" تدور حول البحث عن الله سبحانه بنفس الأسلوب الرمزى الموجود فى روايتنا الحالية، مثل "الطريق" و"السمان والخريف"، كما تتبدى فيها الحيرة والمعاناة والتخبط.
ثم إن أسلوب حياة محفوظ قبل زواجه الذى تأخر إلى حد ملحوظ بالنسبة لظروف مجتمعنا كان أسلوبا بوهيميا عرف صاحبه الطريق مرارا وتكرارا إلى بيوت البغاء وإلى موائد القمار وقعدات الحشيش، وتوغل فى هذا الطريق إلى مدى مخيف حسبما قرأنا فى مقال لمحمد سيد بركة منشور فى موقع "رابطة أدباء الشام" عنوانه: "محفوظ في منتصف عقده التسعيني- نظرة إلى المسكوت عنه"، إذ جاء فيه ما نصه: "وربما أسهمت الاعترافات التي أدلى بها نجيب محفوظ حول شبابه المبكر وما حفل به من علاقات مع المرأة كانت الغريزة محركها الأساسي، في إلقاء الضوء حول مكونات هذه الرؤية لدور المرأة في أدب محفوظ. ومن بين هذه الاعترافات قوله، حسبما نشرته إحدى المواقع العربية على شبكة الإنترنت، إنه عاش في الفترة التي سبقت زواجه حياة عربدة كاملة: "كنت من رواد دور البغاء الرسمية والسرية، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يراني في ذلك الوقت لا يمكن أن يتصور أبدا أن شخصا يعيش مثل هذه الحياة المضطربة وتستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي، يمكن ان يعرف الحب والزواج. كانت نظرتي للمرأة في ذلك الحين جنسية بحتة ليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر، وإن كان يشوبها أحيانا شيء من الاحترام". ولم تكن المرأة وحدها العنصر الوحيد في هذه الحياة اللاهية، بل صاحبتها أشياء أخرى اعترف بها محفوظ في رسالة إلى أحد أصدقائه أوردها الباحث د.السيد أحمد فرج في كتاب بعنوان "أدب نجيب محفوظ"، وقال فيها: "لقد عرفت هذا الصيف أديبا شابا موهوبا ولطيفا معا، ولهذا الأديب عوامة نقضي فيها نصف الليل ما بين الحشيش والأوانس، وانقلب أخوك شيئا آخر. بل علمني البوكر، سامحه الله، فغدوت مقامرا، وليس بيني وبين دكتور الأمراض التناسلية إلا خطوة. فانظر كيف يتدهور الأديب على آخر الزمن! وفي هذه اللحظة التي أكاتبك فيها يعثرون على القنابل في القاهرة كالتراب، خصوصا بعد حادث سينما مترو. بل تَصَوَّرْ أنه انفجرت منذ أسبوعين قنبلة في شارعنا، وعلى بعد عشرين مترا من بيتنا، وكان من نتائج ذلك أني بطّلت حفظ الحشيش في البيت خوفا من التفتيش". وكان قد نشر هذه الرسالة فى جريدة "الدستور" الدكتور أدهم رجب، الصديق الذى كان قد أرسلها محفوظ إليه، ونقلها مصطفى عدنان فى مقال له عن محفوظ بجريدة "النور" (25 جمادى الأولى 1409هـ/ 8)، وعنه نقلها بدوره د. السيد أحمد فرج فى الصفحتين الثانية والخمسين والسادسة والعشرين بعد المائة من كتابه: "أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام واالتغريب"، لينقلها عنه أيضا محمد سيد بركة فى مقاله الآنف الذكر. ولهذا دلالته التى لا أظنها تخفى على العين والعقل. كما أذكر أن اليساريين قد أحاطوا به فى الستينات، وكانوا هم الوحيدين تقريبا الذين يكتبون عنه ويحمّلون رواياته المعانى التى تخدم اتجاههم.
وبمناسبة دفاع رجاء النقاش فى كتابه الذى معنا الآن عن إيمان محفوظ بالله واستناده إلى أن هذا ما شهد به له الدكتور أحمد كمال أبو المجد أود أن أقول إن فى كلام النقاش خلطا بين "محفوظين": محفوظ الذى كتب "أولاد حارتنا" ومحفوظ الذى سمعناه فى آخر حياته يعلن إيمانه بالله واعتزازه بالإسلام. وإذا كنت قد قلت إننى لا أعرف على وجه اليقين القاطع ماذا كانت عقيدة الرجل حين كتب تلك الرواية فقد كان ذلك من باب المنهجية العلمية لا غير، إذ إن ما فى ذهنى مما قرأته لمحفوظ وعن محفوظ، وهو ليس القليل، لا يساعدنى على وضعه فى ذلك الحين فى صف المناصرين للإسلام. وهذه عبارة مخففة جدا. وها هو ذا الأستاذ رجاء النقاش نفسه، فى عدد مجلة "الهلال" الخاص بمحفوظ الصادر فى فبراير 1970م حين كان النقاش رئيسا لتحريرها، يحدد عقيدة محفوظ فى تلك الأيام قائلا إنه يشعر بأنه ماركسى أو على الأقل: يميل إلى الماركسية، لكنه يتردد فى إعلان ذلك. وكان رد محفوظ عليه أنه قد أجاد فعلا تشخيص عقيدته، مضيفا أنه إن كان لا بد له من اختيار بين الرأسمالية والماركسية فإنه يختار الماركسية، وإن لم يعدّ نفسه رغم ذلك ماركسيا رغم التعاطف الشديد معها لأنه لا يهتم كثيرا بالجانب النظرى فيها بقدر ما يهتم بتطبيقها فى الواقع ويؤمن به. ثم يؤكد محفوظ أن "الإيمان الوحيد الحاضر فى قلبى هو إيمانى بالعلم والمنهج العلمى"، وأن الاعتماد على العلم فى كل شىء هو إحدى سمات المجتمع الماركسى. وبالمثل نراه يعترض على الطبقية والميراث وأشياء أخرى يعترض عليها الماركسيون ويوافقهم تماما بشأنها (ص40- 41 من عدد مجلة "الهلال" المذكور). كما كتب النقاش مقالا عن محفوظ بعنوان "الوجه العالمى لنجيب محفوظ" يجده القارئ منشورا فى الكتاب التذكارى الذى أصدرته وزراة الثقافة المصرية بمناسبة فوز محفوظ بنوبل وسمَّتْه: "نجيب محفوظ: نوبل 1988" (ص81- 87) لم يذكر فيه شيئا عن أى إيمان للرجل إلا الإيمان بالعلم، وأعاد فيه ما كان محفوظ قد قاله فى عدد "مجلة الهلال" الخاص به سنة 1970م عن الماركسية، وكأن محفوظا لا علاقة له بالإسلام من قريب أو من بعيد. بل لقد ركز النقاش فى ذلك المقال على ما اختتم به كاتبنا روايته: "أولاد حارتنا" من كلام عن عرفة، أحد أبطال تلك الرواية، مؤكدا أن محفوظا كان ممتلئا أملا وتفاؤلا وثقة تامة بالعلم، الذى رمز له فى الرواية بــ"عرفة" وأن هذه الشخصية هى التى سوف تقضى على تعاسات الإنسان المختلفة وتحقق الخير والسعادة للجميع! والآن هل هناك يا ترى ما يمكن أن يتنطع به المتنطعون أو يتمحك فيه المتمحكون؟ إننا لم نأت بشىء من لَدُنّا، بل نقلنا ما قاله النقاش ومحفوظ ليس إلا.
وهذا الكلام يختلف عما أصبح محفوظ "يقوله" بعد ذلك كما فى حواره مع أحمد هاشم الشريف، إذ "أعلن" مثلا أنه يضع أمله فى "التربية الدينية للشباب: الدين مع العلم والمعرفة والشورى"، وأن "الإسلام ليس فيه عائق واحد ضد الحضارة"، وأن "التربية الدينية التى تتوافق مع حقائق العصر سوف تعيد فتح النوافذ" (نجيب محفوظ- محاورات قبل نوبل/ كتاب صباح الخير/ 1989م/ 88)، وكما فى حوار آخر له مع محمود فوزى، الذى سأله: "ما هو جوهر الدين من وجهة نظرك؟ وهل يختلف عن مفهوم سائر الناس له؟"، فكان جوابه: "الدين بكل بساطة هو الإيمان بخالق لهذا الكون والحياة... وهكذا فقد حاولتُ جاهدا أن أكون مثاليا مع الناس بقدر إمكانى من خلال إيمانى وفهمى للدين". وقد سأله فوزى سؤالا آخر: "ماهى أهم شخصية إسلامية تقترب من فكر وقلب نجيب محفوظ؟"، فرد قائلا: "الرسول صاحب الرسالة والدين، صاحب أعظم إنجاز روحى للبشرية، صاحب أعظم إنجاز فى التكامل بين الدين والحياة معا" (اعترافات نجيب محفوظ/ دار الشباب/ 96- 97). وفى حواراته مع محمد سلماوى فى كتابه: "نجيب محفوظ: وطنى مصر" نراه يبرز دور الدين فى التقدم، مؤكدا أن الفلسفات لا يمكن أن تقوم بذلك الدور مهما تضمنت من مبادئ وقيم عظيمة. بل إنه ليؤكد أن الفلسفة حينذاك تكون مستمدة من الدين، وأن الإيمان بالله هو أساس اليقين، وبدونه يصبح كل شىء مزعزعا (مكتبة الأسرة 2000/ 62- 64). وكان سلماوى قد سأله أى "الأمصار" أقرب إلى قلبه: مصر الفرعونية أم اليونانية الرومانية أم القبطية أم الإسلامية أم الحديثة؟ فكان جوابه أنه يجد فى قلبه ميلا أكثر إلى مصر الإسلامية (ص25). ثم حدد ما أضافه الإسلام إلى مصر الفرعونية بأنه العقيدة السامية بما تتضمنه تلك العقيدة من مبادئ لم تكن مصر القديمة قد توصلت إلى تحقيقها، وهى العدالة والمساواة بين البشر التى لا تعرف فرقا بين الأسود والأصفر والأبيض ولا بين الغنى والفقير ولا بين الحاكم والمحكوم، مضيفا أن عمر بن الخطاب هو خير تجسيد لذلك كله (ص26). كذلك كتب د. محمد سليم العوا على الغلاف الأخير لطبعة "دار الشروق" للرواية: "إن نجيب محفوظ قال: إنه في حياته لم يأت إليه شك في الله. وإذا كنتُ قد بدأتُ في فهم الدين فهما خاصا في وقت المراهقة فإنني قد فهمتُ الإسلام علي حقيقته تماما بعد ذلك. بل أعتقد جازما وحازما أنه لا نهضة حقيقية في بلد إسلامي إلا من خلال الإسلام".
ولكى تكون الصورة واضحة تماما ينبغى أن نشير إلى ما ذكره الأستاذ نجيب فى أحد حواراته الصحفية من أنه قد عرف بالمصادفة أن ابنته الكبرى أم كلثوم تصلى، وذكر أنها تقرأ القرآن كل ليلة قبل أن تأوى إلى فراشها (انظر مثلا حواره مع جمال الغيطانى فى كتابه: "نجيب محفوظ يتذكر"/ أخبار اليوم/ 148). وفى حوار آخر مع محمد سلماوى وصف بنتيه جميعا: أم كلثوم وفاطمة (أو هدى وفاتن كما تحبان أن يناديهما الآخرون نفورا من اسميهما الرسميين حسبما ورد فى حوار لمحفوظ مع الصحفية سهام ذهنى نشرته فى كتابها: "كلام خاص جدا"/ مطابع الأهرام/ 1998م/ 67) بأنهما "متدينتان جدا: تصليان وتصومان، وقد حجتا إلى بيت الله الحرام" (نجيب محفوط: وطنى مصر/ مكتبة الأسرة/ 2000م/ 78).
وأرجو أن يكون القارئ قد لاحظ استعمالى الفعلين: "يقول" و"يعلن" بالنسبة إلى اعتقادات الأستاذ محفوظ، إذ الأمر كله إنما هو كلام يقوله الرجل، أما ما بداخل النفوس فمرده إلى الله المطلع على كل شىء سبحانه وتعالى. ذلك أنه قد أُثِر عن نجيب محفوظ الشىء ونقيضه، وبدا الأمر أحيانا وكأنه يعمل على إسماع كل شخص النغمة التى يحبها أو على الأقل: التى يتوقع سماعها منه، كما هو الحال حين رأيناه يقول لجورج طرابيشى إن ما قاله فى تفسير رموز الرواية هو أصدق التفسيرات وأقربها إلى ما فى نفسه، ثم رأيناه كذلك يقول للمستشرق البريطانى فيليب ستيوارت مترجم الرواية إن "الجبلاوى" هو فعلا "الله"، أو بالأحرى: الإله فى اعتقاد بعض البشر، ثم سمعناه مع ذلك ينكر أن يكون قد قصد بتلك الشخصية الرمز إلى المولى سبحانه بأى حال.
ويمكن الاستشهاد فى هذا السياق أيضا بما قاله عن سيد قطب، إذ فى الوقت الذى سمعناه يثنى عليه فى بعض حواراته ويتحدث عن صداقته له وحرصه على إنقاذه مما كان ينتظره على يد الحكم فى مصر عند زيارته له عقب خروجه من السجن أول مرة، ذاكرا فضله عليه فى تلميعه وتأسيس شهرته كاتبا روائيا بعد أن مكث زمانا يكتب دون أن يلتفت إليه أحد من النقاد أو يهتم بإبداعه إلى أن أتى سيد قطب فكتب عنه وأبرز جوانب تفرده وتفوقه، فإذا به وقد صار ملء السمع والبصر، وهو ما أشار إليه رجاء النقاش ذاته فى كتابه الذى بين أيدينا الآن (ص23- 24. وانظر فى حديثه عن صداقته لسيد قطب كتاب "ثرثرة مع نجيب محفوظ" لسهام ذهنى/ كتاب اليوم/ العدد 450/ فبراير 2002م/ 135)، نجده فى الفصل الذى عقده له فى كتابه: "المرايا" تحت اسم "عبد الوهاب إسماعيل" يصوره فى صورةٍ جِدّ منفِّرة، مهتبلا فرصة الغموض الذى غلّف به تلك الشخصية، إذ سماه: "عبد الوهاب إسماعيل" ولم يقل بصراحة إنه يكتب عن سيد قطب، بالضبط مثلما صنع مع الجبلاوى، الذى يؤكد الآن أنه لم يقصد به قط أن يكون رمزا إلى الله جل وعلا. وهذا ما قاله فى "المرايا": "إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تحتلف فيه التفاسير. وبالرغم من أننى لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أننى لم أرتح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين... كان أزهريا لا علم له بلغة أجنبية... امتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما احتد مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية، فاقتنعتُ بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية واطلاعه الواسع رغم اعتماده الواسع على كتب التراث والكتب المترجمة... وبالرغم من تظاهره بالعصرية فى أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب العصرية فى الطعام وارتياد دور السينما، إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف علىّ... أزعجنى جدا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازى من شخصيته، وسارونى شك من ناحية صدقه وامانته، واستقر فى نفسى رغم صداقتنا نفور دائم منه" (المرايا/ مكتبة مصر/ 204- 205).
والحق أن هذا الكلام يبعث على الفزع: الفزع من نجيب محفوظ لا من سيد قطب، إذ إن محفوظا يقر بأنه كانت بينهما صداقة وأن قطبا لم يبدر مه تجاهه إلا كل معاملة كريمة، وأنه كان إنسانا موضوعيا تمام الموضوعية ولا تخرج منه "العيبة" بالتعبير البلدى، ولكن كاتبنا مع ذلك كله كان ينطوى على النفور منه ويتهمه بأنه انتهازى وأن أحواله لا تبعث على الثقة به أو الاطمئنان إلى أمانته. ثم لا تنس أن تلتفت إلى ربطه بين التخلف عن العصر والتدين. أى أن الإسلام يضاد العصرية فى نظره. فضلا عن الزعم بأن قطبا أزهرى، مع أنه قد تعلم فى المدارس وتخرج من دار العلوم، فلم تكن له إذن أية صلة بالأزهر، ولا أظن محفوظا كان يجهل ذلك. ثم هل مما يبعث على الاطمئنان يا ترى أن يتظاهر إنسان بصداقة شخص آخر وهو ينفر منه كل هذا القدر من النفور؟ أما التمحك فى جحوظ العينين فهو كلام لا يليق!
ثم هل يصحّ وصف سيد قطب بالانتهازية؟ أولو كان، رحمه الله، انتهازيا أكان يهتم كل هذا الاهتمام بكاتب غير مشهور كمحفوظ فى بداية حياته الأدبية فيكتب عنه ويرفعه إلى عنان السماء؟ فماذا كان ينتظر من محفو أوانئذ يا ترى؟ وما الثمن الذى طلبه منه قطب قبل أو بعد كتابته عنه؟ أولو كان قطب انتهازيا أكان يسكت على العقاد حين تقاعس العقاد عن كتابة مقدمة لأحد كتبه فلا ينقلب عليه قلمه؟ إنه لم يقل كلمة عن العقاد تقلل من قدره ولو على سبل اللمز والغمز مما لا يمكن مؤاخذة صاحبه به. وكان العقاد من جانبه هو أيضا فارسا شهما كعادته فلم يسئ إليه بأى معنى من المعانى. أى أن كليهما كان شريفا نبيلا فى موقفه من الآخر حين افترقت بهما السبل. كذلك لو كان قطب انتهازيا أكان يصطدم بعبد الناصر ورفاقه ويعرض نفسه لحبل المشنقة ولا يتراجع فى موقفه فيفكّ رقبته من ذلك الحبل رغم كل المغريات التى كانت تدفعه فى هذا السبيل، وبخاصة أنه كان يؤمن، صوابًا أو خطأً، بأنه إنما يحارب الغرب كله فى شخص الثورة، وأنه من ثم لا يسهل أن ينتصر فى هذا الصدام؟ إن الرجل لم يغير موقفه قيد شعرة، وقد كان يستطيع، لو صَحَّ وَصْفُه بالانتهازية، أن يصنع كما صنع غيره فيبدى التحمس لعبد الناصر وحركته العسكرية وهو حى ثم ينقلب عليه بعد وفاته مثلما فعل كتاب كبار، وعلى رأسهم محفوظ ذاته!
إننى لست من المشايعين على طول الخط لسيد قطب، وقد انتقدتُ بعض أفكاره فى أكثر من كتاب لى، إلا أننى لا أخفى مع هذا تقديرى لشجاعته وصراحة موقفه حتى لو رأينا عكس ما كان يرى فى بعض الأحيان، إذ لا شك أن مواقفه جميعا تنضح بالرجولة والإقدام، لا نكران لذلك. أقول هذا حتى لا يظن أحد أننى متعصب لسيد قطب. ولقد سبق أن قلت عن محفوظ إنه يتفوق على كثير من الروائيين الموصوفين بالعالمية وأكدت أنه يستحق نوبل أفضل مما يستحقها بعض من فازوا بها، ومن ثم فلا يمكن القول بأننى منحاز ضد محفوظ.
وإذا كان لا بد من إضافة كلمة هنا عن قطب فلعل ما كتبه سليمان فياض عنه، وهو آخر من يمكن الظن بمشايعته لقطب واتجاهه، هو أفضل ما يمكن إيراده، فقد أذكر أنى قرأت له مقالا فى عدد من أعداد مجلة "الهلال" منذ وقت طويل، ولعله عدد سبتمبر 1986م، ولعل عنوان المقال هو "سيد قطب بين النقد الأدبى وجاهلية القرن العشرين"، الذى أذكر أنه نشره بعد ذلك فى كتاب "المثقفون: وجوه من الذاكرة" عن دار سعاد الصباح عام 1992م، أشار فيه إلى تصرف لسيد قطب يدل على نبلٍ وتجردٍ عجيبين، وبالذات لأنه وقع منه وهو فى السجن، فقد كان فياض أهدى له قبل هذا كتابا من كتبه، فلما سُجِن قطب انتهز فرصة زيارة أخيه محمد له فى السجن وأعطاه كلمة الإهداء بعد أن فصلها عن الكتاب وكلفه أن يسلمها لفياض يدا بيد حتى لا تذهب به المخاوف إلى أنها يمكن أن تقع فى أيدى السلطات الناصرية فينكّلوا به لصلته بقطب: انتهت الحكاية! فهل هذا تصرف شخص يتصف بالصفات السيئة التى وصف نحيب محفوظ سيد قطب بها؟ أترك الجواب لضمير القارئ.
وقد اعترض رجاء النقاش على القول بأن الجبلاوى يرمز إلى المولى سبحانه، وكانت حجته هى كيف يكون الجبلاوى الذى وصفه نجيب محفوظ بأنه جد أبطال الرواية هو الله سبحانه، والله لا يمكن أن يكون جدا لأحد لأنه هو الخالق، والجد لا يخلق أولاده وأحفاده، بل ينجبهم؟ (ص102). وهى حجة داحضة لأننا لا نتهم نجيب محفوظ بأنه يؤمن بأن الله هو جد البشر فعلا، بل نقول إنه قد رمز له بشخصية الجبلاوى. فماذا كان ينبغى أن تكون علاقة الجبلاوى بالبشر، وهو الذى قُدِّم فى الرواية بوصفه إنسانا؟ لو لم يقل محفوظ إنه جد البشر بل خالقهم لفسد كل شىء ولما كان هنالك رمز. ثم إن كتاب محفوظ ليس كتابا فى اللغة حتى يتحجج النقّاش، كما فعل، بأن اللغة لا تسعف تفسير "الله" بأنه جد البشر، كما أنه ليس كتابا فى علم الكلام يبحث فى الألوهية بحثا مباشرا بأسلوب علمى، بل هو رواية، فلا معنى لهذا الاعتراض، الذى لا يقل عنه تهاويا ما قاله الأستاذ جلال كشك فى كتابه: "أولاد حارتنا فيها قولان"، من أن الذى يقول إن "الجبلاوى" فى "أولاد حارتنا" يرمز إلى الله هو الذى يجب أن يتوب من ذنبه ويستغفر. ذلك أنى لا أفهم كيف يستتاب الإنسان على تفسيره لرواية من الروايات؟ هذا ما لم نسمع عنه فى الإسلام قط، اللهم إلا إذا أراد، غفر الله، أن يصطنع إسلاما جديدا! إنه فى الواقع يعكس الآية، وبدلا من تخطئة محفوظ، إن كان لا بد من تخطئة أحد هنا، نراه يخطّئ من يفهم الرمز فى الجبلاوى على النحو الذى لا أظن أن هناك سبيلا لفهم آخر سواه، ألا وهو أنه يرمز إلى الله سبحانه. ومما استند إليه فى هذا النفى أن الله لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فكيف يصح القول بأن الجبلاوى يرمز إلى المولى سبحانه؟ وهى نفس الحجة التى استند إليها النقّاش فى أن الجبلاوى لا يمكن أن يكون هو الله. وأغلب الظن أن كلام النقاش مأخوذ من كتاب كشك الآنف الذكر (انظر "أولاد حارتنا فيها قولان"/ الزهراء للإعلام العربى/ 1989م/ 50- 60، 75 وغيرها).
أجل لو كان كشك جادا فى هذا الذى قال لكان ينبغى أن يكون المستتاب هو محفوظ لا غيره. ألم يقل لجورج طرابيشى حينما فسر الجبلاوى بأنه هو الله إنه قدم أصدق تفسير للرواية؟ وبهذا ينهار كلام رجاء النقاش أيضا، إذ ها هو ذا صاحب الرواية يقر بما يجتهد النقاش فى نفيه. وهكذا "قطعتْ جَهِيزَةُ قول كل خطيب"!
وعلى كل حال فإن الأستاذ كشك، على قوة ما كان يكتب أحيانا فى الدفاع عن الإسلام وفضح الشيوعيين وغيرهم من أعداء الأمة، كانت له بعض الشطحات التى لا أدرى كيف سولتها له نفسه كالقول بأنه سيكون هناك لواط فى الجنة ما دام فى الدنيا من يحبه. ولكن كان عليه أن يسأل نفسه أولا: هل اللوطيون سيكونون من أهل الجنة أصلا؟ وإذا غفر الله لبعضهم، وهو الغفور الرحيم، أتكون نزغاتهم الشيطانية الشاذة المقرفة معيارا من المعايير التى تُرَاعَى فى تحديد متع الجنة وتوفيرها؟ إنه والله لمنطق عجيب! ودعنا الآن من أنه لا يوجد أى نص فى القرآن بذلك. كما أنه من المضحك أن يدمر الله قوم لوط جَرّاء ممارستهم لهذه الفاحشة تدميرا لم نسمع بمثله من قبل ولا من بعد، ثم يفاجأ الناس فى الجنة بأنها مبذولة هناك لمن يريدها من شذاذ الطبيعة منكوسى الذوق والفهم! ولله فى خلقه شؤون!
هذا، وأود أن أورد هنا شيئا من الأحاديث التى تعمل على تقريب بعض صفات الألوهية إلى الذهن البشرى عن طريق التشبيه بالأم والأب وغيرهما من الشخصيات البشرية: "قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأة من السَّبْي قد تحلَّبَ ثديها تَسْقِي: إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترَوْن هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه. فقال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها"، "الخلق كلهم عيال الله، فأَحَبّ الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله"، "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني. قال: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمتَ أن عبدي فلانا مَرِضَ فلم تَعُدْه؟ أما علمتَ أنك لو عُدْتَه لوجدتَني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتُك فلم تُطْعِمني. قال: يا رب، وكيف أُطْعِمك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتُك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أمَا أنك لو سقيتَه وجدتَ ذلك عندي؟". كذلك ترمز الأناجيل لله فى بعض الأحيان بكلمة "الأب": "أبانا الذى فى السماوات"، "أبوكم السماوى"، "أبوكم الذى فى السماوات". والمقصود أنه هو كافلنا الذى يحمينا ويرزقنا ويقوم بحاجاتنا ويرحمنا ويعطف علينا. ومعروف أن "الأب" قد يُطْلَق على الجد كما فى قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ"، مع أنه بطبيعة الحال ليس له إلا أب واحد هو يعقوب، أما إسحاق وإبراهيم فهما جدان له: واحد قريب مباشر هو إسحاق، وواحد غير مباشر هو إبراهيم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُسَمِّى نفسه: "ابن عبد المطلب". ويبدو أن محفوظا رمز للمولى عز شأنه بالجد لا بالأب باعتبار أن خلقنا الآن لا يتم على نحو مباشر، بل عن طريق التناسل والولادة، على عكس خلق آدم، الذى ذكر الله سبحانه وتعالى أنه قد خلقه بيديه الكريمتين، أى خلقا مباشرا: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ" (ص/ 75). فكأن الجد رمزٌ إلى أن الخلق لا يقع الآن بطريقة مباشرة مثلما أن الجد ليس أبا مباشرا، بل أبا للأب. أى أن الأب يقوم بيننا وبين الجد.
والآن إلى الشهادة التى قدّم بها د. أحمد كمال أبو المجد للطبعة المصرية الصادرة عن "دار الشروق" من رواية "أولاد حارتنا"، وهى الشهادة التى استند إليها رجاء النقاش فى تبييض صفحة الرواية كما سبق التنويه، مما يذكّرنا بصكوك الغفران، التى كان باباوات العصور الوسطى المظلمة يصدرونها تبرئةً للمذنبين والمجرمين وضمانًا لهم بدخول ملكوت السماوات، وهم إنما يخدعون بها السُّذَّج الجهلاء فى الواقع ليس إلا. بيد أن الأستاذ النقاش ينسى أن الإسلام لا يعرف إلا غفرانا واحدا لا غير هو غفران الله لعباده. وليس لأى بشر شىء من ذلك على الإطلاق، إذ ليس فيه أن ما يحله الباباوات أو يربطونه يكون محلولا ومربوطا فى السماء. ذلك أنه ليس عندنا إلا إله واحد سبحانه وتعالى.
يقول أبو المجد: "الشهادة التي توشك، أيها القارئ، أن تتابع سطورها القليلة سبق نشرها "مقالة" في "الأهرام" في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1994، أي منذ أكثر من عشر سنوات طرأت فيها على حياتنا الثقافية والسياسية أمور جسام ازدادت فيها تجاربنا الفردية والجماعية ثراءً وتنوعًا، وأحاطت بنا على مرّ شهورها وأيامها أحداث وتطورات كبرى داخل مصر وعلى امتداد عالمنا العربي وامتداد الدنيا كلها، تغيرت بسببها نظرتنا إلى كثير من أمورنا الخاصة وأوضاعنا العامة، ووقف بسببها كثير منا من نفسه وأمته موقف المراجعة والتأمل والمجاهرة بالنقد لما يستحق النقدَ من أوضاعنا، كما ارتفعت نبرة المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وانقدحت بسبب ذلك كله شرارةُ حوارٍ بدأ ثم تصاعد، ولا يزال دائرا بين جماعات الكتاب والمفكرين والباحثين ممن يطلق الناس عليهم: "النخبة المثقفة" التي تفكر للمجتمع كله، وتطرح بين يديه قضاياه وهمومه، وتشتغل معه بطموحاته وتطلعاته وآماله في الغد القريب والمستقبل البعيد. لذلك حين عرضت عليَّ "دار الشروق" ان تجعل "هذه الشهادة" مقدمة لرواية "أولاد حارتنا" لكاتبنا الفذ الكبير نجيب محفوظ لم أتردد في قبول هذا الاقتراح. ولكنني رأيت من الضروري أن أعيد قراءة هذه الشهادة، وأن أعيد قراءة "أولاد حارتنا" مرة اخرى حتى أستوثق من أن ما سطره القلم عام 1994 لا يزال، عند صاحبه على الأقل، صالحا عام 2006، وأن ما شهدتُ به في شأن هذه الرواية التي أحدثت في حياتنا الثقافية دويًّا ظلت أصداؤه تتردد سنوات طويلة لا يزال موضع إيماني واقتناعي. فلما فعلت ذلك بدا لي أنْ ليس عندي ما أضيفه أو أغيّره من سطور هذه الشهادة، إذ الأمر في نهايته يدور حول قضيتين لم يتحول فكري ولم يتغير في شأنهما:
أولاهما: أن من أصول النقد الأدبي التمييزَ الواجبَ بين الكِتَاب الذي يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدد مواقفه ملتزما في ذلك بالحقائق التاريخية والوقائع الثابتة دون افتئات عليها ودون مداراة لما يراه في شأنها، وبين الرواية التي قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، وقد يُدْخِل فيها الخيال إلى جانب الحقيقة العلمية. ولا بأس عليه في شيء من ذلك، فقد كانت الرواية قديما وحديثا صيغة من صيغ التعبير الأدبي تختلف عن "الكِتَاب" والالتزام الصارم الذي يفرضه على مؤلفه. وفي إطار "أولاد حارتنا" فإنني فهمت شخصية "عرفة" بأنها رمز للعلم المجرد، وليست رمزا لعالم بعينه. كما فهمت شخصية "الجبلاوي" على أنها تعبير رمزي عن "الدين"، وليست بحال من الأحوال تشخيصا رمزيا للخالق سبحانه، وهو أمر يتنزه عنه الأستاذ نجيب محفوظ ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي، فضلاً عن أن يستسيغه أو يقبله.
القضية الثانية: حرية التعبير والموقف منها. ذلك أنه مع التسليم بأن الحريات جميعها إنما تمارَس في جماعة منظمة، ولذلك لا يتأبى منها على التنظيم والتعبير إلا حرية واحدة هي حرية "الفكر والاعتقاد" بحسبانهما أمرا داخليا يُسْأَل عنه صاحبه أمام خالقه دون تدخل من أحد، حاكما كان ذلك الأحد أو محكوما، أما حين يتحول الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره في الجماعة، فإن المجتمع يسترد حقه في تنظيم ذلك التعبير دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حد إهدار أصل الحق ومصادرة جوهر الحرية. ذلك أن الهدف من إجازة هذا التنظيم إنما هو حماية حقوقٍ وحرياتٍ أخرى فردية أو جماعية قد يمسها ويعتدي عليها إطلاق حرية الفرد في التعبير وتمنُّعها على التنظيم والتقييد. ويبقى مع ذلك صحيحا أن الأصل هو الحرية، وأن التقييد استثناء تمليه الضرورة، والضرورة إنما تقدَّر بقدرها، ومن شأن الاستثناء ألا يقاس عليه أو يُتَوَسَّع فيه.
وأهم من هذا كله أن الشهادة التي قدمتها ليست رأيا لي، وإنما هي تفسير كاتب "أولاد حارتنا" لما كتبه، وبيان واضح لا يحتمل التأويل لموقفه من القضايا الكبرى التي أثارتها تلك الرواية. وهي، على كل حال، آخر ما صدر عن نجيب محفوظ، أمد الله في عمره، حول القراءة الصحيحة لــ"أولاد حارتنا" باعتبارها "رواية" للخيال والرمز فيها دور كبير، وليست "كتابا" يُقْرَأ قراءة حرفية للتعرف على موقف مؤلفه من القضايا التي يطرحها بعيدا من الرمز والخيال.
وأدعو الله تعالى أن تتسع عقولنا وقلوبنا لمزيد من حرية الكتاب والأدباء وسائر المفكرين في التعبير عن آرائهم وإطلاق مواهبهم بالصيغ الأدبية التي يختارونها دون حجر أو وصاية أو مسارعة إلى الاتهام وإساءة الظن حتى لا "تُكْتَم الشهادة" بيننا وتموت، وحتى لا تتجمد الأفكار على أطراف الألسنة والأقلام، فتُحْرَم الجماعة من زاد ثقافي وعلمي تحتاج إليه وهي تشق طريقها للانبعاث والنهضة وسط زحام حضاري وثقافي لا سابقة له في التاريخ.
نص الشهادة:
حين وقع الاعتداء الغادر على أديب مصر وكاتبها الكبير نجيب محفوظ كنت خارج مصر، وحين عدت إليها طلبت من الصديق الأستاذ محمد سلماوي، وهو من تلامذته المقربين، أن يصحبني إليه لنؤدي واجب الاطمئنان عليه... ولكنه، وسط شواغله الثقافية، تأخر في ترتيب تلك الزيارة حتى عاد الأستاذ نجيب محفوظ إلى بيته قبل أيام من عيد ميلاده الذي شاركه في الاحتفال به كثيرون من محبيه ومقدريه. وإذا بالأستاذ سلماوي يتصل بي ليخبرني أنه رتب للزيارة موعدا في الخامسة من مساء اليوم التالي، وأننا سنذهب في صحبته، ومعنا المهندس إبراهيم المعلم، الذي تربطه ووالده بالأستاذ نجيب محفوظ علاقات ود قديمة وموصولة، ومعنا كذلك الإذاعي والإعلامي المخضرم أحمد فراج.
وعلى باب نجيب محفوظ استقبلتنا بالحفاوة المصرية المعهودة السيدة الفاضلة زوجته، ثم جاء الأستاذ نجيب محفوظ في خطوات ثابتة طمأنتنا على قرب اكتمال شفائه، وأخذ يرحب بنا في ود شديد، ثم جلس بيننا. وسادت فترة من صمت قصير، لأن أحدا منا لم يُعِدّ لهذا اللقاء أكثر من كلمات السؤال عن الصحة والتهنئة بعيد الميلاد. ثم بدا لي على غير ترتيب ولا إعداد أن أقطع هذا الصمت، فوجدتُني أقول: يا أستاذ نجيب، الجالسون معك الليلة كلهم من قرائك. جيلنا كان يجد في كتاباتك ورواياتك شيئا بين فن الأدب وفن التصوير، وذلك بما نسجتَه في وصف القاهرة وحياة أهلها ونماذجهم المختلفة من وَشْىٍ دقيقٍ عامرٍ بالألوان مليءٍ بالتفاصيل حتى ليكاد القارئ يسمع فيه أصوات الناس ويرى وجوههم ويتابع حركتهم في شوارع القاهرة وأزقتها ومساجدها ومقاهيها، ويكاد دون أن يشعر يدخل طرفا في علاقات بعضهم ببعض. وكم من مرة تعرف بعضنا على أحياء القاهرة وشوارعها بما كان قرأه عندك في وصفها وتصوير حياة أهلها. وأضفت: ثم إنك، يا أستاذ نجيب، تظل في خواطرنا، قبل كل شيء وبعد كل شيء، كاتبا وأديبا مصريا خالصا لم تدجَّن كتاباته وآراؤه بتأثيرات غريبة تنال من نكهتها المصرية ومذاقها العربي الأصيل.
وبدا من قسمات وجه الأستاذ نجيب محفوظ وحركة يديه أنه يقبل هذا الوصف له ولكتاباته وأنه يرتاح إليه. فشجعني ذلك على أن أتقدم في الحوار خطوة أخرى، فقلت: ويبقى أن نسألك عن رأي عَبّرْتَ عنه منذ أسابيع قليلة حين بعثتَ برسالة وجيزة إلى الندوة التي نظمتها "الأهرام" تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي". فقد قلتَ للمشاركين في الندوة: إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام وعلى العلم. ولقد وصلت رسالتك، على قصرها، واضحة وصريحة ومستقيمة لا تحتمل التأويل. ولكن يبقى، ونحن معك نسمع لك وننقل عنك، أن نزيد هذا الأمر تفصيلاً نحتاج جميعا إليه وسط المبارزات الكلامية التي يجري فيها ما يستحق الحزن والأسف من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات على أصحابها.
وفي حماسة شديدة وصوت جهير ونبرة قاطعة انطلق نجيب محفوظ يقول: وهل في تلك الرسالة جديد؟ إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم والذين تحدثتُ عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام ويمارسون قيمه العليا دون ضجيج ولا كلام كثير، وكانت أصالتهم تعني هذا كله. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم. ولكنني، في كلمتي إلى الندوة، أضفت ضرورة الأخذ بالعلم، لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير أموره كلها على أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب. إن كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.
وأحب أن أقول: إنه حتى رواية "أولاد حارتنا"، التي أساء البعض فهمها، لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت به أحداثها أن الناس، حين تخلَّوْا عن الدين ممثلاً في "الجبلاوي" وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" أن يديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا)، اكتشفوا أن العلم بغير الدين تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن "الجبلاوي". وأضاف: إن مشكلة "أولاد حارتنا" منذ البداية أنني كتبتها "رواية"، وقرأها بعض الناس "كتابا"، والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال... ولا بأس بهذا أبدا... ولا يجوز أن تحاكم "الرواية" إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها، لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلاً وهو يعبر عن رأيه في رواية. وفي ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة، ويكفي أن نذكر منها كتاب "كليلة ودمنة"، فهو مثلاً يتحدث عن الحاكم ويطلق عليه وصف "الأسد"، ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان، منتهيا بالقارئ في آخر المطاف إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان. وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتبٍ صاحبِ رأيٍ أيًّا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته.
قلت: الواقع أنني قرأت "أولاد حارتنا" منذ سنوات عدة، وأذكر أنني تعاملت معها حينذاك على أنها رواية وليست كتابا، ولذلك تفهمت ما امتلأت به من رموز تداخل في صياغتها الخيال، ولم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز. ولكن الذي استقر في خاطري على أي حال وبقي في ذاكرتي منها إلى يومنا هذا والذي رأيته معبرا عن موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلى قرائه هو تتويح حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة "الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، إلى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد: "الجبلاوي" حتى وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بــ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجِّهة لأهل الحارة.
وتابع الأستاذ نجيب حديثه الأول قائلاً: إنني حريص دائما على أن تقع كتاباتي في الموقع الصحيح لدى الناس، حتى وإن اختلف بعضهم معي في الرأي. ولذلك لما تبينت أن الخلط بين "الرواية" و"الكتاب" قد وقع فعلاً عند بعض الناس وأنه أحدث ما أحدث من سوء فهم اشترطتُ ألا يعاد نشرها إلا بعد أن يوافق الأزهر على هذا النشر، ولا يزال هذا موقفي الى الآن.
قلت: إنني أتمنى، يا أستاذ نجيب، أن يسمع الناس منك هذا الكلام الواضح الذي لا يحتمل التأويل، ليعرفوك منك بدلاً من أن يعرفوك من خلال شروح الآخرين. وائذن لي أن أقول انني كنت واحدا من الذي يجدون هذه المعاني التي حدثتنا بها الآن حاضرة في ثنايا كثير من كتاباتك القديمة والجديدة، وكانت تعبيرا دقيقا عن منهج جيلنا وجيل آبائنا في فهم الإسلام. فقد كانوا، وكنا معهم، نتنفس الإسلام ونحيا به في هدوء واطمئنان دون أن نملأ مجالسنا ومجالس الآخرين بالكلام الكثير عنه.
وحين أوشكت الزيارة أن تتحول بهذا الحوار العفوي الى ندوة تدخل الأستاذ أحمد فراج قائلاً في حماسة: كم كنت أتمنى أن يسمع الناس، كل الناس، هذا الحوار الهادئ حول هذه القضايا الساخنة. وأرجو أن يأذن لي الأستاذ نجيب محفوظ بتسجيل هذا الكلام كله مرة أخرى في ندوة تلفزيونية قصيرة لا تتجاوز الدقائق العشر توضع بها النقاط على الحروف، ويعرف الناس، الموافق منهم والمخالف، حقيقة رأي الأستاذ نجيب محفوظ الذي عبر عنه الآن، كما عبرتْ عنه رسالته الوجيزة إلى ندوة "الأهرام".
قال الأستاذ نجيب محفوظ: إني شاكر ومقدِّر هذا الاهتمام، ولكنني أشفق على نفسي من فتح باب الأحاديث التلفزيونية، وأنا لا أزال في نقاهة لا تحتمل مثل هذا المجهود. ولكنني، بدلاً من هذا، أقترح أن يكتب الدكتور كمال أبو المجد هذا الحوار الذي دار كما دار، وسأكون راضيا عن ذلك كل الرضا.
وفي إطار هذه الرغبة الموثقة بإذن صريح من الأستاذ نجيب محفوظ، وبشهادة ثلاثة من ضيوفه الكرام، وُلِدَتْ فكرة هذا المقال الذي هو عندي شهادة أرجو أن أدرأ بها عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ويتسرعون في الاتهام، وينسَوْن أن الإسلام نفسه أدرج كثيرا من الظنون السيئة فيما دعا إلى اجتنابه من آثام، كما أدرأُ عن تلك الكتابات الصنيعَ القبيحَ الذي يصرّ به بعض الكتّاب على أن يقرأوا في أدب نجيب محفوظ ما يدور في رؤوسهم هم من أفكار، وما يتمنَّوْن أن يجدوه في تلك الكتابات، مانحين أنفسهم قوامة لا يملكها أحد على أحد، فضلاً عن أن يملكها أحد منهم على كاتب له في دنيا الكتابة والأدب ما لنجيب محفوظ من القدم الثابتة، والتجربة الغنية، والموهبة الفذة النادرة التي أنعم بها عليه الله.
أدعو الله أن يتم على أديبنا الكبير نعمة العافية حتى يمسك القلم من جديد مواصلاً عطاءه الأدبي الذي يُغْنِي العقل والوجدان، وواهبا ما بقي من عمره المديد بإذن الله لتجلية الأمرين العظيمين اللذين أشار إليهما في رسالته إلى ندوة "الأهرام": الدين، الذي به هداية الناس وراحة النفوس، والذي يُفِيء ألوانا من المحبة والسماحة ودفء العلاقات والتسابق إلى الخير على حارتنا الكبيرة مصر. والعِلْم، الذي تحيا به العقول، والذي هو مفتاح أمتنا وكل أمة إلى أبواب المستقبل الذي تتزاحم اليوم أمامها شعوب الدنيا كلها لتكون لها مكانة في ساحته التي تتشكل معالمها الجديدة يوما بعد يوم".
وتعليقى على هذا الكلام هو: أولا أن الدكتور أبا المجد ليس متخصصا فى النقد الأدبى، بل هو إلى عالِم الدين أقرب، إذ هو متخصص فى الحقوق، أى القانون والشريعة. فلا فرق إذن بينه وبين واحد كالشيخ الغزالى بمقياس الأستاذ النقاش، وإن كان بنفس المقياس ينبغى أن يكون ما يكتبه أقل فى القيمة مما يسطره قلم الدكتور أحمد الشرباصى المتخصص فى اللغة والأدب والنقد. ومع هذا فقد رحب النقّاش بما قاله أيما ترحيب، ناسيا أنه كان ينبغى ألا يكون هناك مكيالان للكيل بل مكيال واحد. لكنه إنما يريد الانتصار لما يريد أن يقرره لنا بأى ثمن بغض النظر عن مخالفته للحقائق. ومع هذا فلا بد من المسارعة إلى القول بأننى لا أشارك النقّاش فى أنه لا ينبغى أن يتناول الرواية إلا متخصص فى الأدب والنقد، بل كل ما أردت قوله أنه للأسف لا ينسج على منوال واحد. أما ما يكتبه الدكتور أبو المجد فهو مثل أى كلام يكتبه أى مؤلف، وسبيلنا معه هو قراءته وتحليله لمعرفة مدى صوابه أو خطئه. وثانيا فإننا نجد، بعد قراءة ما كتبه وتحليله، أنه للأسف يتناقض فى لب شهادته تناقضا ساطعا، إذ فى الوقت الذى يؤكد فيه "أنني قرأت "أولاد حارتنا" منذ سنوات عدة، وأذكر أنني تعاملت معها حينذاك على أنها رواية وليست كتابا، ولذلك تفهمت ما امتلأت به من رموز تداخل في صياغتها الخيال، ولم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز" نراه يضيف عقب ذلك أن "الذي استقر في خاطري على أي حال وبقي في ذاكرتي منها إلى يومنا هذا، والذي رأيته معبرا عن موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلى قرائه، هو تتويج حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة "الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، إلى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد: "الجبلاوي" حتى وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بــ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة". فهو يقول فى بداية كلامه: "لم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز"، ليعود فى التو واللحظة فيقول عكس هذا تماما، إذ يؤكد أن "موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلى قرائه هو تتويج حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة "الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، إلى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد: "الجبلاوي" حتى وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بــ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة". فهو ينفى مرة أن تكون للكاتب فكرة يريد إيصالها من وراء الرواية، ثم عقب هذا مباشرة نجده يؤكد أن هناك فكرة يريد الكاتب إيصالها لنا من وراء الرواية. وبطبيعة الحال لا يوجد أديب، فضلا عن أن يكون ذلك الأديب من كتاب الروايات، يكتب دون أن يضع فى حسابه التعبير عن فكرة ما ونشرها بين الناس، وإلا ما كان أديبا بل عابثا من العابثين. ومن هذا يتبين لنا أن د. أبو المجد لا يدرك معنى الإبداع الأدبى ولا أهميته بوضوح.
ولنتنبه كذلك إلى أنه لا يفسر الرواية تفسيرا يختلف عن التفسير الذى قلناه من قبل، اللهم إلا فى تأكيده أن الجبلاوى هو الدين لا رب الدين، وهو ما لا يستقيم أبدا حتى لو استعنّا على ذلك بالطبل البلدى ومزيكة حسب الله السادس عشر فوق البيعة، فالدين لا يمكن أن يكون له أبناء وأحفاد على أى وضع، كما أنه لا معنى لأن ينهال عليه إدريس وقدرى بالشتائم واللعنات على النحو الذى نراه فى الرواية بوصفه كائنا عاقلا يصح شتمه ولعنه واتهامه بالقسوة والتصلب وانعدام المشاعر الطيبة. فالدين حتى لو شخصناه يظل معنى من المعانى لا كائنا حيا واعيا له مشاعر ومواقف، فضلا عن أن تكون تلك المشاعر هى القسوة المفرطة غير المسوغة، وأن تكون تلك المواقف هى التصلب الغبى الذى لا يلين ولا يعرف التفاهم أو التسامح. كما أن هذا التفسير يتناقض مع ما أكده نجيب محفوظ فى رسالته المشهورة إلى جورج طرابيشى، ومع ما قاله سكرتير الأكاديمية السويدية فى حفل توزيع الجوائز عام 1988م الذى تسلمت فيه بنتا محفوظ جائزته، وكذلك مع ما قاله الأدباء والنقاد الذين كتبوا عن الرواية عند صدورها، ومع ما لا يزال يقوله كذلك حتى الآن كثير من الأدباء والنقاد.
صحيح أن محفوظ قد اتفق وأبو المجد فى هذا التفسير، أو فلنقل: إن الدكتور أبا المجد قد ردد ما قاله محفوظ، إلا أننا لا يمكن أن ننسى أن هذا رأىٌ جَدَّ لمحفوظ تبعا لما جَدَّ على الساحة، وليس هو رأيه الأصيل. ولسوف نرى أن محفوظا يقر بأن "الجبلاوى" هو فعلا الإله، وإن حاول تخفيف الأمر بقوله إنه الإله فى عقول بعض الناس الذين انحرفوا بفكرة الألوهية عن مفهومها الصحيح. لكن من هم أولئك الناس؟ وأين فى الرواية هذا المعنى الذى يقول؟ لا شىء. لا شىء على الإطلاق! والمهم أنه لم يقل، كما حاول الدكتور أبو المجد أن يقنع قراءه، إن الجبلاوى هو الدين. ولنفترض المستحيل ولنقل إن الجبلاوى هو الدين، فهل يحل ذلك المشكلة؟ ترى هل يصح أن يلعن أبطال محفوظٍ الدينَ ويسبوه بكل هذا الغل والوحشية وكأنه قتل أباهم واغتصب أمهاتهم وأزواجهم وبناتهم وهدم بيوتهم وشردهم واستولى على كل ما يملكون؟ إنى لأشعر كأن هناك ثأرا بائتا بين الكاتب والجبلاوى ينفّس عنه من خلال ما يقوله إدريس وقدرى فى حقه، فإبليس فى القرآن لا يتطاول على الله أو على دينه أبدا، وكل ما هنالك أنه يعترض على أمر الله له بالسجود لآدم رغم أن الله خلقه من نار، وآدم من طين، ويعلن عزمه عى الاجتهاد فى إغواء آدم وذريته إلى يوم الدين. ثم ليس هناك بعد هذا شىء آخر من التجاوز فى حق الله أو دينه، فما معنى كل تلك اللعنات والشتائم التى تنصب انصبابا من فم إدريس على الجبلاوى ويتفنن كاتبنا فى حشو فم ذلك الرجيم بها؟ الحق إنه لمن الوضوح بمكانٍ مكينٍ مدى التخبط الذى يكتنف أية محاولة للتعمية على مقصد الرواية.
وهذا هو النص الذى يشير إلى تفسير محفوظ للجبلاوى بأنه هو الله، وإن حاول محفوظ أن يخفف من الأمر سُدًى. وهو نبذة من المقدمة التى كتبها فيليب ستيورات مترجم الرواية إلى الإنجليزية، وفيها يشير إلى رد الفعل العنيف الذى استُقْبِلَتْ به الرواية قائلا إن السبب فى ذلك هو "أن محفوظا قد تناول القضايا التى ينقسم الناس إزاءها انقساما عميقا لا فى مصر وحدها، بل ربما فى العالم أجمع. ذلك أن أبطال روايته فى حارته القاهرية الخيالية يعيشون مرة أخرى، دون أن يدروا، حياة آدم وموسى وعيسى ومحمد، مثلما يمثل جدُّهم العجوزُ الجبلاوى "اللهَ"، أو بالأحرى: ليس الله، بل فكرة بعينها عن الله من صنع البشر كما قال نجيب محفوظ فى حوار له معى" (مقدمة الترجمة التى قام بها ديفيد ستيورات لرواية "أولاد حارتنا عن دار نشر بلندن عام 1981م). ويلاحظ القارئ أن ستيورات يفسر الجبلاوى بأنه هو الله، وهو ما لم يخالفه فيه محفوظ، وإن حاول التخفيف منه بالقول بأنه ليس الله، بل فكرة الناس عن الله، مما لا يقدم كثيرا ولا يؤخر.
وعلى أية حال فإننا لا يمكننا نبذ ما نحن متأكدون منه ومطمئنون له ونرى أنه ليس هناك تفسير أصح ولا أصلح منه، إلى رأى لا نطمئن له ولا نراه صوابا أبدا. فالدين لا يمكن أن يكون له أولاد: أدهم وإدريس وأميمة، أولئك الذين لا يمكن أن يخطئ أحد أن المقصود بهم آدم وإبليس وحواء، فضلا عن الشخصيات التى ترمز إلى الملائكة: عباس ورضوان وجليل. وبنوة هؤلاء وهؤلاء للجبلاوى ترمز إلى خلقه لهم، فالله ليس له أولاد بالمعنى الحرفى، تعالى الله عن ذلك، ومحفوظ أكبر من أن يظن ذلك مهما كانت عقيدته فى الله فى ذلك الوقت الذى ألّف فيه روايته. كما تشير الرواية إلى أن الجبلاوى قد ترك لأولاده وقفا يصرّفونه فى تدبير مصالحهم، مما يرمز إلى ما خلقه الله فى الأرض والسماء من أجل البشر، وأنه قد جمع أولاده: أدهم وإدريس وعباس ورضوان وجليل (أى آدم وإبليس والملائكة) وأنبأهم أنه أوكل إدارة الوقف إلى أدهم، وهو ما أثار اعتراض إدريس قائلا إن هذا لا يصح: فأدهم ابن الأمة، أما هو فابن الهانم. فرد الجبلاوى بأنه قد قام بالاختيار السليم لأن أدهم يعرف أكثر مستأجرى الوقف بأسمائهم، مثلما يعرف القراءة والكتابة والحساب، ثم طرد إدريس إلى الأبد تشيعه اللعنة لإصراره على التكبر والتمرد والعصيان، وهو ما لا يمكن أن يخطئ العقل ما فيه من الإشارة إلى ما ورد فى سورة "البقرة" عن قول الله للملائكة إنه سبحانه جاعلٌ فى الأرض خليفة هو آدم، الذى يعرف الأسماء كلها والذى أنبأ الملائكة بمسمياتها جميعا، ورَفْض إبليس لهذا الاختيار بشبهة أن آدم مخلوق من الطين، أما هو فمن النار، والنار فى رأيه أفضل من الطين. وفى الرواية أيضا أن الجبلاوى موجود منذ القديم وأنه باق كذلك على توالى الأجيال والأحقاب، وإن كان عرفة قد قتله أو تسبب على الأقل فى موته، وهو ما يرمز إلى حلول العلم فى نفوس بعض الفلاسفة والمفكرين فى العصر الحديث محل العقيدة الإلهية، أو على الأقل: طموحه إلى احتلال مكانة الله فى العقول والضمائر. كذلك تقول الرواية إن أمر الجبلاوى لا يُرَدّ، والناس جميعا تهتف باسمه عند الشدائد، فضلا عن أنه لا يشبهه أحد ولا يشبه هو أحدا. وهناك إشارة إلى الوصايا العشر متمثلة فى "الشروط العشرة" التى تنظم ما تركه الجبلاوى لأهل الحارة من أوقاف. ثم إن أيا من البشر لم ير الجبلاوى قط رغم تطاول الأحقاب والدهور، كما كان جبل ورفاعة وقاسم، وهم المصلحون الذين جاؤوا للأخذ بيد أهل الحارة وتبصيرهم بحقوقهم فى وقف الجبلاوى، ينطقون دائما باسمه ويعلنون أنهم مكلفون من قِبَله، وهو ما يعنى أنهم هم رسل الله: موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، جاؤوا يدعون إليه ويعملون على التمكين للمبادئ والقيم التى يريد سبحانه من أهل الحارة (أى البشر) التمسك بها والكفاح من أجلها... إلخ، مما لا ينطبق منه شىء على الدين، ولا يصدق إلا على المولى جل وعلا مع الأخذ فى الاعتبار بأننا هنا بصدد رواية رمزية كما هو مفهوم.
وإضافة إلى من ذَكَرْنا ممن قاموا بتفسير الرواية التفسيرَ الذى نرى بكل قوة أنه هو التفسير الصحيح نسوق هنا بعض ما كُتِب عنها باللغة الإنجليزية والفرنسية:
وقد أكثر النقّاش من القول بأن أحدا لم ير التقرير الذى كتبه بعض علماء الأزهر ضد الرواية عند نشرها على حلقات فى جريدة "الأهرام" سنة 1959م، وأن الأزهر لم يستجب لدعوة محفوظ إلى إبداء رأيه فى الرواية، ومن ثم فقد ظل كاتبنا على موقفه القديم المتمثل فى أنه لن يقوم بطبعها فى مصر دون موافقة تلك المؤسسة الدينية. إلا أن مجلة "أخبار الأدب" قد نشرت تقريرين عن الرواية صادرين عن مجمع البحوث الإسلامية، وذلك فى مقال بعنوان "عن "أولاد حارتنا" من جديد- عفوا فضيلة الشيخ: لتتحرَّ الدقة فقط، وها هما التقريران أمامك!" يجده القارئ فى العدد 656 بتاريخ الأحد 5 فبراير 2006م، الموافق 6 محرم 1427هـ، لمحمود الوردانى، وفيه نقرأ ما يلى: "في العدد الماضي من "أخبار الأدب" كتب الزميل محمد شعير تقريرا حول موقف نجيب محفوظ من روايته: "أولاد حارتنا"، وسأل الشيخ عبد الظاهر عبد الرازق مدير عام إدارة البحوث والنشر عما إذا كان هناك قرار رسمي من مجمع البحوث الإسلامية صدر في الستينيات يقضي بمنع تداول الرواية، وأجاب فضيلته بأن هناك بالفعل تقريرين يتضمنان قرارا بمنع تداول "أولاد حارتنا". إلى هنا وليست هناك أي مشكلة. المشكلة بدأت عندما طلب الزميل شعير أن يطّلع على التقرير، فرفض الشيخ عبد الظاهر قائلا بالحرف: لا. هناك قواعد تحرّم علينا أن نُطْلِع أحدا على هذه التقارير، وعلينا أن نحترم قواعد العمل. سأكتفي في السطور التالية بنشر نص التقريرين اللذين قال فضيلة الشيخ إنه يحترم قواعد العمل، ولن أكشف عن مصدري الآن، لكنني أطلب من الشيخ عبد الظاهر أن يتحرى الدقة فقط، أو فليقل لي إذا كان هذان التقريران غير صحيحين! لن أناقش بطبيعة الحال ما تضمنه التقريران من عدوان على حرية التعبير من جهة لا يحق لها مناقشة عمل روائي، ولن أناقش أن مرور 20 عاما بين التقرير الأول والثاني لم يغير القرار الجائر. فقط أنشر التقريرين وأضعهما أمام القارئ قبل كل شيء.
التقرير الأول:
"1- القصة تقع في خمسمائة واثنتين وخمسين صفحة من القطع الكبير.وهي من القصص الرمزية التي تتناول تاريخ البشرية ابتداء من آدم وما وقع له ولابنيه، وبعثة الرسل: موسى وعيسى ومحمد إلي وقتنا هذا، وما يظهر كل يوم من جديد في التقدم العلمي
2- وقد رمز الكاتب إلي كل حادثة مشهورة وشخصية معروفة، وأضفي عليها من التصوير ما يحدد معالمها ويدل عليها، وإن لم تكن في الإطار التاريخي لها. فرمز للإله "بالجبلاوي"، والجنة "بحديقة القصر"، وآدم "بأدهم"، وإبليس "بإدريس"، وموسى "بجبل"، وعيسى "برفاعة"، ومحمد "بقاسم"... إلى آخر الرموز التي استخدمهما في تصوير الأحداث.
3- وقد أخطأ التوفيق الكاتب في تناوله للإله والرسل.
أ- فبالنسبة للإله: جسّد الإله ونعته بصفات مفزعة سواء على لسان إبليس أو قدري الابن العاصي من ولدَيْ آدم أو الفتوات، وفي بعض الأحيان على لسان الرسل، والبعض الآخر عند تصويره هو لبعض المواقف. وصفه علي لسان إبليس بأنه قاطع طريق في القديم، وعربيد أثيم في المستقبل، ووصف تقاليد أسرته بالسخف والجبن المهين، وأنه يغير ويبدل في كتابه كيف شاء له الغضب والفشل. ووصفه على لسان قدري ابن آدم بأنه لعنة من لعنات الدهر، وأنه البلطجي الأكبر. ووصفه على لسان أحد الفتوات بأنه ميت أو في حكم الميت. ووصفه على لسان ناظر الوقف بأنه قعيد حجرته، ولا يفتح بابه إلا عندما تُحْمَل إليه حوائجه. ووصفه على لسان أحد تلاميذ عيسى بأنه عاجز وأنه لو كان في قوّته الأولى لسارت الأمور كما يشاء. ووصفه على لسان عرفه رَمْز العلم بأنه نائم غير دارٍ بجريمته. ثم يختم قصة الرسالات بموت الجبلاوي. يراجَع في ذلك الصفحات التالية من الكتاب: 23، 25، 29، 51، 55، 56، 65، 66، 71، 86، 95، 230، 237، 274، 289، 410، 484، 492، 497، 499.
ب- بالنسبة للرسل: صوّرهم جميعا في صورة من يرتاد "الغُرَز" ويتعاطى المخدرات، وهذا أخف ما وُصِفوا به فيما كتب. عيسى: وصفه علي لسان أحد الفتوات بأنه خنثى. يقول بطيخة أحد الفتوات ص 275: فتوات الحارة تجتمع من أجل مخلوق لا هو ذكر ولا هو أنثى. ويصوره على لسان نفسه وتلاميذه بأنه سكير حشاش: ففي ص 288 يقول رفاعة "عيسي": الخمر توقظ العفاريت، ولكنها تنعش من تخلَّص من عفريته. وفي ص 291: وتساءل كريم، وهو أحد أعوان رفاعة: هل أُعِدُّ المجمرة؟ فقال رفاعة بحزم: نحن في حاجة إلى وعينا. وينسب إلى رفاعة الزواج من عاهر وإن لم يَقْرُبها، مع أن عيسى لم يتزوج بنص القرآن. وقد ناقض الكاتب نفسه حين جعل بعض أتباعه يتجنبون الزواج حبا في محاكاته. وجعل ولادة عيسى عن زواج، وذلك خلاف ما نص عليه القرآن. ويتنافى ختام حديثه عن عيسى مع ما جاء به القرآن من أنه لم يُقْتَل، ولكنه جعل نهايته القتل كما جاء في الصفحات من 292 إلى 295.
ج- بالنسبة لمحمد المرموز إليه بقاسم: 1- وصفه بارتياد القهاوي وتعاطي الجوزة والشراب وأنه مولع بالنساء يترصدهن بالخلاء عند المغيب كما جاء في الصفحات 318، 322، 338. وفي ص 341 عند الحديث عن زواجه من قمر "خديجة": اقترب منها بجلبابه الحريري، وجسده ينفث حرارة ممزوجة بسطول حتى وقف أمامها ينظر من عَلِ... إلخ.
2- ومن الألفاظ المقذعة الخارجة التي جاء بها الكاتب على لسان أحد البلطجية في النَّيْل من قاسم: عرف ابنُ الزانية كيف يفسد بيننا.
3- بل من أفحش الفحش ما سرده من تعليل لزواج قاسم المتعدد ص 443، إذ يقول: لم يتغير من شأنه شيء، اللهم إلا أنه توسع في حياته الزوجية كأنما جرى فيها مجراه في تجديد الوقف وتنميته. ثم يقوم بسرد التعليل عن زواجه فيقول: "إنه يبحث عن شيء افتقده منذ فقد زوجته الأولى قمر"، أو "إنه يريد أن يوثّق أسبابه بأحياء الحارة جميعا"، أو "إذا كانت الحارة أُعْجِبَتْ به لأخلاقه مرة فقد أُعْجِبَتْ به لحيويته مرات"، و"إن حُبّ النسوان في حارتنا مقدرة يتيه بها الرجال ويزدهون، ومنزلته تَعْدِل في درجاتها الفتونة في زمانها أو تزيد". وينتهي الكاتب من قصته إلى أن التقدم العلمي وتطوره بهذه الصورة إرهاص بانقراض الرسالات وانقضاء أثرها، وأن ذلك أثر من أثار شيخوخة الإله ثم موته.
هذه جوانب المؤاخذة في القصة، ولا يخفف من وقعها الانتقال من الأحداث الطبيعية وشخصياتها إلى أحداث دالة وشخصيات رامزة، فإن ذلك كله لا يخفي الوجه الحقيقي لكل حادثة ولكل شخصية. كما لا يخفف من وقع هذه المؤاخذات أن ما قدمه الكاتب من حيث هو بعيدا عن المعتقدات والمقدسات عمل فني ممتاز، وقد كان في مقدور الكاتب أن يخرج عمله الفني بعيدا عن هذا السقوط. لهذا أُوصِي بعدم نشر القصة مطبوعة أو مسموعة أو مرئية. والله الموفق".
التقرير الثانى:
"بعد فحص رواية "أولاد حارتنا" للأستاذ نجيب محفوظ نجدها قصة رمزية واضحة الرمز تشير إلي قصة الحياة والبشر، إلا أنها مع وضوح رموزها تحتوي على خلط شديد، ولا تنتظم على سياق تاريخي أو خط رمزي مستقيم. وقد رمز فيها لفترات متعددة: فترة بدء الخلق حتى بعثة موسى عليه السلام، وفترة بعثة موسى إلى بعثة عيسى عليه السلام، ثم بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم فترة التخلف والصراع على العالم الإسلامي... وهكذا. وقد جسد في رمزه باسم "الجبلاوي" صورة الإله ونعته بصفات مقذعة سواء على لسان إبليس "إدريس" أو قدري "قابيل" الابن العاصي من وَلَدَيْ آدم "أدهم" أو الفتوات، وفي بعض الأحيان على لسان الرسل أنفسهم، أو في تصوير بعض المواقف. وقد وصفه مثلا على لسان إبليس بأنه قاطع طريق في القديم، وعربيد أثيم في المستقبل. ووصف تقاليد أسرته بالسخف والجبن المهين وأنه يغير ويبدل في كتابه كيف شاء له الغضب والفشل. ووصفه على لسان قدري "قابيل" بن آدم بأنه لعنة من لعنات الدهر، وأنه البلطجي الأكبر. ووصفه على لسان أحد الفتوات بأنه ميت أو في حكم الميت. ووصفه على لسان ناظر الوقف بأنه قعيد حجرته، ولايفتح بابه الا عندما تحمل إليه حوائجه. ووصفه على لسان عرفة "العلم الحديث" بأنه نائم غير دار بجريمته. ثم تنتهي القصة بموت الجبلاوي "الله" على يد عرفة "العلم الحديث". وأما بالنسبة للرسل فقد صورهم في صورة من يرتاد "الغُرَز" ويتعاطي المخدرات، ووصف جبل "موسى" علي لسان أحد الفتوات بأسلوب التحقير بأنه خنثى: لا هو ذكر ولا هو أنثى، وعلي لسان نفسه ولسان تلاميذه بأنه سكير حشاش. كما نسب إلى رفاعه "عيسى" الزواج من عاهر، وإن لم يَقْرُبْها. ثم ذكر بعد ذلك أن بعض أتباعه تجنبوا الزواج حبا في محاكاته.
وجعل ولادة عيسى ناشئة عن زواج. وأنهى حياة عيسى بالقتل. أما بالنسبة لقاسم "محمد" فقد وصفه بأنه يرتاد القهاوي ويتعاطى الجوزة والشراب وبأنه مولع بالنساء يترصدهن بالخلاء عند المغيب. واستعمل في النيل منه ألفاظا مثل ما ذكره على لسان أحد البلطجية: "عرف ابن الزانية كيف يفسد بيننا". ويقول في تعليل تعدد زوجاته: لم يتغير من شأنه شيء، اللهم إلا أنه توسع في حياته الزوجية كأنما جرى فيها مجراه في تجديد الوقف وتنميته. ثم يقول إنه يبحث عن شيء افتقده منذ فقد زوجته الأولى قمر "خديجة"، وإنه إذا كانت الحارة أُعْجِبَتْ به لأخلاقه مرة فقد أُعْجِبَتْ به لحيويته مرات، وإن حب النسوان في حارتنا مقدرة يتيه بها الرجال ويزدهون. ولا يخفف من هذه المؤاخذات أنها سيقت مساق الرمز لأن الرمز مصحوب بما يحدد المقصود منه بغير لبس ولا شبهة، ولا ما يُذْكَر أحيانا على لسان بعض المغرضين أو من استغرقتهم واستهوتهم هذه الأفانين من أن الكاتب يكتب فنا ولا يقصد به القصص الديني. فنحن في هذه القصة نعالج القصة ورموزها الواضحة بدون لجوء إلى قصد الكاتب ونيته، فسوف يحاسبه الله تعالي عليها، وأما تقدير العمل من حيث هو فن "رفيع" فنتركه لهؤلاء النقاد الذين استساغت أذواقهم "الرفيعة" مثل هذا الفن. وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية حظر تداولها أو نشرها مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وكذلك حظر دخولها بناء هذا التقرير وعلي تقارير الأجهزة الرقابية الأخرى. وبالله التوفيق".
هذا بعض ما أُخِذ على الرواية. ويمكن أن نضيف إليه أشياء أخرى منها على سبيل المثال تركيز محفوظ على جبروت الجبلاوى، الذى يصفه دائما بالقسوة واللامبالاة بأولاده واحتجابه المستمر عنهم فلا يرونه ولا يراهم أبدا. وكان من الواجب ألا يصوره، كما فعل، بصورة من يقسو على أولاده ولا يراهم، فالله فى الإسلام يرانا ويسمعنا ويستجيب لدعائنا فى كثير من الحالات استجابة مباشرة أو يحققها لنا فى صورة أخرى أو يؤجل استجابتها إلى حين. كما أنه سبحانه وتعالى ليس جبارا أو شديد العقاب فقط، بل هو أيضا غفور رحيم يتغاضى عن ذنوبنا التى نجترحها دون قصد أو فى حالات الضعف والانكسار ولا يحاسبنا عليها، بل من الممكن ألا يحاسبنا جل وعلا على أى ذنب ارتكبناه كما نصت على ذلك بعض الآيات والأحاديث، ومنها على سبيل المثال قوله عز شأنه: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر/ 53)، "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا" (النساء/ 110)، "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" (آل عمران/ 135- 136)، وكقول نبيه عليه السلام فيما رواه أبو ذر الغفارى: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد قال: "لا إله إلا الله" ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإنْ زَنَى وإن سَرَق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال :وإن زنى وإن سرق.
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر. وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال :وإن رَغِمَ أنف أبي ذر"، وكذلك الحديث التالى من "عمدة التفسير" للشيخ أحمد شاكر: "إن رجلا أذنب ذنبا فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبا فاغفره. فقال الله: عبدي عمل ذنبا فعَلِمَ أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به. قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به. قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره لي. فقال عز وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به. قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال عز وجل: عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به. أُشْهِدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء". وقبل ذلك كله فمن يعمل عملا صالحا لا بد أن يجنى ثمرته. وإذا كان العلم الصالح يخص الأمة كلها فلا بد له من تضافر جهود الصالحين وتعاونهم حتى يؤتى النتيجة المرجوة. وهذه أمور من شأنها أن تبعث على التفاؤل والاطمئنان. ومعنى ذلك أن التشاؤم المحفوطى أمر لا يعرفه الإسلام ولا تصدّقه وقائع الحياة ولا قوانينها.
لكن المشكلة فى "أولاد حارتنا" أنها تشيع اليأس والإحباط وتصور الجبلاوى فى صورة الأصم الأعمى القاسى القلب الذى لا يلين ولا يتفاهم ولا يصغى لأنات ابنه أدهم لا لشىء إلا لأنه خالف مرة عن أمره فحق عليه اللعنة الأبدية، مع أن القرآن يوضح لنا أنه ما إن أقر آدم بذنبه حتى غفر الله له ولحواء وأبرأهما من خطيئتهما وأعطاهما وأولادهما الفرصة للاجتهاد والعمل، مع الوعد بغفران الذنوب ما داموا يؤمنون به ولا يستجيبون لإبليس، أو "إدريس" حسبما تسميه الرواية، وإن استجابوا رجعوا ولم يصروا على العصيان: "وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة/ 35- 39).
ثم إننا، وإن لم نر الله ونسمعه رؤية وسماعا مباشرا، نراه ونسمعه ونحسه فيما يكتنفنا من ألوان الخلق والإبداع الذى يدل عليه ويشير إليه كما هو الحال حين نتناول لقمة هنيئة أو شربة ماء على ظمإ أو حين نشم وردة بلدية من النوع الذى كان يحبه نجيب محفوظ أو حين توصوص لنا فى الظلام نجوم السماء أو يطل علينا قمرها فى ليلة من ليالى الصيف الساجية أو حين ننصت إلى خرير جدول أو حين نفنى فى مجالى الطبيعة إبان الربيع وإزهار الشجر، وكذلك فى ابتهالاتنا له سبحانه وعبادتنا إياه، وبخاصة فى لحظات التوهج الروحى، وما أكثرها، وإن كان بعضنا يؤدى العبادة أحيانا بدافع الشعور بالواجب، ولا بأس فى هذا، فإن الحياة لا تجرى دائما على وتيرة واحدة من التوهج والسطوع. وإلى ذلك كله هناك نعمه سبحانه وعطاياه الكثيرة التى نرفل فيها من مرئى ومسموع ومشموم ومقروء ومشعور به فى وجداناتنا، ومنه ما أُحِسّه أنا الآن من نشوة الإبداع وأنا أكتب هذه الدراسة وأَحَسّه محفوظ وهو يكتب رواياته ويتلقى رأى النقاد والقراء الذين يشاركونه الرؤية والرأى، فضلا عن الجائزة التى فاز بها وجلبت له ما جلبت من أموال وشهرة وتقدير، وإن شاب تلك النعم أحيانا المرض والألم والملل، فضلا عن أن جزءا من طبيعة الحياة يتمثل فى امتزاجها بالكَبَد والمشقة، لا فَكَاك من ذلك. ثم إن القسوة التى يرمى بها محفوظ الجبلاوى شىء، والشدة التى يأخذنا بها الله أحيانا شىء آخر. كذلك فإنه سبحانه وتعالى قد وعد بتعويضنا عن هذا الجانب المؤلم من الحياة بنعيم مقيم فى الدار الآخرة لقاء إيماننا به واجتهادنا فى عمل الصالحات وصبرنا على أكدار الحياة ومشقاتها. ولا شك أن إهمال نجيب محفوظ لجوانب الحياة المضيئة على ما يشوبها من كدر هو نقصان فى الصورة يعيب الرواية التى كتبها دون أدنى شك. وثم نقطة هامة أود ألا يفوتنى التنبيه إليها، ألا وهى أن مهمة جبل ورفاعة وقاسم، حسبما تحكى لنا الرواية، هى المطالبة بنصيب المحرومين من الوقف، أى من خيرات الدنيا وثروة البلاد. لكن هذا ليس إلا أحد المطالب التى يحتاج إليها البشر وجاء بها النبى محمد عليه السلام، وإلا فهناك العلاقات الطيبة بين الناس والخلق الكريم وطلب العلم والتحلى بالذوق السليم ومراعاة قواعد اللياقة وغرس قيم الجمال والخير فى النفس والحرص على عدم تعريض الصحة لأى أذى وتربية الفرد والأمة على التطلع إلى الحرية والكرامة وتجهيز الأمة للدفاع عن نفسها ومكتسباتها والخيرات التى أفاضها الله عليها من أن يغتصبها مغتصب... إلخ.
الحق أننى، رغم سعة صدرى وإعجابى بفن نجيب محفوظ، الذى أرى أنه يتفوق على كثير من الروائيين الموصوفين بالعالمية، وأن بعضا ممن أحرز جائزة نوبل لا يسامت قامته الفنية، لا أستطيع مع هذا أن أبتلع منه تلك الإهانات الموجهة للشخصيات التى ترمز لله وأنبيائه. نعم إنها رموز، لكننى أنظر فى الرواية فلا أستطيع أن أجد مسوغا واحدا يبرر هذا الذى صنعه محفوظ. ذلك أن النبى محمدا وصحابته مثلا لم يكونوا يتعاطَوْن قط شيئا من مغيِّبات العقل، فدين سيد المرسلين هو دين الصحو العقلى والأخلاقى الصارم، والمسكِرات فيه مجرَّمة تجريما لم تُجَرَّمْه فى أى دين أو مذهب آخر قديما أو حديثا. فما معنى الإصرار على تصويرهم بصورة الحشاشين؟ وحتى لو غضضنا النظر عن أن تلك الشخصيات إنما ترمز إلى النبى محمد وصحابته وقلنا إنهم مجرد مصلحين، فالواقع أنه لا يوجد رغم هذا ما يسوغ إدمانها للحشيش. ذلك أن الحشيش يتناقض مع الإصلاح والكفاح فى سبيل القيم والمبادئ الرفيعة. كذلك لم يكن يصح النيل من تلك الشخصيات النبيلة السامقة بكل هذا القدر من البذاءة المفحشة.
لقد كان بإمكان محفوظ أن يورد رأى أعدائهم فيهم، لكنْ بغير هذا الأسلوب، وبخاصة أن أعداء النبى وأصحابه لم يلجأوا يوما إلى هذه اللغة الأوباشية. فهل يكون محفوظ ملكيا أكثر من الملك؟ لقد كان محفوظ، كما قرأنا، من الذين يتعاطَوْن الحشيش ويرتادون بيوت الدعاة ويدمنون التحلق حول موائد القمار يوما من الأيام، مثلما كان معروفا بنكاته وقفشاته العارية التى لاتوقر أحدا ولا شيئا، وكان عند كتابة "أولاد حارتنا" حديث عهد بذلك كله. وهذا هو السبب، فيما أرجح، لشيوع تلك البذاءات فى الرواية. لكن كان يجب عليه أن ينسى حياته الشخصية ويراعى طبيعة الموضوع الذى يعالجه. بَيْدَ أنه لم يصنع شيئا من ذلك للأسف، وهى سقطة خطيرة. أما كلام الوردانى عن مجمع البحوث الإسلامية، وفيه مفكرون وكتّاب وأساتذة جامعيون ونقاد كان ينبغى أن يجلس أمام كل منهم مجلس التلميذ ويقبّل يديه ظَهْرًا لبَطْنٍ، وبطنًا لظَهْر شكرًا لله أن أنعم عليه بتلك النعمة، ووَصْفُه ذلك المجمع بأنه "جهة لا يحق لها مناقشة عمل روائي" فلا أدرى من أين له كل تلك الثقة للنطق به. لكن نرجع ونقول إنه حقا زمن العجائب!