الثلاثاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم أيمن عبد الحميد الوريدات

عبد الرؤوف... هرايس

هرايس... هرايس... هرايس...

ثلاث مرّات متتالية، نغم وإيقاع واحد، بصوت شابّ عنوانه العنفوان والقوّة، يردّدها بوضوح وبثقة في النّفس منقطعة النّظير. كانت المرّة الأولى الّتي سمعنا فيها صوت هذا الشّاب عام 1973م، اذكر وقتها أهل الحيّ الّذين أخذوا يقولون: من هو هذا الشّاب؟ ومن أيّ حيّ أتى؟ وهل له مهنة أخرى غير تلك؟ وهل هذه الهرايس الّتي يبيعها تكفيه وأهله للعيش؟ هذا إن كان له أهل؟ وهل هو يدرس؟ أم أنّ ظروفه حكمت عليه بالتّسرّب منها؟ كلّ هذه المونولوجات كانت في المرّة الأولى الّتي ظهر فيها عبد الرؤوف على السّاحة يحمل سدر الهرايس.

في صباح اليوم التّالي كنت سعيدا عندما رأيته يقف أمام المدرسة ينادي بنفس الصوت، كان لسعادتي سببان ؛ الأول أنّي سأشتري منه قطعة هرايس كنت قد جربتها أمس، وما زال طعمها اللذيذ لا يفارق أضراسي، والسّبب الآخر أنّي اكتشفت حقيقة أنّ عبد الرؤوف لا يدرس وبالتّالي سأخبر الكثيرين بذلك، فأنا قد حصلت على خبر وسبق صحفيّ، ثمّ أضيف إلى أسباب سعادتي سبب ثالث عندما اقترب ابن صفّي وقال بكلّ فخر وفرح: ((هذه عبد الرؤوف ابن حارتي)) وهذا سبق صحفيّ آخر.

أقام عبد الرؤوف علاقات مع أبناء الحيّ ؛ صغاره وكباره كانت هذه العلاقات في بدايتها علاقة بائع بزبون، ثمّ تطوّرت ليصبح عبد الرؤوف واحدا من أبناء الحيّ فهو يقصده يوميًا، وأصبحنا نتحلّق حوله، ونطلب منه أن ينادي (هرايس هرايس هرايس) بصوته الجميل، وكنّا نتسابق لنحضر له الماء البارد من الزير الفخاريّ إذا طلب ذلك ؛ لعلّنا نظفر بنصف قظعة من حلواه اللذيذة، أذكر أنّنا كنّا نسأله: يا عبد الرؤوف: ماذ يفعل القرش؟ فيقول: ((قرش على قرش)) ثم يهمهّم ويسكت، ولا نفهم شيئا.

كانت الأيام تمضي، والزّمن يفعل بنا ما يفعل، وعبد الرؤوف كما هو لا يتغيّر يحمل سدر الهرايس، وينادي بالصّوت نفسه، أتى إلى الدّنيا جيل بعد جيل، وغادرها جيل وجيل، وهاجر من الحيّ من هاجر، وعاد إليها من طيورها المهاجرة من عاد، وعبد الرؤوف هو عبد الرؤوف، وحلواه اللذيذة هي نفسها اللذيذة، فمقادير عبد الرؤوف لا تتغيّر، ثابتة بثباته. بثباته الّي نفتقده في حياتنا هذه.

بقي أن أخبركم أنّ عبد الرؤوف تزوّج من ((قرش على قرش)) وأنجب، ولكنّه ما زال يحمل حتّى اللحظة سدر الهرايس، إلاّ أنّ شيئا واحدا تغيّر في عبد الرؤوف، فهو لم يعد يأتي كلّ يوم كما كان، لا يأتي إلاّ مرّة في الأسبوع، يأتي يوم الجمعة عصرًا، نحادثه فيذكّرنا بأيامنا الخوالي، وينادى بصوته الّي عهدناه هرايس هرايس هرايس، فيخترق صوته كلّ الزّقاق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى