

طّهره يا مطهّر...
((يا رجل ابنك صار عمره سبع سنوات وبعدك ما طّهرته، والله حرام أتّق الله، إذا طهّرته بعد هذا العمر ممكن الأولاد في الحارة يعملوه قصّتهم ويعقدولك إيّاه، والله ما قصدي أحشر خشمي بكل شي بس هاي نصيحة وإنت حرّ)) هذه هي عبارات السيد حِشَريّ الّتي أطلقها كالسّهام في وجه جاره حسن، حاول حسن تجاهله، لكنّ الحشريّ متفنّن في الرّد على المتجاهلين، اسمع إذا احتجت (مصاري) للطهور أقوم بإقراضك – طبعا لا يقرض أحدًا ولو فلسا واحدا والكل يعرف ذلك،لم يستطع حسن تجاهله لأنّه يدرك أنّ الحشريّ مستمرّ ولا ييأس فهذه مهنته،فيردّ أمّ الأولاد تقول إنّ الولد ما زال صغيرًا، وعوده طريّ، وصحته لا تساعد، ألم تره إذا مشى (يطوطح يمين ويسار؟) ويستمر سيل الحشريّ العارم: يعني إذا بقي عوده طري ما راح تطّهره أبدًا، يلله ممكن يوم عرسه بالمرّه!وتصير الفرحة
فرحتين)ويهزّ رأسه ساخرًا ويقلب وجهه إلى الجهة الأخرى وهو يقول ويتمتّم ((عشنا وشفنا اليوم اللي النسوان بتحكم وبترسم فيه، رجال آخر زمن))، ويعود حسن إلى بيته ممتعظًا متأفّفًا وكلمات الحشريّ لا تزال تطنّ في أذنه طنين ذبابة أصابها بشكيرٌ طائرلكنّه لم يقتلها، فينسيه ذلك طرح السّلام أو قول (احم... دستور) الّذي اعتاد ترديده قبل ولوجه عتبة البيت،ويلج البيت حائرًا لم يستطع أن يقاوم، صحيح إنّه حشريّ لكنّ كلامه عين الصواب وصحيح، إلى متى يبقى الولد دون طهور، وإلى متى هذا الدلال من أمّه، يقطع هذ المونولوج كلمات الزوجة (وين سارح، إحنا هون، مالك يا زلمة؟)فينتبه آه آه لا شيء، ثمّ يخاطبها (بدنا نطّهر الولد، خلص بكفّي) الأمّ تهزّ رأسها موافقة على غيرعادتها، وكأنّ حاستها السّادسة أخبرتها بأنّ الأمر جِدٌ لا يحتمل المناكفة والأخذ والردّ. في صبيحة اليوم التّالي يفزّ حسن من نومه ويخرج قاصدًا السّوق ويشتري ثوبًا أبيض (دشداش) وعلبتين من الحلوى حامض حلو، ويتوجّه نحو بيت مطهّر الأولاد، لكنّه لم يجده، ويُخبر بأنّه في الحيّ المقابل ولا يلبث أن يعود، فينتظره في البقالة المجاورة، فيعود بعد ساعة من الوقت راكبا دراجته الهوائيّة، وعليها حقيبته المشهورة (شنطة مطّهر الأولاد البنيّة) وفيها عدّته، فيتلقّفه حسن، ويصطحبه معه، ما أن اقتربا من زقاق بيت حسن حتّى لمح الولد أباه يصطحب المطهّر، وشنطته الشّهيرة الّتي يخشاها كلّ أولاد الحيّ، فكثير منهم من تلوّع من مقصّها، وكثير من سمع قصص التلوّع، وكثير من هُدّد من والديه (بجيبلك المطهّر يقصلك...) حينها أرخى الولد رجليه للريح وأخذ يعدو على غير عادة كالأرنب البريّ في زقاق الحيّ، وبدأت مطاردة ساخنة أبطالها ولد هارب وأولاد الحيّ وبعض شبابه، مسكين هذا الولد فابن جيرانهم فاق سرعته وأظهر قوته فظفربه وعاد به محمولا على كتفيه كخروف العيد، وألقى به بين يديّ والده (خذ يا عمّ جبتلّك إياه) عادت رزقة المطهّر بعدما ظنّها طائرة من بين يديه، ودخل الكلّ المنزل، وتحلّق أبناء الجيران حوله، فتح المطهّر الشنطة وفرش بشكيرًا أبيض ووزّع عليه مقصًا وقطنًا ومعقّمًا و... وضبط عيارنظّارته ‘ فأيّ خطأ لا يغتفر، والولد باكيا بين فكيّ كماشه، وأمّه خارج الغرفة وقد اغرورقت عيناها وعينا عمّاته ووقفت الدّمعات على عتباتها وأخذت الألسن تلهج بالدّعاء فتلك عملية كبرى، مسك المطّهر مقصه بيده وقال: لا تخف مقص ماضٍ، ويد خفيفة لن أسبب لك أيّ ألم، لحظة يا عمّو وكلّ شيء تمام، وعيناي الولد تنفجر بكاء، ودمه ناشف في عروقه، وجسمه يرتّجف كما العصفور، وبهدوء يقول المطهّر (شوف الحمامة مشيرًا إلى الأعلى، وبلمحة يقطع ما أراد، ويصرخ الولد، وتعلو زغاريد الأمّ والعمّات الممزوجة بالبكاء، زغاريد متقطعة مشحونة بألم تارة وبفرح أخرى، وينطلق صوت الأمّ (طهّره يا مطاهر وناوله لأمه...)، وترمى زخات الحامض حلو من خلف جدار الحوش على الأطفال المتجمهرين وراءه، ويحاول الولد وضع يده متحّسسا ما حدث، فتنهمر الصرخات عليه ارفع يدك ولا تحاول مرّة أخرى، ويوصي المطهّر الأب غّير على الجرح صباح كل يوم ورشّ من هذه البودرة، ولا تنس زيت الخروع، ويغادر باليمن والبركة ودعوات تسليم اليد، ثلاثة أيام لم يغادر فيها الولد عتبة المنزل حتّى أصابه الملل، فخرج في الرّابع، شقّ الباب ونظر خلسة يحاول أن يرى إن كان هناك من يتربّص به، لمحه بعض الأولاد فأقبلوا مسرعين أقفل الباب وعاد إلى حوش الدّار نهره أبوه وأجبره على الخروج عنوة، خرج مقهورًا حتّى العظم، يمشي وكلّ رجل في جهة (مفاحجة) تحلّق الأولاد حوله وبدأوا يردّدون (مطّهر مطهّر... يا عيبوه...) وحاول خبيث منهم رفع ثوبه ليرى ما حدث، وضع الولد يده اليمنى على... وعاد إلى البيت، ومكث فيه واضعا يده، ومضى به العمر وقطع ثلاثين شوطًا منه وما زال يضع يده اليمنى في مكانها كلما رأى أحدًا،وصدقت نبوءة الحشريّ.