طلب صغير
لم يكن لديه ما يبرر خروجه في تلك الساعة المتأخرة من الليل، كما لم تكن لديه رغبة في الخروج، لكن شوقه إليها ورغبته فيها، وذاك الجو الخانق للشقة، تذمر الأولاد، عصبية الزوجة، وفضاء البيت المغلق، رغم إتساع مساحته نسبيا، جعلته يتعلل أمام زوجته بضرورة الخروج ، بحجة أن زميلا له في العمل، قد ضبطته الشرطة في حالة سكر أثناء قيادة سيارته، ويجب أن يذهب إليه ليبعد عنه حالة التلبس بتدخل من أحد معارفه الكثْر في المصلحة المعنية.
رمى حاله في سيارته، انطلق بها دون وجهة محددة، دلف الشارع الرئيسي القريب من بيته، كان زاهيا بمصابيحه الكثيرة والمضيئة، زيادة على الأضواء المنبعثة من المقاهي، والمحلات التي لا تزال مفتوحة حتى هذا الوقت المتأخر من المساء، لا زالت السيارة تعب الطريق إعتباطيا، وتصدح بأغنية حب فرنسية كان قد أدمنها في الفترة الأخيرة. ترك لسيارته تحديد الوجهة، وغاص هو في خيالاته، ينتصب طيفها في فكره، فيأخذه من القيادة، ومن الشوارع، ولا يرى غير وجهها المضيء، ضحكتها المدوية، ونظرة عينيها تشع فتنة وغنجا. أمام الإشارة الضوئية، يضيع في قوامها، ويعرف أنه قد ينام أمام الإشارة، ولا ينتهي من تأمل ثنيات غصنها، ولقد غفا وهو يستحضر تفاصيلها، إلى أن نبهه سائقي السيارات خلفه بالضغط على الأبواق، وضع يده على علبة السرعة، وانطلق.
لازال لا يعرف أين يتجه، أما مخيلته، فتمضي إلى وجهتها. المكتب هذا الصباح، والاجتماع الذي ضم مديري مصلحات المؤسسة، والتحقت هي بهم كما التحق باقي مندوبي المبيعات، كانت تتلألأ في جلستها، وعيناها الصافيتان تتابعان كلام وحركات المجتمعين، تارة تسجل في مفكرتها شيئا، وتارة تتبادل النظرات مع زميل أو زميلة. رغم أن مداخلاتها كانت نادرة، أو شبه منعدمة، لأن الكلمة كانت أساسا لمديري المصلحات، غير أن حضورها كان قويا، وطغى على الجمع، حتى أنه خيل له، أن المدير العام نفسه أخذه وجودها، تغيرت سحنته، وكان أقل عدوانية. هو يعرف جيدا مزاج رئيسه، فهو المدير المالي للمؤسسة، ودائم الاحتكاك به، ويرجح أن في تلك اللحظة كان تحت تأثيرها، لذا مرّ الاجتماع في سلم تام، ودونما مشاحنات. عند الغذاء، وكان جماعيا،لأول مرة في سجّل المؤسسة، واستثنائيا، وبعيد الاجتماع مباشرة، لإعطاء الفرصة لمن لم يسعفه الحيز الزمني لعرض بعد المعوقات التي يلاقيها، غير أن الجو الحميمي بين الزملاء ومديريهم، لم يترك الفرصة للتطرق للإكراهات، وغنموا هذه اللحظات للهزل، وقفش الدّعابات. كم حاول أن يقاسمها الطاولة التي تجلس عليها لتناول الغذاء، لم يفلح، فقد سبقه الفتيات، وهن يتعجلن للحديث فيما بينهن، خاصة أن مثل هذه الفرصة لا تتكرر لديهن، فهن لا يلتقين إلا عند الدخول أو الخروج، أو يتحدثن عبر الهاتف الداخلي، أو يتبادلن الأخبار عبر الرسائل الإلكترونية، ومن يرى لا كمن يسمع.
كان يلحظها من طاولته، وهي تمضغ الطعام، أو تضحك، أو تحكي، ولم يعد يهمه ما سيقول عنه المستخدمون، وهو الذي دون تاريخ شبيه منذ أن حطّ الرحال في المؤسسة، لم يُعْرَف إلا بجديته، صداقته للمدير العام، والعلبة السوداء لأسراره. لم يكن ليتورط في محاولة التقرب من مستخدمة، لم تكمل سنتها الأولى في الشركة. لكنه لا يهتم، ما أصابه منها، لم يترك له مخرجا إلا أن يشهر رغبته بها أمام الملأ، علها ترضخ، وتترك عنادها. كان يعرف أنها تتهرب منه، فقد حاول عدة مرات أن يمهّد لها، لكنها كانت تتشاغل، أو تتجاهل، لا يعرف لماذا، يعلم أنها ليست تقيّة، ولا صارمة، وأنها صاحبت عددا من زملائها العزّب، أما المدير التجاري، مديرها المباشر، فيعرف أنه يلبي رغباته من حين لآخر، من خارج المؤسسة، تماما كما يفعل هو دائما، لكنه، لا يعرف كيف تسلل عبق هذه المائسة إلى شرايينه، وصار كلما مرت به، تجمع الدم في وجهه.
كان قد وصل إلى شاطئ المدينة، أوقف سيارته، لم يكن الازدحام الذي عهده في مساءات عطلة الأسبوع، الحركة في المطاعم والمقاهي ليست في أوجها، ظل في سيارته، لم تكن له رغبة في الدخول إلى المقهى. كانت ذكراها تهيج في خاطره، خصرها يثير الملح تحت جلده، وخطواتها تصحّي فيه ما اغتاله رغيف اليوم ووسواس الغد، يعرف أن شمعة وطره قصير عمرها، يعرف أن هذه الشعلة قد تكون عابرة، لكنه يريد أن تنير شعلة الحاضر زوايا نفسه، مادام الحاضر يقينا. وما عدا ذلك، فلتحمله الريح في طريقها.
أتصل بأحد مرؤوسيه على نقاله، وطلب منه أن يحصل له على رقم هاتفها، فطلبها، وكان أن استجابت لدعوته، لا سبيل لرد طلب صغير لمدير، مقرب من المدير العام.