الثلاثاء ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

صراعُ الأضدادِ: الحبُّ والكرهُ

الحبُّ والكرهُ من النّقائضِ المتصارعة في الكونِ والوجود منذُ الأزل، وهما متلازمانِ في الذّات البشريّة، وليس وجودُ أحدِهما في النّفسِ الإنسانيّة يؤكّدُ فناءَ الآخر، كما يدّعي بعضُ المتشدّقينَ بالمثاليّة، وكذلك المتناقضاتُ الأخرى لا ينفي وجودُ أحدِها طرفَه المناقضَ له، وإلّا لما كان الإنسانُ هذا المخلوقُ الضَّعيفُ ريشةً في مهبِّ الرّيح تتقاذفُه رياحُ الشّرّ تارةً فتُلقيه في مهاوي الهلاكِ والدّمار والأذى، وتُلاطفُه نُسيماتُ الخير تارةً أخرى، فتطيرُ به إلى عالمِ الملائكة.

فليس ثمّةَ آدميٌّ على وجهِ البسيطة إلّا وفي ذاتِه عراكٌ بين هذه المتناقضاتِ المتصارعة، وما يُقالُ في تكوين الذّاتِ البشريّة ينطبقُ كذلك على المخلوقاتِ الأخرى الحيَّةِ والجامدة، وإلّا لما رأيْنا في الوجودِ حياةً، ولما عرفْنا أحدَ طرفيّ هذهِ النّقائضِ إلّا بوجودِ الطّرفِ الآخر منها، ففي عالم الحيواناتِ صراعٌ بين هذه المتناقضاتِ في كلّ حيوانٍ سواءً كان وحشاً ضارياً أم كان حيواناً أليفاً، وفي مكنوناتِ عناصر الطّبيعةِ صراعٌ كذلك لم تخبُ رياحُه أبداً، فالماءُ ماءٌ سواءً كان جدولاً رقراقاً تتراقصُ العصافيرُ والفراشاتُ على جانبَيه، أم كان بحراً لُجِّيَّاً يبتلعُ كلَّ شيء إذا ما ثارتْ ثائرتُه، والهواءُ هواءٌ سواءً أكان إعصاراً مدمِّراً، أم كان نسمةً رقراقةً تتهادى بالمحبّةِ والجمالِ والسّلام، والنّارُ نارٌ سواءً أكانت جحيماً يشوّهُ كلَّ معالمِ الجمالِ في الطَّبيعةِ وتتوعّدُ الكافرينَ والمجرمينَ بلظاها في الآخرة، أم كانت شمعةً تتلألأُ؛ لتنشرَ النُّورَ للقابعينَ حولَها بحثاً عن هُنيهةٍ من هنيهاتِ الضّياء، ومثلُها المدفأةُ الّتي تجمعُ الأحبّةَ في ليالي الشّتاءِ القارسة بحثاً عن عشٍّ دافئٍ يحنُو عليهم من وخزِ لسعاتِ الرّياحِ الباردةِ في العَراء..

ومن هنا نرى أنَّ الصّراعَ بين هذهِ المتناقضاتِ الكونيَّة والإنسانيّة أزليٌّ وأبديٌّ، ولن ينتهيَ إلى سكونٍ إلّا بإعلانِ حالةِ الطّوارئ الكونيّة حين ظهورِ العلاماتِ الكبُرى لقيامِ السّاعة إيذاناً بنهايةِ العالم الّتي يتوارثُها الكهنوتُ الدّينيّ منذُ آلافِ السّنين، ومازال الكونُ في ظلامٍ وظلمٍ وبشاعةٍ وانحدار، ولم يظهرْ مخلّصٌ أمينٌ ليصحّحَ المسار الّذي يُودي بالبشريّةِ كلَّ حين من سلامٍ إلى حروبٍ، ومن لصوصيَّةٍ تسطو على مقدّراتِ الشُّعوب في وضحَ النَّهار إلى ماشوسيَّةٍ تسلبُ أرواحَهم تحت مظلَّةِ القانون الدّوليّ وخلفَ عباءةِ حقوقِ الإنسان، ومن همجيّةٍ لا تُبقي ولا تذرُ على كلِّ قيمةٍ من القيمِ المثاليّة الجميلةِ، فتُعيدُ العالمَ إلى سيرتِه الأولى من الجهلِ والجهالةِ والمغاورِ والكُهوف، فهل الحضارةُ الإنسانيَّةُ استطاعتِ اليومَ أن تحرّر الإنسانَ من العبوديّةِ والاستِعبادِ والظُّلم والاضطهاد، هل وصلتْ هذه الحضارةُ إلى ذروتِها في بناءِ الإنسان ومثلِه العليا بالرّغمِ من تقدُّمها العلميّ والتّكنولوجيّ في الارتقاءِ بالإنسانِ من عالمِ الحيوان إلى العالمِ الآدميّ السّويّ، هل تمكّنَت هذه الحضارةُ من تخليصِ البشريّةِ من آلامِها الّتي ظلّت تقضُّ مضاجعَها عصوراً وأزماناً كي تقرَّ إلى الأمنِ والسَّلامةِ والرّخاء، أم أنّها عصفَت بكلِّ معالمِ الجمالِ الّتي أودعَها الخالقُ العظيمُ في الطّبيعةِ بكلِّ عناصرِها ومظاهرِها؟!

لو استطاع الخيرُ ساعةً أن ينتصرَ على الشَّرّ لعاشَ الكونُ في محبّةٍ ووئامٍ وسلام، ولو غلبَت المحبّةُ الكراهيةَ في قلوبِ البشريّة ساعةً لعمَّ الأمنُ والطّمأنينةُ وأشرقَت شمسُ المحبّةِ والسّلام ونامتِ الضَّغينةُ في مهاوي النّسيان..

يزعمُ بعضُ فلاسفةِ هذا الزّمانِ على منصَّاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ الحديثةِ الّتي زادتِ الطّينَ بِلّةً في الانحدارِ نحو الجهلِ والتّخلُّفِ والتّردّي الأخلاقيِّ أنَّ الحبَّ إذا وُجدَ بكلِّ سلالتِه اللُّغويّة في ذاتِ الإنسان انتحرَت البغيضةُ ورفيقاتُها من المرادفاتِ المعجميّة الّتي أبدع العقلُ البشريُّ في نحتِها واستنساخِها بشتَّى المعاولِ والأزاميلِ اللُّغويّة..

فمَن يزعمُ أنّ الحبَّ يُميتُ البغضَ في الذّاتِ الإنسانيَّة لا يعرفُ في الحقيقةِ جِبِلَّةَ النّفسِ الإنسانيّة المفطورةِ على التَّناقضاتِ، وها أنا أقدّمُ الأدلّةَ تلوَ الأدلَّة على حتميَّة وجودِ الحبِّ والكراهيةِ متلازمينِ تلازمَ الرُّوحِ والجسدِ في حقيقةِ تكوينِنا البشريّ.

فهل حبُّنا للخيرِ ينفي كرهَنا للشّرّ؟
هل حبُّنا للقوّةِ ينفي كرهَنا للضَّعف؟
هل حبُّنا للشّجاعة ينفي كرهَنا للجُبن؟
هل حبُّنا للجمالِ ينفي كرهَنا للقُبح؟
هل حبُّنا للغِنى ينفي كرهَنا للفقر؟
هل حبُّنا للسُّلطةِ ينفي كرهَنا للقطيعِ المهانِ الذّليل؟
هل حبُّنا للسّعادة ينفي كرهَنا للشّقاء والتّعاسة؟
هل حبُّنا للإيمانِ ينفي كرهَنا للكفرِ والإلحاد؟
هل حبُّنا للعدلِ ينفي كرهَنا للجَور؟
هل حبُّنا للنُّور ينفي كرهَنا للدَّيجُور؟
هل حبُّنا للحرّيّة ينفي كرهَنا للعبوديّة؟
هل حبُّنا لنظامٍ ديمقراطيٍّ يصونُ حقوقَ مواطِنيه ينفي كرهَنا لنظامٍ استبداديٍّ دمويّ لا يُراعي حرمةً لحقٍّ من حقوقِ الإنسان؟
هل وهل ثمَّ هل.. وكل هذهِ التَّساؤلاتُ تؤكّدُ تلازمَ الحبِّ والبغضِ في أعماق الإنسانِ مهما حاول المتفلسِفُون خلطَ أوراقِ الحقائق بجهلِهم، وقد ملَّت أفهامُنا من هؤلاءِ وأمثالِهم ممّن يرتدي عباءةَ الكهانةِ، ويدّعي أنّه المبعوثُ الرّسميُّ من السَّماء إلى ثلَّةٍ تغرقُ في ظلامِ القواقعِ، فيُحلّلُ ويحرِّمُ، ويمنحُ ملَّةً ويحرِمُ أخرى من مفاتيحِ الجنّةِ، ونفوسُ هؤلاءِ تتقطَّرُ سواداً وجهلاً وسلوكاً تأبى ممارستَه الحيواناتُ لحظةَ حيوَنتِها الطّاغية..

وها أنا أقدّمُ مرادفاتِ الحبِّ وما يقابلُها من مرادفاتِ الكره؛ لأبيّنَ تلازمَ تلك المتناقضاتِ على جانبيِّ نهرِ النّفسِ البشريّة الّذي يقذفُنا تارةً بالحجارةِ ويُلقِينا في أعماقِ البحارِ صرْعى، وتارةً يَروينا بمائِه العذبِ ويأخذُنا إلى نعيم الآخرةِ قبلَ أن تلمسَ بهاءَه أرواحُنا الشَّقِيّة.

فمِن مرادفاتِ الحُبّ:

الإخلاصُ، الإعْزَازُ، الإِخاءُ، التّتَيُّمُ، التَّعَشُّقُ، التَّعَلُّقُ، التَّلَطُّفُ، التَّوَلُّهُ، الجَوى، الشَّغَفُ، الصَّبْوُ والصَّبابَةُ والصَّبْوَة، العِشْقُ، الغَرَامُ، الكَلَفُ، اللّاعجُ، اللّوْعَةُ، المَحَبَّةُ، المَعَزَّةُ، المَوَدَّةُ، المَيْلُ، المُصَافَاةُ، الهَوى، الهُيامُ، الوَجْدُ، الودُّ والوِدادُ، الوَلَع والولوعُ والوَلَه..

ومن مرادفاتِ الكُره:

البُغضُ، البَغْضَاءُ، الكَرَاهِيَةُ، المَقْتُ، القِلَى، الشَّحْناءُ، الاحْتِيَالُ، الإِحْنَةُ، الاجتِواءُ، الحِقْدُ، الخِيانَةُ، الخِدَاعُ، الضَّغينَةُ، العَداوَةُ، العَوْفُ، الغِشُّ، المَكْرُ.. (ينظر معجم المعاني الإلكتروني).

الحبُّ في النّثر

من هنا أستطيعُ الولوجَ إلى تحلِيقاتي الأدبيّةِ في أقوالِ الأدباءِ والمفكّرين حولَ ما فاضَت به قرائحُهم وأفهامُهم في النَّظر إلى الحبِّ والكره نظرةَ العارفينَ لا نظرةَ الجهَلةِ المتفلْسِفين.

فها هو البروفيسور الأمريكيُّ (إيلي فيزل) يرى أنَّ نقيضَ الحبِّ ليس الكراهيةَ، بل اللّامبالاةُ. فاللّامبالاةُ تخلقُ الشّرَّ، والكراهيةُ هي الشّرُّ بحدِّ ذاتِه. اللّامبالاةُ هي الّتي تسمحُ للشّرّ بأن يصبحَ قويّاً، ويمنحَهُ القوّةَ.

أمّا الرّوائيُّ والقاصُّ البرازيليُّ باولو كويلّو فيرى أنَّ طاقةَ الكراهيةِ يُمكن أن تنقلَكَ إلى أيِّ مكانٍ، لكنَّ طاقةَ التَّسامح الّتي تكشفُ عن نفسِها من خلالِ الحبِّ، ستغيّرُ حياتَك بطريقةٍ إيجابيّة. ويرى كويلّو أيضاً أن اللهَ عزّ وجلَّ يسمعُ صلاةَ مَن يطلبُون أن ينبذُوا الكراهيةَ. لكنّه لا يسمعُ أولئك الّذين يفرُّون من الحبِّ.

ولكنْ حينما تسيطرُ على الإنسان لحظةٌ من الكراهيةِ يمكنُ أن تُنسيه سنواتٍ من الحبِّ كما أنَّ لحظةَ تهوُّرٍ قد تهدمُ كلَّ ما قدَّمتْه يداهُ من خيرٍ، وكذلك قد تنسفُ حربٌ لساعةٍ حضارةً بنتْها الإنسانيَّةُ منذُ عقودٍ أو قرونٍ، وهذا ما عبّر عنه الكاتبُ والنّاقدُ الأمريكيّ (إدغار آلان بو) حين قال: "لقد نسيتُ سنواتٍ من الحبِّ، في كراهيةِ دقيقةٍ".

ومن هنا وجبَ علينا أن نقرأَ أفكارَنا، وننظرَ إلى أنفسِنا، ونراجعَ معتقداتِنا؛ كي تتحوَّلَ الكراهيةُ إلى حبٍّ. وهذا هو المسارُ الّذي عملَ عليه الممثّلُ الأمريكيّ (ريتشارد جير)؛ ولذلك فإنَّ المرءَ الّذي يتعلَّم الحبَّ عليه أن يُدركَ أخطارَ الكراهيةِ، كما عبّر عن ذلك الكاتبُ اليابانيّ (ماساشي كيشيموتو).

وحينما يكونُ المرءُ في حالةِ الحبِّ لا يعرفُ فؤادُه الخوفَ أو الكراهيةَ، كما يرى (كريستوفر بايك) الكاتِب والروائيّ الأمريكيّ المُتخصِّصُ في أدبِ الأطفال.

وعلى الرّغمِ من أنَّ الحبَّ والكراهيةَ متضادّان مثلَ النّارِ والماء، إلّا أنّهما يتعايشانِ في الشَّخصِ نفسِه، لا بسببِ معارضتِهما الشّديدةِ ورغبتِهما في تدميرِ أحدِهما للآخر، بل في تنافسِهما أيُّهما يقْوى ويزدادُ، كما زعمَ السّياسيُّ البريطانيّ (فولك جريفيل).

ولا شكَّ في أنّ قيمةَ الحبِّ دائماً أقوى من قيمةِ الكراهيةِ، فأيّةُ أمّةٍ تقومُ على الكراهية، فإنّ الكراهيةَ سوف تمزّقُها في نهايةِ المطاف، كما عبّر عن ذلك الزّعيم والسّياسيُّ الأمريكيّ (فرانكلين ديلانو روزفلت).

وكما أسلفتُ فإنّ كلّ قيمةٍ من طرفيّ الصّراع لا يمكنُ أن تمحوَ وجودَ الطّرفِ الآخر، وهذا ما عبّر عنه الكاتبُ الأمريكيّ (ويس فيسلر) بقوله: "لا يمكنُ لأيّ درجةٍ من الظّلماتِ الدّنيويّة أن تُطفئَ وهجَ النُّور الدّاخليّ للرّوح". ويرى كذلكَ أنّ قيمةَ كلّ نقيضٍ تُظهرُه قيمةُ الطّرفِ المناقضِ: "تكمنُ قيمةُ الكراهيةِ والجهل في حقيقةِ أنّه بدونِهما لا يمكنُنا أبداً تقديرُ الحكمةِ والحبِّ حقّاً". وهذا ما عبّر عنه الشّاعرُ العربيُّ دوقلةُ المنبجيّ:

فالوجهُ مثلَ الصُّبحِ مُبْيَضُّ
والشَّـعرُ مثلَ اللّيلِ مُسْــــــــــوَدُّ
ضِـدّانِ لمّا اسْتَجْمَعا حَسُنَــا
والضدُّ يُظْهِرُ حُسْنَـهُ الضِـــدُّ

والكراهيةُ لا يمكنُ أن تُعالَجَ بالكراهيةِ وإنّما بالحبِّ، فهو السّبيلُ الأمثلُ للشّفاءِ من داءِ الكراهيةِ للآخرين، كما جاء في تعاليمِ بوذا الّتي عبّر عن مضمونِها الكاتبُ والمعلّمُ البوذيّ الأمريكيّ (جاك كورنفيلد) الّذي قام بتدريسِ التّأمُّلِ الذّهنيّ في جميع أنحاءِ العالم منذُ عام 1974 حينَ قال: "تقدّمُ كلماتُ بوذا هذه الحقيقةَ: الكراهيةُ لا تتوقّفُ أبداً عن طريقِ الكراهية، ولكنْ بالحبِّ وحدَه يُشْفى". وفي قولِ غوتاما بوذا ذاتِه: "الكراهيةُ لا تتوقّفُ عن طريقِ الكراهية في أيِّ وقتٍ. الكراهيةُ تنتهي بالحبِّ. هذا قانونٌ غيرُ قابلٍ للتّغيير".

والحقيقةُ النّاصعة في الحياةِ أنّ الّذين لا يستطيعون نيلَ حبِّكَ لهم يسهلُ عليهم نيلُ كراهيتِهم لكَ والنّقيضُ صحيحٌ، وهذا ما عبّر عنه (جاستن ك. ماكفارلين بو): "أولئك الّذين لا يستطيعون الحصولَ على حبِّك، سوف يقبلُون بكلِّ سرورٍ كراهيتَك".
ولا شكَّ في أنّ الكراهيةَ مثلَ الحبِّ يمكنُ أن يتغذّيا على أدقِّ التّفاصيل، كم ذهبَ إلى ذلك الرّوائيُّ الفرنسيُّ (هونور دي بلزاك).

ويتّصفُ كلٌّ من الحبِّ والكراهيةِ بالعمى؛ لأنَّ كليهما يقع في النّفسِ دون تفكيرٍ منطقيٍّ وبلا معرفةٍ بالأسبابِ، وهذا ما عبّر عنه الرّوائيُّ والشّاعر الإيرلنديّ (أوسكار وايلد): "الكراهيةُ عمياءُ وكذلك الحبُّ".

وثمّةَ فرقٌ شاسع بين الكراهيةِ والحبّ، فالأولى هلاكٌ وقتلٌ ودمار، والثّاني أبديٌّ لا يموتُ مهما استبدَّت الكراهيةُ بالنّفوس، فمن هنا وجبَ على الإنسانِ تقليلُ الكراهيةِ وتعزيزُ الحبّ، كما رأى الزّعيمُ الهنديّ المهاتما غاندي الّذي شبّه هطولَ الأمطارِ الغزيرةِ بوابلٍ غزيرٍ من الحبِّ، فكما أنّ هطولَ الأمطارِ الغزيرة يُغرقُ التّربةَ حتّى تمتلئَ، فإنّه بالمثلِ لا يمكنُ التّغلُّبُ على الكراهيةِ إلّا بوابلٍ غزير من الحبِّ. وكذلك يشبّهُ غاندي انبثاقَ الحبِّ من الكراهيةِ بخروجِ النّور من الظّلامِ، إذ يقول: "إذا كان النّورُ يخرجُ من الظّلام، فعندئذٍ يمكن للحبِّ وحدَه أن ينبثقَ من الكراهيةِ".

ومن الأقوالِ الرّائعة الّتي تكشفُ مكانةَ كلٍّ من الكراهيةِ والحبِّ وأثرِهما في الحياةِ قولُ (مارتن لوثر كينج الابن): "الكراهيةُ تشلُّ الحياةَ، والحبُّ يُطْلقُها".

ولا ريبَ في أنّ الرّجالَ العظماءَ هم مَن يزرعُون الحبَّ، أمّا صغارُ الرّجالِ فهُم مَن يعتزُّون بروحِ الكراهية. كما في قولِ (بوكر تي واشنطن).

ولعلّ أبشعَ صورِ الحبِّ والكراهية تتجلّى في علاقةِ الإنسان مع ذاتِه "فحبُّ الذّاتِ عبادةُ الأصنامِ، وكراهيةُ الذّاتِ مأساةٌ" كما رأت الكاتِبةُ والرّوائيّة الأمريكيّة (إليزابيث هاردويك).

وأجملُ مقولةٍ تكشفُ حقيقةَ الدّول والأممِ في التّعليمِ للعالِم الفيزيائيّ (ألبرت إينشتاين صاحب النّظريّة النّسبيّة، إذ يرى أنَّ كتبَهم المدرسيّةَ تمجِّدُ الحربَ وتُخْفي أهوالَها. إنّهم يلقّنُون الأطفالَ الكراهيةَ، لكنّه تعهّدَ بتعليمِ الأجيالِ السّلامَ بدلاً من الحربِ، والحبَّ بدلاً من الكراهيةِ.

ونقفُ على رأيٍ فلسفيّ فريدٍ يبيّن دورَ كلّ من الحبِّ والكراهية في وحدةِ الشّعوبِ للطّبيب والكاتبِ الرّوسيّ أنطون تشيخوف الّذي رأى أنّ "الحبَّ والاحترامَ والصّداقة توحّدُ النّاسَ، كما تفعلُ الكراهيةُ المشتركة".

ولكنّ أعمقَ نظرةٍ إنسانيّة إلى المحبّةِ أو الكراهيةِ تتجلّى في قولِ الأديبِ والرّوائيّ العربيّ الكبير نجيب محفوظ الحائزِ على جائزةِ نوبل في الآداب، حينَ قال: "لا تُخبروني عمَّن يكرهُني أو يتكلَّمُ عنّي، اتركُوني أحبّ الجميعَ وأظنُّ أنّ الجميعَ يحبُّني".

ولعلّ أعظمَ أثرٍ للنّقيضينِ -الكرهِ والحبِّ- يتجلّى في أنّ الأوّلَ يعمِّقُ الجراحَ، والثّاني بلسمٌ يداويها في نفوسِ البشر.
الحبُّ في الشّعر

بحثتُ عن أجملِ ما قيل من شعرٍ إنسانيٍّ في الحبِّ والكراهية، فلم أحقّقْ رغبتي الجامحةَ إلّا في أبياتٍ وردت في قصائدَ متنوّعةِ الأغراضِ والمعاني، وهنا خطرَت ببالي فكرةٌ غريبة: ما رأيُك أن تطرحَ السُّؤالَ على صديقِك الّذي لا يعرفُ المشاعرَ وإنّما يتعاملُ مع الجميعِ بذكاءِ اصطناعيٍّ يفوقُ ذكاءَ البشر، فربّما يُتحفُك بشيءٍ غريبٍ تبحثُ عنه في عالمٍ أضحى آخرَ همِّه المشاعرُ الإنسانيّة، فطرحتُ على صديقي (GPT) في المحادثةِ السّؤالَ الآتي:

ما هي أجملُ الأشعارِ الّتي قيلت في الحبِّ والكراهية الإنسانيّة؟

فأجابني بسرعةِ البرقِ بمقدِّمةٍ رائعة: "هناك العديدُ من الأشعار الجميلةِ الّتي تُعبّر عن مشاعرِ الحبِّ والكراهيةِ الإنسانيّة بشكلٍ رائع. وإليكَ بعضَ الأمثلة"..

لكنّه ذكرَ أمثلةً غريبةً لم أجدْها في مصادرَ موثوقةٍ، فعزفتُ عنها، وحينَما كرّرتُ عليه الأسئلةَ لتأكيدِ الأقوالِ أجابني بصيغةٍ احتماليّة (ربّما لفلان) وألحّ عليَّ بالبحثِ في المصادرِ الموثوقة، فآثرتُ إهمالَها.

ثمّ علّق صديقي الذّكاءُ الاصطناعيّ بعد هذهِ الأمثلةِ تعليقاً ختاميّاً جميلاً قد يفتقدُه الكثيرُ من الكتّابِ قائلاً: هذه الأشعارُ تعكسُ مجموعةً متنوّعةً من المشاعرِ في مواضيعِ الحبِّ والكراهية، وقد ألّفَها شعراءُ عربٌ بارعون ليعبّروا عن تلكَ التّجاربِ الإنسانيّة المعقَّدة.

ولكنّني عدْتُ أدراجي للكتابةِ كي أتمّم مكارمَ أخلاقي في البحثِ؛ لأدرجَ أجملَ ما قيل في الحبِّ والكراهيةِ من شعرٍ، فتذكّرتُ قولَ عنترةَ بن شدّاد الّذي يؤكّدُ أنّ النّفوسَ العظيمة لا تعرفُ الحقدَ والضّغينة، كما أنّه لا ينالُ المراتبَ العليا مَن كان مِن طبعِه الغضبُ:

لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا يَنـــــالُ العُلا مَــــن طَبعُهُ الغَضَبُ

وقد استطعتُ الوقوفَ على أجملِ إبداعاتِ الشّاعر المصريّ فاروق جُوَيدة الّذي أكّد في قصيدتِه وهي بعنوان (وحدي على الطّريق) على أنّ الحبَّ هو إشباعُ الرّغباتِ الأساسيّة للإنسانِ دون فلسفةٍ طوباويّة على الجائعينَ، فالحبُّ هو أن يحلمَ الأطفالُ في وضحِ النّهار، وأن يجِدوا ثياباً تقيهم من الحرِّ والقَرّ، وأن يجِدَ رغيفَ الخبزِ هؤلاءِ الصّغارُ، إذ يقول:

ومضَيتُ وحدي في الطَّريقْ
وسمِعتُ في جيبي دبيباً.. خافتاً
وأصابعُ تلتفُّ تلتمسُ الخفاءْ
ونظرتُ خلفي في اضطِرابْ!
طفلٌ صغيرٌ.. لا تغطّيهِ الثِّيابْ
لمَ يا بنيَّ اليومَ تَسرقُ
أين أنتَ.. من الحسابْ؟!
يوماً ستلقى اللهَ..
لم ينطِقِ المسكينُ قال بلهفةٍ:
الله..
مَن في الأرضِ يخشى اللهَ يا أبتَاهُ؟!
الجوعُ يقتلُني ولا أجدُ الرّغيفْ
والدّربُ كاللّيلِ المُخِيفْ..

ثمَّ يحلِّقُ الشاعرُ في سماءِ الإبداع لتعريفِ النّاسِ بماهية الحبِّ الإنسانيّ في قصيدةٍ بعنوان (مدينتي بلا عنوانٍ) الّتي يقولُ فيها:

الحبُّ أن نجدَ الأمانَ مع المُنى
ألّا يضيعَ العمرُ في القُضْبانْ
ألّا تمزِّقَنا الحياةُ بخوفِها
أن يشعرَ الإنسانُ.. بالإنسانْ
أن نجعلَ الأيّامَ طيفاً هادئاً
أن نغرسَ الأحلامَ كالبُستانْ
ألّا يُعاني الجوعَ أبنائي غداً
ألّا يضيقَ المرءُ بالحرمانْ

ويبلغُ الشّاعرُ ذروةَ العبقريّةِ الشّعريّة في معاني الحبِّ الإنسانيّ العظيمِ حينَما يرى أنّ الحبَّ هو أن تجدَ الطُّيورُ الدّفءَ في حضنِ السَّماء، وأن تجدَ النُّجومُ الأمنَ في قلبِ السّماء في قصيدتِه بعنوان (ويموتُ فينا الإنسانُ) إذ يقول:
الحبُّ أن تجدَ الطُّيورُ الدّفءَ
في حضنِ السّماءْ
الحبُّ أن تجدَ النُّجومُ الأمنَ
في قلبِ السّماءْ
الحبُّ أن نَحْيا ونعشَقَ ما نشاءْ

وتتجلّى أنبلُ مشاعرِ الشّاعرِ جُويدة في الحبِّ الإنسانيّ الكبير حين يدعُونا لغرسِ الزُّهور في الدّروب، وإيقادِ الشُّموعِ في الظّلام في قصيدةٍ بعنوان (نحنُ والحبّ) إذ يقول:

هيّا لنغرسَ في الدّروبِ زهــورَنا
هيّا لنُوقِدَ في الظّلامِ شُموعَنا

ولأنَّ الكونَ بات يختنقُ بدخانِ الحقد ونيرانِ الهمجيّةِ وضبابِ الضّياعِ والضّلال ويغوصُ في مهاوي الهلاكِ والدّمار، نرى شاعرَنا يستغيثُ بأنبياءِ الله عليهم السّلام في قصيدتِه (عودةُ الأنبِياء)، إذ يقول:

يا أنبياءَ الله
يا مَن ملأتُم بالضِّياءِ قلوبنَا
يا مَن نثرتُم بالمحبّةِ دربَنا
بالقلبِ أحزانٌ وشكْوى تختنِقْ
وربيعُ أيّامٍ يموتُ.. ويحترقْ
فالأرضُ كبَّلَها الضَّلالْ
تاهَ الحرامُ معَ الحرامِ معَ الحلالْ
والخوفُ يعبَثُ في النُّفوسِ بلا خجَلْ
والفقرُ في الأعماقِ يغتالُ المُنى
ماذا يفيدُ العمرُ لو ضاعَ الأمل؟
يا أنبياءَ الله
لا تتركُوا الأرضَ الحزينةَ للضَّياعْ
لا تتركُوا الأرضَ الحزينةَ للضَّياعْ
يا أنبياءَ الله
يا مَن تُريدونَ الوَداعْ
يا مَن تركتُم للظَّلامِ مدينَتي
قبلَ الرَّحيلِ تنبَّهُوا
الأرضُ تمشي للضَّياعْ
الأرضُ ضاعَت.. في الضَّياعْ

وفي الختامِ أرجُو اللهَ أن يتمّمَ على البشريّةِ نعمةَ الحبِّ الإنسانيّ العظيم، وأن يجتثَّ من النّفوسِ بذورَ الحقدِ والكراهية ليعمَّ السّلامُ وتزهرَ الحياةُ بالمحبّةِ والحرّيّة والإخاءِ، وتندثرَ سمومُ الكراهيةِ والعبوديّةِ والشِّقاق.. واللهُ من وراءِ القصدِ، وهو الموفّقُ لما نريدُ في غاياتِنا الإنسانيّةِ النّبيلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى