الاثنين ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

نفحاتٌ بينَ النُّور والدّيجُور

في حياةِ كلِّ مخلوقٍ آدميٍّ نفحاتٌ حياتيّةٌ تلوِّنُها السَّعادةُ تارةً، وتَطويها رياحُ الشَّقاءِ تارةً أخرى، بعضُها يمتدُّ شعاعُها من الماضي السَّحيقِ إلى الحاضِر، وبعضُها الآخرُ تَطويهِ صفحاتُ الحياةِ بين أسفارِها المنسيَّة، وبعضُها يغرقُ في ظلماتِ شقاءِ الماضي، فلا تُدركُها الذَّاكرةُ ولا الخيالُ إلّا حينَما يتأجَّجُ الحنينُ بينَ الضُّلوعِ، ويلتهبُ الهيامُ بين الجوارحِ إلى أيّامِ البساطةِ والطّيبةِ والمحبَّة رغمَ الفقرِ والشَّقاءِ وعذابِ الرّوحِ والجسدِ، لكنّها تظلُّ هائمةً في الخيالِ لتُولَدُ اليومَ وكأنَّها حَبِلتْ بها الأيّامُ في الأمسِ القريبِ.

مَن مِنّا لا يركعُ للأيّامِ الخَوالي ويتعبَّدُ في محرابِ ذكرياتِها حينَما يَرى طفلاً فقيراً يلُهو بالرّمالِ ويُلَمْلِمُ الأشياءَ التّافهةَ المبعثرةَ هُنا وهُناكَ؛ ليصنعَ منها مجدَ سعادتِه بأبسطِ اللُّعبِ وأتفهِ العناصرِ من الحصَى والتُّرابِ وقِطَعِ الخشبِ والحديدِ والمهمَلاتِ الّتي لا يَعرفُ قيمتَها إلّا مَن قَدَّتِ الحياةُ ضلوعَه من جسدِ القسوةِ ولبِناتِ الحِرمان؟!

مَن منَّا لا يَطربُ إلى شبّابةِ راعٍ يقودُ قطيعَ أغنامِه إلى المراعي في الصَّباحِ الباكرِ وروحُه مُفعَمةٌ بنشوةِ السَّعادةِ والحُبورِ، ويسيرُ بالقطيعِ كالقائدِ المظفَّر ممتطِياً حمارَه وفي يدِه عصا القِيادة، ورجلاهُ تُصارعانِ الهواءَ فتحاً وضمّاً غيرَ مبالٍ بمفاجآتِ الرّواسي والوديانِ والسّهولِ والوهادِ من الوحوشِ المفترسةِ، وفي رِفْقتِه كلابٌ تحرسُ المواشِي وكأنّها في ثورةٍ لا تَخشى غدرَ اللّئامِ ومفاجآتِ الأيّامِ؟!

مَن منّا لا يحِنُّ إلى ذلكَ الفلّاحِ الرّيفيّ البطلِ الّذي يقودُ جيشاً عَرَمْرماً لمُعاركةِ حقولِه وهو يحملُ أدواتِ الحراثةِ على ظهرِه وكتِفَيهِ وفي يدِهِ قبضةُ المحراثِ يرفعُ سِكَّتَها الحديديّةَ عن وجهِ الطَّريقِ حتّى لا تتركَ أذىً على خدودِها الطّريّةِ النّاعمة، وفي يدِه الأُخرى سوطُ القيادةِ والحِكمة يهشُّ بها في الهواءِ دونَ أن يُؤذيَ مخلوقاً ممّا تملكُ يداهُ، وأمامَهُ دبّابتانِ من الدَّوابِّ تجرَّانِ خلفَهما المحراثَ الّذي يشقُّ به جوفَ الأرضِ ليستنضِحَ خيراتِها وعطاءَها الّذي لا ينضُبُ، وخلفَهُ ثلّةٌ من الأغنامِ أو الأبقارِ تَمشي بخُطاهُ لتتبعَهُ إلى ربيعِ الحقلِ قبلَ أن يَذويَ تحتَ جمراتِ عرقِ جبينِه، وخلفَهُ بعضُ أبنائِه الصِّغارِ يرافِقُونهُ ليُوصِلُوه إلى الحقلِ معَ الصَّباحِ الباكرِ حاملينَ صُرّةَ الطّعامِ وبعضَ كتبِ الدِّراسةِ، ثمَّ يعودُون إلى مدارسِهم قبلَ أن يفتحَ المعلِّمُ أبوابَها ليومٍ دراسيٍّ جديد؟!

مَن منّا لا يموتُ شوقاً إلى تقبيلِ كفَّي أمّهِ العظيمةِ الّتي تستيقِظُ مع الفجرِ وفي إحْدى يدَيها غِربالُ التّبنِ لإطعامِ الدَّوابِّ، وفي يدِها الأُخرى وعاءُ الحليبِ وقد امتلأَ من خيراتِ اللهِ ممّا تجُودُ بها تلكَ الأنعامُ، وقد تحمِلُ اليدانِ سلّةَ البيضِ وحزمةً من الحطبِ لغَلْي الحليبِ حتّى يصيرَ إلى نِعَمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وليس في لسانِها إلّا الذِّكْرُ الجميلُ والكَلِمُ الطّيِّبُ، لا تذمُّرَ ولا شَكْوىً ولا أنينَ، وإنّما في جسدِها همَّةُ أمواجِ البحرِ، وفي قلبِها خريرُ السَّاقيةِ، وفي روحِها نشوةُ البلابلِ بين أزهارِ الحُقول، وفي نفْسِها أنفاسُ الصَّباحِ عابقةً بكلِّ رياحينِ الطَّبيعة؟!

مَن منّا لا يتمنّى أن يُلقيَ بكلِّ أدواتِه وأجهزتِه الكهربائيَّةِ الحديثةِ من ثلَّاجةٍ وغسّالةٍ وتلفازٍ في زبالةِ التّاريخِ؛ ليقِفَ فاغِراً فاهُ أمامَ عرشِ تلكَ (النَّمليّة) وعيناهُ تشبَعانِ من مناظرِ (قطرميزاتِ الشّنكليشِ والمكدوسِ والمخلَّلاتِ والمربَّياتِ وغيرِها) وإلى جانبِها خزائنُ اللهِ منَ النِّعم، والآذانُ قد امتلأَتْ بكلماتِ الرِّقّةِ والحنانِ والجمالِ وهي تسيلُ مثلَ ينابيعِ الرّبيعِ من قلبِ أمٍّ ملائكيّ يَفيضُ بالرّحمةِ ونسماتِ القناعةِ والعبادةِ والإيمان؟!

هل يُمكِنُنا أن نَنْسى ذلكَ الطَّشْتَ المعدنيَّ وقد غصَّ بالملابسِ القرويَّةِ البسيطةِ من سراويلَ وعباءاتٍ وجلّابيّاتٍ وكوفِيَّاتٍ ومراويلَ مدرسيَّةٍ وتلكَ اليدينِ الملائكيَّتينِ وهي تعرِكُها عركَ الرّحى مُلقيةً أوساخَها في القاعِ ورغوةُ الصّابونِ تتطايرُ من بين أصابعِها كما تتطايرُ الغيومُ مع هبوبِ الرّياحِ، وإلى جوارِها مذياعٌ تسيلُ دموعُ الخشوعِ من عيونِ مفاتيحِه على تلاوةِ آياتِ الهدايةِ، ثمَّ لا تلبثُ أن تمسحَ تلكَ الدُّموعَ السّماويّةَ ألحانُ الأغاني الصَّباحيّةِ الّتي تهزُّ الوجدانَ وتمتشِقُ حسامَ النّقاءِ والصّفاءِ والهمَّةِ والعَطاء؟!

مَن منّا لا يَذوبُ حنيناً إلى رائحةِ دخانِ الحطبِ والجَلَّةِ وقد ملأَتْ سماءَ الدّارِ والبيتِ، وتغَلْغَلَت من ثقوبِ الجدرانِ الحجريّةِ إلى حنَايا ذلكَ البيتِ التُّرابيِّ الجميلِ، وفتحاتِ مناخِرِنا حاملةً رائحةَ الحياةِ الزَّكيَّةِ من فمِ تنُّورِ الخبزِ الّذي يُطاردُ سحُبَها بألسنةِ اللَّهبِ غيرَ مكترثٍ بالزّمانِ أو المكانِ، وفي معمعةِ المعركةِ انتصبَتْ أمٌّ عظيمةٌ تحاربُ الزّمانَ والمكانَ، وتقاومُ النّارَ والدُّخانَ، وفي كفَّيها كلُّ فنونِ القتالِ تارةً مع طَارةِ المنخُلِ، وتارةً مع رقّاقةِ الخبزِ، وتارةً مع العجينِ، وتارةً مع مِحراكِ الجمرِ، وتارةً مع الرّغيفِ عجيناً، وتارةً مع الرّغيفِ مخبوزاً محمرّاً، وتارةً مع الأغنيةِ تتراقصُ بين شفتَيها مثلَ أجنحةِ الفراشةِ، وتارةً مع الكلماتِ الّتي لا يَسمعُها مخلوقٌ ولا يدركُ مغازيَها إلّا علّامُ الغُيوب؟!

مَن منّا لا ينظرُ بشؤمٍ إلى تلكَ السّاعةِ الّتي وُلِدتْ فيها الأفرانُ الحديثةُ، وصارَت أكياسُ الخبزِ تقتحمُ منازلَنا كمَا تغزُو الأعلافُ حظائرَ الأنعامِ، ومثلَما انهالَت غزواتُ المغولِ والتَّتار إلى عواصمِ الحضارةِ الإسلاميّة، فنشرَ رغيفُ الخبزِ شتّى أنواعِ العللِ والأوبئةِ والأمراضِ المزمنةِ في الجسدِ الآدميِّ وقد أصبَحَت وبالاً عليهِ يقضُّ مضاجعَ البشريّةِ وهي لاهيةٌ في ملذّاتِ الكسلِ مثلَما نشرَت تلكَ الحروبُ الهمجيّةُ الموتَ والخرابَ والدّمار في ربوعِ المشرقِ الإسلاميِّ المُزهِر؟!

مَن منّا لا يُضنِيهِ الحنينُ إلى أغاني الطَّبيعةِ حينَ تمتزجُ أهازيجُ النّساءِ بزقزقةِ العصافيرِ وترانيمِ البلابلِ وتغاريدِ الحساسينِ في البساتينِ وحينَ تختلطُ بمواويلِ وآهاتِ وعتابا الفلّاحينَ في الحقولِ بين أحضانِ الطَّبيعة؟!

مَن منّا يَنسى هيبةَ وعظمةَ صقرِ قريشٍ ذلكَ الجدِّ الّذي تفيضُ العزيمةُ من راحتَيهِ، وتتدفَّقُ الحياةُ متجدّدةً كمياهِ النّهرِ من شفتَيهِ، ويستيقظُ التّاريخُ من وسنِهِ على خدَّيهِ، ويتحدَّى الجبالَ هديرُ الأمواجِ من جبهتِه الّتي ترى فيها كلَّ أوابدِ التّحدّي، وتقرأُ بينَ السُّطورِ الّتي خطّتها الأيّامُ على صفحتِها كلَّ عِبرِ التّاريخِ وحِكمِ النّابهينَ والعارفِين؟!

مَن منّا لا يَبكي حينَما يتذكّرُ ملِكةَ الشّرقِ العظيمةَ زنّوبيا حينَما يَراها قد تجسَّدَت في قوامِ تلكَ الجدَّةِ القويّةِ الشُّجاعةِ الّتي حنَتْ ظهرَها غطرسةُ الأيّامِ كمَا حنَتْ ظهرَ زنّوبيا غطرسةُ الرّومان، لكنّ رأسَها ظلَّ شامخاً إلى السّماءِ وعيناها تتأمَّلانِ النّجومَ، فتَرى ما لا نراهُ، وتسمعُ ما لا نسمعُه، وتتحدّثُ بما لا نستطيعُ البوحَ بهِ؛ إنّها واسطةُ العِقدِ الّتي حينَما سقطَت تاهَتْ جميعُ الأحجارِ الكريمةِ بين حانا ومانا، وضاعَت في أحضانِ (إنّ)، وماتَت في أحاديثِ (كان)، ونامَتِ الأجيالُ على فراشِ (صارَ وباتَ وأصبحَ وأضْحى وأمسَى)، ودفَنَت الأفعالَ في النُّعوشِ، وتوَّجَتِ الأقوالَ في العروشِ، وصار تاريخُنا الحاضرُ مُبعثراً مثلَ أوراقِ الخريفِ بينَ همسِ أوديةِ الضَّبابِ وبينَ جلجلةِ الكُروشِ؟!

مَن منّا لا تَطويهِ القراءةُ بين صفحاتِها حينَ نتذكَّرُ كتابَ القراءةِ في الصُّفوفِ الأولى ونقرأُ أجملَ العباراتِ وأصدقَها (باسِمٌ يَقرأ)؟!

مَن منّا لا يغسِلُ مشاعرَهُ الحنينُ إلى تلكَ العباراتِ البسيطةِ الجميلةِ (ماما تَغسل)؟!

مَن منّا لا يَكويهِ لهيبُ الشَّوقِ إلى تلكَ الجملِ اللّطيفةِ الرّائعةِ (ربابُ تَكوي)؟!

مَن منّا لا يموتُ السُّؤالُ في فمِه وهو يتحرّقُ شوقاً لمعرفةِ مهنةِ الأبِ في عبارةٍ حُبلى بالأسرارِ (بابا يَعمل)؟!

مَن منّا لا يحملُهُ الذّوقُ الفنّيُّ شغفاً إلى تلكَ الرّسومِ الجميلةِ الملوّنةِ بألوانِ الطّبيعةِ الصّافيةِ وهي تعكسُ صورةَ الأبِ والأمِّ والطّفلينِ باسِمٍ ورباب؟!

كنّا نقرأُ عن أُسرةٍ تقرأُ وتكتبُ وترسمُ، تغسلُ وتَكْوي، وكأنّها خليَّةُ نحلٍ فيها الملِكةُ والعاملاتُ والذُّكورُ، تقضي أيّامَها في جِدٍّ وهمّةٍ بلا ضجرٍ ولا تذمُّرٍ ولا ملل.

واليومَ صارتْ وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيِّ هي القراءةَ والكتابةَ والرّسمَ، والغسيلَ والكوْيَ والطّوْيَ والطّبخَ والنّفخَ، والتّعارفَ والصّداقةَ والزّواجَ، وقيامَ اللّيلِ وصلاةَ الضُّحى والنّوافل!

أضحتِ الأسرةُ في مكانٍ واحدٍ، لكنَّ كلَّ واحدٍ من أفرادِها في عالمٍ آخرَ يُغنّي على ليلاهُ، جمعَ المكانُ أجسادَهم، وفرّقَتْ وسائلُ التّواصلِ عقولَهم ومشاعرَهم في أصقاعِ الدُّنيا!

حينَما كنّا صغاراً حمَلْنا الكتابَ في يدٍ والعصَا في اليدِ الأُخرى لقيادةِ قطعانِ الماشيةِ إلى المراعي!

حينَما كنّا صغاراً تلحَّفْنا الكُتبَ حولَ المدفأةِ، وامتشَقْناها حساماً في الطّرقاتِ والدُّروبِ وبينَ أحضانِ الطّبيعة!

حينَما كنّا صغاراً كانتْ ملابسُنا باليةً رخيصةَ الثّمنِ، وكنّا نخجلُ إذا ابتلاهَا الزَّمانُ بالتَّرقيعِ، واليومَ أصبحَتْ ملابسُ الجيلِ الصّاعدِ جديدةً باهظةَ الثَّمنِ، لكنّها مرقَّعةٌ بفعلِ هوسِ الجُنونِ بالتّقليدِ، وبُقعُ التّرقيعِ علامةٌ مسجَّلةٌ في سجلِّ حضاراتِ الأممِ المتقدِّمة!

حينَما كنّا صغاراً كان آباؤُنا وأجدادُنا يرتدُون السَّراويلَ الضّيِّقةَ من الأسفلِ والواسعةَ من الأعلى ومن خلفِها قطعةٌ فضفاضةٌ يتهدَّلُ بها الرّجالُ الفحولُ، واليومَ أصبحَ البِنْطالُ لغزاً كألغازِ مِغزلِ شهرزادَ مع شهريارَ، لا تعرفُ من أينَ تبدأُ ومتى تنتهي حكاياتُهُ وأسرارُه؟!

حينَما كنّا صغاراً كنّا قادةً بارعينَ ونحنُ نقتادُ قطعانَ الأغنامِ والأبقارِ والماعزِ إلى المراعي البعيدةِ مع صياحِ الدّيَكةِ ونباحِ الكِلاب! واليومَ ينامُ الجيلُ مع صياحِ الدّيكةِ ونباحِ الكلابِ، ويستيقظُ على سكونِ الحركةِ وهدوءِ الطَّبيعةِ وقتَ الأصيلِ!

حينَما كنّا صغاراً حمَلْنا الطَّعامَ في الزُّوّادةِ إلى الحقولِ، وساعدْنا آباءَنا وأجدادَنا في حراثةِ الأرضِ واجتثاثِ الأعشابِ الضّارّةِ واقتلاعِ الصُّخورِ الصَّمّاء من جذورِها، وجادَتْ أكفُّنا على الأرضِ برشقاتِ البِذارِ وهي في دورتِها لتحمِلَ وتُنجِبَ؛ لتضعَ حَمْلَها في موسمِ الحصادِ وجنْيِ الثّمار.. وتوَرَّمَت أكفُّنا ونحنُ نصارعُ أكوامَ البيادرِ في تلقينِ الدَّرَّاسةِ بسنابلِ القمحِ والشَّعيرِ، وغاصَتْ أنفاسُنا بغبارِ البيادرِ مثلَما اختَنقَتْ بدخانِ السِّراجِ والفانوسِ حين تلقينِ كتُبِنا بسنابلِ أفكارِنا ومشاعرِنا وطموحاتِنا، وغَصّت حلاقِمُنا بالثّمارِ الفجَّةِ واليانعةِ المشْبَعةِ بالغبارِ والجراثيمِ، فلم نَمْرضْ ولم نزُرْ طبيباً ولم نمُتْ، وما زالَتْ نفوسُنا تحملُ هِممَ الرّجالِ في الماضِي الغارقِ في رحمِ الزَّمن!

صارعْنَا الرّياحَ في شموخِ الجِبالِ وقاوَمْنا مخاوفَ الضَّبابِ في الوديانِ، وغرَسْنا الدُّروبَ بأقدامِنا ذهاباً وإياباً في بردِ الشِّتاءِ تحتَ رصاصِ حبّاتِ المطرِ والبَرَدِ، وعشِقْنا همسَ الثُّلوجِ وأقدامُنا ترسمُ على خدودِها آفاقَ المستقبلِ دونَ مبالاةٍ بدبيبِ البرودةِ في أوصالِنا ودونَ اكتراثٍ بوخزِ آلامِها في كيانِنا ونحنُ نحملُ أسفارَنا على ظهورِنا من قريتِنا الغارقةِ في سُباتٍ عميقٍ إلى القُرى الّتي تبعدُ عنها أميالاً وأميالاً، وكانت أقدامُنا تَطرقُ مشارفَ مدارسِنا الإعداديّةِ والثّانويّةِ قبلَ طلّابِ وطالباتِ سكّانِ تلك القُرى، وبالرّغمِ من قلَّةِ عددِنا خرجَ منّا الأستاذُ الجامعيُّ والمعلّمُ والمربّي التّربويُّ، والكاتبُ والشّاعرُ والأديبُ الألمعيّ، والمهندسُ والمراقِبُ الفنّيّ، والطَّبيبُ البشريُّ والبيطريُّ، والمحامي النَّزيهُ اللّوذعيّ، والضّابطُ الشّريفُ الّذي لم تُغيّر من نقائِه لوثةُ اللُّصوصِ وشذّاذِ التّاريخِ العنصريّ!

نحنُ جيلٌ لن يمُوتَ، وُلِدْنا من رحمِ الفقرِ والشَّقاءِ، وترعرَعْنا في أحضانِ الحِرمان، وشبَبْنا بين الجبالِ والوديانِ، وحيِيْنا بين عِصيِّ الرُّعاةِ وسيوفِ محاريثِ الفلّاحينَ، وعِشْنا بينَ أناشيدِ المعاولِ والمناجلِ، ولم تقَرَّ أعيُنُنا إلّا على خريرِ السَّواقي، وحفيفِ أوراقِ الأشجارِ، ووسوسةِ الزّروعِ، وهينمةِ الفراشاتِ، وزقزقةِ العصافيرِ، وغِناءِ الطُّيور، ووَشْوشةِ الزُّهورِ في الحقولِ، فنحنُ جيلُ الطَّبيعةِ وأبناؤُها الأبرارُ.. والطَّبيعةُ ولَّادةٌ، ومَنْ يُخلِفُ لا يَمُوت!

كانَ قلمُنا مِحْراثاً نخطُّ بهِ مشاعرَنا وعواطِفَنا وأفكارَنا وآلامَنا وأفراحَنا وطموحاتِنا وخيالاتِنا على صفحاتِ الطّبيعةِ، واليومَ مِحراثُنا هو القلمُ نشقُّ بهِ الآفاقَ إن هي أجدبَتْ، ونفجِّرُ ينابيعَ الحياةِ إن هي تصحَّرَتْ، ونستمطِرُ المشاعِرَ إن هي قحلَتْ، ونقتلعُ الأعشابَ والصُّخورَ إن هي استبدَّتْ وتجبَّرَتْ، ونغرسُ النُّورَ في النُّفوسِ إن هي أظلمَتْ، ونؤجِّجُ ثورةَ الفِكرِ والرُّوحِ إنْ هي خمدَتْ، ونستضحِكُ وجوهَ البائسينَ إن هي يئِسَتْ، ونستنضِحُ دماءَ الحياةِ إنْ هي سالتْ وتخثَّرتْ، ونستنطِقُ الخُرْسَ إن خبَتِ الكلماتُ في ألسُنِهم وتعثَّرتْ، ونُسمِعُ الطُّرْشَ إن انسدَّتْ آذانُهم عن أصواتِ الحياةِ أو أُقفِلَتْ، ونُبْكي العابثينَ بالحياةِ بُكاءَ الثَّكالى، ونرسمُ ابتساماتِ الرَّبيعِ على ثُغُورِ الأيَامى، ونُسقِطُ عروشَ الطُّغاةِ بالكلمةِ لا بالرّصاصةِ، ونجعلُ من الواقعِ المريرِ حلماً جميلاً، ومن الواقعِ الجميلِ المرقَّعِ بالزَّيفِ لوحةً من السُّخريةِ يفهمُها المغفَّلُونَ والضَّالُّون..

ليسَ لنا في الحياةِ إلّا محاريثُ الفلّاحِين، ومعاوِلُ العاملِين الكادحينَ، وكتُبُ القراءةِ والمطالعةِ، وأقلامُ إبداعِ الكِتابةِ، ومجاهِرُ العلماءِ وأنوارُ فكرِهم في إضاءةِ ظلماتِ الحياةِ والإنسانِ والكونِ والوجودِ، هكَذا ألهمَنا إلهُ الكونِ، وهكَذا أرشدَنا رجالُهُ العظماءُ في الأرضِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى