الاثنين ٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

أعمى البَصيرةِ والبَصَر

الحياةُ مليئةٌ بالدُّروسِ والعِبر، وفي الطَّبيعةِ ينابيعُ من الحكمةِ الإلهيَّةِ وشلَّالاتٌ من الذَّوقِ الرَّفيعِ، لو عَرفَ الإنسانُ كيف يَجْني رحيقَ أزهارِها، وكيف يقطِفُ ثمارَها اليانعةَ الّتي أودعَها الخالقُ في فِجاجِها وأعماقِها لسَمَتْ نفسُهُ، وشفَّتْ روحُه، وذَكَى فكرُه عن قشورِ الحياةِ، وتعَالَى عن كلِّ بريقٍ خدّاعٍ مُضِلٍّ في الوجُود.

فالحياةُ مدرسةٌ وأمُّ المدارسِ والجامِعاتِ، فيها من الأدبِ الرَّفيعِ ما يُهذِّبُ النُّفوسَ ويسمُو بالمشاعرِ والأذواقِ، وفيها من الأدبِ الوضيعِ ما يَجعلُ من البشرِ في أذواقِهم ومشاعِرِهم مخلوقاتٍ دونَ أخلاقِ الدَّوابِّ، وفيها من النُّورِ ما يَعجزُ المبصِرُونَ عن إبصارِهِ، وفيها من الدَّيجُورِ ما يراهُ الأعْمى اللَّبيبُ بقلبِه وإن عجِزَتْ عيناهُ عن البصَرِ.

وفي الطَّبيعةِ جمالٌ يهذِّبُ النُّفوسَ وذوقٌ يَرقى بها إلى عالمِ الملائكةِ السَّاحرِ، فالعاقِلُ يتعلَّمُ من الحياةِ، فيُصبِحُ بالتَّربيةِ والتَّدريبِ حكيماً، والجاهلُ تَعْمى مداركُهُ عن استيعابِ درسٍ من دروسِها أو فهمِ عِبرةٍ من عِبرِها، أو تأمُّلِ حكْمةٍ من حِكَمِها، والإنسانُ ذو الأحاسيسِ الرَّقيقةِ والمشاعرِ الرَّفيعةِ يَسْتَقي منَ الطَّبيعةِ سِحرَ جمالِها ورِقَّةَ ذوقِها ونُبلَ مشاعرِها وعُمْقَ فهمِها وإدراكِها، فيسْمُو بجمالِهِ، ويرهَفُ بمشاعرِه، وينبُلُ بأفكارِه، فيتعلَّمُ منها، ثمَّ يَغرسُ فيها بِذارَ ما أنبتَتْهُ نفسُهُ وتجاربُهُ وذوقُهُ، فيردُّ لها الجميلَ جمالاً تِلْوَ الجَمالِ، ويمنحُها فِكراً إثرَ فكرةٍ وفكرةٍ، ويجودُ عليها بفيضٍ من الذَّوقِ الرّفيع.
لو تعلَّمْتَ يا بنَ آدمَ من الحياةِ عِبرةً أو فَقِهتَ من الطَّبيعةِ حكمةً لما أغلقْتَ دروبَ العابرينَ بمركبتِكَ، فمنَعتَهم من الحركةِ، وحرَمْتَهم ساعاتٍ من العملِ، وأخَّرْتَهم عن موعدٍ في المشْفى قدْ يُعثّرُ شِفاءَهم وقد يُودِي بحياتِهم، ويبدُو أنّكَ لم تَفْقَهْ معنَى إماطةِ الأذَى عن الطّريقِ كما في تعاليمِ السَّماءِ، ولم تَعِ مفهومَ عرقلةِ حركةِ الآخرينَ حسْبَ قوانينِ الأرضِ.
لو تعلَّمْتَ يا بنَ آدمَ من البلابلِ درساً من دروسِ الذَّوقِ والجَمالِ في تغريدِها ونظامِ حركتِها وتنقُّلِها بينَ الحدائقِ والجداولِ وبينَ أغصانِ الأشجارِ وأشواكِ الورودِ، لما وقفْتَ بمركبتِكَ هذا الوقوفَ الخاليَ من كلِّ جمالٍ وإحساسٍ؟

لو تأمَّلْتَ الكواكبَ والنُّجومَ في الفضاءِ وأدركْتَ فلسفةَ حركتِها في دورانِها حولَ نفسِها وحولَ غيرِها من الكواكبِ والنّجومِ، لأدركْتَ أنَّ خللاً تافِهاً في سيرورتِها قد يُعطِّلُ حركةَ الحياةِ بأسْرِها، وقد يُنْهي الوجودَ برمَّتِه! لكنَّ اللهَ حرمَكَ نعمةَ التَّأمُّلِ والفهمِ والإدراكِ، فشَلَلْتَ بجهلِكَ وانحدارِ ذوقِكَ حركةَ النَّاسِ وعطَّلتَ بأنانيَّتِك مصالِحَهم وأخَّرتَهم عن لقمةِ عيْشِهم، وتسبَّبْتَ في إيذاءِ مشاعرِهم، وسدَدْتَ الآفاقَ في وجوهِهم!

لو تأمَّلْتَ يا بنَ آدمَ ذاتكَ الإنسانيَّةَ الّتي أودعَ فيها البارئُ العظيمُ أسرارَ جلالِه وجمالِه، لتعلَّمتَ دروساً وتَفقَّهتَ حِكَماً لا تُعَدُّ ولا تُحْصى!

فتخيَّلْ أيُّها الأحمقُ أسنانكَ المصفُوفةَ في أماكنِها بكلِّ ذوقٍ وانتظامٍ! لو أنَّ ضرساً تَحلّى بأنانيَّتِكَ وعَميَ بغبائِكَ، فتطاولَ على بقيَّةِ أضراسِكَ، كيف ستكونُ ابتسامتُكَ، وكيف ستَضيعُ مُضَغُ طعامِكَ في فمِكَ، وكم ستُعاني من الآلامِ النَّفسيَّةِ والجسديَّةِ في كيانِكَ، هذا إنْ كانَ في فمِكَ إحساسٌ وفي نظرِكَ ألمٌ وفي ذاتِكَ شعورٌ بالحياة!

وتخيَّلْ أصابعكَ النَّابتةَ من كفَّيكِ نبْتَ أعوادِ القصَبِ على حافَتَيّ ساقيةٍ كيف تتحرَّكُ في نظامٍ فتَنبسِطُ في مدٍّ، وتنقبِضُ في جزْرٍ كمياهِ البحارِ دونَ خللٍ في الحركةِ! تخيَّلْ أيُّها الأعمى بفكرِكَ وفؤادِكَ لو أنَّ أحدَ أصابعِكَ التَوى خلفَ أو أمامَ أصابعكَ الأُخرى كيف ستكونُ حياتُكَ، وكيف يُصبحُ عملُ يديكَ؟ فهلْ فكَّرتَ هُنيهةً ماذا فعلَ وقوفُكَ الآثمُ بمركبتِكَ في حركةِ المركباتِ الأُخرى؟!

وأنا على يقينٍ من أنَّ مركبتَكَ المصنوعةَ من جَمادِ هِباتِ الطَّبيعةِ بكلِّ جمالٍ واتّساقٍ وذوقٍ رفيعٍ وإحساسٍ رهيفٍ لو استطاعَتِ النُّطقَ والكلامَ لصفعَتْكَ بأبوابِها قبلَ أن تضعَ قدميكَ على الأرضِ، ولو تمكَّنَتْ مركبتُكَ من الحركةِ دون تشغيلٍ لكانتْ غادرَتْ موقِفَها المخالفِ لكلِّ قوانينِ الطَّبيعةِ بحثاً عن موقفٍ سليمٍ مناسبٍ، لكنَّ لسانَ حالِها كان يقولُ: لو لم تكُنْ أهْوجَ لما وضَعْتني في هذا الموقفِ المحرجِ الأحمقِ!

ونظراً لكثرةِ الشَّكاوَى الّتي وصلَتْ إلى آذانِ مُصمِّمي ومُخترعي السّيَّاراتِ في العالمِ الرَّاقي المتحضِّرِ، فقدْ بدؤُوا بتصنيعِ السَّيَّاراتِ الذَّكيَّةِ الّتي تَتنبَّهُ لغباءِ وجلافةِ وحماقةِ أمثالِكَ، كي تختارَ المواقفَ المناسبةَ اللّائقةَ بالوقوفِ، وتسلكَ الطُّرقَ الآمنةَ بطريقةٍ راقيةٍ وحضاريّةٍ دون أن تتسبَّبَ بحوادثِ الطُّرقِ وموتِ الأبرياءِ، فتشعرُ بالخطرِ من التَّصرُّفاتِ والأفعالِ الحمقاءِ الّتي يرتكبُها أمثالُكَ في الحركةِ والوقوفِ، ولكنَّ ما أخشاهُ أنَّ درجةَ الذَّكاءِ في تلكَ السَّيَّاراتِ قد تتلاءمُ مع شعوبٍ تقدِّرُ قيمةَ الإنسانِ والوقتِ والذَّوقِ، ولا تتناسبُ مع هوَّةِ الغباءِ والصَّلَفِ والاستِهتارِ بكلِّ قيمِ الإنسانِ والحضارةِ في عالمٍ آخرَ من هذا الكوكبِ البائسِ الحزينِ!

ولا بدَّ لي من القولِ لهؤلاءِ المصمِّمينَ والمخترعينَ في شتّى مجالاتِ التَّصنيعِ في العالمِ المتقدِّم: أرجوكُم تريَّثُوا في اختراعاتِكم، واعلمُوا أين يَنتهي المطافُ بإبداعاتِكم وابتكاراتِ صناعتِكم!

أنتُم صنعْتُم لنا السَّيَّاراتِ للرَّفاهيةِ وسرعةِ الحركةِ، ونحنُ جعلناها مصدراً للشَّقاءِ وسهولةِ القتلِ والفَناء!

أنتم صنعتُم الشَّاحناتِ لنقلِ الأمتعةِ والبضائعِ، ونحنُ حوَّلناها إلى وسائلَ لنقلِ البشرِ أحياءً وأمواتاً إلى العالمِ الآخر!

أنتُم صنعتُم الآلاتِ الزِّراعيّةِ لحراثةِ الأرضِ ونقلِ المحاصيلِ، ونحنُ طوَّرناها إلى مراكبَ انتحاريَّةٍ تحصدُ الأرواحَ وتدفنُها أحياءً!

أنتُم صنعتُم الأدواتِ الميكانيكيَّةَ والكهربائيّةَ لشقِّ أعماقِ الطَّبيعةِ واستنضاحِ خيراتِها، ونحنُ أبدعْنا في استخدامِ أدواتِ صناعتِكم في حفرِ أعماقِ الإنسانِ تارةً بالتَّقطيعِ وتارةً بالتَّثقيبِ وتارةً بالتّشريحِ والتَّنقيبِ بحثاً عن فكرةٍ شاردةٍ أو شعورٍ متمرِّدٍ جامحٍ أو إحساسٍ مرهفٍ ثائرٍ أو طموحٍ خارجٍ على قوانينِ شرائعِ الغابِ!

أنتُم صنعتُم وسائلَ الدّمارِ الحديثةَ المزوَّدةَ بالأسلحةِ الذّكيَّةِ للسَّيطرةِ على أعدائِكم، ونحنُ أبدعْنا في تزويدِها بالأسلحةِ الغبيَّةِ للسَّيطرةِ على أناسِنا وشعوبِنا!

أنتُم صنعتُم كلَّ أنواعِ البطاقاتِ والشَّرائحِ الذَّكيّةِ لتنظيمِ شؤونِ الحياةِ ومنعِ السَّرقاتِ والاختلاساتِ.. ونحنُ أبدعْنا في استخدامِها لتعطيلِ حركةِ الحياةِ، وتفنَّنْنَا في صناعةِ اللُّصوصِ الكبارِ والمختلسينَ من الأبالسةِ الّذين لم يَرِدْ لهم وصفٌ دقيقٌ في جميعِ الكتبِ والمرويَّاتِ الأرضيّةِ والسَّماويّة!

أنتم صنعتُم شتّى أنواعِ وسائلِ الاتّصالِ والتَّواصلِ، ففاضَتْ بأحدثِ برامجِ التِّقْنِيّاتِ والذَّكاءِ الصِّناعيِّ، ونحنُ أبدعْنا وتفرَّدْنا في صناعةِ التَّفاهةِ والتّافهينَ، وغاصَتْ وسائلُنا بالكذبِ والغشِّ والخِداعِ والخرافاتِ والتُّرّهاتِ بشتّى ألوانِها وأشكالِها! وقد ملأتُم وسائلَ تواصُلِكم بالخدماتِ الإلكترونيَّةِ لرفاهيةِ البشريَّةِ، وصرتُم مثلَ خلايا النَّحلِ لإنتاجِ عسلِ الحياةِ، ونحنُ ملأْناهَا بالذُّبابِ والحشراتِ الإلكترونيّةِ الضّارّةِ والقاتلةِ، فقتلْنا الحياةَ في الحياةِ، وسحقْنا أسرارَ عظمةِ الإلهِ بالبحثِ عن إلهٍ، ودمَّرْنا عظمةَ الأنبياءِ والفلاسفةِ والمفكّرين والعلماءِ، ونحنُ لم نصِلْ بعدُ إلى مرحلةِ تشغيلِ العقلِ بفطرتِه السَّليمةِ!

ولم يبقَ عندي ما أقولُه في الختامِ لذلكَ الجاني بمركبتِه على حركةِ الحياةِ سوى هذهِ العباراتِ الّتي تجمعُ بين الشّعرِ والنَّثر، فربّما تحرّكُ مشاعرَهُ، وتنثرُ في حناياهُ بعضَ حكمِ الطّبيعةِ، وتَنظِمُ حركاتِه المبعثرةَ في لوحةٍ فنِّيّةٍ تعلِّمُه وأمثالَهُ معنَى الحياةِ ومفهومَ الذَّوقِ والرُّقيِّ والحضارةِ:

لو لمْ تكُنْ أعْمَى البصِيرةِ والبَصَرْ..
لما وقفْتَ عــــثْرةً في الطَّــــريقِ كالحَجَرْ
تـــأْبى الحَمــــيرُ شــــــــيْنَكَ يا جاهِــــــلُ..
ومثـــلُ فعلِكَ كبـــــيرةٌ عنـــــــدَ البَــقَرْ
إنْ كنْتَ مَحْـــــــرومَ الذُّيولِ في الدُّبُرْ..
فليسَ للذُّيــولِ من عُيــوبٍ في البَشَرْ
لـو كنْتَ تَمْلكُ مــــــنَ الأذواقِ قلـيلَها..
لتعلَّمْتَ مَعْــــنى الحَيـــــاءِ منَ الزَّهَـرْ
لو تأمَّلْتَ الحياةَ بذوقٍ في معـــــانِيْها..
لعلِمْــــــــتَ أنَّ الصَّــــفْوَ مَولُــــــــودُ الكَدَرْ
لو تدبَّرَ فهمُكَ مــــنَ الطَّبيعةِ حِكْمةً
ودُنْيا النّاسِ مَلْأَى بالدُّروسِ والعِبَرْ
لما انحطَّتْ بكَ المشــــــــــاعِرُ والـــــرُّؤَى..
وصِـــــــــرْتَ كالــــرَّوثِ المدنِّسِ المحتـَقَرْ
لو كانَ فيكَ مــــنَ الدَّوابِّ فضيلَةٌ..
لصِرتَ كالأضَـــاحي قُرْبــــانَ النَّحَـــــرْ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى