الأربعاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

نَجْوى التَّماثيلِ

بعدَ أنْ رأيتُ السِّجالَ حاميَ الوطيسِ بين بعضِ المثقَّفين الّذين شغلَتْهم قشورُ الحياةِ عن حقائقِها الّتي باتتْ تهدّدُ الإنسانَ في معيشتِه ووجودِه وكرامتِه الإنسانيَّةِ، وغدَوا أبواقاً تكرّسُ الجهلَ، وتعمِّقُ الهُوَّةَ بين اللهِ والإنسانِ، فلم يَشغلْهم من قضايا مصيرِ الإنسانِ إلّا قضَايا (الهشّك بشّك) بين الحلالِ والحرامِ، ومن هذهِ النّكاتِ قضيَّةُ التّماثيل.

وقد أدّى بهم الجهلُ إلى تحطيمِ رموزٍ تاريخيَّةٍ وحضاريَّةٍ، وفي الوقتِ ذاتِه ساندُوا التَّماثيلَ الحيَّةَ الّتي تُعدُّ خطراً على التَّاريخِ والإنسانِ والحضارةِ.

أمّا قلمي المتواضعُ الّذي تمرّسَ على الغوصِ في البِحارِ الفكريَّةِ الحرَّة، فيَرى أنَّ التَّماثيلَ بين التّحليلِ والتَّحريمِ ثلاثةُ أنواعٍ بعددِ المستحيلاتِ الثّلاثةِ الّتي لا رابعَ لها:

أوّلُها واجبُ النَّحتِ والنّصبِ في السّاحاتِ العامّة للعواصمِ، وليسَ في كلِّ مدينةٍ أو منطقةٍ أو بلدةٍ أو قريةٍ أو دائرةٍ أو مؤسّسةٍ أو مزرعةٍ، أو غرفةِ نومٍ أو عقلٍ بشريّ، فإنْ كان التّمثالُ لعلمٍ من أعلامِ السّياسةِ أو قيادةِ الجيوشِ أو الفكرِ أو الفنِّ أو السّلامِ، فهذا التّمثالُ واجبُ النَّحتِ والنّصبِ تعبيراً رمزيّاً خالداً لصاحبِه الّذي بنَى وطنَه، وحرّرَ شعبَه، وخدمَ البشريّةَ بمُجملِها، ولا بدّ هنا من مراجعةِ سجِلِّ الشّخصيّةِ ومنجزاتِها الحضاريّةِ في الواقعِ وليس في كتبِ المنجّمينَ والآفّاكينَ الّذين يصنعُونَ من الصّرصارِ أسداً، ومن الخُنفساءِ فهداً، ومن الضّفدعِ عالماً وفيلسوفاً، ومن الجُرَذِ قائداً فذّاً في ساحاتِ الوغَى، ومن الطّاووسِ فنّاناً عظيماً، ومن الثَّورِ مُصلحاً اجتماعيّاً ورجلَ سلامٍ عالميّ، ومن الشّيطانِ الخبيثِ رمزاً لوحدةِ الشُّعوبِ في عقائدِها ومعتقداتِها، ومن الوجوهِ المرقَّعةِ بالسِّليكون لوحةً خالدةً تفوقُ في جمالِها سحرَ الموناليزا، ومن نقيقِ الضَّفادعِ في المعابدِ إلهاماً سماويّاً يفتحُ أبوابَ النّعيمِ للمُخدَّرين بأفيونِ النّقيقِ!

ويجبُ الحرصُ على إقامةِ تلكَ التّماثيلِ بعد رحيلِ أصحابِها الأفذاذِ؛ لأنّهم لا يقبلُونَ أن يرَوا تماثيلَهم في حياتِهم، كما نرَى في موقفِ الأديبِ الإيرلنديّ السّاخر جورج برناردشو -خلّدَ اللهُ ذكراهُ وقدَّسَ أسرارَه في علاهُ، فحينَ علمَ برناردشو أنَّ مجموعةً من المعجبينَ به يَجمعُون تبرّعاتٍ لإقامةِ تمثالٍ له في لندن، قالَ لهم: "أَعطُوني المبلغَ، وأنا سأقفُ بنفْسي بدلاً من التّمثالِ في أيِّ مكانٍ تختارونَه!!".

وثانيها واجبُ التّحريمِ قطعاً وواجبُ الإزالةِ من كلِّ ركنٍ وعقلٍ حتماً. وما أكثرَ تلكَ التّماثيلَ في ساحاتِ الشرقِ الّذي أشرقتْ منهُ الحضارةُ! فأيُّ تمثالٍ لم يتركْ صاحبُه أدلّةً قاطعةً في بناءِ الحضارةِ والإنسانِ والارتقاءِ به فكراً وخلُقاً وسلوكاً، يجبُ على الفورِ تحطيمُه، وإن ثبتَتْ خيانةُ ووضاعةُ تلكَ الشَّخصيّةِ بعد كشفِ حقائقِها الّتي انطلَت على المغفَّلينَ أزماناً، فيجبُ أن تُلقى أجسامُ تلكَ التَّماثيلِ في مجَاري الصّرفِ الصّحّي، مع ضرورةِ الإبقاءِ على رؤوسِها في السّاحاتِ العامّة؛ لتُرمى بجمراتِ اللّعنةِ، كتعبيرٍ شرعيٍّ وفقهيٍّ حديثٍ عن مناكفةِ الشّيطانِ برجمِه، وتبصقَ عليها الأجيالُ كتعبيرٍ رمزيٍّ فكريٍّ فلسفيّ على احتقارِ الأبالسةِ ولعنِهم وتلقينِ أقرانِهم درساً قاسياً كي لا يفكّروا هنيهةً في صناعةِ تماثيلِهم مهما حاولُوا خداعَ المغفَّلينَ، ففِكْرُ اللهِ متوقِّدٌ في عقولِ المفكّرينَ، وليس مدجَّناً في قلوبِ المغفَّلين!

وثالثُها، وهو أخطرُها وأخبثُها وأنجسُها، مازالَ ماثلاً حيّاً فوق العروشِ في قصورِ المُلكِ والعبادةِ والفكرِ والتّدوينِ، ومازالَ يمارسُ دورَ الشَّيطانِ الأكبرِ في تغييبِ الفكرِ وهدمِ الإنسانِ وبناءِ إمبراطوريّاتِ قهرِ الكرامةِ والحرّيّة والعقيدةِ الإنسانيّةِ السّليمة. وهذا لن يتأتّى للشُّعوبِ حتّى تُحطّمَ الأصنامَ في داخلِها، وتتخلَّصَ من الأساطيرِ الخرافيّةِ في قلوبِها ومن الخوفِ والرُّعبِ من المجهولِ، فالإنسانُ لن يعيشَ حرّاً أبيّاً، ولن ينالَ حقوقَه وكرامتَه إلّا مرّةً واحدةً ومن فوَّهةِ البندقيّةِ، كما عبّر عن ذلكَ القائدُ الفيتناميّ (فو نغوين جياب) حين زارَه قائدٌ عربيٌّ طالباً المعونةَ لتحريرِ بلادِه بعد أن غاصَ بأموالِ المفسدينَ، فحذّرهُ قائلاً: "الثّورةُ والثّروةُ لا تلتقِيان"، وهي تحملُ دلالةَ مقولةِ القائدِ العظيمِ (هو تشي منّه): "إذا أردتَ أن تُفسِدَ ثورةً فأغدِقْ عليها بالمالِ".

ولا شكَّ في أنَّ بعضَ التّماثيلِ بُنيتْ لتخلّدَ ذكْرى قادةٍ وشخصيَّاتٍ كانت بارزةً في حقبةٍ تاريخيّةٍ ما وفي أماكنَ متعدّدةٍ من العالمِ، وبعد انقضاءِ تلكَ الحقبةِ الزّمنيّةِ وزوالِ هذهِ الشّخصيّاتِ، تنقسمُ الأجيالُ المتعاقبةُ ما بينَ مؤيّدٍ لبقائِها وبينَ معارضٍ لوجودِها، من خلالِ النّظرِ إلى تاريخِ تلكَ الشّخصيّةِ والأعمالِ الّتي قامَت بها.

ومن الأدلّةِ والشَّواهدِ على احتدامِ الصّراعِ حولَ بعضِ التّماثيلِ بين الإزالةِ والإبقاءِ ما حدثَ في ألمانيا الّتي شرَعَت بعد سقوطِ هتلر بإزالةِ كلِّ النُّصُبِ التّذكاريّة والتّماثيلِ الّتي لها دلالةٌ على وجودِ النّازيّة، بينَما يرى المؤيّدونَ بقاءَها؛ لأنّها بمثابةِ جزءٍ مهمٍّ من تاريخِ ألمانيا، فلا يجوزُ تدميرُ تاريخِ حقبةٍ زمنيّةٍ مهمَّةٍ وإن كانتْ حافلةً بالحروبِ والأحداثِ المدمّرةِ الّتي قادتْ ألمانيا إلى استعمارِ الدُّولِ الأخرى، وحملَت نزعةً نازيّةً مدمّرةً أدّت إلى نشوبِ حروبٍ عالميّةٍ وأودَت بحياةِ الملايينِ من البشر.

وبعضُ التّماثيلِ ليس لها أيّةُ قيمةٍ تاريخيّةٍ؛ لأنّها لم تبنِ إنساناً ولا وطناً، بل كانتْ وبالاً على التّاريخِ وعاراً في سجِلِّ الخالدينَ، ولم تكُن تحملُ طُهراً من طهارةِ الأصنامِ، فقد كانت الأمّةُ في عزٍّ وشموخٍ وأنفةٍ وكبرياءَ، فأضحَت في ذلٍّ ومهانةٍ بسببِ هذه الأصنامِ الماثلةِ الحيّة الّتي لم تُغِثْ ملهوفاً، ولم تُلامسْ في نخوتِها نخوةَ المعتصمِ، بالرّغمِ من كثرةِ استغاثاتِ البناتِ اليُتَّمِ وانتهاكِ أعراضِ الأمّة، فهل من خيرٍ في أصنامٍ حيّةٍ صمّاءَ رانَ عليها الذُّلُّ والهوانُ، كما عبّرَ عن ذلكَ الشّاعرُ السُّوريُّ الكبيرُ عمرُ أبو رشه؟!:

أُمَّـــــــتِي هَــــــــــــــــــلْ لَكِ بَيْنَ الأُمَــــــــــــــــــــــــمِ
مِنْـــــــــــــــــبَرٌ لِلسَّـــــــــــــــــــــيْفِ أَوْ لِلقَـــــــــــــــــــلَمِ
أَتَلَقَّــــــــــــاكِ وَطَــــــــــــــــــــرْفِي مُطْـــــــــــــــــــــــرِقٌ
خَجَــــــــــــــــلاً مِنْ أَمْسِـــــــكِ المُنْصَرِمِ
وَيَكَادُ الـــــــــــــدَّمْعُ يَهْمِي عَـــــــــــــــــــاتِبَــــــــــاً
بِبَقَـــــــــــــــــايَــــــــــــا كِبْرِيَــــــــــــــــــــــاءِ الأَلَـــــــــــــــــــــــــــمِ
كَيْفَ أَغْضَيْتِ عَلَى الذُّلِّ وَلَـمْ
تَنْفُضِي عَنْـــــــــــــــكِ غُبَــــــــــــــارَ التُّهَــــــــمِ
أَوَ مَــــــا كُنْتِ إِذَا البَغْيُ اعْتَـــــدَىٰ
مَوْجَـــــــــــــــــةً مِــــــنْ لَهَبٍ أَوْ مِـــــــــنْ دَمِ
رُبَّ وَا مُعْتَصِــــــــــــمَــــاهُ انْطَلَقَـــــــــــتْ
مِلْءَ أَفْـــــــــــــــــوَاهِ الصَّــــــــــبَايَا اليُّتَّـــمِ
لامَسَــــــــــــــــتْ أَسْمَاعَــــــــــــــهُمْ لَــكِنَّهَــــــــا
لَــمْ تُلامِسْ نَخْــــــــــــــــــوَةَ المُعْتَصِـــــــمِ
أُمَّــــــــــــــــــــــتِي كَـمْ صَنَــــــــــــــــــــمٍ مَجَّــــــــدتِـهِ
لَـمْ يَكُـــــــــنْ يَحْمِــــــــلُ طُهْرَ الصَّــنَمِ
لا يُــــــــــــلامُ الذِّئْــــــــــبُ فِي عُـــــــــدْوَانِـه
إِنْ يَكُ الــــــرَّاعِي عَـــــــــدُوَّ الغَنَــمِ؟!
فاحبِسي الشَّكْوى فلولاكِ لما
كان في الحُــــــــــــكمِ عبيدُ الدِّرهمِ

وقد ثارتِ التَّماثيلُ اليومَ على أصحابِها، وأرادَت معرفةَ حقائقِ الشّخصيّاتِ الّتي تمثِّلُها، فبعضُها عبّر عن إعجابِه الشَّديدِ بالأبطالِ العظماءِ الّذين خلّدهم التّاريخُ الحقيقيُّ وأعمالُهم البطوليّةُ الّتي حرّرتْ أوطانَهم من الغزاةِ، ورفعَت مقامَ بلدانِهم بين الأممِ، وأثنَت على مواهبِ الفنّانينَ الّذين أبدعَت أناملُهم هذهِ التّماثيلَ، ودعَتْهم إلى المزيدِ من الإبداعِ لشخصيّاتٍ عظيمةٍ ارتقَت بالإنسانيّةِ إلى مجدِ الفكرِ والمعارفِ والتّقدُّمِ والتَّطوّر وتحريرِ الإنسانِ من الذُّلّ والعبوديّةِ.

لكنَّ بعضَها الآخرَ نهضَ ثائراً ممتعِضاً من الشّخصيّاتِ الّتي تمثِّلُها بعدَ أن تنَاهى إلى فكرِها أنّ هؤلاءِ ليسُوا إلّا ثلّةً من المجرمينَ والخونةِ والعملاءِ ومصّاصي الدّماءِ والطّغاةِ المستبدّين وتجّارِ المالِ والسّلاح والخمورِ والأفيونِ، ولا سيّما بعدَ أن تفشَّتْ أسرارُهم عن المحافلِ العالميّةِ الكُبرى، فعلِمَت علمَ اليقينِ أنّهم ما صنعُوا تماثيلَهم إلّا لأنّهم صغارٌ صارُوا كباراً في سباتِ الشُّعوبِ وجهلِها وذلّها واستكانتِها وعبوديَّتها للأقوياءِ، فراحتْ تدعُو لمن صنعَها بالهلاكِ والثُّبور، واتّهمتْهم بالخِسَّةِ والوضاعةِ؛ لأنّهم سخّروا مواهبَهم الشّيطانيّةَ في خدمةِ أبالسةِ البشر، وذهبَت في عتمةِ اللّيالي تُناجي العواصفَ والزّلازلَ والبراكينَ كي تُزيلَهم من وجهِ الأرض، بل استطاعَت أن تُثيرَ غضبَ شياطينِ السّماء كي تحرّكَ ضمائرَ الشُّعوبِ المخدَّرةِ حتّى تنهالَ على تلكَ التّماثيلِ بالرّجمِ والتّحطيم لإلقائِها في مزابلِ التّاريخ؛ حتّى لا يبقَى لها أثرٌ في ذاكرةِ المخبُولين.
أمّا النّوعُ الثّالثُ فهو تماثيلٌ حيّةٌ تتربّعُ عروشَ العالمِ لم تُصنعْ من الحجارةِ، وإنّما نُحِتَت من هياكلِ الإنسانِ دون أن تمتلكَ خصائصَ مشاعرِه وأخلاقِه وضميرِه ووجدانِه، فثارتْ ثائرةُ الحجارةِ على تلك التّماثيلِ البشريّة الّتي مازالتْ حيّةً، وقد صنعَت من نفسِها آلهةً من الأصنامِ في عقولِ الجهلَةِ والمغفَّلين، فراحَت الحجارةُ تُناجي السَّماءَ بالخلاصِ منهم قبلَ أن يُصبحُوا تماثيلَ من الحجارةِ يتعبّدُ في محرابِها إمّعاتُ الأرضِ من البشر، وما أكثرَهم في شتّى بقاعِ المعمورة! وهذه التّماثيلُ لا يحرّكُها إلا اللهُ حينَما يَحينُ أجلُها، ولا يُدغدغُ مشاعرَها إلّا المالُ والسّطوةُ وامتصاصُ الخيراتِ والثّرواتِ والدّماءِ وأحلامُ النّساء، أمّا الإباءُ والكبرياءُ وإحساسُ الرّجولةِ فليس في قاموسِها مفردةٌ واحدةٌ تتنفّسُ هواءَ الحياةِ والحَياء!

وكشاهدٍ على تماثيلِ البطولةِ والعزّةِ والكبرياءِ وقفَ تمثالٌ أمامَ قلعةِ دمشقَ يتكلّمُ شامخاً ويشدُو عنفوانَ العظمةِ والرِّفعةِ والإباءِ، ويُنشدُ ألحانَ الجلالِ والفخارِ بالبطلِ الّذي خلّدهُ الأعداءُ الّذين رسمُوا لعظمتِه هالةً من الأساطيرِ البطوليّةِ، وهي حقيقةٌ؛ كي يبرّروا هزيمتَهم، كمَا يعظّمُ صعاليكُ العصرِ أساطيرَ طواحينِ الهواء، وهي وهمٌ ومن محضِ الخيالِ؛ ليسوّغُوا ضعفَهم وذلَّهم وهوانَهم، وقد تحطّمتْ تلكَ الأساطيرُ جميعُها أمامَ عزيمةِ بضعةٍ من الرّجالِ حرصُوا على الموتِ فوُهِبُوا الحياةَ، وآمنُوا بأنَّ القوّةَ في الإنسانِ وليسَت في الطّواحينِ الّتي صنعَتْها أوهامُ المتخَاذلينَ.

ويمتَطي صاحبُ التّمثالِ حصانَهُ فاغراً فاهُ معبّراً عن إعجابِه بالأناملِ الّتي أنطقَتْهُ وكأنّه حيٌّ لم يمُتْ، وقد رفعَ الحصانُ إحدَى ساقَيهِ الأماميّتينِ تعبيراً عن حزنِه على بطلِه الّذي فارقَ الحياةَ على فراشِ الموتِ بالرّغمِ من كثرةِ الطّعناتِ والجراحِ على جسدِه الطّاهرِ، فلم يَردَ في ساحاتِ الشّرفِ شاهداً وشهيداً!

إنّهُ تمثالُ القائدِ العظيمِ صلاحِ الدّين الأيّوبيّ بطلِ معركةِ حطّين الكُبرى الّذي لم يتركْ لنفسِه من المالِ ما يَكفي لجنازتِه، فلم يُخلفْ مُلكاً ولا داراً؛ لأنّه أنفقَ جلَّ مالِه في الصّدقاتِ وفي سبيلِ الله.

فمرحَى لكَ أيّها القائدُ العظيمُ.. ومرحَى لأناملِ الفنّانِ السّوريّ الرّاحلِ عبدِ الله السّيّد الّذي طالما أوقفَنا أمامَ هذا الصّرحِ الجليلِ صامتينَ وعيونُنا تَدمعُ دموعَ الفخرِ والاعتزازِ ممزوجةً بدموعِ الحزنِ واليأسِ ممّا حلَّ بهذهِ الأمّة، ومرحَى للممثّلِ السّوريّ غسّان مسعود الّذي جسّدَ شخصيّةَ صلاحِ الدّين بكلِّ براعةٍ وأمانةٍ في مسلسلِ البطلِ (صلاح الدّين)، وها أنا أدَعُ الصُّورةَ تنطقُ عن التّاريخِ، وأتركُ فسحةً للتّأمُّلِ في وجهِ النّحّاتِ الّذي أنطقَ التّمثالَ وجعلَه حاضراً يردُّ هجماتِ المعتدينَ، وقسَماتُ البطلِ تنطقُ بالرُّجولةِ وهيبةِ القوّةِ والانتِصار، وحصانُه يُهمهِمُ ساخراً من كلِّ أنواعِ الأسلحةِ الّتي صدِئتْ في مستودعاتِها، ولم تحرّكْ ساكناً أمامَ عدوٍّ ينتهكُ شرفَها صباحَ مساءَ، لكنّها تحوّلَت إلى آلةٍ من الإجرامِ والقتلِ والهدمِ فوق رؤوسِ شعوبِها يومَ نهضَت من سباتِها العميقِ لتستردَّ كرامةَ وجودِها:

وُلدَ عبدُ اللهِ السَّيِّد في مدينةِ مِصْياف في العاشرِ من أغسطس/آب عامَ 1941م. وبدأَ حياتَه الدِّراسيَّةَ عامَ 1965 م حينَما التحقَ بقسمِ الفلسفةِ والدّراساتِ الاجتماعيَّة في كلّيَّةِ الآدابِ، كما درَسَ في كلّيَّةِ الفنونِ الجميلةِ في دمشقَ، وتخرّج منها عامَ 1971، وفي عامِ 1977 نالَ "دبلومَ الدّراساتِ المعمَّقة" (D.E.A) في علمِ الجمالِ من العاصمةِ الفرنسيَّةِ باريس.
وتُوفّيَ النَّحّاتُ الكبيرُ في العاصمةِ دمشق عن عمرٍ ناهزَ واحداً وثمانينَ (81) عاماً، قدّم خلالَها العديدَ من الأعمالِ الفنّيَّةِ المهِمّة، كان أبرزَها تمثالُ صلاحِ الدّينِ الأيّوبيّ الّذي أخرجَهُ بإزميلِه إلى النُّور عامَ 1993م؛ ليكونَ آبِداً من أوابدِ التّحدّي أمامَ قلعةِ دمشقَ ورمزاً لبطولاتِ الشَّرقِ في التَّصدّي للحملاتِ الصَّليبيَّة وتحريرِ بيتِ المقدسِ الّذي فتحَه من قبلُ الخليفةُ الرَّاشدُ العادلُ عمرُ بنُ الخطّاب.

وقد أمسَى التّمثالُ مَعلماً أثريّاً وتاريخيَّاً وحضاريّاً مُهمّاً من معالمِ دمشقَ الحضارةِ، يعانقُ جبهةَ التّاريخ شموخاً وعزّةً وإباءً، صمَّمَتْه أناملُ الفنّانِ المبدعِ عبدِ الله السّيّد بمناسبةِ الذّكرى الـ 800 لوفاةِ البطلِ الإسلاميّ النّاصر صلاحِ الدّين الأيّوبيّ.
ويُظْهِرُ النُّصْبُ البطلَ صلاحَ الدّين مُمتطِياً جوادَه، مُحاطاً باثنينِ من جنودِ المسلمينَ الأشاوسِ، وخلفَهُ اثنانِ من أسْرى الفِرنجةِ: أحدُهما الأميرُ أرناط، والآخرُ الملكُ "غي دي لوزينيان"، اللّذانِ أسرَهُما صلاحُ الدّين في معركةِ حِطّين في فِلسْطين.

لكنّ المؤسِفَ في واقعِنا الحاضرِ أنّ هذهِ التّماثيلَ الّتي كانتْ تعجُّ بالبطولةِ والرّجولةِ والحياةِ، أصبحَتِ اليومَ مُفْرغةً من مضامينِها، وراحَ يأكلُها المللُ، فلم تعُدْ سيوفُ هؤلاءِ الأبطالِ من القادةِ والمحاربينَ الّذين حكمُوا الدُّنيا إلّا سيوفاً صدِئةً تطعنُ في الهواءِ، ولم تعُدْ خيولُهم إلّا كُتلاً من الإسمنتِ لا حياةَ فيها فلا تسمعُ النّداء، ومثلُها تماثيلُ الآلهةِ الّتي كانت ترتَوي بدماءِ القرابينِ وتنتَشي بالأدعيةِ لم تعُدْ إلّا حجارةً خاليةً من قداستِها، ومثلُها تماثيلُ الملوكِ واجمةٌ وبائسةٌ بلا جَوارٍ ولا حاشيةٍ ولا عبيدٍ، ومثلُها تماثيلُ الشُّعراءِ بجيوبٍ مثقوبةٍ وكؤوسٍ طافحةٍ بالبهجةِ والسُّرور، يُلوّحُ لها الصِّبيةُ والعاشقاتُ، وهذه التّماثيلُ لا يَحسدُها إلّا شاعرٌ موهومٌ يرى فيها بريقَ الذّهبِ ولمعانَ الفضّةِ، دونَ أن يُدركَ أنّها باتتْ تشعرُ بالوحشةِ ويأكلُها المللُ، كما عبّر عن ذلكَ الشّاعرُ العراقيّ كريم جخيُور في قصيدتِه (التّماثيل):

التَّماثيلُ الكبيرة
تماثيلُ القادةِ والمحاربِين
وهم يُمسِكُون الجهاتِ
بخيولٍ من إسمنتِ
ويطعنُونَ الهَواء
برماحٍ صدِئة
تماثيلُ الآلِهة
موشُومةٌ بالأدعِية
ودماءُ القرابين
تماثيلُ الملُوك
بلا جَوارٍ. ولا حاشيةٍ
ودونَما عبِيد
يجرُّونَ برفْقٍ عرباتِهم الملكيَّة
تماثيلُ الشُّعراءِ بجيوبٍ مثقُوبةٍ
وكؤوسٍ طافحةٍ بالبهْجَة
يلوّحُ لها الصِّبْيةُ
والعاشقاتُ
ويَحسدُها شاعرٌ موهومٌ
التّماثيلُ
التّماثيلُ
التّماثيلُ
من ذهَبٍ ضاحكٍ
أو فضّةٍ لامعةٍ
كم تشعرُ بالوحشةِ
ويأكلُها الملَل

وفي الختامِ حسرةً على الزّمنِ الجميلِ الّذي أصبحَ اليومَ سيفاً مُسْلطاً على رقابِنا؛ لنرفعَ تحتَ وطأةِ تماثيلِه الحيّةِ تمثالاً لرغيفِ الخبزِ، وتمثالاً لعلبةِ الدّواء، وتمثالاً لقطرةِ الماءِ وذرّاتِ الهواء، وتمثالاً لأرواحِنا ونحنُ أمواتٌ في عدادِ الأحياء!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى