سطوة لغة المديح
تحفل اللغة العربية بالكثير من تعابير المديح والإطناب والوصف والغزل والتشبب، لكونها لغة شعرية أساساً تجنح إلى الخيال والإطلاق والتكثير، حتى تحولت فيها العديد من الكتب النثرية إلى ما يشبه قصائد طويلة جداً لكنها غير موزونة بسبب كابوس الشعر الذي يسيطر على مختلف الكتاب باختلاف مشاربهم.
ولم تستطع التطورات الهائلة التي شهدتها البشرية تخليص كتابنا و صحافيينا من ذلك الأسلوب العجيب حتى لو كان أحدهم يتحدث عن "ميكانيك السيارات" أو "أرصفة الطرقات" أو "علاج البروستات"!
ويقبع جيل الشباب من الصحافيين العرب تحت سطوة سيف ذلك الأسلوب، فيحاولون دائماً وصف من يتحدثون عنه في مقدمات حواراتهم أو موضوعاتهم الميدانية إلخ.. بجمل منمقة نشعر ونحن نقرؤها بأنها كتبت في كوكب آخر لكونها مجرد جمل منتقاة من هنا وهناك لإضفاء الحالة الشعرية على بداية ما يكتبون.. ثم فلتحل الكارثة في ما تأخر..!
ما دفعني إلى الكتابة حول هذا الموضوع، ذلك العتاب اللطيف الذي واجهتني به سيدة من قريباتي يعرف عنها شغفها بالإعلام ومتابعة المطبوعات بمختلف أنواعها من صحف ومجلات، والغوص في تفصيلاتها الدقيقة وتقنياتها بشكل مدهش، فتفاجئني في كل مرة برأي أو ملاحظة أو تعليق قد لا يخطر ببال الكثيرين من أبناء مهنتنا المرهقة.
وخلال أحد لقاءاتنا الأسبوعية، قدمت لي صفحة اقتطعتها من إحدى المجلات العربية قائلة : هل قرأت هذا الحوار؟ فأجبتها بالنفي مبرراً ذلك بضغوطات العمل المضاعفة التي نعاني منها قبل فترة إجازات الصيف (وهو تبرير صادق).. فقالت : اقرأ الحوار وتمعن بصورة الشخص، ثم احكم على ما جاء في مقدمته.. وقبل ذلك لابد أن تعرف أنني لا أقلل من شأن الشخص المعني، لكنني شعرت بأن الصحافي الذي أجرى الحوار بالغ كثيراَ في تدبيج بضعة جمل منمقة تتناقض مع صورة الشخص لكي يظهر للقراء أنه يمتلك بعض الكلمات الإنشائية والتعابير الشاعرية، ليبدو صحافياً بارعاً يقارب في كتاباته شعر المتنبي!
وعندما قرأت ما أشارت إليه لم أتمالك نفسي عن الضحك، ولم أجد ما يسعفني من تبريرات سوى أن ذلك الصحافي جديد على المهنة ولا يمتلك خبرة كافية، لذلك يحاول أن يقدم نفسه بصورة الشاعر لكوننا أمة يحتلها الشعر والخيال منذ قرون بعيدة.. لكن عيني السيدة "ندى" اتسعتا دهشة، قائلةً : وأين أصحاب الخبرة الذين يراجعون المادة قبل دفعها إلى الطبع.. فأجبت : إن زحمة العمل وضغوطه قد تجعلهم أحياناً لا يتنبهون إلى هذه المسائل الصغيرة.. فالتفتت إلى زوجها وقالت : لم يقنعني هذا التبرير!
والحقيقة أن ما قالته هذه السيدة كان يصيب كبد الحقيقة إذ إن ما جاء في مقدمة الحوار يثير الضحك، فقد كتب الصحافي يصف الشخص المحاوَر، بما معناه، إن وجهه السمح الجميل يحمل طيف البراءة وسحنته الوديعة تعبر عن كذا وكذا.. وتحت المقدمة ظهرت صورة ذلك الشخص بوجه عابس وتعابير قاسية، فبدا الأمر وكأنه نوع من السخرية أو شكلاً جديداً من أشكال الكاريكاتير!
إذاً، فإن ما يخلصنا من هذه المطبات غير المستحبة في إعلامنا المقروء والمكتوب تحديداً، الذي يعتمد على الخطاب البصري والكلمة البسيطة المعبرة، هو الابتعاد عن تلك اللغة المدائحية الشعرية قدر المستطاع عندما لا يكون النص ذاتياً وإبداعياً، لأن تحميل الأشياء ما لا تحتمله تعود بنتائج عكسية، وتجعل إعلامنا مادة لسخرية القراء لا منبعاً لزادهم الثقافي والمعرفي.. أليس كذلك؟!