

رحلة مِيسورين
حدثني أبو ضياء؛ قال:
الحقيقة أنني لم أرغب أبدا في زيارة هذا البلد، ولكنني، وبحكم أدب "أدب الرحلات" وأخلاقية الشهادة الأدبية، واحتراماً لأستاذي أبي جنان لمّا استدعاني إلى بيته، وناولني رسالة تخصه هو، رسالة أوفدت له من طرف صديقه "المازحي" الذي كان عضوا في مجلس شعب بلاد "الساسان"، والذي تحوّل بقدرة غريبة إلى حاكم على بلاد "ميسورين" هو وعزيزُه وأمين ماله؛ العبد سابقا، السيّد حاليا "علي الدلقوشي". فما كان مِنّي إلا أن امتثلت لأمر "الرسالة"، فركبتُ أصعب ركوب السفر: المركب البحري على أمواج البحر الأول حتى شمال المعمور، ثم أهوال البحر الثاني. وفي طريق الموج والمخاطر ذاك، صادفتُ "مُعلِّماً انحرف مركبه"، ومعه كلبة قال لي عنها إنها "روحُه وسِرُّه" وكانت تجري خلفه قروش، وأسماك شريرة تحاول النيل منه. ولقد سألني عن بلد يقال له "فْضالة" فلم أُعْطِهِ أيَّةَ معلومة عنه (ليس عجرفة مني، ولكني لم أكن أعرف لذلك البلد وجودا) فاستمررت في رحلتي، واستمرَّ هو في تيهه. فوجدت البلد المُرام ممَنَّعا بقوس من الصخور المرجانية، مُحَصَّناً بمدافع تقليدية وعصرية لم أقرأ عنها في كتاب.
بلغته عشية سنة 840 وكان بلدا آمنا على ما يبدو فمشيت في الطريق المؤدية إلى قصر الحاكم، وكانت محفوفة بأشجار غليظة ترخي ظلالا كئيبة على المكان. ومن الأراضي المجاورة للطريق، انبعثت أدخنة برائحة الزغب المحروق، وأنين وصراخ مكتوم. فشعرت بالخوف (إِذِ المكان جميل أكثر ممَّا ينبغي) وبأن أمورا رهيبة تحدث تحت الأرض؛ شيء من قبيل "الهوام التي تمتص دماء البشر" لكن مخاوفي تبددت عندما رأيت بنت الحاكم في انتظاري أمام بوابة القصر. مخلوق ما رأت عيناي مثله في الرقة والجمال. قالت:
ـ هاي! هاي!
وشدَّتني من يدي و طارت بي إلى صالون ضمَّ أفخر الأثاث وصبَّت لنا شرابا لم تلمس شفتاي من مثل مذاقه، وجلسنا على أرائك متقابلين لا نسمع إلا تمتمات إعجاب الواحد منا بالآخر. ولقد أنستني النشوة اسمَها... لكنه اسم له علاقة بالجنة. كانت قد أضافت بعد الترحيب بي شيئا مثل "ماي نيم إيز جهان" أو جنات أو جنان... لم أعد أذكر لكن، كلّها أسماء توحي بالغيب. ولم التذكر إذا كان المرء في الجنة؟ وجاء الحاكم ليردني مظهره الفظيع إلي جهنم/الواقع: رجل في صورة حلزون ضخمة تنزلق على البلاط. مجرد كتلة من الشحم الغارق في الخيلاء ثم بان وزيره مصحوبا بفخامة زوجة الحاكم التي تشبه بزَّاقة عملاقة. فلا تسألني أيا صاحبي عن سهرتي مع تلك الأشكال الحيوانية. إنني لم أكن أفكر إلا في أن تنقضي، وأن أعود إلى بلدي الجميل "غرباتيا" هناك، الناس ناس وليس في أبدانهم إلا ما يكفي من اللحم والعظم . ولهم أخلاق وفيون لها، وليس لهم أيّة برتوكولات محرجة. لم آكل الأكل الذي قدموه لي. فهل كنت قادرا على التهام "حَلّوف "محشو" بالعصافير؟ وسألتني"الشحمة الحاكمة" عن أحوال أستاذي أبي جنان، وعن أمور من قبيل الصفقات الاقتصادية، وكنت أرد على الأسئلة بحرج لأنني رأيت الوزير ينظر إلى " البزاقة " بعيون غير بريئة، ولأن الحاكم كان يغض الطرف على ما كنا نرى. وجاءت ساعة الفرج حين الحادية عشرة ليلا فاقترحت ابنة الحاكم الجميلة أن ترافقني إلى غرفة نومي... فها نحن معا:أنا والرقة والجمال. وخضنا معا حديثا شيقا عن الصداقة، والحب حتى أنني نسيت أمر الكائنات الشحمية، وعدت إلى جنة الخيال والحلم. وعند الساعة الثانية عشرة ليلا إلا قليلا، استسمحتني مؤنستي في الانصراف ولكنني استبقيتها لأجل المتعة التي يحدثها في قلبي جمالُها الخالص، فما كان منها إلا أن طرحتني بقوة على الفراش، وفرَّت، فلحقتُ بها والليل قد انتصف وأرخى ظلال الحب على المكان. فجأة توقفت عن المقاومة، وتسمرت في مكانها؛ قريبا جدّا مِنّي... وجاء الفجر فوجدني راكبا ركوب العودة إلى بلدي الجميل "غرباتيا".
في أثناء عودتي صادفت للمرة الثانية ذلك المعلم التائه. ولم يعثر بعد على حلمه: ذاك البلد الذي أسماه " فْضالة " والقروش ما زالت تطارده. فلم أكلِّمه. فعلى كل مُعلِّمٍ يحترم هويته أن يتدبر أمره. أليس كذلك؟ وأما الجميلة التي استعجلت الرحيل في منتصف الليل، فلقد شاهدتها تتحول وتعود إلى صورتها الأولى:صورة البزّاقات البشعة، وكانت تريد الدبَّ عليَّ وامتصاصي. ولهذا هربت وأقسمت ألا أعود أبدا إلى بلاد "ميسورين".
العودة ـ إذن ـ إلى صديقتي وفاء، فهي دوما على صورتها الرقيقة ولا تتبدّل أبدا.