سوس الحالمة بالتروتسكية
اسمي السعيد ولكن...
أتاني ذات فطور في مقهاي المفضّل تافارْنوتْ يحمل كوماً من جريدة «المناضل (ة)» بلباس الكادحين.
في البدء ظننته يبيع تلك الجريدة كما يبيع الصبيان باقي الجرائد الوطنية مقابل دريهمات في اليوم. ولكنّه تبدّل عنّي لمّا أبديتُ رفضي اقتناءَ جريدته وذلك ليس لغلائها (5 دراهم مقابل 2.5 درهما للجرائد الأخرى) ولكن لأنّني لا أرغب في تضييع وقتي في قراءة جريدة تدّعي أنّها مع المرأة ومع ذلك تسجنها في تاء مربوطة بين قوسين. ولم تكن المرأة تعميماً والمرأة المغربية تخصيصاً لتُسجنَ في الأكاذيب الكتابية أو غيرها.
لمّا رفضتُ جريدته الكاذبة، جرجر كرسياً إلى جنبي وقال:
– هل تسمح لي بأن أناقشك؟
هنا عرفتُ أنّ الرجلَ الذي يحملُ بؤسَ العالم على كتفيه وكوم الجرائد تحت إبطِه من المناضلين.
وبما أنّ الوقتَ كان لديّ، ومن إشفاقي عليه من نضالية مبكِّرة في ظلِّ شمسٍ ما زالتْ في مهدِها، قبلتُ دعوته للمناقشة مع تنبيهه بأنّني على وشك الرحيل.
كان ذلك المناضل قذراً بحق. ثيابٌ متّسخة تنبعث منها رائحة مرحاضية، أسنانٌ متقلِّحة بفمٍ عفن، عينٌ زائغة، وأظافر عرقوبية مَعيفَة...
هل يُعقلُ أن يكون المناضلُ على هذا القدر من الاتّساخ والبؤس؟ أم أنّ بعض الناس، لكيْ يبرهنوا للناس أنّهم من المناضلين، يتعمّدون القذارة؟ أم أنّ فلسفة «التروتسكيين» المغاربة تقتضي معانقة فقر الفقراء قلباً وقالبا؟ لستُ أدري، غير أن الرجلَ أبدى بعض الأدب في جلوسِه وقال:
– هل أنتَ طالبٌ أم عاملٌ أم فلاّح؟
«أهْ! قلتُ لنفسي، مرحباً بالأسئلة الشيوعية» لكن، هل أكذب؟... لا! وليكنْ ما سيكون.
– لا هذا ولا ذاك، أنا مترجِم.
– إذن أنتَ مثقّفٌ.
– يمكنُ أن تقول ذلك.
– أنتَ إذن من البنية الفوقية التي تفرزها البنيةُ التحتية؛ لأنّ المادّة تخلق الفكر ولأنّ احتكار وسائل الإنتاج من طرف البورجوازية يخلق الفوارق الطبقية. ولأنّك تنتمي إلى البنية الفوقية، لا بُدَّ أنّك تفهم بأنّ الواقع يخلق الدين الذي يكرّسُ الاستغلال والهيمنة الإمبريالية المتوحشة...
وأضاف من دون أن يكترث لمحاولتي إيقافه:
– ... لا بُدّ أنّك من عائلة ميسورة مادِّياً، وأنتَ كما قال غرامْشي مثقّفٌ عضوي، والواقع أنّك مستلبٌ كما يقول كارْلْ ماركسْ، ولن تقدر أن تضمن مركزك مدى الحياة إلا على حساب الطبقة العاملة، وعليه، يجب أن تفكّر في الانضمام إلى الطبقة العاملة لأنّها مستقبلك ومستقبلي و...
هنا قاطعتُه بصرامة:
ـ كلامُك صعب. الظاهر أنّك مثقّفٌ كبير، ولكن أجبني؛ ماذا يمكنُ لأمثالي أن نفعل حتى نصير من أمثالك؟
احمرّتْ عيناه فرحاً وكأنّه بلغ منّي مُبتغاه:
– أن نستورد الثورة التروتسكية ونصدّرها إلى باقي العالم.
فسألتُه بخبث:
– هل هي بقرة لَحومة لبونة تنفع في تغذية الكبار والصغار؟
فأخرج عينه الزائغة وصوّبها نحوي:
– يظهرُ لي إنّك مستلبٌ إلى أبعد الحدود ولا يمكن لك أن تمثل أيّ بديل تقدمي حضاري... هل يمكن لك أن تطلب لي قهْوة مُهرّسة؟
ولأجل اللعبة، لبّيْتُ طلبَه، فقال:
– هل لي بسيجارة؟
– هاك!
فحسبتُها ذهنيا؛ هذا المنافق سلب منّي بدل 5 دراهم مقابل «مناضلته» 9 دراهم، ويقول إنّه لا يقبل بالاستغلال.
في معرض تعليقه على مجموعة من الأوروبيين جلسوا حول طاولة بالقرب منّا، قال:
– انظر إلى هولاء الإمبرياليين، إنّهم يأتون إلى بلدِنا لأجل الاستمتاع، ونحن نكدّ ونتعب ونناضل ولا نحصِّل على شيء... أرأيت؟ إنّهم يدخلون إلى مجتمعِنا عادة الاستهلاك الرأسمالي الهمجي... انظر، إنّهم يعيشون كما لو كانوا في جنّة عدن ونحن نتفرّج عليهم ولا نقدر حتى على... هل ستساهم بشراء جريدتِنا؟... 5 دراهم فقط، وإن فعلتَ، سأعطيك هذا البيان بالمجّان... إنّه يتحدّث عن ديكتاتورية البروليتاريا ومستقبل الطبقة العاملة وضرورة الثورة التروتسكية وحتمية تشييع المجتمع ووجوب القضاء على أفيون الشعوب؛ الدين.
– ولكن الدين ضروري لمجتمعنا... بل هو ضروري لجميع المجتمعات، قلتُ له بصدق.
فردَّ بنكهة تهكُّمية:
– عيب... عيبٌ عليك يا... ما اسمُك؟
– اسمي عُمر أومْليل، وأنت؟
– اسمي لا يهمُّك؛ هل أنتَ من البوليس؟
– لا، ولكنّك طلبْتَ منّي اسمي وأعطيته لك، بالمقال أعطني اسمَك.
فردّ بعصبية:
– هذا التفكير الرأسمالي... بالمقابل...ماذا يعني المقابل، إلا الفكر التجاري والربح وفائض القيمة والاستلاب.
– اهدأ يا رفيق، نحن هنا للتعارف... أعطني الجريدة وهاك 10 دراهم.
لحظتئذ هدأ فجأة وناولني نسختين من «المناضلة (ة)».
– طلبت منك نسخة واحدة فقط، فماذا تناولني نسختين؟
ت هذا لا يجوز، فلقد أعطيتني 10 دراهم ومن حقّك أن أبيعَك نسختين لا واحدة... شُوفْ... هذه لك، والثانية بعها لأحد آخر وبهذه الطريقة ستسترجع 5 دراهم.
– هل لي بنسخة مجانية، قلتُ لاستفزازه:
– هذا غير ممكن...
صمت قليلا ثم أدارَ عينَه الزائغة في رأسه كما لو كان يقوم بعملية حسابية وقال:
– سأعطيك نسخة مجانية إذا اشتريتَ منّي 10 نُسخ... عملية مربحة، أليس كذلك. لنقُل إنّك ستستفيد من خصم قدره... قدره...
فأخرج من جيب سترته البالية قلماً منهكاً وراح يخربش على ظهر فاتورة ما شربناه...
– لنقُلْ إنّك ستستفيد من خصم قدره %5.
اشتريتُ نُسَخه العشرة وزادني واحدة. ولكي يبرهن لي على حسن نيّتِه التجارية، أهداني 3 بيانات و5 دعوات لحضور جمع عام يقيمه حزبه في الرباط ونحن في أكادير.
وقبل أن يغادرن لاحظتُ أنّ العين الزائغة رجعتْ إلى مِحجرها، ومرّة أخرى أبان لي عن أسنانه العفنة كابتسامة وقال:
– لا أريد أن أكون ثقيلا عليك آ سّي عُمر... هل بإمكانك أن تعاون الحزب ب 50 درهما أخرى؟
– ليس قبل أن تقول لي ما اسمك؟
– أقول... ولماذا لا أقول، فأنتَ لست من البوليس والدليل هو أنك ساهمتَ معنا في الحزب... أقول... اسمي السعيد أزدوزْ... أستاذ التعليم الابتدائي...
– تشرفتُ بمعرفتك...
– وأنا كذلك...
– هل لي بسؤال؟
– طبعاً... اسأل.
– ما هو حلمك؟
جلس السعيد بهدوء وتناول سيجارة من سجائري. أشعلها ونفث دخانها في وجهي وقال بمرارة:
– حلمي هو أن يصبح المغرب بلدا شيوعياً تُقتسم فيه الثروات بالعدل ما بين جميع الفئات الاجتماعية، وأن يجد كل مواطن مغربي السكن والصحة والتعليم له ولأطفاله وعملا شريفاً وتقاعدا مريحاً يسمح له بالسفر إلى بلدان العالم والتمتّع...
تمرُّ الأيّام، فأصادف السعيد أزدوزْ بأحد الأحياء الراقية يسرق الآجور والحديد من محطات بناء الفيلاّت ويكشط ما تبقّى من إسمنت على الأرض ليتمِّم بناءَ بيته المكوّن من 3 طبقات، ويقتلع نباتات التزيين من بيوت الجيران ليزيّن بها مدخل بيته.