المحكوم
الليل. الشوارع خالية. حتى القطط والكلاب الضالّة لا وجود لها. الإنارة باهتة. تتقدّم شاحنة عسكرية في صمته باتجاه حائط عريض طويل به ثقوب تلعب دور نوافذ. الثقوب مظلمة، باستثناء واحد ينبعث منه نورٌ أصفر شاحبٌ حزين.
يقفز من الشاحنة عسكري بلباس قوّات التدخل السريع وفي يده مسدس. يتبعه ستون عسكريا بنفس اللباس وفي أيديهم ذروع وبنادق رشّاشة. يلجون باب الحائط. يصعدون سلالم البناية. يقفون أمام باب الشقّة التي منها ذلك النور الأصفر الشاحب الحزين. يُفترعُ الباب ويدخل العسكر إليها. هناك رجل بائس جالس على كرسي خشبي أما شاشة تلفاز مهشّمة، وفي يده مطبوعات صُور. يُكبّل الرجل من دون مقاومة. تُحجزُ شظايا التلفاز والصور المطبوعة والطابعة. يحملونه كخروف بواسطة عصا غليظة إلى الشاحنة، إلى سجن مجهول، إلى زنزانة فردية.
في مكتب مدير السجن المجهول؛ يضعُ قائد القوات العسكرية شظايا وصُورَ الإدانة. ينظر إليها المدير من خلال نظّارتيه الطبّيتين. يرى قتلى وجرحى وخراب بنايات وأطفالا ونساءً وشيوخاً يبكون؛ فيقول:«حسن!».
الزنزانةُ الفردية متران طولا على مِتْرٍ عرضاً ومتران عُلُواً، بأرضية إسمنتية، وثقب لقضاء الحاجة، وباب حديدي سميك بفتحة أفقية لمناولة الطعام، وفتحة عمودية صغيرة في الجدار المقابل، تطلّ على مسرح دائري تتوسطُه طاولة رخامية مرتبطة بمنشار آلي دوّار؛ ولا شيء آخر؛ وتطلُّ عليه المئاتُ من الفتْحات العمودية الصغيرة.
وجباتُ الطعام هكذا: كسرة خبز شعير أسود وطاسة بها مرقٌ مُميّهٌ تسبحُ فيه قْطع لحم من دون عظم وقطع أحشاء؛ أمعاء، معدة، رئة، طِحال، كبد... الماء الذي يُعتبرُ أساسُ الحياة؛ ممنوع بقرار من الإدارة السِّجْنِية. وجباتُ الطعام دوما هكذا: خبز حجري ولحم بدون عظم وأحشاء سابحة.
عند السادسة صباحا من ليلته الأولى؛ زعقت مكبراتُ الصوت بأمر الوقوف المنضبط أمام فتحات الجدران لمشاهدة ما يجري على الرّكح المسرحي. فوقف هو الآخر في ذهول؛ ليس ليرى، وإنّما لأنّ البوق أمره بذلك.
من وسط المسرح، يمكنك أن ترى حائطاً دائرياً عظيما تُطلُّ من كُواته العمودية الضيِّقة رؤوسٌ بشرية منذورة للعذاب.
يُفتحُ بابُ المسرح، ويدلف منه أربعة عساكر وفي يدهم رجلٌ يتخبّط ويصرخ طالباً الرحمة والعفو.
يضعونه على الطاولة الرخامية ويديرون المنشار الآلي، ويشطرونه بالطول إلى شَطْريْن ثم بالعرض إلى قْطع صغيرة؛ فيصمتْ، وتعود الرؤوس المتفرّجة قهراً إلى زنزاناتِها.
في تلك الليلة، وبعد الفرجة القهرية، رمَواْ له ورقة كُتِبَ عليها: [ إجراءات التنفيذ: الأمر الأول موجّه للمحكوم؛ عليك التأكُّدُ من السكاكين والحبل والمِعلاق الكُلاّبي. الأمر الثاني موجّه للمنفّذ؛ تنفذ الحكم، تضع كل مادة في الدّلْو المخصص لها، ثم تنظف المكان. ملحوظة: في حال الرفض توجّه إلى المسرح].
يقضي ثمانية أيام في زنزانته في الظلام، وفي اليوم التاسع يفتحونها ويتوجّهون به إلى [قاعة التنفيذ]؛ يفتحون الباب، فتنبعث منها رائحة عطنة. يضغطون على زر الإضاءة، فيرى فضاءً أبيض نظيفاً إلى حدٍّ مّا ورجلا عارياً شاحباً أنهكه الخوف. بجانب الرجل ثلاثة دِلاء بلاستيكية وطاولة عليها سكين كبيرة وأخرى صغيرة وحبل من النيلون أزرق. في الحائط صنبور ماء، ومن السقف يتدلّى كُلاّب حديدي. يفهم أن عليه ذبحُ المحكوم، سلخُه، إخراجُ أحشائه، فسخُ اللحم عن عظامه، ثم تنظيف المكان. يتذكّر ما جرى في المسرح. يتقدّمُ ببطء نحو المحكوم. ينظر في عينيه. يرى الرعب. يتقدّم خطوةً أخرى، فيرى ذكره يقذف مًنِيّاً [...].
عندما أعادوه إلى الزنزانة وانصرفوا، حاول أن يفكّر فيما قام به. «أعرفُ أنّي لا أعيشُ كابوساً... أعرف أنّي سأكون التالي...» قال لنفسِه.
لذا قام إلى الحائط وشرع يصدمُ رأسه به لعلّه يموتُ ولا يتعرّض لما تعرّضتْ له ضحيّتُه: «طاقْ... طاقْ... طاقْ... اشْلاخْ... اشلاخْ...».
ينهار. يبقى مسْجياً في زنزانتِه في الظلام والبرودة؛ وفي غيبوبته، يحاول أن يستحضر بعض المقاطع من حياته الفائتة. يفشل، فلا يتذكّر سوى اللحظة التي هشّم فيها شاشة التلفاز وهي تعرٍضُ صُوَر الحاكم... غير أنّه لم يمُت، وعندما فتح عينيه، وجد نفسه في [ قاعة التنفيذ]...