الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة الكامْبُودْج

حدّثني أبو ضياء؛ قال:

سأحدِّثك عن بلد حباه الله أعلاماً تُمَنِّعه ضدّ مطامع الطامعين وغزو الغزاة؛ أعلاماً عظيمة لولاها لكان مضغة سهلة في فم من هبَّ ودبّ؛ ذلك لأنّ أهلَه يتمتّعون بعقل ليس كباقي العقول:عقل بسيط لا يناقش ولا يجادل ويُصدِّق أوضح الأكاذيب وأكبر الأباطيل؛ بحيث لو جاءهم طفل شقيّ من بلاد "طُولِسان" أو من "قُبْقُبلاند" لسَرَحهم كما تُسرح الأنعام. ولربّما صار أميراً عليهم في ظرف كذبة (وإن لم تكن مُحْكمة) ولقادهم إلى حتفهم وهم ضاحكين.

إنّني لا أتحدّث عن بلد آسيوي سيأتي، وإنّما عن بلد يوجد في كبد المعمور الذي رسمتُ لك. ولقد تكبَّدتُ مشقّة عبور بلد "تيـﭭـيزيا" الكريه عندي، وعناء تصعد الجبال التي تُسوِّره، حتى شارفتُ مدخَلَه الغربي المُطِلِّ على "بحيرة السّمك العاقِل". ولمّا كان أستاذي أبو جنان قد نبَّهني إلى مخاطر ما أنا مُقبلٌ عليه؛ فإنني أظهرتُ للحرّاس كِذبةً ليسمحوا لي بالدخول. ولقد جُعِلواْ ثلاثمائة وخمسين جُمركياً، حتى إذا ما صدّقواْ أحَدَ الكذّابين الوافدين إليهم؛ ظهر فيهم واحدٌ (على الأقلّ) ليُنبِّهَهم إلى خَطر التّصديق.

كانت كِذْبتي سهلةً، موجزة في أرْبعِ كَلِمات، ومعقولة؛ إذْ قلتُ لهم:

 سأستخرجُ لكم "البترول" ب"اللِّسان".

ولمّا استفْسَروني عنه؛ قلتُ:

 هو شيءٌ مثل الفحم، لكنّه ماء...

فصدّقوني وآمنواْ بي، ورحَّبوا.

وكانواْ مُسلَّحين ببنادق كرتونية باعهم إيّاها أحدُ الصوص القادْمين من بلاد "نْـﮔـولو نْـﮔولو" على أساس أنّها كَلاشْنيكوفات. وما تخطَّيْتُ البوّابة حتى جاءني حاكمُهم في سيّارة من دون عجلات ولا مُحرِّك، وهو يُمسِك بمِقْود مفصولٍ، ورجلاه ماشيتان على التراب. فانسلخ من "السيّارة" وقال لي:

 إذا كنت من البلد الذي يصنع الطائرات فمرحباً بك... قد واعدنا أحدُهم ببيعنا آلةً طيّارة تعمل بالماء.

فقلت له:

 أنا من غُرْباتيا، ولا أحد في بلدي يستبلد الناس ويأكل من عرق غيره.

ولَمْ يظهر عليه الفهم إذ تابع هُراءَه قائلا:

 ... هل لديك ما تبيعنا إيّاه؟: حبوب الذكاء، مَرَاهِم تُشفي من كل الأدْواء، عِصِيٌّ سحرية تجلب الرخاء والديمقراطية، طنجراتُ ضغط تضعها فارغة على النار فيتولّد فيها الأكل،, أقراص تعطي للذي لديه حنجرةُ الحمار موهبةَ الغناء، كتب فارغة يقرأها فاقدُ الموهبة في أيّام فيصير من الأدباء، مكعباتُ اللذة نُذوِّبُها في قِدْر الحياة غير المستساغة أصلا فتُمسي الحياة لذيذة، أوراق يناصيب كلُّها رابحة، جداول سحرية تجعل الناس يتحابون ويتكافلون من دون اللجوء إلى الدّيماغوجية أو الهراوة، مِكنساتٌ تكنس عنكبوتَ التخلُّف من العقول، برامج تعليمية مستوردة (من بلد "كندا" الذي سيأتي) تُطوِّرُ التفكير والسُّلوك والإبداع...

فقاطعته:

 أيُّها الحاكم؛ ليس لديَّ مما تطلبه شيئاً، فأنا من بلد لا يعرف أهلـُه الكذبَ أو النِّفاق أو ال"لصْلصَة"، وكُلُّ ما تحتاجه أنت وشعبُك هو "العقل السليم والثقة في النفس" وهما سِلعتان لا تُباعان و لا تُشتريان، ومتى حصَّلتَ عليهما، بلغتَ وشعبُك ما تبتغون من ديموقراطية ورخاء وتقدم...

وكأنه لم يسمع قولي؛ إذْ جرَّني إلى داخل سيّارته المزعومة، ورُحنا ندفعها بقوّة الأرجل، وهو مُمْسِكٌ بالمقود المفصول ويقول:

 الحقيقة أنّني في حاجة إلى شعب ذكي، فهل لديك شعب ذكي للبيع؟

فكان ذلك الطلبُ الغريبُ النقطةَ التي أفاضت كأس صبري. فضغطتُ بقوّة على فرامل الأرض حتى إمَّحى حذائي... وقلتُ له:

 سيكون لك ما تريد إن شاء الله... والآن، هلاَّ تَرَكْتَني أزور أسواق البلد؟

فأذن لي.

فماذا رأيت فيها؟...

...خرداوات في كلِّ مكان، والناس مُقبلون عليها بالشِّراء وهُمْ فرحون.

وجاء ذاك اللصُّ الكذّاب بطائرة من ورق وأحصنة من قش وسيوف من خشب يعرضها على شعب "الكامبودج" والمال يهطل عليه من عندهم. فما قَدِرْتُ على متابعة المهزلة وجرجرتُ نفسي إلى فندق:

أربعة حيطان آيلة للسقوط... امرأة تدخِّن بَعْرا... أكْلٌ مستعمل... شرابٌ يأتيك به ذبابُ الخلّ...لا!...لا! لمْ أكُن لأصبر؛ لذلك هربتُ إلى البحيرة المذكورة أعلاه لِأرَوِّحَ نفسي، ولم يكن معي خيط أو صنارة... فجاءني خاطر؛ أن أدلي بسير حذائي فيها من غير طُعم. ففعلت. وكنت في كل مرَّة أسحب السير، تطلع لي سمكة في طرفه وتقول لي من خياشيمها:

 هل لديك خبرٌ عن نتائج طوطوفوت؟"

فلا أهتمُّ لكلامها الأخرق، وألقي بها في الماء لأجل قَلْيِها. ومع أنَّ الماءَ ماءٌ وليس زيتاً، فلقد كانتْ تنقلي لاعتقادها أنّ ما هي فيه زيتٌ ونار... بحقِّ السماء، أ ليس هذا منتهى الخرق؟

ــ غُرباتيا؛ بلدي؛ بلدُ الأقلِّية من العقلاء حقّاً؛ إلْزمي مكانَك... أنا قادم إليك الآن!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى