الثلاثاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

ذات الألف اسم

الثامنة والنصف. ساحة الطاكسيات ليست مكتظّة كما العادة. ربّما لأنّه المساء، فالناس دأبوا ألاّّ يسافروا ليلا خوفاً من الطوارئ.

سائقو الطاكسيات قَرْفصوا لصْقَ حائطٍ قصير يُسوِّر حديقة عمومية جرداء، وصاروا يتضاحكون ويتلاعبون بالكلام البذيء.

أحدُهم يدوِّر المفاتيح في يده بنوع من العصبية إيذاناً بترك المكان. الآخرون يشدّونه بالقصص غير المكتملة.

داخل الطاكسي الذي بلغه الدَّوْرُ، رجلان وامرأتان. المرأتان في الخلف. لا يبدو أنّ بينهم علاقةً مّا. لكن، بإمكانك أن تفترضَ أنّ المرأتين عاهرتين؛ ذلك لأنّهما تنتعلان أحذية مذهّبة، وجلبابيْهما مفتوحان جانبيا، ويكشفان عن أفخاذ محلوقة ومُغرية؛ أمّا أظافرُهما فمطلية بالأحمر الفاقع... قريبا سيطلونها بالأسود (؟)... في أعينهما براءة وكثيرٌ من الكحل. الرجلان صامتان كذلك، وهذا ما يجعلُكَ تشك في عدم وجود علاقة بينهما والمرأتين.

من بعيد تتقدّم امرأة. تنحدر من حارة بُنِيَتْ على عِلِّية. ترتدي هي الأخرى جلباباً. تشبه المرأتين في هيئها العامّة. هي الأخرى ذهَّبتْ بعض خصلات شعرها... سيرُها بالخُفّ يجعلها تبدو وكأنّها تتدحرج.

 كازا... بْلاصة... أرَ واحد!... يُنادي أحدُ السائقين الجالسين على حافة السُّور الذي يُسوِّر الحديقة الجرداء.

خلف المرأة المدحرجة، رجلٌ يسرع. ينطق كلاما ساقطا:

 إيوا الزّين؛ ما نشوفوكش؟ ليلة واحدة معك يا غزالة، فإذا أرادت الموتُ أن تجيء، فلتجئ.

لم تردّ المرأة شيئاً ولم تنظر إلى الرجل. ربّما لم تكن عاهرة كما ضننت. واصل الرجل البذيءُ هُراءَه فشتمته المرأة المحترمة. تصنّع الاحتشامَ وقال:

 أعتذر يا أختي. سامحيني على جرأتي ووقاحتي. أنتِ امرأة شريفة، سوف أدعُك في حالك.

 هكذا ينبغي أن يكون الإنسان المحترم. ردّت.

بلغتِ المرأةُ – والرجل بمحاذاتِها – باب الطاكسي المتهيِّئ للانطلاق. فقفز السائق إلى كرسيِّه، وراح يجمع النقود من المسافرين. سبعة دراهم لكلِّ راكب. وانطلق كالسهم نحو الدار البيضاء؛ مدينة كلّ شيء.

خلال الرحلة، لم يململ أحدٌ شفة. كانت القلوب عند الأفواه من الخوف. فالسائق كان يقود بسرعة جنونية. عشرون دقيقة كانت كافية لبلوغ المحطّة؛ قلب المدينة العملاقة؛ كازابْلانْـكا.

اتّجهت المرأة الشريفة نحو شارع "لالاَّ ياقوت". عدد كبير من الأفواه حاول اقتناصَها. لم تُقْتنص. جاوزت في جرأة نادرة بوّابات المقاهي والبارات والفنادق والحُفر الليلية والمتاجر وصالونات الحلاقة... دون أن تتكلّم مع أحد. دون أن تلتفتَ إلى أحد... إلى أنْ بلغتْ "بار ماجيسْتيك"؛ فتوقّفت تنظر إلى الاسم المُضاء وكأنّها تريد أن تتأكّد منه. وبدلَ أن تستمرّ في طريقها، دخلته.

كان فناء البار مليئاً بالفتيات الجميلات. إحداهنَّ كانت تلعب البيار، وكان يلاعبُها رجلٌ ليس من المدينة، ويبدو عليه أنّه رُيّشَ قبْلا كما يُريَّشُ الدّيك.

ألْقتْ نظرةً إلى الكونطوار. كان هنالك، الرجل الذي جاء معها في الطاكسي، والذي سبق له أن راودها. ابتسمتْ له، وابتسم لها، وحيّاها رافعاً إلى مستوى جبهتِه كأسَ البيرة الطويل.

تقدّم نحوها:

 هل أنتِ المرأةُ نفسُها التي جاءت معي في الطاكسي قبل قليل؟

 نعم. أنا هي... أجابت وهي تضحك.

 سامحيني إذا كنتُ أسأتُ معاملتَك.

 لا بأس! كنتُ مضطرّةً إلى معاملتك بقسوة خوفا من أبناء الحارة.

 لنجلس إلى هذه الطاولة ونتعارف!

 لا مانع لديّ.

 هل تدخنين؟

 لا!

 ماذا تشربين؟

 مونادا.

 ماذا؟ مونادا في هذا المكان؟

 نعم؛ وليس شيئاً آخر غير المونادا إذا كنتَ تريدني أن أجلس معك.

كانت المرأة تبدو له أجمل بكثير مِمّا هي عليه في الواقع. ربّما في جمال نساء المجلاّت العالمية... رآها عينين حالِمَتيْن وشفتَيْن لاحِمتيْن شهيّتيْن. كان قد بدأ يسكر. أمّا بشرتُها البيضاء الناعمة، فقد كانت تعكسُ الألوان الضوئية الرّاقصة، وتُبدِّدُها إلى ألف لون. ربّما هذا ما جعله يقرِّب فمَه من فمِها ويتوقّف فجأة... عطر طلاء الشفاه الذي لمْ يذق مثله من قبل، استوقفه...

 ما كلُّ هذه اللذة ف شفتيْك يا محبوبتي الغالية؟

لم ترُدّ؛ لكنّها اتكأتْ عليه بقبلة مطوّلة، فذاب من العشق.

 أحبّك! قال لها:

 كيف تجبّ امرأة لا تعرفها؟

 أنا؟... أحبّك لأنّني أعرفك جيِّداً.

 تعرفني؟ ... ما اسمي إذن؟

 اسمُك "راضية"...

 تنفجر المرأة ضحِكاً:

 "راضية"؟ إنّه اسمٌ عتيق؛ وإذا كانتْ محبوبتُـك تحمل هذا الاسم، فلا شكّ أنّها تطلي رأسَها بالقطران ويديْها بالحِنّاء...

حاول مرّة أخرى أن يُقبِّلها؛ فقالت له:

 إذا كنتَ تحبُّني، فأعطِني مائة درهم؛ صاحبةٌ لي أقرضتني هذا المبلغ وقد واعدتُها بأن أرُدّه لها غداً صباحا...

لم يتردَّد الرجل، فأخرج مائة درهم وأعطاها إيّاها.

 ... والآن؛ أعطِني قبلة!

دسّت النقود في محفظتِها ومدّت عنقها له، فقبّلها قبلة مطوّلة.

 ما اسمكِ؟

 اسمي الحقيقي؟

 أجل؛ اسمُك الحقيقي؟

 اسمي الحقيقي "فريدة"، لكن أحب أن تناديني "سعيدة".

 تختلط عليّ الأسماء... هل قلتِ اسمُك "راضية" أم "سعيدة" أم "فريدة"؟... هذه اللعبة تتعبني؛ سوف أسمّيك "زهور".

 هل أنتَ أحمق؟ هذا اسمي الحقيقي؛ كيف تجرؤ على مناداتي به في هذا المكان؟

 ناديني "سميرة" وإلاّ انصرفت.

 حسنا! سوف أناديك "مريم" فأنا أعشق هذا الاسم.

 كما تحب.

 لقد شربتُ كثيراً والساعةُ قريبة من الحادية عشرة… أضنُّ حان وقتُ الإيّاب (؟)

 كما تريد؛ أنا الأخرى شربتُ ما فيه الكفاية؛ ثلاث مونادات لكي لا أهلك ميزانيتَك.

 هل ستذهبين معي إلى البيت؟

 بكلِّ تأكيد؛ شريطة أن أجدَ عندك ما يُؤكل؛ فأنا جائعة.

 لديَّ ما تريدين؛ لقد حمّرتْ زوجتي المحبوبة دجاجاً، وحضّرتْ سَلَطةً، وباذنجانا مقليا، و...

 ... ولديك في المثلِّجة قطعة جُبن، وبقيّة حريرة، وموز...

 كيف عرفتِ ذلك؟...

 هناك مشكلة...

 ما هي؟

 لن أتحرّك من هنا حتّى تعطيني المائة درهم التي واعدْتَني بها.

 أ لمْ أعطِها لك؟... حسنا! خُذي... في البيت سوف نتحاسب.

خرج الرجلُ تدعمُه المرأة. الشارع خالٍ من الناس تقريباً. فقط سيّارة "الأمن". ما زال هناك طاكسي أخير في المحطّة...

أخرج الرجل المفاتيح من جيبه، وناولها للمرأة التي شرعتْ تفتح باب البيت بخفّة. بعد ذلك، توجّهتْ مباشرةً إلى الفراش وألقتْ بنفسِها:

 يا لها من ليلة! قالتْ.

 هيّا يا "ليلى"؛ أعِدّي لنا مائدة العشاء.

قامت "ليلى" إلى المثلّجة وأخرجت منها دجاجاً محمّراً وسلطة وباذنجانا وجبنا وحريرة وموزاً.

 في المرّة القادمة سنذهب إلى "بار ليبيراسْيونْ"؛ قالوا إنَّ السَّهَرَ فيه ممتعٌ جدّاً. قال الرجل:

 ينبغي أن نضعَ حدّاً لهذه الحماقات يا "كمال"؛ فدخلُنا الشّهري لا يسمح لنا بمثل هذه النفقات الجنونية... ثمّ لا تنسَ أنّنا سنرزقُ بطفل...

 أعرف ذلك يا محبوبتي؛ ولكن سايريني في جنوني للمرّة الأخيرة... السبت المقبل... مُوافقة؟

 آه لو لم أكن أحبّك...

 موافقة إذن... شكرا لك يا أجمل وأغلى وأحلى زوجة في العالم...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى