الاثنين ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

دَاهُونْ والألمانية

في هذا الصباح الصيفي العليل، استيقظتْ "تْرَووم" مفعمةً بالحيوية والنشاط. استحمّتْ كعادتِها تحت مياه الدّوشْ الباردة، وعطّرتْ جسمَها الذي لم تؤثِّر فيه السنون، بماء الورد؛ ثم لفّتْ حولها منشفة قطن كبيرة، ووضعتْ على رأسها قبّعة قطنية كذلك؛ ثم توجّهت صوب المطبخ وشرعت تُعِدُّ الفطور: حبّةُ طماطم وقطعةُ خبز وكأسُ قهوة سوداء من دون سكّر. فكّرت: سوف أتمشّى قليلا في شاطئ البحر.

كان يجري وينِطُّ مثل طفلٍ مُشبع بالسعادة. أصدقاؤه يتراكضون حوله ويقفزون من فوقه في مرح.

لم تستطع "تْرَووم" منع نفسِها من التبسُّم له. كانت عيناه السوْداوان تقولان أكثر من مجرّد كلام عادي. وكان في مرحهِ ولهْوه ينِمُّ عن حساسية شديدة وعاطفة جيّاشة.

لم يأبه لها في الدقائق الأولى، لكنّه في النهاية لاحظ اهتمامها به، فتوقَّف للحظة، تاركا أصدقاءَه يتسارعون إلى الأمواج الأمامية المزبدة.

كانوا يقفزون فوق الأمواج تحرُّساً من البلل ومن البرودة؛ ومع ذلك، كانوا يبتلّون، فيتراجعون إلى الرمال، وينفضون أبدانهم ليدفأوا بسرعة.

انتصب تُجاهَها وراحَ يحدِّق في شعرها الأشقر الناعم. لم يرَ مثل هذه المرأة. "ليستْ من البلد – قال في نفسِه – بنتُ البلد لن تجرؤَ على تفرّسِ واحد مثلي..."

أشارت له بأن يأتي إليها. لم يستغرب؛ فهي ليست من البلد... هي سائحة على كلّ حال، أو مقيمة (في أحسن الأحوال).

اقترحتْ أن يُصاحبها إلى الـﭬـيلاّ التي تكْتريها كلَّ سنة لأجل الاصطياف. من يدْري؟ ربّما استطاع معها أن يجدَ الحياةَ المرغوب فيها...

هو هنا – وإن كان ابن البلد – مجرّدُ متشرِّد. مُتابَع. مُطارَد. مقذوف بالحجارة. مغلول بالأسلاك. مرغمٌ على السير وراء أسيادِه الذين لا تأخذهم به شفقة.

في الـﭬيلاّ، رأى علامات الحياة الرّغدة، فسال لعابُه لها.

أدخلتُه الحمّام، وعملت على تنظيفه من الأوساخ؛ وقدّمت له الطعام والشراب؛ فأكل مثل ما لم يأكل في حياته قط، إلى حدِّ التخمة، وشرب حتى الثمالة... وهو أسعد من أمير في جنّتِه... داعبته. قبّلتْه... وفي الأخير، أخذَتْ له صورة ﭘولارويد حينية، فظهر في الصورة كوحش جميل بعينين حمراويْن. أرتْه الصورة وضحكتْ منها وظحكتْ، حتى وجدتْ نفسها تتمرّغ على الموكيط من فرطه. في النهاية، واعدته:

 سأعمل كلّ ما في وسعي لأجعلَك تصطحبَني إلى بلدي... ستعيش معي وتعملُ إن أردتَ... مشكلتي هي أنّني أشعر بالوحدة القاتلة... أنت ستكون أنيسي وحبيبي... نعم! في اللحظة التي رأيتُك، تعلّق قلبي بك... وعلمتُ أنّك أنتَ من كنتُ أبحث عنه... بحثتُ عنك في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا... بحثتُ عنك في العديد من دول العالم، وها هي الأقدار تلاقيني بك في هذا البلد.

لم يردّ "داهون" إذ غابَ في سباتٍ عميق... يحلم...

في مكتب القنصل سألها الموظّف:

 جنسُه؟

 ذكر.

 اسمُه؟

 "داهون".

 ما عملُه هنا؟

 لا في الإشهار ولا في السينما ولا في الأمن...

 عاطل يعني؟...

 أجل.

 العمل الذي سيعملُه هناك؟

 لا شيء؟

 درجة قرابتِك منه؟

 سوف يعيش معي؛ فأنا وحيدة...

بعدما ملأ الموظّفُ الاستمارة الخاصّة ب"داهون"، ناول "تْرَووم" جوازَ سفرها وتأشيرةَ عبور رفيقها إلى بلد الأحلام والسعادة.

في طريقها إلى الـﭬيلاّ، اشترتْ له نظارتيْن شمسيتيْن، ووشاحاً صوفيا؛ وفي نيّتِها أن تقدمهما له كهدية بمناسبة الخبر السعيد الذي ستزفُّه له.

استقبلها في الباب فرحا. عانقته بحبّ صادق. ضمّته إلى صدرها بحنان لم تشعر به من قبل؛ ولا هُوَ.

في الصباح الباكر، وضعت حاجياتها القليلةَ في حقيبتها، ودسّتْ جوازَها والتأشيرةَ في يدها، وأسرعتْ به إلى المطار...

هل فكّر "داهون" في أصدقائه؟ في أهله وبلده؟ الله وحدُه يعلم؛ لكنّه نسي تماما تشرُّدَه وحياةَ الضياع... أمامه الآن الحياة... الحياة التي تستحقّ أن تُنعت ب"الحياة"... (ربّما).

في بيتِها ببلدها قالت له:

 اسمع يا حبيبي؛ أنت الآن في ألمانيا؛ بلدُ الغيوم السوداء والبرودة، وأنتَ تعوّدتَ على الشمس الساطعة والدِّفء... ما رأيك أن نزور البيطري لكيْ يعطيك اللقاحات الضرورية؟...

فنبحَ نباحاً متقطِّعاً وخفيفا، وحرّك ذيْله دليلا على الفرح والامتنان...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى