الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحلام الغزاوي

دمعة أسير

آلمتني تلك الدموع كثيراً، وكأنما هي خناجر زرعت في جسده وأدمته ..كان جسدي قد تخدر رغم أصناف العذاب المتنوعة التي مورست عليه،ولكن ألماً كهذا الألم كان بعيداً عن تفكيري.

كنت قد أقسمت بان لا أبكي ..وأن أفي بذلك القسم الذي قطعته على نفسي عندما رأيت وجه أخي –ذلك الشيء الصنديد الشامخ الذي حاولت ودونما نتيجة معرفة كنهه ،ذلك الشيء الذي لم تحطمه قساوة السجن والسجان ،بل زادته القسوة رجولة وقوة .فباتت البسمة معلما ثابتا في وجهه كما أصبحت حسرة ثابتة في قلوب كارهيه وأعدائه – كنت أظن ان قسمي الذي أقسمته لن يحنث لكن تلك الدموع التي ذرفتها مَن تحت أقدامها الجنان التي نصبو إليها ...تلك التي لو بكى العالم ما عادل ولا جارى دمعة من عينها ...تلك الدافئة التي كانت بضمة وقبلة من فيها تمتص كل آهاتي وبكائي من صدري الحافل بها ..."أمي" بكت وسال الدمع على خديها فكأنما لؤلؤ ونثر ..فبكى القلب دماً وسالت دموع العين لا تحجبها صورة أخي ولا تمنعها تلك الآيات التي كنت أستعين بتلاوتها على تقوية عزيمتي وشد أزري ..في تلك اللحظة التي دامت أكثر مما تدوم اللحظات دار بي الكون وخاطبت نفسي صارخاً ،متأوهاً وباكيا في صمت :لا..لا ،دموع امي لا ..أمي ؟ هذا ما لا يتحمله بشر هذا ما لايطيقه جماد ..لا إلا هذا إلا دموع امي ..كنت قد ندمت ساعتها بأن كشفت ألمي فأبكاها ..كنت قد ندمت على تحريك لساني بآهات لم افرح عدوي بسماعها ..فأبكيت لها الحبيبة التي أهواها .

..في حضن الظلمة ،وبين الجدران الخرساء الباردة .. تحت وطئة التعذيب وآلامي المكبوتة...قررت أن لا أخبر أحداً عن تلك السجائر التي أطفئت جمراتها في صدري لتشعل فيها جمرة أخرى..قررت أن لا أعدد أصناف الضرب والركل والتعنيف والتعذيب النفسي والجسدي التي إخترعوها ومارسوها على جسدي إستجداءاً لكلمة أو لإعتراف دون جدوى .

ولن أغفل تلك اللحظات التي كنت أرى فيها ان صمتي قد طال وصدري ضاق وان الزنزانة أشبعت بآهاتي وهوائها إمتلأ بصراخي اللامسموع وبكائي اللامقطوع..في تلك الزنزانة مرت لحظات كنت أحدث فيها نفسي وأقول :سأتحدث بكل ما اعرف وما لا اعرف..سأعترف بما يريدون بتهمة او بقائمة إتهامات ..سأعترف بما لم افعل وسأجيب على كل سؤال بنعم..كنت لأوقع ،كنت لأعترف بما لم أفعل مقابل لحظة راحة أتنفس فيها هواءاً نظيفا وارى فيها الشمس وأزرع خلالها رأسي في حضن أمي باكياً ..لكن لحظات الضعف تلك سرعان ما كانت تتبخر في الطريق الى غرفة التحقيق رغم ان صراخي المكبوت فيها كانت لتهتز له ذرات الكون ..لكن إبتسامة أخي وصورته تلك ..كلماته ..توجيهاته حالت دون ان ترتسم إبتسامة إنتصار ولو واهية على وجوههم.

إلى ان جاء ذلك اليوم ..يومها عندما قادوني الى غرفة التعذيب أسلمت جسدي للضرب أكثر من مخدر فاقدا الإحساس بالألم والوقت في آن ..لذا وعندما إستفقت في الزنزانة بعدها لم أكن أدري أظلام ليل كان أم ظلام نهار وبدات أستعيد إحساسي بأطرافي ..فاقشعر جسدي في البداية ثم بدات أحس بالآلام جراء جلسة التعذيب وما ان إستطعت الوقوف على قدمي حتى رحت أبحث في أرجاء الزنزانة الضيقة مساحة ..الواسعة الموحشة وحدة ..على ما يسكت صراخ معدتي وكان قد ألقي إلي رغيف فسارعت لإيجاده وحمله ثم قضمه ..في تلك اللحظة إنطلقت من جوفي صرخة غضب وخوف ومرارة وبكى قلبي طويلاً طويلاً ...ما عاد الجوع يهمني فبقايا الأسنان في فمي لا تقوى على تمزيق الخبز فتاتاً تهضمه معدتي ..كما أن الغصة التي سكنت صدري كانت كفيلة بأن تنسيني كل شيء.

ولم تمض بضع ساعات حتى عاد الجنديان لجري ثانية ولكن هذه المرة كنت خائفا الى ان تبين ان الوجهة هي غرفة الضابط هناك حنثت بقسمي وأخلفت بوعدي وتركت العنان لآهاتي بأن تخرج كلمات صماء ودون مشاعر فحدثت المحامي بصنوف التعذيب التي يستعملون فكان أن اخبرني بأن كل ما قلته متوقع بل بالكلمة والحرف الواحد وان ذلك لن يتكرر بإذن الله ..وما كاد ينطق بآخر كلمة حتى إنفتح الباب ودخل منه الضابط ومن خلفه جندي وما أن إتخذ الجندي مكانه الى جانب الباب حاجباً حتى ظهر من خلفه نورٌ ليس كمثله نور .كانت أمي ويا لتلك اللهفة والشوق التي كانت تموج بحراً غاضباً عاصفاً داخلي..تقدمت نحوي بهدوء ملاك فقبلت خدي وجبيني وضمتني الى صدرها..وكبتت في جوفها ألماً لم ترد ان تعلنه لكنهاوعندما أخذ المحامي يتحدث للضابط عن انواع التعذيب اللا مشروعة التي إستخدمها الجنود معي ،ثم وعندما كشف عن صدري –مقبرة أعقاب السجائر-ما عادت قواها وما أعظمها تتحمل ذلك فإغرورقت عيناها بالدموع بعد ان إشتعلت ناراً وشررا تطاير ،ثم همت دموعها غزيرة متتابعة تغسل وجهها وقد إقتضبت ملامحه معلنة أن ما تراه وما تسمعه يفوق إحتمال خيالها وانها لا تريد ان تصدق ان صغيرها-ذلك الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره والذي كان قبل بضعة أشهر يلهو في حضنها ضاحكاً مشيعاً الفرح ومدخلا البهجة الى صدر امه- قدتحمل من الآلام التي ذكر المحامي جزءاً منها وتكلم الجسد فأكمل منه ما أنقص لتكتمل صورة التعذيب في هوله وأثره.

انفجر في جوفها بركان وفي عينها ينبوع دمع لا ينضب فما كفكفت الدمع حتى طمئنتها وقبلت جبينها ثم خرجت وما إنقطعت صورتها عن البكاء حتى خرجت من السجن بعد حين ورأيت إبتسامتها وقد عادت خجولة ترتسم على محياها.لكن ذكرى تلك الدموع بقي وسيبقي لا يمحوه الزمن ولا تزيل مرارته الأيام..


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى