خبزٌ تأكل العصافير منه
منذر يافع وسيم، ذو وجه ممتلئ، أبيض البشرة، عيناها بنيتان واسعتان، لا تفارق الابتسامة محياه على الرغم من اليـُتم، والفقر الذي يعيشون فيه هو ووالدته وأخته التي تصغره بسنتين. يعمل من بعد صلاة العصر حتى الساعة التاسعة ليلا في فرن (أبو سليم)، بعدها يأتي إلى بيته يقبل رأس والدته، ويمازح شقيقته بشقاوة الصبيان. يستحم على عجل، ويأكل لقما قليلة من طعام أعدته والدته، وقد حفظه عن ظهر؛ بالتأكيد اللحم ليس أحد مكوناته، يحمد الله على كل حال، ويمسك كتابه لمذاكرة واجباته اليومية، لأن إشراقة الصباح تعني الدوام في المدرسة، والجد والمثابرة كي يصبح محاميا، ويدافع عن الضعفاء أمثالهم -كما تقول والدته-،ينكش أذنه بسبابته ليزيل ما تبقى من آثار الطحين، يسرح بأفكاره، ثم ينظر إلى عِبَارة دوّنها على غلاف كتابه بخط الرقعة: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه"، ثم كتاب تحتها بخط صغير؛ الإمام على بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، كان يمرّ على تلك العبارة مرورا سريعا، لكنه تفكر فيها هذه المرّة، أيعقل أن يكون الذين هم على صواب قلة!!؟؟
يقطع استغراقه في التفكير كلام والدته.
"الله يمتعك بالصحة يا ولدي، ويطول عمرك، وعمري، وأشوف أولاد أولادك، لقد وضعت في الدرج كل فلوس اليومية كعادتك، ما تشتهي نفسك شي وتشتريه؟".
ما بنفسي شيء يا أماه إلا رؤيتك وشقيقتي في ستر وأمان.
"نحن بخير مادمت فوق رؤوسنا، يا سندنا، يا رجل البيت، والله أكيد أبوك يرتاح بقبره، لو عرف أنه خلـّف رجل".
الله يرحمه، ويطيل بعمرك.
جارتنا أم أسامة تدعي لك بالخير والتوفيق.. كل يوم أعطيها من الخبز الذي تجلبه، لأن الخبز أصبح شحيحاً هذه الأيام بسبب المظاهرات والإضراب.
......
الصف مكتظ بالطلاب، أكثر من ثلاثين طالبا، لا تسمع لهم نفساً، عندما يشرح الأستاذ (مخلص) درس اللغة العربية، يستطرد كعادته؛ لقد غيرت المدنية كل شيء، أليس كذلك يا شباب؟
يردّ منذر؛ نعم يا أستاذ حتى الخبز فقد رائحته هو الآخر. يضحك الطلبة، بعد أن ضحك الأستاذ، ثم يُعقّب صالح الذي يجلس محاذياً لمنذر مبتسما؛ أنت خبير برائحة الخبز يا منذر.. ينظر الأستاذ إلى منذر بعينين مفتوحتين، قائلا، ألديك تصريح لممارسة تذوق نكهات الخبز؟
يدخل مدير المدرسة، يريد التحدث للأستاذ (مُخلص) بموضوع هام، ينصرف الطلبة إلى بيوتهم، ويعرج منذر على الفرن ليتناول عددا من الأرغفة، يضعها على رأسه، حاملا حقيبته، ورفاقه حوله، كل منهم يأخذ قطعة من الخبز، ويحشرها في فمه، ضحكاتهم تتعالى، وهو يجري مهرولا، والكل يتبعه، صائحين؛ ما أشهى رائحة الخبز..الخبز..الخبز. تبعهم كل أولاد الحارة يتصايحون، ويركضون. فجأة سقط منذر بفعل رصاصة استقرت في رأسه، تحلـّق الرفاق حوله، تسيطر عليهم الدهشة، وقد اختلط دمه بالخبز، خيّم سكونٌ مُطبق، ولم تعد للخبز رائحة.
مشاركة منتدى
2 كانون الثاني (يناير) 2013, 03:18, بقلم حور خالد
شكرا لك استاذي كلمات رائعه